البلاغة والإبادة في مفترق الحضارات.. كيف كانت غزة مركزا فكريا للإمبراطورية الرومانية؟
تاريخ النشر: 26th, August 2024 GMT
جعلها موقعها -كمفترق طرق بين مصر والجزيرة العربية، وحضارات البحر المتوسط- ساحة تنافس للمالك والجيوش القديمة، فضمها المصريون القدماء لقرون قبل أن يستقل بها الفلسطينيون القدماء حوالي القرن الـ12 قبل الميلاد، ثم دخلت تحت حكم النبييْن الملكيْن داود وسليمان عليهما السلام، ثم سيطر عليها الآشورين لقرون ثم الفرس، ثم حاصرها الإسكندر الأكبر وقتل الكثير من سكانها ثم أعيد بناؤها في عهد الإمبراطورية الرومانية قرابة 63 قبل ميلاد المسيح عليه السلام على مقربة منها شمال فلسطين.
وطوال الفترة الرومانية، كانت غزة مدينة مزدهرة، وعرفت نهضة فكرية وثقافية استمرت في العهدين البيزنطي والإسلامي، ورغم أن الحرب الإسرائيلية عليها ستظل واحدة من أحلك الفترات في التاريخ الطويل لقطاع غزة، بما في ذلك "الإبادة التعليمية" فإن تأمل التاريخ الفكري لهذه المدينة العريقة يساعدنا في استشراف مستقبلها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2غزة حكاية موت معلن.. حرب على وجوه الظلم بالملتقى الدولي الثامن للكاريكاتيرlist 2 of 2المغول من الغزو إلى اعتناق الإسلامend of listوقد تعرضت مساجد وكنائس ومبان تاريخية ومؤسسات تعليمية وثقافية ومواقع تراثية لأضرار بالغة خلال الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة المحاصرة.
ويرى مراقبون أن إسرائيل تسعى بهذا الاستهداف إلى "محو الوعي الثقافي" للشعب الفلسطيني، وقطع الصلة بينه وبين تراثه وتاريخه، وبينما دخلت حرب إسرائيل على غزة شهرها العاشر، أُدرج دير القديس هيلاريون "تل أم عامر" -الذي يعد أقدم المعالم التاريخية في قطاع غزة والواقع بمخيم النصيرات للاجئين- على قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) للتراث العالمي المعرض للخطر.
وهذا التقرير يدعو إلى التأمل في التاريخ الفكري لغزة، وهو أمر نادراً ما يُناقش خارج الأوساط الأكاديمية، فقد كانت هناك فترة أواخر الإمبراطورية الرومانية (القرنين الخامس والسادس الميلادي) عندما كانت غزة واحدة من المراكز الفكرية الكبرى في العالم المتوسطي، كما يحاول أن يرصد هذا التقرير للأكاديمي كريستوفر مالان، الأستاذ المشارك بالدراسات الكلاسيكية والتاريخ القديم جامعة غرب أستراليا.
أرضية فسيفسائية بكنيسة القديس إسطفانوس في أم الراس بغزة تعود للقرن الثامن الميلادي (الأكوان في العالم) غزة والإمبراطورية الرومانيةيعود تاريخ غزة تحت الإمبراطورية الرومانية إلى إعادة تأسيس المدينة في الستينيات قبل الميلاد، بعد أن دمرها الكسندر جنايوس (حاكم مملكة يهودا المجاورة) قبل عقود، كما روى المؤرخ اليهودي يوسيفوس، بحسب قراءة الأكاديمي كريستوفر مالان لموقع جامعة غرب أستراليا ومنصة "ذا كونفيرذيشن".
وتحت السلام النسبي للإمبراطورية الرومانية، لم تعد المدينة فريسة للاهتمامات الإمبراطورية لجيرانها الأقوى، سواء كانوا مصريين أو يونانيين أو يهود أو حتى رومانيين. واستطاع سكان غزة استغلال موقعهم في واحدة من أعظم التقاطعات الجغرافية.
من أعمال بول بالمر المهندس المعماري بالقدس عام 1901 (خرائط باري لورنس القديمة-أرشيف)كانت غزة تقع على الطريق الرئيسي من مصر إلى المدن التاريخية في بلاد الشام، والتي تتوافق مع لبنان والأردن وإسرائيل وسوريا الحديثة. كما وفرت الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط نهاية أحد الطرق التجارية الرئيسية من شبه الجزيرة العربية عبر مدينة البتراء.
ويبدو أن غزة كانت مركزًا تجاريًا في المقام الأول حتى منتصف القرن الخامس، عندها أصبحت معروفة بمدارسها بالإضافة إلى تجارتها.
بين الوثنية والمسيحيةكان الشرق الأوسط الفترة الرومانية المتأخرة حاضنة للنشاط الفكري.
وفي هذا الوقت، يمكن اعتبار مدارس الإسكندرية (في مصر) والقسطنطينية (إسطنبول) وأنطاكيا وغزة بمثابة حواضر تلك الفترة.
ورغم أنه لم تكن هناك جامعات رسمية -كما نفكر فيها اليوم- فإن هذه المراكز الفكرية القديمة استضافت معلمين مشهورين كانا يجذبان النخبة الرومانية الأكثر ذكاءً.
وإذا كنت ترغب بالنجاح في العالم الروماني المتأخر (وإذا لم تكن تقود جيشًا من القوط) فإن دخولك إلى الإدارة المدنية لكنيسة المسيحية القوية الجديدة كان يعتمد إلى حد كبير على تعليمك.
ونعرف الكثير عن المناهج التعليمية لمدارس غزة، حيث كان قلب هذا التعليم النخبوي القديم هو دراسة الأدب والبلاغة.
وكان المنهج يركز على النصوص الكلاسيكية اليونانية (وليس النصوص اللاتينية أو السريانية) ويتم تعليم الشباب كيفية تأليف الخطب حول مواضيع مختلفة.
وفي بعض الأحيان كانت هذه الخطب توجه للإمبراطور. ولكنها لم تكن مجرد تمارين على التملق، إذ نعرف عن أحد معلمي المدارس وهو تيموثاوس الغزي (أو grammatikeos وفقًا للقب اليوناني) الذي كتب خطابًا وجهه إلى الإمبراطور أناستاسيوس (حكم بين 491-518 ميلادي) يطلب منه إلغاء الضريبة على التجار.
وهناك أمثلة أخرى على البلاغة الغزاوية كانت أقل وضوحاً في طابعها السياسي. والجزء الأكبر من المنهج الدراسي كان يتضمن الكتابة عن موضوعات مستوحاة من الأدب والأساطير والتاريخ اليوناني القديم.
وكان الاحتفاظ بالعناصر الوثنية (في هذه الحالة غير المسيحية) في المنهج مهما. وبشكل عام، لم تكن الإمبراطورية الرومانية المتأخرة معروفة بتسامحها الديني، سواء بين المسيحيين وغيرهم، أو بين المسيحيين ذوي المعتقدات اللاهوتية المختلفة.
ونعلم من سيرة ذاتية قديمة لأسقف من القرن الخامس يُدعى بورفيريوس أنه شارك في هدم المعابد الوثنية المتبقية في غزة. ومع ذلك، ككل، كان المفكرون الغزاويون قادرين على التوازن بين معتقداتهم المسيحية وحبهم للثقافة الكلاسيكية (الوثنية).
وعلى الأقل هناك اثنان من المفكرين المسيحيين الغزاويين، الذين نجت أعمالهم، استكشفوا الروايات التوراتية عن الخلق مكتوبة بأسلوب حوارات أفلاطون من القرن الرابع قبل الميلاد. وهذه الأعمال تدمج الفلسفة الوثنية النيوأفلاطونية بشكل كبير مع التفسيرات المسيحية.
مدينة غزة القديمة عام 1857 (غيتي) بروكوبيوس والساعة العجيبةكان "بروكوبيوس الغزي" أعظم، أو على الأقل الأكثر تأثيراً، في أوساط المثقفين الغزاويين، وكان كاتبًا ومعلمًا غزير الإنتاج. ويُعتقد أنه اخترع نوعًا من التعليقات الكتابية، والمعروفة باسم السلسلة التي تربط مقاطع من كلمات علماء سابقين في نوع من التسلسل الخطابي.
وإذا كان هناك عمل واحد يلخص الجهود التعليمية لمدارس غزة مع تقديم صورة عن المدينة، فهو وصف بروكوبيوس لساعة غزة.
وكان أحد التمارين المهمة في التعليم الروماني يعلم كيفية وصف الشيء، وهو ما يسمى "إيكفراسيس". وأصبح إيكفراسيس بروكوبيوس للساعة مثالًا نموذجيًا لهذا وجذب انتباه القراء القدماء.
وكانت الساعة نفسها معجزة ميكانيكية. وهي تقع في السوق الرئيسي لغزة، ويبدو أنها كانت نسخة ضخمة من ساعة الوقواق مع تمثال هرقل الذي يظهر في كل ساعة.
وكان ظهور هرقل في كل ساعة يتوافق مع واحد من أعماله الأسطورية، سواء كان ذلك قتل الأسد النيمي أو تنظيف إسطبلات أوغيوس.
ويشبه بروكوبيوس مخترع هذه الساعة بهيفايستوس العصر (الآلهة اليونانية) وكان تشغيل الساعة يعتمد على قوة المياه.
واختفت هذه الساعة، مثل مدارس غزة الشهيرة في العصر الروماني المتأخر. وفي النهاية، لا نعرف متى حدث ذلك، لكن القرون التي تلت العصر الذهبي الفكري لغزة شهدت عودة الصراع على هذه المدينة العريقة.
وقد مرت ما يقرب من 1500 سنة منذ أيام بروكوبيوس وطلابه والمهندس الذي صمم الساعة. ومع ذلك، لا تزال غزة مدينة حية، بها شعراء ومعلمون.
ويقول الأكاديمي بجامعة غرب أستراليا كريستوفر مالان إنه يأمل أن تفتح المدارس الحديثة في غزة قريبًا وأن يُسمح للحياة الفكرية بالازدهار مرة أخرى.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات اجتماعي الإمبراطوریة الرومانیة کانت غزة لم تکن
إقرأ أيضاً:
حزب العدل: مصر تسعى لتصبح مركزا إقليميا للطاقة المتجددة عبر خطط طموحة
أكد أحمد بدرة، مساعد رئيس حزب العدل لشئون تنمية الصعيد، أن مصر تعمل بخطى حثيثة لتصبح مركزًا إقليميًا للطاقة المتجددة، مستفيدة من مواردها الطبيعية، خاصة الطاقة الشمسية
وأوضح بدرة، أن البلاد تتبنى خططًا طموحة لزيادة مساهمة الطاقة المتجددة إلى 42% من مزيج الطاقة بحلول عام 2035، مشيرًا إلى أن الطاقة الشمسية تمثل محورًا أساسيًا لهذه الاستراتيجية، مشيرا إلى أن افتتاح محطة أبيدوس للطاقة الشمسية في كوم أمبو بأسوان بقدرة 560 ميجاوات يأتي استكمالًا لنجاح محطة “بنبان”، أكبر محطة طاقة شمسية في الشرق الأوسط وأفريقيا بقدرة 1.8 جيجاوات.
وأضاف أن هذه المشروعات تُعزز مكانة مصر كمنتج ومصدر رئيسي للطاقة النظيفة، مع شراكات دولية بارزة، مثل التعاون مع دولة الإمارات العربية المتحدة، لتطوير مشروعات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، موضحا أن تصدير الطاقة الكهربائية المنتجة من الطاقة الشمسية إلى دول مثل السعودية يُمثل جزءًا من استراتيجية أوسع لتعزيز الطاقة المتجددة إقليميًا، مما يحقق فوائد اقتصادية وبيئية كبيرة.
وشدد على أهمية الاستثمار في الطاقة الشمسية، لما تتمتع به مصر من موارد مثالية، مثل الإشعاع الشمسي المرتفع والمناخ الصحراوي والمساحات الواسعة، وطرح عدة أهداف لتحقيق هذه الاستراتيجية أولها زيادة قدرة التوليد وتطوير مشروعات ضخمة مثل مجمع “بنبان”، فضلا عن تعزيز الاستثمارات وجذب الاستثمارات المحلية والدولية بفضل الحوافز والإعفاءات، علاوة على تصدير الطاقة وبناء شبكات كهرباء إقليمية لتحويل مصر إلى مركز لتصدير الكهرباء.
ولفت إلى أن المناطق المستهدفة تتمثل في الصحراء الكبرى، وهي مواقع مثالية لبناء محطات شمسية كبيرة، وجنوب مصر وتطوير المشروعات مثل “بنبان” لدعم التنمية الاقتصادية، فضلا عن الريف المصري وتحسين الشبكات وتعزيز وصول الكهرباء المتجددة، وآخرها الساحل الشمالي والذي يحوي مشروعات مشتركة للطاقة الشمسية وتحلية المياه.
واختتم حديثه مؤكدا على أن هذه الجهود تتماشى مع رؤية مصر للتنمية المستدامة 2030، التي تهدف إلى تحقيق التنمية طويلة الأجل والحفاظ على البيئة، ما يُعزز مكانة مصر إقليميًا ودوليًا كمورد رئيسي للطاقة النظيفة.