منذ أكثر من ثلاثين عامًا، يعاني الفلسطينيون من الرعاية الحصرية للولايات المتحدة الأميركية للمفاوضات بينهم وبين حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة. فقد انفردت واشنطن برعاية ما عُرف بعملية السلام الفلسطينية- الإسرائيلية، ومنعت أي دولة أخرى من ممارسة دور ذي مغزى في هذه العملية، إلا بما يخدم إستراتيجيتها.

سمحت للدول الأوروبية، على سبيل المثال، بالعمل في مجالات بناء مؤسسات الدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتعاون مع المجتمع المدني، بشرط أن يخدم ذلك مسار التسوية السياسية، ولا يتعارض مع السياسات الاحتلالية الإسرائيلية.

استمر هذا الاحتكار للتسوية السياسية وما رافقها من مفاوضات، بغض النظر عن طبيعة الحكومات الإسرائيلية أو الإدارات الأميركية المتعاقبة. وكأن الولايات المتحدة احتكرت القضية الفلسطينية بكل مكوناتها، حتى عندما تعلق الأمر بفصائل المقاومة الفلسطينية المصنّفة على قوائم الإرهاب الأميركية مثل حركة حماس.

فقد احتفظت الولايات المتحدة بالملف بيدها، وفوضت بعض الدول، مثل قطر ومصر وتركيا، بإدارة المفاوضات. وخلال ما يقارب عشرين عامًا من سيطرة حماس على قطاع غزة، وما تخللها من حروب وحصار ومحاولات للحلول السياسية، كانت الولايات المتحدة الطرف الأكثر تأثيرًا، بل والمقرر في كثير من الأحيان، في مسار ونتائج هذا الحراك السياسي.

ليست وسيطًا نزيهًا

ادعت الولايات المتحدة دومًا أنها وسيط بين الطرفين، وأنها تسعى للوصول إلى حلّ عادل للقضية الفلسطينية، وأن جهدها منصب على إنجاز ما عُرف بحل الدولتين. ولكن المدقق في سلوك الولايات المتحدة يجد أنها لم تكن يومًا وسيطًا نزيهًا، بل كانت دائمًا تساند الاحتلال في سياساته، وتدعم كل إجراءاته التي تقوض كل الفرص لإقامة دولة فلسطينية. ولعلّ الشواهد التالية جزء مما يؤكّد ذلك:

توفير الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي للاحتلال باستمرار، دون ربطه بتطور المسار السياسي أو التقدم في عملية التسوية.الامتناع عن ممارسة أي ضغوط على الاحتلال، في أي مرحلة، لدفعه نحو أي حل منصف ولو بشكل محدود للفلسطينيين. توفير الحماية الدائمة لإسرائيل أمام المؤسسات الدولية، خصوصًا في مجلس الأمن، واستخدام حق النقض "الفيتو" مرات عديدة ضد القرارات التي تخدم المصالح والحقوق الفلسطينية، ولصالح تهرب إسرائيل من التزاماتها الدولية. الاستمرار في التغطية على جرائم الاحتلال ومجازره بحق الفلسطينيين، وكانت الإدارة الأميركية جاهزة دائمًا لغسل أيادي قادة الاحتلال بعد كل جريمة يرتكبونها، وخاصة الحروب على غزة منذ 2008 وحتى اليوم. غض الطرف عن الاستيطان الذي ابتلع الضفة الغربية، والتسامح مع جرائم المستوطنين، مما يعني تقويض أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية على أراضي الضفة وغزة. دعم السياسات الإسرائيلية التي تعرقل الحلول السياسية وتحول دون الوصول إلى أي تسوية سياسية. ومن الأمثلة على ذلك، التسامح مع، إن لم تكن المشاركة في، اغتيال القيادات الفلسطينية والرموز الوطنية، بدءًا من ياسر عرفات وصولًا إلى إسماعيل هنية. مساعدة إسرائيل في الهروب من الاستحقاق الفلسطيني. مواجهة كل المحاولات والجهود الفلسطينية، السياسية والقانونية والنضالية، الهادفة لتجسيد الدولة الفلسطينية والحصول على الشرعية الدولية لها، ومواجهة هذه المحاولات على الساحة الدولية، وفي المؤسسات الدولية ذات الصلة.

التضليل العميق والخداع الإستراتيجي

استخدمت الولايات المتحدة منذ ثلاثين عامًا وحتى اليوم إستراتيجية واحدة في التعامل مع المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وهي ذاتها التي تستخدمها اليوم في المفاوضات الدائرة لوقف حرب الإبادة في قطاع غزة. يمكن وصف هذه الإستراتيجية بـ"التضليل العميق والخداع الإستراتيجي"، حيث تقوم هذه الإستراتيجية على الإيهام بأن الولايات المتحدة جادة وملتزمة بإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن أهم مرتكزات هذه الإستراتيجية:

النفاق السياسي والفجوة بين الخطاب والممارسة: بينما تعبّر الولايات المتحدة بشكل متكرر عن رغبتها في وقف الحرب وعقد صفقة تبادل للأسرى، تستمر في تقديم كل الدعم اللازم لجيش الاحتلال وحكومته. ولا تتورع الإدارة الأميركية عن الاستمرار في الكذب، على قاعدة النازي جوزيف جوبلز "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"، وتفرض على أطراف كثيرة أن يصدقوا كذبها ويتعاملوا معه وكأنه حقيقة.

الاستخفاف بالحقوق السياسية الفلسطينية: تغاضت الولايات المتحدة تمامًا عن معاناة الفلسطينيين، ولم تقدم لهم أي التزامات تذكر. واستخدمت الدول العربية والإسلامية، وحتى بعض الدول الأوروبية، لإلهاء الفلسطينيين بالقضايا التفصيلية والثانوية وصرف النظر عن القضايا السياسية الجوهرية.

ازدواجية المعايير: تدعم الولايات المتحدة إسرائيل بشكل مطلق، وتعتبر أمنها ثابتًا لا يتغير، وتعتبر الرواية الإسرائيلية مقدمة على غيرها. في المقابل، تَصِمُ النضال الفلسطيني وفصائله بالإرهاب، وتصف أعمال المقاومة المشروعة بالوحشية، وتشارك في ملاحقة المقاومين وقياداتهم بكل الوسائل الممكنة، بما فيها التصفية الجسدية، دون الالتزام بأي قوانين أو أعراف دولية.

المشاركة في إدارة الصراع: تعمل الولايات المتحدة على تمكين الاحتلال من تحقيق أهدافه قصيرة وبعيدة المدى، ومساعدته في كسب الوقت لإنجازها. وهي اليوم تستخدم نفس الإستراتيجية التي استخدمتها في إدارة مفاوضات التسوية "أوسلو"، حين وفرت للاحتلال ثلاثين عامًا لتعميق احتلاله واستيطانه وتهويده للأرض، عبر إلهاء الفلسطينيين والعرب بالمفاوضات، وإقامة مؤسسات السلطة والدولة ومؤتمرات السلام.

على الفلسطينيين أن يتعلموا من تجربتهم الطويلة مع الرعاية الأميركية، وهم مطالبون ببذل كل الجهد لوضع حد لهذا التلاعب الأميركي بقضيتهم، خاصة عندما يكون الوقت من دم. كما يجب عليهم إعادة ترتيب صفوفهم، وبناء برامجهم وسردياتهم وأدواتهم، بما يساعد على البحث بشكل جاد عن مسارات بديلة تفرض معادلات مختلفة، وتدفع باتجاه إشراك رعاة دوليين آخرين، لعلهم يكونون أكثر جدية وإنصافًا.

يجب أن يُنظر إلى السلوك الأميركي في مفاوضات وقف الحرب على غزة ضمن إطار إدارة المعركة واستكمال أهداف حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وينبغي التعامل مع الولايات المتحدة كشريك كامل فيها.

على الدول العربية والإسلامية، وأصدقاء الشعب الفلسطيني، أن يكونوا صرحاء مع شعوبهم والعالم بحقيقة الموقف الأميركي، ويساعدوا الفلسطينيين على التخلّص من قهر هذه الرعاية والوساطة الزائفة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

وقف المساعدات الأميركية يضاعف الأزمة الإنسانية في اليمن

ويتخوف اليمنيون ومنظمات الإغاثة من حدوث نقص حاد في مخزون السلع والمواد الغذائية في وقت يعاني فيه الملايين من السكان من سوء التغذية وارتفاع أسعار الغذاء وتدني الخدمات جراء الصراع المستمر منذ 10 سنوات والذي تسبب في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية بالعالم بحسب تقدير الأمم المتحدة.

ويعمل برنامج الأغذية العالمي منذ 2015 على تقديم المساعدات لليمن لمنع وقوع مجاعة اعتمادا على المساعدات التي يتلقاها البرنامج التابع للأمم المتحدة من المؤسسات والدول التي تأتي في مقدمتها الولايات المتحدة.

وقالت وزارة الخارجية الأميركية في فبراير 2023 إن حجم المساعدات الأميركية لليمن منذ بدء الصراع هناك عبر الوكالة الأميركية للتنمية ومكتب السكان واللاجئين والهجرة بلغ أكثر من 5.4 مليار دولار.

لكن في ظل تدهور الأوضاع المعيشية وجهت الأمم المتحدة نداء للمانحين الشهر الماضي لتقديم 2.47 مليار دولار لدعم خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن خلال عام 2025 مشيرة إلى أن نحو 20 مليون شخص هناك يحتاجون إلى الدعم الإنساني بينما يعاني الملايين من الجوع ويواجهون خطر الإصابة بأمراض تهدد حياتهم.

وجاء توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 20 يناير على أمر تنفيذي بتعليق تمويل المساعدات الخارجية لمدة 90 يوما إلى حين مراجعة سياسات التمويل ليربك حسابات العديد من المؤسسات الخيرية والإغاثية العاملة في اليمن.

ويأتي وقف المساعدات الأميركية في وقت يدخل فيه قرار ترامب بإعادة إدراج حركة الحوثي اليمنية على قائمة “المنظمات الإرهابية الأجنبية” حيز التنفيذ، ليزيد الأمور تعقيدا في بلد يعاني بالفعل من تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وانهيار العملة وانعدام الخدمات وحرب أوصلت واحدة من أفقر الدول العربية إلى حافة المجاعة.

وصرح مسؤولون في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في عدن لرويترز بأن تداعيات القرار الأميركي بدأت تظهر تباعا إذ تلقت الوزارة خلال الأيام القليلة الماضية عشرات الخطابات من منظمات إغاثية وتنموية محلية تفيد بوقف أو تقليص أنشطتها وتسريح المئات من موظفيها.

وأضاف المسؤولون أن غالبية هذه المنظمات تعمل في مناطق سيطرة جماعة الحوثي في شمال البلاد ووسطها وغربها ذات الكثافة السكانية العالية.

وأحجم المسؤولون عن الإدلاء بالمزيد من التفاصيل، لكنهم أكدوا أن توقف أنشطة المنظمات وتسريح المئات من الموظفين سيساهمان في ارتفاع معدلات البطالة بالبلاد المرتفعة أصلا.

ويشعر عبدالله سامي بالحسرة والحزن من قرار تسريحه من منظمة إغاثة محلية تتلقى تمويلا من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ومثله الكثير من زملائه الذين فقدوا وظائفهم وأصبحوا بلا مصدر للدخل في ظل توقف الحكومة اليمنية عن توظيف الشبان منذ اندلاع الحرب قبل سنوات.

وقال سامي (32 عاما) ويسكن مدينة عدن لرويترز إنه لم يخطر بباله قط أن توقف الولايات المتحدة تمويلاتها في اليمن، ويفقد بسبب هذا القرار دخلا جيدا كان يحصل عليه من عمله في تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا ويعينه على إعالة أسرته الصغيرة المكونة من زوجة وطفلين.

وتشير تقارير محلية وأخرى للأمم المتحدة إلى أن الأزمة الاقتصادية الخانقة في اليمن قفزت بمعدل البطالة بين الشبان إلى نحو 60 في المئة مقارنة مع 14 في المئة قبل الحرب، ورفعت معدل التضخم إلى نحو 45 في المئة والفقر إلى نحو 78 في المئة.

وحذر رئيس منظمة إغاثية محلية في العاصمة صنعاء، طلب عدم ذكر اسمه، من أن وقف مساعدات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لن يؤثر على المستفيدين من برامج الإغاثة فحسب لكنه سيضر بالعاملين في القطاع والذين يقدر عددهم بالمئات.

الأمم المتحدة:

أكثر من 80 في المئة من سكان اليمن يحتاجون إلى مساعدات، ويقف الملايين على شفا مجاعة واسعة النطاق ويرى الباحث الاقتصادي في مركز اليمن والخليج للدراسات وفيق صالح أن توقف برامج المساعدات الإنسانية الأميركية في اليمن ينذر بالمزيد من تدهور الأوضاع واتساع رقعة الجوع في البلاد.

وقال إن مخاطر هذه الخطوة على الوضع الإنساني تتضاعف لأنها تتزامن مع أوضاع إنسانية متردية، وتقلص برامج مساعدات دولية أخرى تقدم لليمن، إلى جانب تدهور الاقتصاد الكلي، وتفاقم العجز في مالية الدولة وتشتت الموارد المحلية.

لكن بعض سكان صنعاء، التي يسيطر عليها الحوثيون، لا يعيرون الأمر الكثير من الاهتمام ويعتقدون أن تراجع أو توقف نشاط الوكالة الأميركية “لن يكون له تأثير يذكر في ظل الوضع الإنساني الصعب الذي تعيشه البلاد“.

وقال مهدي محمد البحري، أحد سكان صنعاء، إن “حضور الوكالة الأميركية يكاد يكون منعدما على مستوى علاقتها المباشرة بالناس، فهي تشتغل على منظمات المجتمع المدني الحقوقية وهي في الغالب ليست منظمات إنسانية“.

ويتفق معه في الرأي زيد الحسن الذي يقيم أيضا في صنعاء ويقول “القرار الأميركي الجديد لم يعنينا لأن وضعنا صعب للغاية ولم نتلق خلال الفترة الماضية أيّ إغاثة من الوكالة الأميركية أو أيّ منظمات إغاثية أخرى“.

وتقول الأمم المتحدة إن أكثر من 80 في المئة من سكان اليمن يحتاجون إلى مساعدات، ويقف الملايين على شفا مجاعة واسعة النطاق.

ويقول برنامج الأغذية العالمي إنه قدم المساعدة إلى 15.3 مليون شخص أو 47 في المئة من السكان في اليمن البالغ عددهم 35.6 مليون نسمة في عام 2023.

مقالات مشابهة

  • وقف المساعدات الأميركية يضاعف الأزمة الإنسانية في اليمن
  • هيئة البث الإسرائيلية تكشف سبب تأخير تسليم الأسرى الفلسطينيين
  • ما تداعيات توقف المساعدات الأميركية على الأزمة الإنسانية في اليمن؟
  • أستاذ العلوم السياسية: مصر تتحمل العبء الأكبر لحقن دماء الفلسطينيين
  • حزب «المصريين»: جهود القيادة السياسية نجحت في إفشال مخطط تهجير الفلسطينيين
  • الولايات المتحدة ترفض قرارا أمميا يدعم أوكرانيا
  • احتجاجات غاضبة في سقطرى ضد سيطرة الإمارات على مطار الجزيرة
  • احتجاجات في سقطرى رفضا للسطو الإماراتي على مطار الجزيرة
  • قوات أوروبية بأوكرانيا.. تعكير للمفاوضات الأميركية الروسية أم للضغط على موسكو؟
  • لجنة الشئون الدينية تؤكد دعمها لموقف القيادة السياسية بشأن القضية الفلسطينية