انقلابات الساحل الأفريقي.. تأثيرات تتخطى حدود الإقليم

ليس الانقلاب الذي حصل في النيجر علامة فارقة في تاريخ أفريقيا، فقد شهدت القارة بعد نيل كل دولها استقلالها أكثر من 187 انقلاباً.

ذلك الحكم المدني المُسقَط على الشعوب بعد الاستعمار لم يكن مراعياً لأصول نشأة الدولة وتطورها الطبيعي الذي قد ينجح في تثبيت أسس المواطنة والعدالة والمساواة.

ارتكز الحكم الذي أسسه الغرب بأفريقيا على خدمة المصالح الاستعمارية، فالاستقرار والأمن لن يتحققا إلا بتكريس علاقة الحماية وتحقيق مصالح الغرب باتفاقات مجحفة.

فقدان الغرب سيطرته العالمية وتجرؤ قوى دولية على التمرد والبحث عن أمنها القومي والاستراتيجي بلا خوف من رد فعل أميركا يعزز وقوع الانقلابات ونجاحها.

أثر تلك الانقلابات سيتمدد ليساهم في تبلور النظام الدولي الجديد، إذ إن أي خسارة للقوى الغربية الأوروبية والأميركية في أفريقيا، ستترك أثرها نحو عدم تقبّل شعوب العالم النموذج الغربي لإدارة العلاقات الدولية.

* * *

حتى اليوم، لم يتقبّل العقل الغربي إمكانية أن تكون الانقلابات التي غيّرت المشهد في دول الساحل الأفريقي، من مالي إلى النيجر مروراً ببوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، نتيجة طبيعية لإدراك شعوب تلك الدول حجم المأساة التي سببها الاستعمار الغربي عموماً، والفرنسي خصوصاً.

فالاستقلال الذي منحته القوى الاستعمارية لتلك الدول كان صورياً، إذ إن التركيز على وجود شخصية سيادية وهمية لتلك الدول، من خلال الإيحاء بوجود جهاز سيادي يقودها نظرياً على المستويين الداخلي والخارجي، لم يكن في الحقيقة إلا مجرد ستار يخفي الاستعمار خلفه أدوات يهيمن من خلالها على القرار السياسي والاقتصادي، والتحكم بمفاصل الدولة العميقة التي وجدت في خدمتها لمصالح الاستعمار وسيلة تحقق بها مآربها الضيقة.

وإذا كان الغرب في مرحلة الحرب الباردة قد دعم نظرياً فكرة الحكم المدني الممهد لبناء مجتمع ديمقراطي، وفضّلها على أنظمة الحكم الشمولية أو حكم العسكر اللذين سادا أفريقيا في مرحلة ما بعد الاستقلال، فإن ذلك الحكم المدني المُسقَط على تلك الشعوب لم يكن مراعياً لأصول نشأة الدولة وتطورها الطبيعي الذي قد ينجح في تثبيت أسس المواطنة والعدالة والمساواة.

بل ارتكزت أسسه على خدمة المصالح الاستعمارية، إذ إن الاستقرار والأمن لن يتحققا إلا من خلال تكريس أسس العلاقة وفق منطق الحماية وتحقيق مصالح الغرب بواسطة اتفاقيات التعاون والاستثمار المجحفة عموماً بحق تلك الدول.

لم تكن الدولة الفرنسية في علاقاتها مع دول الصحراء والساحل الأفريقي سوى نموذج لذلك الواقع، إذ تدلل علاقاتها التاريخية مع تلك الدول على نوع من الوصاية والاستغلال المشرّع بحكم الأمر الواقع، وبحكم الإيحاء بعدم قدرة تلك الدول على ضمان أمنها واستقرارها إلا من خلال التسليم والخضوع المشرعَن لفرنسا، التي ما زالت متمسكة بميراثها الاستعماري التاريخي في منطقة الساحل الأفريقي.

وإذا عدنا إلى مرحلة ستينيات القرن الماضي، فإن الإصرار الفرنسي على ضرورة الإبقاء على علاقات تبعيةٍ عضويةٍ مع دول الساحل والصحراء الأفريقية ما زال قائماً، وذلك من خلال الإصرار على ربط العملات الأفريقية بالفرنك الفرنسي، والحفاظ على مركزها المتقدم في ميزان التجارة البينية بينها وبين تلك الدول.

وما زالت حتى اليوم المصدر الأول للسلع والمستورد الأول للمواد الخام واليورانيوم مع تلك الدول، من دون أن ننسى اتفاقيات التعاون العسكري التي أبرمتها مع 25 دولة أفريقية، وكان ضمنها اتفاقيات تقضي بإنشاء قواعد عسكرية في كل من تشاد وأفريقيا الوسطى والكاميرون وجيبوتي وجزر القمر والسنغال والغابون.

بالطبع، لا يمكن النظر إلى تراجع النفوذ الفرنسي في دول أفريقيا على أنه نتيجة لفشل الدبلوماسية الفرنسية، أو تراجع قدرتها على إقناع تلك الدول بجدوى البقاء تحت وصايتها فقط، وإنما يرتبط هذا الواقع بعاملين:

- أولهما داخلي يمكن توصيفه بصحوة أفريقية ذات ميول استقلالية سيادية،

- ثانيهما ذو طبيعة خارجية، إذ يمكن القول إن القوى التحررية تحاول الاستفادة من التغييرات التي طرأت على النظام العالمي.

ففقدان المحور الغربي سيطرته العالمية وتجرؤ القوى الدولية على التمرد والبحث عن أمنها القومي والاستراتيجي من دون أي خوف من رد فعل الولايات المتحدة الأميركية أو حلفائها قد يشكل عاملاً مساعداً في وقوع تلك الانقلابات ونجاحها.

ليس الانقلاب الذي حصل في النيجر علامة فارقة في تاريخ أفريقيا، فقد شهدت القارة بعد نيل كل دولها استقلالها أكثر من 187 انقلاباً. وعليه، يفترض قراءة الأحداث الأخيرة بطريقة مغايرة للتحليلات التي تربط الانقلابات بالواقع المعيشي لأكثر من 360 مليون نسمة يعيشون في دولها، أو بالدور الذي تلعبه القوى الغربية في علاقاتها مع الأنظمة الحاكمة، ومدى حاجاتها إلى تغييرها.

فالانقلابات الخمسة الأخيرة التي حدثت في الأشهر العشرة الأخيرة، والتي كان آخرها في النيجر لم تكن تهدف إلى محاولة الاستيلاء على السلطة بالتوازي مع محاولة الحفاظ على العلاقات مع قوى الوصاية الغربية، وإنما جاءت كلها لتنسف أطر العلاقات الخارجية التي كانت القوى الحاكمة تعدّها بمنزلة ضامن لبقائها في الحكم.

يمكن صوغ الأحداث في النيجر، وقبلها في بوركينا فاسو ومالي، تحت عنوان ما حدث في قصر الأمة بعاصمة الكونغو الديمقراطية كينشاسا، حين قال الرئيس الكونغولي تشيسكيدي للرئيس ماكرون بأنه يجب أن تتغير طريقة رؤية الأشياء عند التحدث عن علاقاتنا مع فرنسا على وجه الخصوص، ومع الغرب بشكل عام.

من خلال هذا التصريح، يمكن التقدير أن الدول الأفريقية قد ضاقت ذرعاً بالرؤية الأبوية التي ينتهجها الغرب في علاقاته معها.

فالأبوية الناعمة التي حاول ماكرون تطبيقها في زيارته الأخيرة لأفريقيا من أجل أن يعيد بعضاً من قدرة فرنسا على التحكم في تلك القارة اصطدمت برفض لا يعبّر عن قرار أفريقي بالثورة والانقلاب على أبوية فرنسا ورعايتها فقط، وإنما يعبّر عن قناعة أفريقية بضرورة العمل على تحقيق الاستقلال الذاتي المرتكز على أسس لعلاقات خارجية متوازنة تحفظ مصالح شعوب تلك الدول ومقدراتها.

وإذا أردنا مقاربة آثار تلك الانقلابات، فإن آثارها الخارجية ستتخطى تلك الداخلية منها. ففي حين شدد قادة الانقلاب في الدول الأفريقية، خصوصاً في مالي وبوركينا فاسو والنيجر على ارتباط الأسباب الأساسية للانقلاب بفشل السلطات السابقة في تحقيق الاستقلال، ومعالجة الأزمات المعيشية والأمنية التي تعاني منها بلادهم، بما يوحي بالنية لتحسين واقع تلك الدول، انطلاقاً من السعي لاستغلال مقدرات دولهم وثرواتها في عملية بناء أسس الدولة الحديثة ومنع التدخل في شؤونها الداخلية، فإن وقوع تلك الانقلابات في لحظة حرجة على مستوى التجاذبات الدولية أوحى بحتمية تأثيرها في موازين القوى العالمية، انطلاقاً من تأثيرات الصراع في أوكرانيا والجهود الغربية الهادفة إلى الحد من التمدد الصيني في العالم.

فالسعي الفرنسي لإفشال الانقلاب في النيجر ودعم "إيكواس" في التحضير لعمل عسكري في ذلك البلد، مقروناً بالرفض الروسي والصيني للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، واستعداد مالي وبوركينا فاسو لدعم النيجر عسكرياً، لا يمكن أن يُقرأ إلا ضمن سلوك تدويل الحدث.

وانطلاقاً من مفارقة أن الانقلابات الأخيرة لم تكن معزولة عن الدعم الشعبي في تلك الدول، حيث باتت شعوب تلك الدول تفضل حكم العسكر على عمليات النهب والاستغلال المنظم لثرواتها من جانب الغرب، بالإضافة إلى توفر نموذج آخر للعلاقة مع الخارج، إذ يبرز النموذج الصيني والروسي الملتزم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والباحث عن معادلة رابح - رابح في صفقاته واستثماراته كبديل عملي من النموذج الغربي المتمثل بمعادلة الاستقرار والحكم مقابل الهيمنة على المقدرات والتحكم بالاقتصاد،

يمكن التأكيد أن أثر تلك الانقلابات سيتمدد ليساهم في تبلور النظام الدولي الجديد، إذ إن أي خسارة للقوى الغربية، الأوروبية والأميركية، في أفريقيا، ستترك أثرها المعنوي على الأقل، لناحية ظهور ميل إلى عدم تقبّل شعوب العالم النموذج الغربي كنموذج وحيد صالح لإدارة العلاقات الدولية.

*د. وسام إسماعيل باحث وأستاذ جامعي لبناني

المصدر | الميادين نت

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: فرنسا الغرب النيجر مالي بوركينا فاسو انقلابات أفريقيا الساحل الأفريقي روسيا الصين الساحل الأفریقی فی النیجر تلک الدول من خلال

إقرأ أيضاً:

استشهاد 10 فلسطينيين بقطاع غزة .. والحصيلة تتخطى 38 ألف شهيد

غزة القدس "وكالات": استشهد عشرة فلسطينيين وأصيب آخرون إثر تجدد قصف قوات الاحتلال لأنحاء متفرقة بقطاع غزة، لليوم الـ272 للعدوان الإسرائيلي وفقًا لوكالة الأنباء الفلسطينية وفا. وذكرت الوكالة الفلسطينية أن ثلاثة فلسطينيين استشهدوا إثر استهداف طائرات الاحتلال تجمعات في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، فيما استشهد ثلاثة آخرون في قصف استهدف أحد المنازل بحي الدرج بمدينة غزة وتزامن مع قصف قوات احتلال شقة سكنية بحي التفاح أسفر عن استشهاد أربعة فلسطينيين. وفي وسط قطاع غزة، أطلقت مدفعية الاحتلال عدة قذائف باتجاه المنطقة الشمالية الغربية من مخيم النصيرات، والمناطق الشرقية لمدينة خان يونس جنوب القطاع، ومخيم يبنا ومحيط دوار العودة وسط مدينة رفح، كما شهدت مدينة دير البلح تحليقا مكثفا لطائرات الاحتلال "الكواد كابتر". يشار إلى أن قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل عدوانها على قطاع غزة، برًّا وبحرًا وجوًّا، منذ السابع من أكتوبر 2023، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 37953 فلسطينيًّا، أغلبيتهم من النساء والأطفال، وإصابة أكثر من 87266 آخرين، في حصيلة غير نهائية، إذ لا يزال آلاف الضحايا تحت الأنقاض وفي الطرقات، ولا تستطيع

شرعنة 3 بؤر استيطانية

أضفت إسرائيل شرعية على ثلاث بؤر استيطانية عشوائية جديدة في الضفة الغربية المحتلة، وفق ما أعلنت منظمة السلام الآن الإسرائيلية المناهضة للاحتلال اليوم.

وقالت المنظمة في بيان إن مجلس التخطيط الأعلى المسؤول عن البناء الإسرائيلي في الضفة الغربية وافق "على توسيع المستوطنات في قلب الضفة الغربية وإضفاء شرعية على ثلاث بؤر استيطانية هي محانيه غادي، وجفعات حنان وكيديم عرافا"، موضحة أن هذه البؤر "أحياء (تابعة) لمستوطنات قائمة".

وجميع المستوطنات غير قانونية بالنسبة الى الامم المتحدة.

واقيمت البؤر الاستيطانية العشوائية من دون ان تجيزها اسرائيل التي تحتل الضفة الغربية منذ 1967.

واضافت منظمة السلام الآن أن مجلس التخطيط الاعلى وافق على 5295 وحدة استيطانية.

وعلقت ان "حكومتنا تواصل تغيير قواعد اللعبة في الضفة الغربية المحتلة عبر التسبب بضرر لا يمكن إصلاحه".

واعتبرت ان "حكومة الضم هذه تقوض في شكل خطير امن ومستقبل الاسرائيليين والفلسطينيين، وكلفة انعدام الوعي ستدفعها الاجيال المقبلة. علينا إسقاط هذه الحكومة قبل ان يفوت الاوان".

واقيمت عشرات البؤر الاستيطانية العشوائية في الضفة الغربية المحتلة، اضافة الى المستوطنات التي سمحت بها السلطات الاسرائيلية.

ويقيم نحو 490 الف اسرائيلي في الضفة الغربية داخل مستوطنات وسط ثلاثة ملايين فلسطيني.

واندلعت مواجهات الاربعاء بين مستوطنين ومئات من عناصر الشرطة والجنود الاسرائيليين كانوا يقومون بتفكيك بؤرة استيطانية شمال القدس، بحسب مسؤول اسرائيلي.

ويأتي الاعلان بشأن المستوطنات على خلفية الحرب المستمرة في قطاع غزة بين اسرائيل وحركة حماس.

أطنان النفايات

أفادت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، أن أطنانًا من النفايات باتت تحاصر أماكن خيام النازحين الفلسطينيين في مناطق واسعة من قطاع غزة في ظل ارتفاع درجات الحرارة وتسرب مياه الصرف الصحي وانتشار الأمراض المعوية والجلدية. ووضحت الوكالة الأممية في تقرير لها أنه مع تناقص المساحات الآمنة التي يمكن للنازحين نصب خيامهم فيها والإقامة بها وسط القطاع، صارت النفايات ومياه الصرف الصحي تحاصرهم في خيامهم مشيرة إلى أن ذلك لا يقتصر على انتشار الروائح الكريهة فحسب، بل يؤدي إلى زيادة الأمراض والآفات مثل الفئران والجرذان والبعوض التي تزيد من انتشار الأمراض. وكشفت الأونروا أن جيش الاحتلال يمنع موظفي الوكالة من الوصول إلى مكبات النفايات، في الوقت الذي تقوم فيه بتدمير العديد من مراكز الصرف الصحي التابعة لوكالة الأونروا والآليات والشاحنات الخاصة بالتخلص من النفايات، ويأتي ذلك في ظل فقدان بعض الأدوية التي تسهم في علاج الأمراض الجلدية والمعوية المنتشرة. كما يشكو النازحون من انعدام وسائل وأدوات التنظيف والنظافة الشخصية، في ظل شح المياه التي تفاقم هذه الأزمة.

إرتفاع الحصيلة

أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، اليوم ارتفاع حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي إلى 38 ألفا و11 قتيلا، إلى جانب87 ألفا و445 مصابا منذ السابع من أكتوبر الماضي.

وقالت الوزارة، في بيان صحفي اليوم:" ارتكب الاحتلال الإسرائيلي أربع مجازر ضد العائلات في قطاع غزة، ووصل منها للمستشفيات 58 شهيدا و179 إصابة خلال الـ 24 ساعة الماضية".

وأضافت أنه في "اليوم الـ 272 للعدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة ما زال عدد من الضحايا تحت الركام وفي الطرقات، ولا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم".

( د ب أ ) هـ خ/زم 2024/7/4

مقالات مشابهة

  • بدء التصويت في جولة الحسم لاختيار رئيس إيران
  • استشهاد 10 فلسطينيين بقطاع غزة .. والحصيلة تتخطى 38 ألف شهيد
  • هل يمكن أن يكون الاكتئاب معديًا كالأنفلونزا؟.. دراسة حديثة تكشف مفاجأة
  • موسم الهجرة الى كردستان
  • "كيف صنع العالم الغرب؟"
  • زاخاروفا: نظام كييف مجرد أداة في يد الغرب
  • مصر تدعو الدول الأفريقية إلى مجابهة تحديات السلم والأمن
  • صناعة المكانة الدولية.. الإمارات نموذجاً
  • صراع اليوم التالي في غزة ورهان الغرب المرتعش
  • بعد ارتفاع أسعاره.. منتجو زيت الزيتون يضاعفون جهودهم لمواجهة تأثيرات تغير المناخ