في صباح 25 أغسطس/آب الحالي، أعلن حزب الله اللبناني أنه شن هجوما جويا بعدد كبير من المسيرات والصواريخ نحو العمق الإسرائيلي، وأعلن الحزب أن عدد الصواريخ التي أُطلقت تجاوزت 320 صاروخا تجاه مواقع داخل إسرائيل، وأن هجماته طالت 11 قاعدة وثكنة عسكرية استُهدفت وأُصيبت في شمال إسرائيل والجولان السوري المحتل، وبعدها بعدة ساعات قال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله إن الحزب استهدف قاعدة غليلوت للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية المسماة "شعبة أمان" ومواقع أخرى، ردا على اغتيال إسرائيل القائد بالحزب فؤاد شكر.

تاريخ قصير لمسيرات حزب الله

هذه الضربة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وما زالت التحليلات لحجمها وقدراتها على اختراق الدفاعات الإسرائيلية مستمرة، لكن لفهم مدى عمق تأثير حزب الله يجب أن نرجع بالتاريخ 20 سنة تقريبا للوراء، تحديدا مع أول رحلة لمسيرات حزب الله داخل المجال الجوي الإسرائيلي لأغراض الاستطلاع في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، الأمر الذي فاجأ المخابرات الإسرائيلية وقتها.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2خبراء إيرانيون: عملية حزب الله حلقة من سلسلة رد محور المقاومةlist 2 of 2كيف نفهم صمود أنفاق غزة أمام طائرات الاحتلال؟end of list

حلَّقت "مرصاد-1" نهارا أعلى الجليل الغربي لمدة 20 دقيقة تقريبا، ثم عادت إلى لبنان قبل أن تتمكن القوات الجوية الإسرائيلية من اعتراضها. وقتها أعلن حزب الله أن "مرصاد" يمكن أن تصل إلى أي عمق داخل إسرائيل مع 40-50 كيلوغراما من المتفجرات.

كانت الرحلة الثانية عبارة عن توغل قصير بعمق نحو 25 كيلومترا في أبريل/نيسان 2005 بالمسيرة نفسها، التي أفلتت من الرادار الإسرائيلي وعادت إلى لبنان قبل أن تتمكن الطائرات المقاتلة الإسرائيلية من اعتراضها، تلتها مهمة ثالثة في أغسطس/آب 2006 أثناء حرب لبنان، لكنها هذه المرة لم تستهدف الاستطلاع فقط، بل كانت مسيرات هجومية من طراز "أبابيل" على إسرائيل، كلٌّ منها تحمل 40-50 كيلوغراما من المتفجرات.

في تلك الفترة، كانت المسيرات القادمة من لبنان صغيرة الحجم، تتحرك ببطء نسبيا، وكانت تمضي على ارتفاع منخفض، وبالتالي كان من الصعب اكتشافها بواسطة الرادار، من شأن الارتفاع المنخفض أن يحد من الكشف، لأنك كلما اقتربت من الأرض ازدادت الفوضى الراديوية بسبب النشاط البشري والظروف البيئية.

كان الظهور التالي لطائرة بدون طيار تابعة لحزب الله في أكتوبر/تشرين الأول 2012 بمنزلة مفاجأة مذهلة، لأن مسيرات حزب الله سافرت جنوبا من لبنان فوق البحر الأبيض المتوسط،​​​ وتحركت لمسافة 50 كيلومترا في النقب (أكثر من 200 كيلومتر مجمل الرحلة)، واخترقت نقطة بالقرب من بلدة ديمونا، موقع مجمع الأسلحة النووية الإسرائيلي، وهناك أسقطتها طائرات إسرائيلية، لكن عند فحص الحطام تبين أن هناك احتمالا أن تكون الطائرة بدون طيار قد نقلت صورا لمركز الأبحاث النووية.

عسكريون إيرانيون يتفقدون مسيرة "كرار" في العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2023 (الفرنسية) تسارع أقلق الإسرائيليين

في ورقة صدرت عام 2014 من اتحاد العلماء الأميركيين، يقول الباحثون إن مسيرات حزب الله ستؤدي مستقبلا مهام الاستطلاع لجمع المعلومات عن تحركات القوات والمرافق، استعدادا لعمليات التسلل أو الهجمات الصاروخية في المستقبل، ومعايرة دقة استهداف الصواريخ في الوقت الحقيقي، وبمجرد تطوير الطائرات لنقل حمولات أثقل، تصبح المسيرات منصات إطلاق للصواريخ الموجهة أو القنابل.

ما توقعته الدراسة حصل بالفعل، ذلك لأن أي قارئ لتاريخ تطور المسيرات في يدي حزب الله سيستنتج فورا أن المشكلة ليست في أن نقارن بين قدرات سلاح المسيرات التابع لحزب الله مع التابع لإسرائيل، ولكن في التسارع الواضح لاعتماد حزب الله على المسيرات، وتطويرها لمستوى أسرع حتى من توقعات الإسرائيليين.

ركَّز حزب الله على تطوير المسيرات في نطاقات بعينها، مثلا استيراد وتطوير كاميرات وأجهزة استشعار أدق مع الزمن، حيث يمتلك حزب الله حاليا كاميرات بصرية دقيقة وكاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء، مما مكَّنها من إجراء مراقبة أكثر دقة وجمع معلومات استخباراتية عالية الدقة، وهذا أمر بالغ الأهمية لمراقبة تحركات العدو وتحديد الأهداف.

في 2006، ربما لم يتخيل أحد أنه في يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2024 سيتمكن حزب الله من اختراق الداخل الإسرائيلي، ثم نشر مقاطع مصورة طويلة نسبيا تتضمن مسحا دقيقا لمناطق عسكرية بشمال إسرائيل (الفيديو الأول)، ومشاهد استطلاع جوي لقواعد استخبارات ومقرات قيادية ومعسكرات في الجولان السوري المحتل (المقطع الثاني)، قال الحزب إن مقطع الفيديو صوّرته مسيّرات تابعة له تمكنت "من تجاوز وسائل الدفاع الجوي للعدو، وعادت من دون أن تتمكن وسائله من كشفها"، وتضمنت المشاهد التي وردت في الفيديو الأول والثاني مواقع إسرائيلية حساسة.

مسيّرة الهدهد التي قامت بهاتين العمليتين تحتوي على 8 محركات، وفي كل جناح 3 مراوح، وتبلغ سرعتها القصوى 70 كيلومترا في الساعة، ولها القدرة على الإقلاع والهبوط العمودي دون الحاجة إلى مدرج، وهي عبارة عن طائرة كهربائية لا تتضمن بصمة حرارية أو صوتية، يبلغ طولها نحو 150 سنتيمترا، وطول جناحها 190 سنتيمترا، ما يخفض من قدرة الرادار على رصدها، خاصة أنها ذات صوت ضعيف وقدرات على التخفي. تستطيع الهدهد التحليق لمدة ما بين ساعة وحتى 90 دقيقة، لمسافة 30 كيلومترا.

إلى جانب ذلك، تمكَّن حزب الله من امتلاك مسيرات ذات جودة عالية في أنظمة الاتصالات، مما يسمح بنقل البيانات في الوقت الفعلي إلى مراكز قيادة حزب الله، وبالتبعية فإن ضرب المسيرة بعد اكتشافها لا يمنع نقل البيانات، كما أن هذه القدرة حيوية لاتخاذ القرارات في الوقت المناسب، وخاصة مع الضربات المنسقة، وهو أمر سنتحدث عنه بعد قليل.

كما قام حزب الله بتعديلات عدة لزيادة مداها التشغيلي، مما يسمح لها بالوصول إلى عمق أراضي الاحتلال، وهذا ينطوي على تحسينات في كفاءة الوقود والديناميكا الهوائية الخاصة بالمسيرات، ومن خلال تحسين عمر البطارية وتخزين الوقود، يمكن لمسيرات حزب الله بدون طيار الآن البقاء في الهواء لفترات طويلة، وإجراء مهام مراقبة مطولة أو انتظار اللحظة المناسبة للضرب.

وبالإضافة إلى ذلك، صُممت بعض مسيرات حزب الله الأحدث بحيث يكون لها مقطع عرضي راداري أقل، مما يجعل من الصعب اكتشافها بواسطة أنظمة الرادار الإسرائيلية، وهذا يعزز من قدرتها على البقاء في المجال الجوي الإسرائيلي لفترات طويلة، وهو ما اتضح في حالة الهدهدين.

قدرات هجومية

وإلى جانب قدرات المراقبة، يركز حزب الله على تسليح مسيراته بالمتفجرات، وتحويلها إلى مسيرات انتحارية يمكن توجيهها نحو هدف وتفجيرها عند الاصطدام به، مما يتسبب في أضرار جسيمة، خاصة أن المسيرات الأحدث لديها أنظمة توجيه محسنة، مما يسمح بضربات أدق على أهداف محددة، وهو أمر مفيد خصوصا في الحرب غير المتكافئة، تلك التي يستهدف من خلالها حزب الله إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر على إسرائيل مقابل أقل قدر ممكن من التكاليف.

حاليا يمتلك حزب الله مجموعة متنوعة من المسيرات، بما في ذلك "مرصاد-1″ (مداها 200 كيلومتر)، و"أيوب" (مشتق من "شاهد-129" الإيرانية بمدى يزيد على 1600 كيلومتر)، كما يمتلك حزب الله مسيرات انتحارية استخدمها في الهجمات المتتالية على إسرائيل، ومن المحتمل أن يطغى إطلاق عدد كبير منها على قدرات القبة الحديدية.

ويبدو أن حزب الله يقترب من تلك النقطة، حيث يقدر "مركز ألما للأبحاث" الإسرائيلي عام 2021 أن حزب الله يمتلك ما يزيد على 2000 من الطائرات المسيرة متعددة المهام. وفقا للتقرير، كان حزب الله يمتلك 200 مسيرة في عام 2013؛ وبمساعدة من إيران زاد حزب الله من أسطوله بشكل كبير، سواء عبر استخدام مسيرات إيرانية مباشرة، أو إطلاق نسخ جديدة مستوحاة منها، أو تطوير التكنولوجيا الخاصة بالمسيرات داخليا.

إسرائيل على الجانب الآخر لم تتجهز بالشكل المناسب لهذا التسارع كما يبدو، فمثلا في مايو/أيار الماضي 2024، شنَّت جماعة حزب الله واحدة من أعمق ضرباتها على إسرائيل، وقدمت ضربة مباشرة لأحد أهم أنظمة مراقبة سلاح الجو الإسرائيلي. وتعليقا على ذلك، قال فابيان هينز، زميل الأبحاث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن قدرة حزب الله على استخدام المسيرات تُعَد تهديدا يجب أن يؤخذ على محمل الجد، وفي حين بنت إسرائيل أنظمة دفاع جوي، بما في ذلك القبة الحديدية للحماية من ترسانة حزب الله من الصواريخ والقذائف، كان هناك تركيز أقل على تهديد الطائرات بدون طيار.

وقال تقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي، وهو مركز أبحاث مستقل تابع لجامعة تل أبيب، إن هذا الهجوم أظهر تحسنا في الدقة والقدرة على التهرب من الدفاعات الجوية الإسرائيلية، ومنذ بدء القتال في أكتوبر/تشرين الأول 2023، استخدم حزب الله المسيرات بشكل أكبر لتجاوز أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية وضرب مواقعها العسكرية على طول الحدود، وكذلك في عمق إسرائيل.

وأكد معهد أبحاث الأمن الإسرائيلي قبل عدة أسابيع أن حزب الله بدأ استخدام طائرات مسيّرة يمكنها إطلاق صواريخ وأخرى تجمع المعلومات، وسط مخاوف إسرائيلية من تزايد استخدام الحزب للمسيّرات التي يتعذر على النظام الدفاعي الجوي مواجهتها، وفي هذا السياق تتزايد المخاوف في إسرائيل من إطلاق سرب من هذه المسيّرات فجأة، الأمر الذي يسهل اختراق القدرات الدفاعية لإسرائيل.

تكتيكات حزب الله الجوية

لكن حزب الله لا يستخدم المسيرات منفردة في ضرباته الكبرى، بل يدمجها مع الصواريخ. تنوع المنتجات الهجومية الجوية هو هدف أساسي لدى حزب الله، ويُمثِّل سمة مميزة لبرنامجه العسكري، وهو التركيز على العمليات المشتركة، وقد استُخدم هذا التكتيك بالفعل في الضربة الأخيرة، حيث أفاد الحزب بأن هجماته تضمنت ضربات بأنواع مختلفة من الصواريخ والمسيرات، وقد رُصد وجود هذا التكتيك في أكثر من عملية، منها العمليات التي تلت طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.

عمليات الأسلحة المشتركة هي أسلوب قتالي يسعى إلى دمج الأسلحة القتالية المختلفة لتحقيق تأثيرات تكاملية متبادلة، حيث تضرب الأسلحة المشتركة الخصم بعدة أذرع في وقت واحد، فمثلا يمكن استخدام الطائرات المسيرة لمهاجمة رادارات الدفاع الجوي في المراحل الأولى من هجوم كبير، هنا ستتحول قدرات الدفاع الجوي الأخرى لصد هجوم المسيرات، لكن تليها ضربات صاروخية باليستية وأخرى بصواريخ كروز موجهة (ويمتلك حزب الله بالفعل نسخا منهما)، فلا تتمكن الدفاعات من صدّها جميعا، خاصة مع اختلاف تكتيكات عمل كلٍّ منها.

وعادة ما تعمل المسيرات نفسها في أسراب تكتيكية يمكن أن تشتت قدرات أنظمة الدفاع الجوي وتتجاوز حدود قدرتها على الصدّ، وتعطل الاتصالات والخدمات اللوجستية. وعلى سبيل المثال، ففي سيناريو الحرب، سيعمل فريق من المسيرات على تدمير أنظمة الدفاع الجوي وتمهيد الطريق لسلسلة من المسيرات الأخرى للتوغل في أراضي العدو، في حين تقوم فرقة ثالثة من المسيرات بالاستطلاع ودراسة الضربة.

طائرة مسيّرة استخدمها حزب الله في تبادل إطلاق النار الحدودي مع إسرائيل (غيتي)

وفي دراسة صدرت في 2022، يوضح جيمس روجرز، أستاذ الدراسات الحربية بجامعة جنوب الدنمارك، أن هذه الهجمات المشتركة تهدف إلى التغلب على دفاعات الخصم بطريقة متطورة من الناحية التكتيكية والتقنية، ويشير روجرز إلى أنه في حال التمكن من إيقاف تلك الهجمات الآن، فإنه في مرحلة ما، ومع وقوع مسيرات أكثر تقدما في أيدي جهات مثل الحوثيين، وقدراتهم على إعادة إنتاجها أو ابتكار الجديد منها، سيكون من الصعب جدا (إن لم يكن من المستحيل) مواجهة تلك الهجمات.

هذا بالضبط هو أحد أهم الأسباب التي دفعت حزب الله منذ البداية للتركيز على حرب المسيرات، فالفرصة لتطويرها مفتوحة تماما مع زيادة توافر تكنولوجيا المسيرات التجارية، ومنظومات تحديد الموقع الجغرافي، وتطبيقات التحكم في نشر المسيرات، وأجهزة إرسال واستقبال التردد القابلة للتعديل. يفتح ذلك الباب لاستيراد وتطوير تكنولوجيا، رخيصة نسبيا وسهلة في الحصول عليها، باتت يوما بعد يوم تُمثِّل تحديا للتفوق الجوي للطائرات المقاتلة (في حرب غير متكافئة ضد جيش متقدم في العدد والعتاد).

بالنسبة لجماعات مثل حزب الله، فإن هدف الاستثمار في المسيرات مختلف عن قدرات الجيوش التقليدية، فالأخيرة تستثمر في المسيرات بوصفها جزءا من سلاحها الجوي الذي تُمثِّل المقاتلات قمة هرمه، أما بالنسبة للحوثيين فإن المسيرات هي قمة سلاحها الجوي، ومن ثم فإنها تعمل على تطويره بكل السبل الممكنة، واستخدامه بأكثر الأساليب فاعلية.

ويوضح روجرز في دراسته أن ذلك ليس إلا خطوة أولى، فيوما بعد يوم ستزيد من مرونة أنظمة المسيرات وقابليتها للأتمتة، أي أن تصبح مستقلة وقادرة على التعامل بشكل منفصل عن وحدة التحكم البشرية بصورة كاملة أو شبه كاملة، ويعتقد روجرز أنه بحلول عام 2040 فإن الجماعات، مثل حزب الله أو الحوثيين أو غيرها، ستتمكن من أتمتة مسيراتها، بالنظر إلى التطور المحتمل للذكاء الاصطناعي وخوارزميات التعلم الآلي، الأمر الذي يفتح الباب بدوره إلى مرحلة "تهديدات المسيرات كاملة الطيف"، ما يعني أن المسيرات التي تمتلكها جماعات كتلك لن تكون جوية فقط، بل أرضية وبحرية.

يعي المخططون ذلك في عدة جبهات مثل حزب الله، وكلٌّ منهم يستخدم ما هو متاح من تكنولوجيا وأدوات، سواء بالابتكار المحلي أو الاستيراد من الأصدقاء، ليحقق أقصى استفادة ممكنة من سلاح المسيرات، وهو يعلم أن طريقها للتطوير مفتوح تماما. ولذا فإن النجاح الجزئي الذي حققته الضربة الأخيرة ليس إلا خطوة أولى في خط سير طويل.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد مسیرات حزب الله یمتلک حزب الله الدفاع الجوی حزب الله على على إسرائیل من المسیرات حزب الله من بدون طیار

إقرأ أيضاً:

صهاينة أميركا.. ماذا تعرف عن الشخصيات الخفية التي أنشأت إسرائيل؟

في خمسينيات القرن الماضي كتب المفكر المصري عباس محمود العقاد كتابه "الصهيونية العالمية" يرصدُ فيه النشأة والتأثير الذي قامت به هذه الحركة، وقد شكك الرجل في "بروتوكولات حكماء صهيون" وهي توصيات كبار المؤثرين الصهاينة التي يخططون ويتآمرون فيها على العالم.

وقد كان العقّاد مقتنعا بأن الصهاينة لا يحتاجون لهذه البروتوكولات، لأن لديهم داعمين أقوياء يسعون بكل إخلاص في تنفيذ أجنداتهم، وعلى رأسهم الدول الغربية الكبرى التي قامت بهذه المهمة ليس حبّا في الصهاينة اليهود وإنما خدمة للمصالح الاستعمارية وعداوة أصيلة للإسلام، وضرب على ذلك أمثلة لافتة أدركها الرجل مبكرا بُعيد إنشاء إسرائيل.

وهذا التصور من العقاد تؤكده قوة روابط العلاقات الأميركية بالصهيونية منذ أوائل القرن الـ19، وذلك قبل أن تتبلور مشروعا عمليا مع الصحفي ومؤسس الصهيونية ثيودور هرتزل (ت 1904) وتتحول فيما بعد إلى هجرة منظّمة فاحتلال مُحكم.

بواكير الصهيونية في الولايات المتحدة

بدأت الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة بالجماعات الصهيونية غير اليهودية التي طالبت بتوطين اليهود في فلسطين أو في خارجها، حيث طالب الرئيس الأميركي جون آدمز الذي تولى الحكم بين عامي (1797-1801م) بأن يصبح اليهود أمة واحدة.

في ذلك الوقت، لم يزد عدد اليهود في الولايات المتحدة عن 4 آلاف، ولم يكن هناك لوبي يهودي أو صهيوني، وهو ما يدل على أن النزعة الصهيونية في الولايات المتحدة أصيلة متجذرة.

وكان من أهم الشخصيات الصهيونية المسيحية في تلك الفترة وليام بلاكستون الذي حرص على الاشتراك في مؤتمر الاتحاد الصهيوني الأميركي في فيلادلفيا، وأُعلن في ذلك المؤتمر أنه هو "أبو الصهيونية"، وكما يشير عبد الوهاب المسيري في موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية" فإن الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون يُوصف أيضا بـ"أبو الصهيونية"!

وقد بدأت أفكار الحركة الصهيونية تأخذ منحى مغايرا مع قدوم عشرات الآلاف من المهاجرين اليهود من شرق أوروبا منذ ثمانينيات القرن الـ19 حاملين معهم تقاليدهم وأفكارهم ومعتقداتهم وتنظيماتهم الفكرية والسياسية، والتي كان من بينها "جمعية أحباء صهيون"، وبحلول عام 1890م كان هناك فروع لهذه الجمعية في نيويورك وشيكاغو وبوسطن وفلادلفيا وغيرها.

وليام بلاكستون ينسب له أول جهد أميركي للدعوة لإنشاء دولة يهودية (شترستوك)

ويذكر المسيري أنه في عام 1896م طرح البروفيسور بول هاوبت من جامعة جون هوبكنز في الولايات المتحدة فكرة ترمي إلى توجيه المهاجرين اليهود القادمين من شرق أوروبا إلى بلاد بين النهرين وسوريا وأيّده في ذلك العديد من الشخصيات اليهودية البارزة حينئذ مثل سيروس أدلر وأوسكار شتراوس.

وفي العام التالي 1897م، عقد هرتزل مؤتمر الحركة الصهيونية الأول في بازل بسويسرا وحضره 4 من يهود الولايات المتحدة، وفي العام التالي 1898م تكونت مزيد من الجمعيات والعصب التي بدأت تعمل على دعم أنشطة الحركة الصهيونية وتحقيق أهدافها وجمع التبرعات لها، مثل "عصبة الجمعيات الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية الشمالية".

وكانت منظمة العمل الصهيوني في أميركا، التي تأسست في عام 1897، أول منظمة صهيونية أميركية، وركزت جهودها على توعية المجتمع اليهودي الأميركي بأهداف الحركة الصهيونية.

ورغم أن الحركة واجهت في البداية معارضة من بعض اليهود الأميركيين، وخاصة اليهود الإصلاحيين العلمانيين الذين كانوا يرون أن الاندماج في المجتمع الأميركي هو الحل الأمثل والأنجح لمشاكل اليهود، فإنها بدأت تكسب دعما لأهدافها بمرور الزمن.

فبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، عقدت الجماعات الصهيونية التي ارتفع عددها إلى 150 ألف شخص في الولايات المتحدة مؤتمرا كبيرا في 15 ديسمبر/كانون الأول 1918 وبالتحديد في فيلادلفيا، وأعلنوا فيه تبنّيهم قرار عصبة الأمم بتولي بريطانيا مهام الانتداب على فلسطين.

وفي غضون السنوات العشرين التالية أصبحت الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة المساهم الأول في تطوير الخطط الاستيطانية في فلسطين، فبلغت التبرعات التي قدمتها المنظمة الصهيونية الأميركية حوالي 100 مليون دولار بين عامي 1929 و1939م، كما يرصد المسيري في موسوعته.

الشخصيات الخفية التي دعمت الصهيونية في الولايات المتحدة

ولكن الأمر اللافت أنه برز في خلال العقود الخمسة الأولى من القرن الـ20 العديد من الشخصيات اليهودية التي قادت الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة وأسهمت في تعزيز تأثيرها على السياسة الأميركية الخارجية لدعم وإقامة إسرائيل.

وقامت هذه الشخصيات التي لا نكاد نعرفها في المنطقة العربية بدور ضخم من العلاقات العامة والتقرب من الرؤساء الأميركيين والتأثير عليهم، فضلا عن المجتمع والمؤسسات الأميركية.

لويس برانديز

ويأتي على رأس هؤلاء لويس برانديز (ت 1941م) الذي انضم إلى الحركة الصهيونية عام 1914، وبعدها بعامين عُيّن أول قاضٍ يهودي في المحكمة العليا الأميركية، وكان يعتبر دائما أن الحركة الصهيونية تتطابق مع المبادئ الأميركية حول الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

وسعى برانديز إلى إقناع الأميركيين، سواء من اليهود أم غير اليهود، بأن إقامة دولة يهودية يتوافق مع القيم الأميركية، بل إنه حاول إقناع حكومة الولايات المتحدة في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) بدخول الحرب بجانب الحلفاء للقضاء على الدولة العثمانية وإسقاطها بُغية تسهيل وتسريع عملية السيطرة على فلسطين وتسليمها لليهود.

ومن المعلوم أنه في أثناء الحرب العالمية الأولى حصلت الحركة الصهيونية على دعم دولي محوري من بريطانيا عبر وعد بلفور الشهير وذلك عام 1917، والذي أيد إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. هذا الوعد لاقى ترحيبا كبيرا من قبل الصهاينة في الولايات المتحدة، وعزز من دورهم في التأثير على السياسة الخارجية الأميركية.

وكان برانديز من أشد المؤيدين لهذا الوعد، وعمل على تسويقه بصورة ممتازة للرئيس الأميركي في ذلك الوقت وودرو ويلسون الذي أبدى تعاطفا وتأييدا لبريطانيا ولوعد بلفور.

برانديز دعم جهود جمع الأموال لدعم المستوطنات اليهودية في فلسطين (شترستوك)

وكان من اللافت أن دعم ويلسون للصهيونية مثّل نقطة تحول في السياسة الأميركية في عهده وفي عهود الرؤساء اللاحقين، حيث بدأت الولايات المتحدة تتبنى تدريجيا مواقف داعمة للصهيونية في سياستها الخارجية.

والحق أن تأثير برانديز كان شديد الخطورة والأهمية بسبب منصبه الرفيع في المحكمة العليا، وتقديره في الأوساط السياسية والقانونية الأميركية، حيث استخدم مكانته هذه لإيجاد تحالفات سياسية داخل الحكومة الأميركية لصالح الصهيونية.

وكان قادرا على كسب دعم مؤثرين أميركيين جدد من غير اليهود للمشروع الصهيوني، كما دعّم أيضا جهود جمع الأموال لدعم المستوطنات اليهودية في فلسطين، ووجه العديد من الحملات الإعلامية، وبفضل مكانته السياسية والاجتماعية تلك ساهم برانديز في جعل الصهيونية جزءا من التيار السائد في الولايات المتحدة.

هنري مورغنثاو من أشهر الشخصيات اليهودية الصهيونية التي عملت على التأثير داخل الأوساط السياسية الأميركية (غيتي) هنري مورغنثاو

ومن أهم وأشهر الشخصيات اليهودية الصهيونية التي عملت على التأثير داخل الأوساط السياسية الأميركية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية لصالح المشروع الصهيوني سنجدُ السفير الأميركي اليهودي هنري مورغنثاو الأب (ت 1946م)، وهو رجل أعمال وسياسي كان مقربا أيضا من ويلسون.

وقد اختاره ويلسون ليكون سفيرا للولايات المتحدة في الدولة العثمانية ما بين عامي 1913-1916م، وذلك في أثناء الفترة الحرجة التي قامت فيها الحرب العالمية الأولى، وكان من أشد المناهضين للدولة العثمانية.

وبعد الحرب أصبح مورغنثاو أكثر التزاما بدعم الصهيونية من خلال علاقاته الواسعة مع قادة الحكومة الأميركية، حيث استخدم نفوذه للتأثير في صنع القرار السياسي، ففي مذكراته أشار إلى أن التجربة المروعة للهولوكوست والفظائع التي ارتُكبت ضد اليهود في أوروبا جعلته يدرك أن الصهيونية لم تعد مجرد حركة قومية، بل ضرورة أخلاقية لضمان مستقبل اليهود.

الحاخام ستيفن وايز

كما يأتي الحاخام ستيفن وايز (ت 1949م) كواحد من أهم الشخصيات اليهودية التي لعبت دورا مؤثرا في دعم الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، فقد أسّس المؤتمر اليهودي الأميركي في عام 1922، وهي منظمة صهيونية كان لها تأثير كبير في حشد الدعم الشعبي والسياسي لإقامة دولة يهودية في فلسطين.

وكان وايز شخصية كاريزمية وخطيبا مفوّها، مما جعله قادرا على التأثير في الرأي العام الأميركي لصالح مشروع الحركة الصهيونية.

ستيفن وايز  أسّس المؤتمر اليهودي الأميركي في عام 1922  (غيتي) وايزمان وترومان

ومن الشخصيات اليهودية الصهيونية التي أثّرت في السياسة الأميركية أيضا في ذلك الحين، سنجدُ حاييم وايزمان (ت 1952م) قائد الصهيونية العالمية والرئيس الأول لإسرائيل الذي لعب دورا شديد الأهمية في التأثير على الولايات المتحدة الأميركية قبل وبعد الاعتراف بدولة الاحتلال في نوفمبر/تشرين الثاني 1947 ثم في مايو/أيار 1948م.

نجح وايزمان، الذي كان كيميائيا وسياسيا قويا، في إقامة علاقات دبلوماسية وثيقة مع العديد من الشخصيات السياسية الأميركية من كافة الاتجاهات، ومنهم الرؤساء الأميركيون.

وخلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، زار وايزمان الولايات المتحدة عدة مرات للعمل على جمع الدعم المالي والسياسي للصهيونية، ولقد أسهمت جهوده في تحقيق وعد بلفور من قِبل بريطانيا عام 1917.

وكان لوايزمان دور كبير في الضغط على الإدارة الأميركية لدعم إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ولديه علاقة وثيقة مع الرئيس هاري ترومان الذي تولى رئاسة الولايات المتحدة بين عامي (1945-1953م)، مما ساهم في دعم الاعتراف الأميركي بإسرائيل فور إعلانها في عام 1948.

حاييم وايزمان (يسار) آرثر بلفور (بالمنتصف) وناحوم سوكولوف (غيتي) وساطة التاجر الغامض

لكن ثمة شخصية مؤثرة ومحورية وتكاد تكون خفية وكان لها الفضل الكبير في التقريب بين وايزمان وترومان، وهو التاجر ورجل الأعمال اليهودي الأميركي إدوارد جاكوبسون المعروف بإيدي جاكوبسون (ت 1955م).

فقد استطاع هذا الرجل الشريك والصديق المقرب من ترومان منذ أيام الحرب العالمية الأولى إقناعه بضرورة مقابلة وايزمان والاستماع له، وذلك على الرغم من اعتراض كثير من موظفي وزارة الخارجية الأميركية وتوصياتهم بضرورة الحياد والابتعاد عن الدعم المباشر والقوي لإسرائيل إذا أرادت أميركا أن يكون لها تأثير في الشرق الأوسط.

لقد وصف إيدي جاكوبسون صديقه زعيم الصهيونية العالمية وايزمان بأنه مثل "موسى عصره"، وهو تشبيه ديني كان له تأثير مباشر في قناعة ترومان وحرصه على مقابلته.

وفي تلك المقابلة لعب وايزمان بهدوء شديد على المعاناة الإنسانية التي تعرض لها اليهود في محارق النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية، وكيف أنه يسعى لإحلال السلام في الشرق الأوسط، وحل المشكلة اليهودية بصورة جذرية.

ترومان (يسار) في متجر ترومان وجاكوبسون (شترستوك)

وكما يذكر ترومان في مذكراته أنه تأثّر للغاية بمنطق وايزمان ولغته العاطفية والإنسانية، حتى وصفه بأنه "قادر على تحريك قلوب الرجال"، ونظرا لغياب الصوت العربي المؤثر، واللعب على العلاقات الدينية والسياسية شديدة الصلة بين اليهود والأميركان. وكان ترومان أول من اعترف بقيام دولة إسرائيل بعد إعلانها بـ11 دقيقة فقط.

وفي مذكراته، أشار وايزمان بتقدير كبير للدور الضخم والتعاطف اللافت الذي كان يُبديه ترومان للقضية الصهيونية ودعمها أمام اعتراضات بعض مستشاريه وموظفي وزارة الخارجية الذين كانوا يسعون لإفساد الأمر في الأمم المتحدة وفي دهاليز الحكومة، بل أمام مندوبي الدول الأخرى.

يقول وايزمان في مذكراته "كنتُ كلما اصطدمت القضية (الصهيونية) بشيء تنقلت من مندوب إلى آخر من مندوبي الدول (في الأمم المتحدة)، أو اتصلتُ بالرئيس ترومان لأحلّ الأزمة قبل تفاقمها".

تلك هي أهم المسارات والشخصيات الصهيونية التي لعبت أدوارا حاسمة في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية، وجعلها تميل ناحية الطرف الإسرائيلي على حساب القضية الفلسطينية، وإننا نرى أن العلاقات العامة والشخصية، والمناصب المرموقة التي تولاها هؤلاء اليهود الأميركان كان لها الفضل الكبير في حسم واشنطن قرارها ناحية تل أبيب!

مقالات مشابهة

  • قائمة بالدول التي حظرت أو قيدت مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل
  • غارديان تنشر قائمة بالدول التي حظرت أو قيدت مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل
  • ارتفاع أسعار الذهب لمستوى قياسي في التعاملات الفورية اليوم
  • إيران تبني سفينة الشهيد باقري فما أهداف حاملة المسيرات الضخمة؟
  • صهاينة أميركا.. ماذا تعرف عن الشخصيات الخفية التي أنشأت إسرائيل؟
  • هوكشتاين سيصل إلى المنطقة.. ما هي الرسالة التي يحملها إلى إسرائيل؟
  • بالأرقام.. موقع “غلوبس” الإسرائيلي يكشف الأضرار التي لحقت بمستوطنات الاحتلال الشمالية
  • حدث ليلا.. ترامب يعلن موعد اختفاء إسرائيل ووباء قاتل بأمريكا و«كيم» يهدد بالنووي
  • ما طبيعة القنابل التي استخدمتها إسرائيل في قصفها منطقة المواصي؟
  • حمدان: استمرار العدوان الإسرائيلي يهدد فلسطين والأمن القومي العربي