بقلم ابوبكر القاضي

اولا: رفد دكتور عمر على عبدالرحمن- مواليد قرية السًير - منطقة دنقلا - رفد المكتبة السودانية بروايته (رائحة الارض ) .. وسوف نرى في متن هذا المقال (القدر الضروري جداً من تفاصيل الرواية) بحول الله . في البداية أتقدم بأحر التهاني والتبريكات لدكتور عمر على عبدالرحمن علي انجاز هذا المشروع الأدبي الطموح في هذا الوقت الحاسم من عمره وهو في قمة عطائه (سن الشباب هو من عمر 64 الي 84 سنة) .

. والتهنئة موصولة لحرمه (زينب ) والتي تعرفنا عليها جميعا (اولاد وبنات الدفعة في كلية القانون بجامعة الخرطوم في سبعينيات القرن الماضي) كزميلة في الجامعة.. فوراء كل عظيم امرأة.. وبالبلدي كده .. رواية رائحة ألأرض عصاة نعرض بها جميعا.. بدءا بأبناء القريه في ضواحي دنقلا وزملاء الدراسة منذ المرحلة الابتدائية حتى دفعتنا ومحبتنا في كلية القانون جامعة الخرطوم .. لاسيما الراحل الحاضر (حامد عوض حاج حامد) .. وسوف اتناول هذه الخصوصية في متن المقال بحول الله .انا في غاية الامتنان لأخي عمر علي ان اكرمني بتوصيل رواية رائحة ألأرض الى عتبة داري بمقاطعة ويلز بالمملكة المتحدة عبر البريد الملكي البريطاني . ادري ان مهمتي ليست سهلة وانا اتناول (رواية رائحة ألأرض) .. لان الرواية تشبه الفلم.. فالمطلوب مني هو تجنب الخوض في تفاصيل الرواية حتى (لا أحرق الرواية) .. باختصار .. ما اهدف إليه هو تشويق وتشجيع القارئ دون ان افسد عليه متعته بالسرد .

ثانيا: شكرا لك اخي عمر علي لأنك عدلت وأنصفت (الأمومة ) في اهدائك ،، فقد كنت موفقا في اختيار كلماتك: (الي امي الحبيبة عائشة انًونتًود ) .. مقدماً (الام الحبيبة على الاب العزيز ) .. فالأب العزيز مقامه محفوظ .. ولكنه خلف الام .. لقد أصبت الفطرة السليمة.. ولمست فينا الإحساس الغريزي الذي نحسه جميعاً تجاه امهاتنا.. فكل طفل هو صنيعة امه .. فقد عاش التسعة شهور الأولى من حياته في احشائها في حالة تماهي شبه تام معها .. يقاسمها الأكسجين الذي تتنفسه.. والغذاء الذي تتناوله.. ودمها يجري في عروقه. والمولي عز وجل حين قال (ادعوهم لآبائهم) .. فهذا تمليك صوري على سبيل الامانة (للمصلحة العامة) .. لكي يقوم الأب بتوفير الحماية بالسيف والعضلات لزوجته وأطفاله.. ولينفق عليهم من حر ماله وعرق جبينه . هذه الأمانة تسترد عند صلاة الجنازة على الطفل عند وفاته (بعد طول العمر ) حيث تسترد الام امانتها من الاب حيث يقوم امام صلاة الجنازة بنسبة المتوفى الي امه (اي برد الامانة) .. ليس لان الاسلام يتهم جميع الامهات.. لا .. لا .. كلا .. وحاشا! فالقاعدة الشرعية في هذه الدنيا هي (الولد للفراش) .. وهي لا تتخلف بموت الولد .. بدليل أن الولد يظل منسوباً الي ابيه بعد دفنه رغم ان امام صلاة الجنازة قد رد الأمانة لصاحبتها/ لامه حين نسب اليها ابنها الذي حملته في احشائها تسعة اشهر وفصاله في عامين. مرة اخرى شكرا جزيلا لك اخي عمر علي عبدالرحمن ، فقد أوفيت ثقافتنا الامومية المطابقة للفطرة السليمة حقها .
ثالثا: في كلمته للقارئ نبه د عمر علي عبدالرحمن القارئ بقوله: (عزيزي القارئ: وانت تقرأ هذا الكتاب.. ما اوده منك ان تتذكر دائما ان ما بين دفتي هذا الكتاب ما هو إلا (رواية) وليس كتابة في التاريخ او السياسة أو اي مجال آخر من مجالات المعرفة البشرية)انتهي . كده سويت العليك يا د عمر .. فقد أبنت عن نواياك.. ومنحت التكييف الذي تراه لهذا العمل الادبي (الروائي) .. والاهم من ذلك انك (نفيت عن هذا العمل الروائي ما ليس منه صراحة) حين قلت بالحرف ( وليس كتابة في التاريخ او السياسة) .
المشكلة هي ان (الرقيب الديني او الأمني ) هو الذي يعطي (التكييف للأعمال الادبية) .. والأدهى وأمر ان (الجهل المقدس) علي قولة الفيلسوف الإيطالي جوردانو برودو ..وهو (الجهل النشط) .. هو الذي يمنح التكييف الذي يحدده (التنظيم الارهابي المعادي للإبداع) هو الذي يمنح التكييف..فيقوم الجاهل النشط بالتنفيذ من غير علم ولا هدي ولا كتاب منير. فالشخص (الجاهل) الذي قتل الشهيد فرج فودة حين أدلي بشهادته امام المحكمة اعترف بأنه لم يقرأ كتابا واحدا للمقتول فرج فودة .. وانه اكتفى بتقييم (الجماعة) .. هذا بالضبط هو (الجهل المقدس الذي عناه الفيلسوف الإيطالي جوردانو برودو ). وقد تعرض الكاتب الكبير نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال بسبب روايته أولاد حارتنا.. وهي مجرّد رواية ادبية عظيمة أهلت كاتبها لجائزة نوبل.
ويلزمني تأصيل مصطلح (الجهل النشط ) الذي يعرفه ابناء جيلنا في جامعة الخرطوم .. فهذا المصطلح من ابتكار (دالي والقراي) قيادات ركن النقاش الجمهوري اليومي في منتصف عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي .. اطلقوه على احد طلاب الاتجاه الاسلامي .. كثير النشاط والتهوس.. قليل الفكر.. واذكر في احد مجالس الدوحة وفي مأدبة غداء نظمها احد ابناء أمدرمان على شرف الزائر الاستاذ المحبوب عبدالسلام.. استخدمت بطريقة عفوية مصلح (الجهل النشط) .. فضحك الاستاذ المحبوب حتى استغرب الحضور.. وقام المحبوب بشرح مصطلح (الجهل النشط) للحضور الذي من جيل مختلف تماماً عن جيلنا.. مبيناً بالتحديد اسم طالب الاتجاه الاسلامي الذي أطلق عليه دالي والقرًاي لقب ( الجهل النشط) .
رابعا : اشهد للتاريخ أن د عمر علي عبدالرحمن كان من المؤسسين لتنظيم (مؤتمر الطلاب المستقلين في جامعة الخرطوم ) في عقد السبعينات من القرن العشرين .. وهو تنظيم طلابي يتبع (لحزب المؤتمر المؤتمر الوطني السوداني ) وهو الاسم ألذى استولت عليه الحركة الإسلامية بطريقة غير مشروعة بعد انقلابها المشؤوم في عام ١٩٨٩ ربما لعدم وجود قانون للأحزاب السياسية آنذاك يحفظ الملكية الفكرية لأسماء الأحزاب. وقد كان الأب الروحي لهذا الحزب / اعني (المؤتمر الوطني) هو الاستاذ / (عبدالمجيد امام - احد رموز ثورة اكتوبر المجيدة) .. وقد كتب د عمر علي والاستاذ الراحل حامد عوض (اول عدد من جريدة المؤتمر) الحائطية في احدي لوحات قهوة النشاط.. وقد تم تمزيق العدد الاول من جريدة المؤتمر.. وقد قامت رابطة الفكر الجمهوريون بجامعة الخرطوم بتوجيه التهمة للاتجاه الاسلامي في جامعة الخرطوم.. وأقام احمد المصطفى دالي الذي لا يحتاج إلى تعريف .. أقام ركن نقاش خصصه فقط لإدانة هذا العمل الارهابي.. شاهدنا.. ان تنظيم مؤتمر المستقلين من اسمه يوحي بأنه نشأ خارج الأحزاب العقائدية (الجبهة الديمقراطية والاتجاه الاسلامي) .. بمعنى أنه تنظيم لا يستبطن شحنة سياسية كبيرة .. ومع ذلك رأي الاتجاه الاسلامي في (مؤتمر المستقلين -مهدد وجودي- للاتجاه الاسلامي) .. لذلك قام الاتجاه الاسلامي بتمزيق جريدة المؤتمر (التي كتبها الطالبان بكلية القانون آنذاك : عمر علي عبدالرحمن وحامد عوض رحمه الله وهو الحاضر بيننا رغم غيابه الذي نقر به (الموت حق ) .. ولكنا لا نستسلم له .. لأن ذكرى اصدقائنا الأبرار أمانة في أعناقنا . شاهدنا ان (الرقيب) هو الذي يصنف الاعمال الفنية والأدبية.. وذلك بغض النظر عن تصنيفات اصحاب هذه الاعمال الروائية. والرقيب - كما يقول د نصر حامد أبوزيد- يقرأ النصوص (قراءة تربصية ) علي طريقة محاكم تفتيش الضمير الإسبانية/ البرتقالية في القرون الوسطى.

خامسا: (زوار الفجر ) هم اصحاب البخور العابق في رواية (رائحة ألأرض) :

اختار مؤلف رواية رائحة ألأرض للفصل الأول من روايته آنفة الذكر عنوان (زوار الفجر) .. وهو عنوان سياسي في الأصل يرمز إلى زوار عناصر الأمن السياسي لاعتقال المعارضين السياسيين.. وعادة يأتون لهذا الغرض مع الفجر .. وقد خلقت كوادر الحزب الشيوعي بطولات رجولية حببتهم للشعب السوداني.. اذ صار كادر الحزب الشيوعي الذي تعود جهاز الامن علي اعتقاله تحفظيا.. صار يحضر (حقيبته) للاعتقال.. ومحتويات الحقيبة بسيطة جداً.. وهي (بطانية + غيار بلدي- جلابية وعراقي وسروال طويل) .. فكادر الحزب الشيوعي انسان زاهد.. ونموذجه المثالي في ذاكرتنا هو: (تجاني الطيب ) في العاصمة،..و(تجاني موسي عبدالكريم ) في سنار .. مثل هذه البطولات الأسطورية لكوادر الحزب الشيوعي في وجه (زوار الفجر) .. والتي ترسخت في وجدان الشعب السوداني هي التي جعلت الحزب الشيوعي السوداني يحتفظ باسم (الحزب الشيوعي السوداني)بشعاراته الحمراء رغم تفكك الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو .
استخدم مؤلف رواية رائحة ألأرض (مصطلح/ زوار الفجر سيء السمعة) .. للإشارة إلى زوار فجر (محببين من نوع آخر مختلف تماماً) .. باختصار زوار الفجر في رواية رائحة ألأرض هم كما قال الراوي: (جدودك ) .. ومظهرهم اهم من مخبرهم .. لان مظهرهم طقوسي ظاهر للعيان.. وهو بمثابة الصولجان للسلطان.. التقوى في القلوب.. يعلمها الله.. اما (المظهر الطقوسي لرجل الدين) فهو الذي (يمنحه السلطة الدينية التي تمنحه القدرة لادخال الطمأنينة في نفس امراة (نفساء) .. في أضعف حالاتها .. في ثاني يوم من ولادتها .. وفي هذا الوقت من الليل.. وحين نقرأ (مظهر زوار الفجر) في رواية رائحة الارض نعلم أن مؤلف الرواية قد اختار كلماته بعناية فائقة لتعطي الرسالة التي اراد ان يوصلها للقارئ.. فقد قال في وصف زوار الفجر :

(أتدري من سماك احمد ؟
أنا احكي لك.
في ثاني يوم من ولادتك قبيل آذان الفجر، لست متاكدة هل كنت صاحية أم نائمة، حضر لغرفتي رجال اربعة او خمسة لست متأكدة، بجلاليب خضراء وسبح طويلة تتدلي من ايديهم ومن اعناقهم، والعطر الذي يفوح منهم لم اشم مثل رائحته الزكيّة أبدا . ) انتهى.
شاهدنا ان (عدة الشغل التي تمنح اليقين والطمأنينة والأمان عند الفجر لامرأة نفساء في أضعف حالاتها هي (الجلابية الخضراء.. السبحة الطويلة المتدلية من اليدين والرقبة) وليس الصلاة والصيام والقيام.. فهذه أمور يعرفها الخالق وحده.
فماذا فعل (الجدود الصالحون مع حفيدهم (الضيف المولود حديثا من يومين؟) : تجيبنا نصوص الرواية:
(جلسوا على حافة السرير الذي نرقد فيه انا وانت .
تلوا ايات من القرآن وهمهموا دعوات .
كبيرهم الذي كان يجلس قبًل رأسك بجلباب اخضر ، وعمامة خضراء، ولحية ناصعة البياض، رفعك وحنكك بتمر .. مضغ التمر - تمر قنديلا - ووضعه في فمك .. وفتح فمك برفق كي تبلعه وهو يردد : بسم الله الرحمن الرحيم.. ثم قال لي مبتسما: (هذا احمد ) اختفوا خلف دخان ابيض خفيف.
كانوا جدودك .
حين أبلغت أباك بذلك فرح فرحا شديدا) . أنتهي الاقتباس.
قصة (زوار الفجر في رواية رائحة ألأرض) هي اسطورة من صنع خيال مؤلف الرواية.. هذه الأسطورة لها اهداف وفوائد عظيمة..
يجب ان نقرأ أسطورة زوار الفجر مع الاشارة المتكررة لقبة الشيخ ساتي .. والموروث العرفي لطريقة الدفن حول القبة .. وتخصيص اماكن دفن للأسرة الملكية الروحية من احفاد الشيخ ساتي .. فرواية رائحة ألأرض (في تقديري) موجهة للقراءة في كل انحاء المعمورة.. ولكنها موجهة بصورة خاصة للجيل الثاني والثالث من اولاد وبنات واحفاد د عمر علي عبدالرحمن مؤلف الرواية .. خاصة وان أحفاده يعيشون في بريطانيا.. فهو يريد أن يذكر احفاده بقيم الاسرة والآباء والأجداد الاسلامية الصوفية المعتدلة.. ومن نسي قديمه تاه .

سادسا : رواية رائحة ألأرض والتسامح مع (غرانيق الشمالية) التي تجسد تراث الأجداد منذ آلاف السنين ودرجة رقيهم الحضاري:

عظمة فن الرواية تكمن فى الحرية الواسعة التي يتمتع بها المؤلف فى بث أفكاره وقناعاته التي تعكس درجة رقي الرقعة الجغرافية- مسرح احداث الرواية.. فقد نجح مؤلف رواية رائحة ألأرض وبطريقة سلسة وبلا تكلف.. من اجراء مقارنة بين (انسان دنقلا.. من طرف.. وبين انسان الجزيرة العربية قبل حوالي ١٤٠٠ سنة . فقد جاء في السرد انه شوهد ركب من الناس علي جمال وجوههم تنبي عن تعرضهم للفحات شمس الصحراء الحارقة.. وقد تبين انهم رسل امير الجيش الاسلامي يحملون رسالة الى (ملك هذه المنطقة - الملك كالديرات) . وحين وصل الركب إلى قصر الملك تبين لهم أن الملك غير موجود الان في قصره ، وانه متواجد الان في منتجعه في (أرقو سينا) الي الشمال:

(ارسل معهم احد رجال البريد ليكون دليلا لهم الي حيث مكان الملك .رجل البريد يعرف لغتهم إلا ان مسؤول البلاط اوصاه ان يتظاهر بانه لا يفهم لغتهم . ما يراه جديرا مما يسمعه منهم يبلغه للملك . وفي طريقهم إلى قصر الملك.. قريبا من القصر مروا امام تمثالين ضخمين منتصبين حولهما مباني .. واضح أنها اماكن للتعبد .
غمز احدهم لمن يبدو انه أعلاهم مقاماً: (بمشيئة الله عندما تفتح جيوشنا هذه الأنحاء سنزيل هذه الأصنام كما أزال رسولنا الكريم الأصنام من الكعبة. قال مشيرا إلى التمثالين.
هذا مما نقله رجل البريد إلى مسامع الملك ووزرائه.
قابلوا الملك وعرضوا عليه ما أوصاهم به أميرهم: هدنة بين الطرفين بشروط حددها.
عند رحيلهم أحد مستشاري الملك اصطحبهم إلى مسافة من حيث قصر الملك. حينما حاذوا التمثالين علق مستشار الملك: (كما تعلمون نحن مسيحيون نعبد الله الذي خلق الكون ولا نعبد اصنام.. هذه تماثيل قديمة من مخلفات جدودنا الاوائل نحافظ عليها لقيمتها التاريخية ليس إلا.
تفحصت وجه احد التمثالين مليا ..احسست كانما يغمز لي باحدى عينيه.. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي فصرفت نظري عن وجهه.) انتهى النقل من السرد .

ما هي الدروس المستفادة من المقتطف أعلاه من رواية رائحة ألأرض ؟
١- المقتطف يفيد بوجود تواصل ايجابي بين الدولة الإسلامية التي نشأت في المدينة المنورة وتوسعت لتشمل بلاد فارس ومصر.
٢- المقتطف يعكس لنا وعي انسان دنقلا وإدراكه منذ زمن بعيد لأهمية (العمل الاستخباراتي والتجسسي على الاعداء .)
٣- كلام من دهب : (كما تعلمون نحن مسيحيون نعبد الله الذي خلق الكون ولا نعبد اصنام .. هذه تماثيل قديمة من مخلفات جدودنا الاوائل نحافظ عليها لقيمتها التاريخية ليس إلا) ..هذا الكلام يعكس وعي انسان دنقلا تجاه تراث الاباء والاجداد.. معلوم ان سطح الأرض وكنوزها ليست (ملكا حصرياً لجيل محدد يعيش على سطحها (60 الي 99 ) سنة ثم تسري عليه قاعدة (كل من عليها فان) .. ليس من حق الجيل المعاصر أن يمحو آثار وتراث الاجيال السابقة.. من حق اي جيل ان يضيف ما يشاء.. ولكن ليس من حقه هدم وتدمير ما شيده الأسلاف من معالم حضارية.. هذه هي الرسالة العظيمة التي وجهها مستشار الملك (للبدو ) من اتباع جيش امير المؤمنين.. وهي الرسالة التي نحتاج الى تلقينها لأبائنا في كل ربوع السودان وهي الرسالة التي تتطلع بها رواية رائحة ألأرض.
هذه الجزئية من رواية رائحة ألأرض ذكرتني بمواقف الكيزان في السودان عام ١٩٩١ بعد إعلانهم للشريعة في السودان عبر قانون عقوبات ١٩٩١ .. فقد راجت نكتة سياسية انذاك بان كيزان السودان يتهامسون فيما بينهم: متي يحين وقت تحطيم اصنام السودان الموجودة في متحف السودان الكائن بين حدائق مايو وقاعة الصداقة ؟

سابعا : الفقرة التي استوقفتني كثيرا هي (تفحصت وجه أحد التمثالين مليا .. احسست كانما يغمز لي باحدى عينيه.. شعرت بقشعريرة تسري في جسدي فصرفت نظري عن وجهه.) .. حين أكملت قراءة هذه الفقرة.. وضعت الرواية جانبا مؤقتا.. وتوجهت إلى غوغل ابحث عن (الطاقة الروحية للأماكن المقدسة ودور العبادة.. والطاقة الروحية للأهرامات.. وتذكرت ذكرياتي مع كتاب (الخميائي ) للروائي العظيم باولو كويلو قبل عشر سنوات عن الطاقة الروحية للهرم الأكبر في مصر) .
لقد مارس رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام التأمل الحنيفي في غار حراء، وعلمنا التسامح مع كل الملل حين علمنا في خواتيم سورة البقرة (كل امن بالله وملائكته وكتبه ورسله.. لا نفرق بين احد من رسله) .صدق الله العظيم. وخلاصة هذه القصة ان التمثال قد سمع كلام مستشار الملك الموجه لركب قائد جيش المسلمين : (هذه تماثيل قديمة من مخلفات جدودنا الأوائل نحافظ عليها لقيمتها التأريخية ) .. لقد سمع التمثال الكلام الطيب لمستشار الملك.. ورد عليه بلغة الجسد حين غمر باحدى عينيه كناية عن التعبير عن الرضى. والقشعريرة التي شعر بها الراوي تسري في جسده تدل على التواصل الايجابي بين التمثال والانسان.

ثامناً : تحكي لنا رواية رائحة ألأرض عن تواصل انسان دنقلا مع الطبيعة.. الارض.. النهر.. والطيور (ام قيردون الحاجةمن .. تحزن لشماتة اطفال دنقلا عليها .. وتفرح وترقص لبشائر اطفال دنقلا لها) :

الانسان الذي عاش وسط البيئة الطبيعية باراضيها الخصبة الخضراء او صحاريها ووديانها وواحاتها وحياتها البرية يعرف ان هذه (البيئة روحانية) وصدق المولى حين يقول في كتابه العزيز: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ . كان حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء 44 .

على صلة بالفقرة السابقة التي يتواصل فيها مستشار الملك مع التمثال القديم غمزا وقشعريرة، تقدم لنا رواية رائحة ألأرض نموذجا آخر من التواصل بين أطفال دنقلا مع الطبيعة الخضراء الحية، ومع الطيور .. تواصل إنسان دنقلا مع البيئة الطبيعية تنقله رواية رائحة ألأرض عبر هذه الفقرة اللوحة التحفة التي انقلها بلا تصرف من صفحة 12 من الرواية:

(منظر اشجار النخيل مثقلة بسبائط التمر واغصانها تتمايل في الهواء.. والقماري تتقافز برشاقة بين افرعها وسبائطها وبينها وبين جاراتها من الاشجار الاخرى وهي تردد سجعها المبهر.
شتاءً ( ام قيردون الحاجة) صديقة المزارعين في الحقول تنظفها من الديدان والحشرات وكل ما يضر الزرع وهي في طريقها إلى الحج او عايدة منه ، كما افهمونا . في حين انها في الواقع تلجأ إلى دفء بلادنا هربا من بلاد (تموت من البرد حيتانها) محمولة على ظهر طائر الرهو الضخم من وراء البحار والصحارى ليوصلها إلى مكة المكرمة، او عائدة منها إلى حيث اتت ونحن نغني لها تتراقص بهز ذيلها:
ام قيردون يا الحاجة. في كل سنة داجة
ام قيردون يا الحاجة .. ولدك وين راح يا الحآجة
شدي النواح يا الحآجة
.. لحدي الصباح يا الحآجة
وعندها تتوقف عن الرقيص مبدية الحزن على فقد ولدها، فما نلبث أن نغير لها الأهزوجة ليتحول حزنها إلى فرح :
امشي مشيك يا الحآجة .. ولدك بجيك يا الحاجة
ولدك عريس يا الحاجة. تحت الدفيس يا الحآجة
بالقرمصيص يا الحاجة ولدك بجيك يا الحاجة
من المراح يا الحاجة فتعاود رقيصها الجميل . ) آنتهى .
الكلام شارح لنفسه في بيان تفاعل (ام قيردون الحاجة ) مع أهازيج الأطفال الموجهة لها .. فان قال لها الأطفال ولدك وين راح ؟ شدي النواح .. تحزن وتهجر الرقص .. واذا بشرها الأطفال (ولدك بجيك.. بالقرمصيص من المراح) ، تعاود الرقص والفرح . والاقصوصة في مجملها تعبر عن تفاعل انسان دنقلا مع بيئته الطبيعية.. بل وسيطرته عليها.. فانسان دنقلا له القدرة على التواصل مع اجداده البرزخيين .. وله قدرة على التواصل مع التماثيل القديمة.. وبمقدوره تطمينها من الدمار .. وباستطاعة هذه التماثيل مبادلته الشعور غمزا .. وبمقدور انسان دنقلا التواصل والتفاعل مع بيئته الطبيعية وبمقدور ام قيردون الحاجة ان تتجاوب مع كلمات اطفال دنقلا وإبداء المشاعر المتناسبة مع غناء الأطفال سلباً او ايجاباً. لقد تمكن مؤلف الرواية من تحقيق كل ذلك لأنه اختار ان يعبر عن نفسه وعن افكاره من خلال (فن الرواية) الذي يعطيه المرونة لإطلاق العنان لخياله ليقول ما يشاء حسب سعة خيال المؤلف.

تاسعا : رواية رائحة ألأرض والحديث في المسكوت عنه: (الرق بكل وقاحته وقبحه في السودان):

تحدثت رواية رائحة الأرض في (المسكوت عنه (ملف الرق في السودان) .. وذلك من خلال الحوار بين صوت الخير وصوت الشر .. وتقول في هذا الشأن:

(كان بمقدوره شراء رقيق مثلهم إلا انه كان رافضاً لمؤسسة الرق . افهمه شيخه ان الرق يتعارض مع القاعدة الالهية الأزلية (ولقد كرمنا بني آدم ) . فالتكريم الإلهي للانسان يتنافى مع ما يتعرض له من اذلال وعدم مساواة.) .انتهى. صفحة 30 .
مهمة الرواية ان تضع (الملفات على طاولة البحث والنقاش) .. وقد نجحت رواية رائحة ألأرض في فتح الحوار مجددا حول (مؤسسة الرق ) . وقد كان مؤلف الرواية موفقا في تجريد الرق من شرعية الاسلام .

عاشرا : رواية رائحة ألأرض: (نعم للإسلام.. لا للعرب ) :
الرواية هي أم المسرح والسينما.. ومهمة كل هذه المؤسسات هي (فتح الملفات.. وادارة الحوارات حول القضايا.. وليس بالضرورة تقديم حلول حاسمة لها . اقدم للقارئ الكريم هذا المقطع الحواري الرائع بين (مع وضد العرب في السودان) :
(.. الاسلام كدين ليس هناك افضل منه. خير دين انزل للبشر.. دخوله لهذه الديار كان هبة ربانية من الخالق نحن محظوظون جدا ان ولدنا مسلمين.. مشكلتي ليست مع الاسلام، أعوذ بالله من ذلك. مشكلتي مع الجنس العربي الذي وفد الينا .
(الجنس العربي وفد حاملاً راية الإسلام.كيف يستقيم ما تقول ؟ العرب هم من حملهم الله أمانة نشر الإسلام. كيف تريد أن يصلك الإسلام دون حضور حضنة الإسلام؟ هل كانوا يرسلون لك الاسلام عبر البريد؟ تساءل متهكما. ) آنتهى.
ثمّ يمضي الحوار .. وتستمر المرافعة المناهضة للثقافة العربية المعادية للمرأة (التي مارست وأد البنات) .. وبيان افضلية الثقافة النوبية:
(نعم. ولكن ايضاً هناك بون شاسع بين ثقافتنا ومفاهيمنا وبين ثقافتهم ومفاهيمهم في بعض الامور الاساسية. خذ مثالا واحدا . نحن الجنس النوبي المرأة عندنا مكرمة. الأولوية حتى في تولي امر ملكنا لذرية الاناث. الملوك ياتون من أرحام البنات وليس من صلب الاولاد. بينما العرب هم الجنس الوحيد من البشر الذي نعرف انهم كانوا يؤدون البنات .) آنتهى.
يتضح من الحوار الرصين اعلاه ان رواية رائحة ألأرض تفتح ما يطلق عليه (حوار الثقافات) .. في عالم الأفكار نقول: حوار الاديان غير ممكن.. لانه في عالم الاديان (كل حزب بما لديهم فرحون) .. اما حوار (الحضارات والثقافات) فهو جائز، ومفيد ومنتج .. لانه (تعارف) .. وهو الذي قال عنه القرآن: ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) .. والتعارف يجلب المحبة والتآلف بين الشعوب.

حادي عشر : في دنقلا القريبة من مصر، تتغير الاديان (عبادة النيل / أمون رع / المسيحية بكل أيقوناتها/ الاسلام ) .. ولكن تبقي الثقافات المرتبطة بهذه الاديان سارية المفعول وبكل تفاصيلها !! وهذه هي الادلة من رواية رائحة ألأرض:
(العروسان يخوضان في حافة النهر ، ويغسلان وجهيهما سبع مرات، بماء النيل .العريس يسلّ سيفا يضرب به ماء النيل سبع مرات.
محمد العريس يعود بذاكرته الي زيارته للنيل عند ختانه ، وزياراته صغيرا بمناسبة ختان او (سبوع) اخوانه وأطفال اقربائهم وجيرانهم.
في اليوم السابع لولادة المولود تحمله امه في زفة من النساء والأطفال من الجنسين.
تقف الام على حافة النيل ، يتم رسم صليب على جبهة المولود الجديد. عادة قديمة من العهود المسيحية تعايشت جنبا إلى جنب مع المعتقدات الإسلامية . ويتم غسل الوجه بما فيه الصليب بماء النيل ثلاث مرات، وكذلك وجه الأم ثلاث مرات، ومن ثم تقدم وجبة فتة أو مديدة بلح او مديدة حلبة للأطفال الحضور ، يعقبه دعاء للمولود بموفور الصحة وطول العمر والصلاح من امرأة مسنة عادة جدة المولود) انتهى. صفحة 48 .
في المقتطف أعلاه نقرأ ونشاهد آثارا عبادة الأجداد للنيل لازالت حية وباقية كما هي .. اثارا المسيحية بكل أيقوناتها.. كما هي.. لانها تحولت إلى (ثقافة.. وتراث امهاتنا وحبوباتنا ) .. توثق للتاريخ.. ولكنها خالية من الحمولة الدينية والعقدية. صارت ترمز للتسامح الديني الفطري الموجود في دواخلنا.. ليست لدينا أي حساسية تجاه الصليب .. بل نتعامل معه بايجابية لانه جزء من ثقافتنا وتراثنا الحضاري.
ابوبكر القاضي
نيوبورت / ويلز/ UK
٢٥ اغسطس ٢٠٢٤
Sent from my iPad

aboubakrelgadi@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی جامعة الخرطوم مستشار الملک مؤلف الروایة فی السودان د عمر علی قدیمة من فی روایة هو الذی لیس من

إقرأ أيضاً:

جدل أمريكي واسع يشكك في رواية “النيران الصديقة” لإسقاط طائرة F/A18 في البحر الأحمر 

الجديد برس|

أثارت وسائل إعلام أمريكية جدلاً واسعاً حول إعلان القيادة المركزية للقوات المسلحة الأمريكية بشأن إسقاط مقاتلة من طراز F/A18 فوق البحر الأحمر بـ”نيران صديقة”، مشيرة إلى أن الرواية الرسمية قد تكون محاولة للتغطية على حقيقة الحادث.

وقال براندون ويشيرت- محلل شؤون الأمن القومي في مجلة ناشيونال انترست: “لقد وصلنا إلى مستوى متدنٍ للغاية كقوة عظمى مزعومة عندما نعتبر أن رواية “النيران الصديقة” أكثر تصديقاً من احتمال أن تكون المقاتلة قد أُسقطت بنيران الحوثيين.”

من جهتها، تساءلت وكالة أسوشيتد برس عن كيفية وقوع الحادث، مشيرة إلى أنه “لم يتضح على الفور كيف يمكن لسفينة مثل Gettysburg أن تخطئ في اعتبار طائرة F/A18 صاروخاً معادياً، خاصة أن السفن في مجموعة قتالية تظل متصلة بشكل مستمر بالرادار والاتصالات اللاسلكية.”

يُذكر أن القيادة المركزية الأمريكية كانت قد أعلنت، في وقت سابق اليوم، عن إسقاط مقاتلة F/A18 بنيران صديقة فوق البحر الأحمر، أثناء تنفيذها لعملية ضمن المجموعة القتالية لحاملة الطائرات “يو أس أس هاري ترومان”.

مقالات مشابهة

  • جدل أمريكي واسع يشكك في رواية “النيران الصديقة” لإسقاط طائرة F/A18 في البحر الأحمر 
  • رشحتها جريدة "إندبندنت" لجائزة أفضل رواية!
  • سليمان: السيادة في جنوب الليطاني وشماله فوق الارض وفي جوفها وفي البر والبحر والجوّ
  • رائحة صفقة روسية – تركية – “إسرائيلية” وراء انهيار نظام الأسد
  • “تعليق طريف”.. خوسيلو يتحدث عن رائحة قميص رونالدو
  • الحرب والأدب – رائحة الدم وسلطة الحكي
  • حادث مروري بالشمالية يودي بحياة وإصابة «7» أشخاص بينهم أفراد شرطة
  • رواية جديدة لفرار الأسد.. هرب بمدرّعة روسية واصطحب معه 3 أشخاص
  • الرواية الكاملة لهروب الأسد .. تفاصيل لم تنشر من قبل
  • ريم بسيوني ترصد مسيرة الإمام أبو حامد الغزالي في رواية «الغواص»