تتشكل السياسة الخارجية لأى دولة كنتاج للخصائص القومية، والنظام القيمى لصانع القرار وإدراكه لطبيعة دور بلاده الإقليمى والدولى، وأخيراً البيئة الخارجية المحيطة بتلك الدولة وما تفرضه من قيود وما تقدمه من فرص، أى المحيط الإقليمى والدولى.

وفى ظل تغير البيئة الإقليمية المحيطة بمصر منذ أكثر من عقد، كيف تعاملت الدولة المصرية مع التحديات الخارجية التى تواجهها فى حين تواجهها تحديات داخلية، فى هذا المقال سنحاول الوقوف على مرتكزات السياسة الخارجية لمصر، وأهدافها، وكيف تعاملت مع المشهد الإقليمى الذى يزداد اضطراباً بمرور الوقت، ومن ثم تقييم تلك السياسة الخارجية وهل يمكن أن نقول إنها طحين بلا ضجيج؟

أولاً، تقوم مرتكزات سياسة مصر الخارجية منذ ثورة يونيو 2013، وفى ظل انهيار مؤسسات الدولة المركزية فى كثير من الدول حولنا لصالح الولاءات الطائفية والإثنية، على دعم مؤسسات الدولة المركزية، ودعم الجيوش العربية، وعدم نسج علاقات مع جماعات وميليشيات مسلحة، للحفاظ على سلامة ووحدة أراضى الدول، ورفض التدخل العسكرى لحل الأزمات، وإعلاء النهج التعاونى والمفاوضات متعددة الأطراف.

وتشكلت المرتكزات المصرية نتيجة لعدة عوامل، منها ما مرت به مصر من ظروف داخلية منذ عام 2011 كانت تدفعها إلى السير فى ذات مصير كثير من دول المنطقة الآن، بفعل قوى داخلية وأخرى إقليمية كانت راعية لتلك الأجندة، العامل الآخر هو النظام القيمى وكيفية إدراك صانع القرار المصرى لطبيعة البيئة الإقليمية المعقدة والمتناقضة والتى تطلبت براعة وقدرة على التكيف مع شرق أوسط مضطرب ومعقد تتشكل فيه التحالفات وتنفك بشكل متسارع ومتناقض أحياناً، وذلك دون صدام، وسط بيئة إقليمية صراعية وتنافسية ومتعددة الأقطاب، وبيئة دولية تنعكس تنافساتها على الإقليم.

ومن ثم كان لا بد من رسم وتنفيذ سياسة خارجية تستهدف تحقيق المصلحة الوطنية المصرية بأبعادها الاقتصادية والأمنية والسياسية، وليس بمعزل عن ارتباط الأمن القومى المصرى بالأمن القومى العربى.

أى تحقيق التنمية والتعافى الاقتصادى وحماية المصالح المصرية ومواجهة تهديدات الأمن القومى المصرى وحل صراعات الإقليم، والتحرك ببراعة دون إخلال أو صدام، وسط نظام دولى تتنافس أقطابه التى تندفع نحو التعددية القطبية.

تشكلت أهداف السياسة المصرية لأنه كان ينبغى على صانع القرار المصرى ومؤسسات الدولة وأجهزتها المعنية أن تتعامل مع قضايا إقليمية ودولية توجد فى الجوار المباشر لمصر، تتسم بالاستدامة وتعدد الأطراف المنخرطة بها إقليمياً ودولياً، فهناك الحرب المستمرة فى غزة، والانتقال السياسى المتعثر فى ليبيا، والحرب الأهلية فى السودان، والحرب الأهلية فى سوريا، والعراق غير المستقر، والتوترات فى البحر الأحمر.

إن ما نشهده الآن يستهدف إعادة هندسة المنطقة وفقاً؛ ليس للمصالح الغربية فقط كما فى الماضى، بل وفقاً لمصالح القوى الإقليمية المتعددة والمتنافسة، حيث تشهد المنطقة أزمات متشابكة تتداخل فيها مصالح اللاعبين الإقليميين والدوليين.

وفى ظل هذا المشهد المضطرب نجحت مصر فى التحرك ببراعة دون تصريحات عدائية أو خطاب سياسى يؤطر للسيطرة الإقليمية وتحقيق المصالح على حساب الآخرين، فعملت الدولة المصرية على اختيار معاركها التى من خلالها توجّه رسائلها المباشرة والتى تجلت بها قوة الردع المصرية، دون استعراضات عسكرية تمثيلية دعائية معروفة النتائج مسبقاً كتلك التى تشهدها المنطقة.

فى حرب غزة كان الرئيس عبدالفتاح السيسى أول من تحدث علناً وبصراحة عن مخطط التهجير، ورفضه، ولفت أنظار العالم له وحشد ضده دولياً، حتى أصبح القادة العرب والغرب والمسئولون الدوليون يتحدثون عن رفض التهجير القسرى للفلسطينيين فى الوقت الذى أرادت فيه إسرائيل ومعها أعداء الدولة المصرية من الإخوان الحشد المضاد للضغط على مصر لإدخال اللاجئين الذين كانت تدفع بهم النيران الإسرائيلية عمداً نحو جنوب قطاع غزة ومن ثم رفح، وهو مخطط كان يستهدف إفراغ غزة من سكانها ثم تصفية القضية الفلسطينية.

عملت مصر أيضاً على تنظيم مؤتمر القاهرة الدولى للسلام فى بداية الحرب، وقامت بالوساطة فى مفاوضات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، إلى جانب مفاوضات الصلح بين فتح وحماس؛ والتى هى ملف أصيل لا يمكن أن يتم إنجازه دون الدور المصرى.

وكنتيجة للحرب الدائرة فى غزة نشبت التوترات فى البحر الأحمر التى أثرت على حركة الملاحة الدولية فى قناة السويس، مما ضاعف من التحدى الاقتصادى داخلياً، ويثير التساؤل: هل توترات البحر الأحمر والتى لم ترد واشنطن أن توقفها للآن بكل قدراتها العسكرية؛ هل كانت جزءًا من الضغط على مصر الرافضة للنهج الإسرائيلى فى غزة ورفض التهجير القسرى.

وفى الملف الليبى وضع رئيس الجمهورية الخطوط الحمراء حينما قال «خط سرت - الجفرة خط أحمر لأمننا القومى»، لكن قبل إعلانه الحاسم عن الخط الأحمر، استضافت القاهرة عدة جولات من المحادثات بين الجيش الوطنى الليبى وحكومة الوفاق الوطنى، للتفاوض على وقف إطلاق النار والتوصل إلى حل سياسى للحرب.

كما دعمت مصر جهود بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا لاستئناف الحوار الوطنى بين الأطراف المتنافسة، ودعمت وقف إطلاق النار الموقّع فى جنيف، وأرسلت القاهرة وفداً رفيع المستوى إلى طرابلس لإجراء محادثات مع حكومة الوفاق الوطنى.

وفى السودان يعمل النهج المصرى على الحفاظ على كيان دولة السودان.

كما استمرت مصر محافظةً على ثوابتها فيما يتعلق بسياسة الأحلاف الأجنبية ورفضها التام لها، فمثلما رفضت حلف بغداد فى الخمسينات، رفضت مصر فى عهد إدارة دونالد ترامب تأسيس ما يسمى «الناتو العربى»، ورفض استخدام القوة العسكرية كحل لصراعات الإقليم.

إن النهج المصرى فى السياسة الخارجية قائم على التفاوض والتسويات السلمية والتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية وإعلاء القانون الدولى والحل السلمى للأزمات.

كما عملت مصر على دعم العراق لإعادة إدماجه فى محيطه العربى، فتأسس الحلف الثلاثى بين مصر والأردن والعراق، والذى يدخل ضمن دائرة الشام، فضلاً عن تأسيس منتدى المتوسط مع قبرص واليونان، والمشاركة فى التجمعات الاقتصادية الدولية مثل «بريكس».

وفى لبنان كانت زيارة وزير الخارجية المصرى بدر عبدالعاطى، ليكون الوزير العربى الوحيد الذى زار لبنان فى خضم الأزمة المشتعلة حالياً لخفض التصعيد، ولسعى مصر للتعاون مع أعضاء مجموعة الدول الخمس لإنهاء الفراغ الرئاسى فى لبنان بسرعة والمساعدة فى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة.

أيضاً كانت زياراته الأولى إلى جيبوتى والصومال لتدشين خط الطيران المباشر بين الدول الثلاث، وتم توقيع بروتوكول تعاون بين مصر والصومال، لإرسال رسائل مهمة فيما يخص التزام مصر بالحفاظ على سلامة أراضى الصومال ورفض أى تدخل فى شئونه الداخلية واتخاذ الخطوات نحو إعادة فتح السفارة المصرية فى مقديشيو بعد تجديدها، ووجود بنك مصر فى الصومال.

إن مصر التى تواجه التحديات الاقتصادية عبر دبلوماسية اقتصادية وتنويع الشراكات مع القوى الدولية، بعيداً عن الشركاء التقليديين، هى ذاتها التى تواجه التحديات الإقليمية المتصارعة لحماية مصالحها الوطنية ودرء التهديدات والحفاظ على ثوابت الأمن القومى العربى ومنها القضية الفلسطينية.

تختار مصر متى ترسل رسائلها عالية بوضوح، ومتى تتحرك هادئة، لكن نحو مصالحها وثوابتها، وما بين إعلان الخطوط الحمراء عالية والتحرك بهدوء تتحقق أهداف سياسة مصر الخارجية.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: الحكمة الحسم إنفاذ المساعدات السیاسة الخارجیة

إقرأ أيضاً:

سفير مصر في كيتو يلتقي أعضاء الجالية المصرية بالإكوادور ويستمع لمطالبهم ومقترحاتهم



فى إطار حرص وزارة الخارجية والهجرة وشئون المصريين في الخارج على متابعة ورعاية مصالح المواطنين المصريين في الخارج، التقى السفير تــامــر ممــدوح سفير جمهورية مصر العربية فى كيتو بأعضاء الجالية المصرية فى الإكوادور خلال لقاء تم تنظيمه بالمقر الجديد للسفارة.

تناول اللقاء بعض الموضوعات التى تهم الجالية ومقترحاتهم لتطوير الخدمات التى يقدمها القسم القنصلى بالسفارة، حيث أكد السفير على حرص السفارة على التواصل الدائم مع أبناء الجالية والمساعدة فى تذليل العقبات التى قد تواجههم، مع استعراض التسهيلات القنصلية الأخيرة المقدمة من جانب الخارجية المصرية بالتنسيق مع الوزارات والجهات المعنية.

 

كما استعرض السفير الجهود الجارية لتعزيز وتطوير مجالات التعاون الثنائي بما يخدم الجانبين.

مقالات مشابهة

  • اتحاد الكيانات المصرية فى أوروبا يشجب تصريحات ترامب بالتهجير
  • سفير مصر في كيتو يلتقي أعضاء الجالية المصرية بالإكوادور ويستمع لمطالبهم ومقترحاتهم
  • رئيس الدولة وملك الأردن يبحثان العلاقات الأخوية والمستجدات الإقليمية
  • تهجير الفلسطينيين جريمة حرب.. دبلوماسيون: تقويض للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط
  • أسرار أم كلثوم.. لا يعرفها أحد!
  • رئيس الدولة وملك الأردن يبحثان هاتفياً العلاقات الأخوية والمستجدات الإقليمية
  • رئيس الدولة وملك الأردن يبحثان المستجدات الإقليمية ويؤكدان أهمية "حل الدولتين"
  • البريد فى عامه الـ160: نجاحات بارزة وطموحات تصطدم بالتحديات
  • برلماني: الدبلوماسية المصرية أعادت الهدوء والاستقرار للمنطقة
  • مصر الدرع والسند لـ«غزة».. القاهرة أطلقت عشرات القوافل لإغاثة أهل القطاع (ملف خاص)