ميقاتي خلال مراسم تشييع الرئيس الحص: كان ضمير لبنان والوطن ومثالي الأعلى
تاريخ النشر: 26th, August 2024 GMT
قال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، خلال مراسم تشييع رئيس الوزراء الرّاحل سليم الحص، إنّ "الذّاكرة تعيدني إلى مواقفه الوطنيّة، فهو رجل عصامي وكان مثالي الأعلى"، وأردف: "كان الرئيس الحص ضمير لبنان والوطن ودافع عن القضية الفلسطينية".
.المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
من ضمير الفرد إلى التَّنْمية..التَّعْليم كأداة للنَّهضة
في كتابه الأشهر «تعليم المقهورين» (Pedagogy of the Oppressed) يؤسس فيلسوف التربية البرازيلي باولو فريري (1921م- 1997م) لمعنى جديد في العلاقة الجدلية بين التربية والفضاء الاجتماعي، فالرجل انعقد عزمه على محاولة فهم الجذور العميقة للتخلف الاقتصادي في بلاده البرازيل، وأيضا في مجتمعات العالم الثالث، وقاده بحثه إلى استبصار جديد عِمَاده أن الأزمة كلها تكمن في بنية الوعي، وكيف أن هذه البنية المسؤولة عن تداعيات الفشل في تحصيل النهوض بنيةٌ مصادرة بالكامل إلى نظام في التفكير مُعوق ومُشَوَّه التكوين بسبب من هيمنة نظم تعليمية صُمِّمَت لصالح سلب الناس حقوقهم النقدية وقهرهم عبر إفراط في تلقين استظهاري يُملي عليهم ما يصلح أن يكون معرفةً وما يجب تجنبه، هكذا، فقط عبر تقييدهم لتلقٍ سلبي ممول عبر آلية استيداعية لا يملكون معها إلا الانصراف إلى عمليات من الرصد والتخزين والاحتقاب دون إرادة، إنها نظرية تكشف عن معضلة عميقة تختبئ أسبابها عن ناظري المشتغلين في حقول التربية والاقتصاد والسياسة. وفريري الذي أصدر كتابه (التعليم كممارسة للحرية- 1967م، باللغة البرتغالية) كان يشدد على أن العملية التربوية بمثابة فعل تحرري لا يراد بها أن تكرس لبناء وعي مهزوم غير قادر على فهم العالم، وقد أراد أن تُمْتَحَن هذه المؤسسة لأجل فهم أدوارها وبلاغتها في السياق العام، كاشفاً عن فشلها في تمليك المتلقي أدوات إدراك متوسلة بالمعنى لا الشكل، رؤية تسندها تصوراته الذاتية حول ماهيته والوجود، حول إمكانية نقد الواقع من أجل تغييره إلى الأفضل، إنها عملية يجدر بها أن تفسر لنا كيف يمكن أن تتكاتف الفاعليات الاجتماعية في مناحيها كافة لأجل تحولات مركزية في الواقع، وهنا فالتعليم فعل إنساني يُعْظِم الصلة بين الفردي والجماعة الإنسانية، ويجعل من المعرفة أداة ليست فقط لتوصيف الأزمة بل لخوض نضال مستمر ضد هيمنتها بالصورة التي تؤهل المجتمع الإسهام الفَعَّال لإحداث نقلات ناضجة في السياق الجمعي. وكون التعليم في نظره فاعلية للتحرر فإنها تستحيل دون نقد الآلة نفسها، آلة نقل المعرفة، إلى منهجٍ قامعٍ للوعي، ولذا طالب بإحداث تغيير بنيوي في عقيدتها الفكرية لتمد الناس بأشكال متقدمة من تحصيل حقائقهم السياسية والاقتصادية ما يجعلهم على فهم عميق بالأدوار التي يتوجب عليهم القيام بها لصالح بناء مجتمعات مؤمنة بحريتها كرافعة للنهضة الاجتماعية الشاملة.
إن باولو صاحب تجربة عظيمة في تعليم الكبار، بل إنها اللحظة المفصلية التي قادته إلى إنجاز مشروع جديد في فلسفة التربية، ففي ستينيات القرن الماضي وفي بلدة صغير تسمى (أنغيكو) شمال شرقي البرازيل أنشأ فصولا لمحو الأمية ضمت أكثر من 300 فلاح وذلك لتعليمهم القراءة والكتابة في تحدٍ وضعه الرجل أمام نفسه وفريقه من المعلمين لينجزوا هذا المشروع في خمسة وأربعين يوما فقط، وقد ألهمت هذه التجربة، بل دفعت حكومة الرئيس البرازيلي حينها جواو جولارت والذي حكم البلاد في الفترة من 1961م إلى 1964م إلى تبني التجربة بالكامل وتعميمها. ولم يقتصر جهد باولو على التعليم في الريف، بل وفي كتابه (التعليم في المدينة -1991م) وهو من كتبه المتأخرة يقدم خلاصات تجربته المهنية في مدينة ساو باولو، ويشير إلى مظاهر للعمل في مؤسسات الدولة مستعرضا المتاعب التي صاحبت شغله، ومن الدروس التي انتهت إليها تجارب الرجل وبالتركيز على مجتمعه البرازيلي ومسألة التحديث والتنمية الاجتماعية يقول: «يجب علينا رفع مستوى وعي الناس بمشاكل زمانهم ومكانهم. يجب أن نمنحهم نظرية في التنمية». إنه الرهان على أن تثقيف الناس يجعلهم شركاء في التنمية الوطنية.
وفي ذلك فإن فريري يعتقد أن المصالح الوطنية ينبغي أن تكون ثمرة جهد جماعي لتتكامل القوى الاجتماعية وتترابط فيتحقق هدف الانتقال من الفقر إلى الكفاية، والحل في نظره يكمن في تعليم حواري يصنع فاعلا اجتماعيا مؤثرا ومنتجا نحصد عبره ثمرة لتعليم هو وسيلة للنهضة، ونفقدها حين يبقى مجرد آلية لحشو الأدمغة بالمعلومات دون السماح للعقل باختبار مصداقها وإمكانية استثمارها لصالح الواقع، وهذا هو جوهر نظرية باولو، إذ يقول في كتابه «تعليم المقهورين» والذي ترجمه وقَدَّمَ له يوسف نور عوض، وصدرت الطبعة العربية عن دار القلم (بيروت) وهو يحلل ظاهرة الاستعمار وما ترسخ عنها في المجتمعات المقهورة ليجعل كتابه حصاد الكلمات المستنيرة ومن ذلك استشهاده بآراء الطبيب والفيلسوف الاجتماعي فرانز فانون (1925م - 1961م)، وغيره من المفكرين المصلحين فيرى أن نفسية المقهور التي ركبها المُستعمِر في بنية وعي المُستعمَر والمُعمَّمَة بقوة الغَصْبِ تنتهي به إلى شخصية تعيش حالات من التحقير الذاتي، وأنها تستمد هذه الصورة عن ذاتها من استبطان غير معلن لرأي المُستعمِر. يقول في صفحة (42) عن هذا المقهور وأسباب استسلامه لإرادة المُستعمِر والسماح له بتصدير صورة إذلالية مع إذعان عظيم: «فكثيرا ما يسمعون عن أنفسهم بأنهم لا يصلحون لشيء ولا يعلمون شيئا، وليس لديهم الاستعداد لتعلم أي شيء وأنهم كُسالى ومرضى وغير منتجين... ويفقدون بالتالي الثقة في أنفسهم .. فالمعرفة عند هؤلاء «المقهورين» تُسْتَقى من المعلم، ولا يثقون في أي معرفة قد خَبِروها من هذا العالم الذي يعيشون فيه، أو من علاقتهم بالآخرين..».
وحول أهمية أشغال باولو يقول جان كلود رينييه الأستاذ في جامعة ليون بفرنسا وصاحب كتاب «La fabrique des savoirs» (صناعة المعارف): إن باولو يؤمن إيمانا عميقا بأهمية إصلاح النظام التعليمي في حال أرادت المجتمعات التي تعرضت للاستعمار أن ترفع عن كاهلها العبودية المعرفية وهو ما جعله يصر أن الهدف من العملية التعليمية أن يكون لها الإسهام الأكبر في تحقيق التغيير الاجتماعي، وهو أمر يعتمد عند فريري على فرضية مركزية مستقرة في نظريته الفلسفية في التربية وهي أن تتحول «الضمائر الفردية» من خلال التعليم، وعلى وجه الخصوص من خلال محو أمية أعداد هائلة من البالغين إلى أداة تحرر عقلي ووجداني، وهو رهان يؤكد على إن تحقيق الوعي النقدي يعني الوصول إلى مستوى من الفاعلية من شأنها أن تسهم في تطوير طبقة حديثة قادرة على إنجاز إصلاح جذري في مجالات مثل الزراعة والتعليم والصحة والتصنيع وما إلى ذلك، وأن رفع الوعي يعني الانفتاح على فهم البنى الاجتماعية وتثوير نشاطها.
إن الإطلالة على منجز فيلسوف التربية البرازيلي باولو فريري تجعلنا على علم دقيق بطبائع النهضة الاجتماعية والأشغال النظرية متينة التكوين في بلدان عانت وتعاني من أزمات اقتصادية طاحنة أسهمت في تعميق الفروق بين المكونات في المجتمع، وليس بغريب أن تكون هذه التجربة ملهمة حقاً للمجتمعات العربية التي تعيش حالات مشابهة كتلك التي وهب باولو نفسه لاختراقها بالعمل والنظرية، فنحن وفي مناطق كثيرة من بلادنا العربية نحتاج إلى إصلاح جذري في النظم التعليمية، إصلاح يريد مبدأ أن يقود هذه البلدان إلى نهضة شاملة، نهضة جوهرها المشاركة الجماعية وتفجير طاقات الأفراد لأجل بناء وتنمية بلادهم، والحقيقة أن تجربة باولو فريري ليست سابقة لرؤية إصلاحية عربية تبناها الإمام محمد عبده (1849م-1905م) والذي كتب قبل الرجل بعشرات السنين أنه إذا أرادت الشعوب العربية الإسلامية أن تنهض وتحرر عقولها من الجمود والانغلاق فإن السبيل الوحيد إلى ذلك هو إصلاح التعليم بحيث يتحول من أداة للحفظ والتلقين إلى معنى معرفي يقوم على العقلانية، وفي ذلك قوله: «إن العلم لا يكون علمًا إلا إذا أنتج عملا، والعمل لا يكون عملا إلا إذا بُني على عقل وفكر».