د. هدى رؤوف تكتب: مصر.. تحرّك هادئ نحو المصالح والاستقرار الإقليمي
تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT
تتشكل السياسة الخارجية لأى دولة كنتاج للخصائص القومية، والنظام القيمى لصانع القرار وإدراكه لطبيعة دور بلاده الإقليمى والدولى، وأخيراً البيئة الخارجية المحيطة بتلك الدولة وما تفرضه من قيود وما تقدمه من فرص، أى المحيط الإقليمى والدولى.
وفى ظل تغير البيئة الإقليمية المحيطة بمصر منذ أكثر من عقد، كيف تعاملت الدولة المصرية مع التحديات الخارجية التى تواجهها فى حين تواجهها تحديات داخلية، فى هذا المقال سنحاول الوقوف على مرتكزات السياسة الخارجية لمصر، وأهدافها، وكيف تعاملت مع المشهد الإقليمى الذى يزداد اضطراباً بمرور الوقت، ومن ثم تقييم تلك السياسة الخارجية وهل يمكن أن نقول إنها طحين بلا ضجيج؟
أولاً، تقوم مرتكزات سياسة مصر الخارجية منذ ثورة يونيو 2013، وفى ظل انهيار مؤسسات الدولة المركزية فى كثير من الدول حولنا لصالح الولاءات الطائفية والإثنية، على دعم مؤسسات الدولة المركزية، ودعم الجيوش العربية، وعدم نسج علاقات مع جماعات وميليشيات مسلحة، للحفاظ على سلامة ووحدة أراضى الدول، ورفض التدخل العسكرى لحل الأزمات، وإعلاء النهج التعاونى والمفاوضات متعددة الأطراف.
وتشكلت المرتكزات المصرية نتيجة لعدة عوامل، منها ما مرت به مصر من ظروف داخلية منذ عام 2011 كانت تدفعها إلى السير فى ذات مصير كثير من دول المنطقة الآن، بفعل قوى داخلية وأخرى إقليمية كانت راعية لتلك الأجندة، العامل الآخر هو النظام القيمى وكيفية إدراك صانع القرار المصرى لطبيعة البيئة الإقليمية المعقدة والمتناقضة والتى تطلبت براعة وقدرة على التكيف مع شرق أوسط مضطرب ومعقد تتشكل فيه التحالفات وتنفك بشكل متسارع ومتناقض أحياناً، وذلك دون صدام، وسط بيئة إقليمية صراعية وتنافسية ومتعددة الأقطاب، وبيئة دولية تنعكس تنافساتها على الإقليم.
ومن ثم كان لا بد من رسم وتنفيذ سياسة خارجية تستهدف تحقيق المصلحة الوطنية المصرية بأبعادها الاقتصادية والأمنية والسياسية، وليس بمعزل عن ارتباط الأمن القومى المصرى بالأمن القومى العربى.
أى تحقيق التنمية والتعافى الاقتصادى وحماية المصالح المصرية ومواجهة تهديدات الأمن القومى المصرى وحل صراعات الإقليم، والتحرك ببراعة دون إخلال أو صدام، وسط نظام دولى تتنافس أقطابه التى تندفع نحو التعددية القطبية.
تشكلت أهداف السياسة المصرية لأنه كان ينبغى على صانع القرار المصرى ومؤسسات الدولة وأجهزتها المعنية أن تتعامل مع قضايا إقليمية ودولية توجد فى الجوار المباشر لمصر، تتسم بالاستدامة وتعدد الأطراف المنخرطة بها إقليمياً ودولياً، فهناك الحرب المستمرة فى غزة، والانتقال السياسى المتعثر فى ليبيا، والحرب الأهلية فى السودان، والحرب الأهلية فى سوريا، والعراق غير المستقر، والتوترات فى البحر الأحمر.
إن ما نشهده الآن يستهدف إعادة هندسة المنطقة وفقاً؛ ليس للمصالح الغربية فقط كما فى الماضى، بل وفقاً لمصالح القوى الإقليمية المتعددة والمتنافسة، حيث تشهد المنطقة أزمات متشابكة تتداخل فيها مصالح اللاعبين الإقليميين والدوليين.
وفى ظل هذا المشهد المضطرب نجحت مصر فى التحرك ببراعة دون تصريحات عدائية أو خطاب سياسى يؤطر للسيطرة الإقليمية وتحقيق المصالح على حساب الآخرين، فعملت الدولة المصرية على اختيار معاركها التى من خلالها توجّه رسائلها المباشرة والتى تجلت بها قوة الردع المصرية، دون استعراضات عسكرية تمثيلية دعائية معروفة النتائج مسبقاً كتلك التى تشهدها المنطقة.
فى حرب غزة كان الرئيس عبدالفتاح السيسى أول من تحدث علناً وبصراحة عن مخطط التهجير، ورفضه، ولفت أنظار العالم له وحشد ضده دولياً، حتى أصبح القادة العرب والغرب والمسئولون الدوليون يتحدثون عن رفض التهجير القسرى للفلسطينيين فى الوقت الذى أرادت فيه إسرائيل ومعها أعداء الدولة المصرية من الإخوان الحشد المضاد للضغط على مصر لإدخال اللاجئين الذين كانت تدفع بهم النيران الإسرائيلية عمداً نحو جنوب قطاع غزة ومن ثم رفح، وهو مخطط كان يستهدف إفراغ غزة من سكانها ثم تصفية القضية الفلسطينية.
عملت مصر أيضاً على تنظيم مؤتمر القاهرة الدولى للسلام فى بداية الحرب، وقامت بالوساطة فى مفاوضات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، إلى جانب مفاوضات الصلح بين فتح وحماس؛ والتى هى ملف أصيل لا يمكن أن يتم إنجازه دون الدور المصرى.
وكنتيجة للحرب الدائرة فى غزة نشبت التوترات فى البحر الأحمر التى أثرت على حركة الملاحة الدولية فى قناة السويس، مما ضاعف من التحدى الاقتصادى داخلياً، ويثير التساؤل: هل توترات البحر الأحمر والتى لم ترد واشنطن أن توقفها للآن بكل قدراتها العسكرية؛ هل كانت جزءًا من الضغط على مصر الرافضة للنهج الإسرائيلى فى غزة ورفض التهجير القسرى.
وفى الملف الليبى وضع رئيس الجمهورية الخطوط الحمراء حينما قال «خط سرت - الجفرة خط أحمر لأمننا القومى»، لكن قبل إعلانه الحاسم عن الخط الأحمر، استضافت القاهرة عدة جولات من المحادثات بين الجيش الوطنى الليبى وحكومة الوفاق الوطنى، للتفاوض على وقف إطلاق النار والتوصل إلى حل سياسى للحرب.
كما دعمت مصر جهود بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا لاستئناف الحوار الوطنى بين الأطراف المتنافسة، ودعمت وقف إطلاق النار الموقّع فى جنيف، وأرسلت القاهرة وفداً رفيع المستوى إلى طرابلس لإجراء محادثات مع حكومة الوفاق الوطنى.
وفى السودان يعمل النهج المصرى على الحفاظ على كيان دولة السودان.
كما استمرت مصر محافظةً على ثوابتها فيما يتعلق بسياسة الأحلاف الأجنبية ورفضها التام لها، فمثلما رفضت حلف بغداد فى الخمسينات، رفضت مصر فى عهد إدارة دونالد ترامب تأسيس ما يسمى «الناتو العربى»، ورفض استخدام القوة العسكرية كحل لصراعات الإقليم.
إن النهج المصرى فى السياسة الخارجية قائم على التفاوض والتسويات السلمية والتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية وإعلاء القانون الدولى والحل السلمى للأزمات.
كما عملت مصر على دعم العراق لإعادة إدماجه فى محيطه العربى، فتأسس الحلف الثلاثى بين مصر والأردن والعراق، والذى يدخل ضمن دائرة الشام، فضلاً عن تأسيس منتدى المتوسط مع قبرص واليونان، والمشاركة فى التجمعات الاقتصادية الدولية مثل «بريكس».
وفى لبنان كانت زيارة وزير الخارجية المصرى بدر عبدالعاطى، ليكون الوزير العربى الوحيد الذى زار لبنان فى خضم الأزمة المشتعلة حالياً لخفض التصعيد، ولسعى مصر للتعاون مع أعضاء مجموعة الدول الخمس لإنهاء الفراغ الرئاسى فى لبنان بسرعة والمساعدة فى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة.
أيضاً كانت زياراته الأولى إلى جيبوتى والصومال لتدشين خط الطيران المباشر بين الدول الثلاث، وتم توقيع بروتوكول تعاون بين مصر والصومال، لإرسال رسائل مهمة فيما يخص التزام مصر بالحفاظ على سلامة أراضى الصومال ورفض أى تدخل فى شئونه الداخلية واتخاذ الخطوات نحو إعادة فتح السفارة المصرية فى مقديشيو بعد تجديدها، ووجود بنك مصر فى الصومال.
إن مصر التى تواجه التحديات الاقتصادية عبر دبلوماسية اقتصادية وتنويع الشراكات مع القوى الدولية، بعيداً عن الشركاء التقليديين، هى ذاتها التى تواجه التحديات الإقليمية المتصارعة لحماية مصالحها الوطنية ودرء التهديدات والحفاظ على ثوابت الأمن القومى العربى ومنها القضية الفلسطينية.
تختار مصر متى ترسل رسائلها عالية بوضوح، ومتى تتحرك هادئة، لكن نحو مصالحها وثوابتها، وما بين إعلان الخطوط الحمراء عالية والتحرك بهدوء تتحقق أهداف سياسة مصر الخارجية.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الحكمة الحسم إنفاذ المساعدات السیاسة الخارجیة
إقرأ أيضاً:
احتضان النفايات «الأخيرة»
يتم فى مصر إهدار ثروة بمليارات الجنيهات سنوياً بسبب سوء تخطيط بسيط يمكن تداركه لتوفير تلك المليارات للدولة التى تعانى موازنتها معاناة لا تقل عن معاناة رب الأسرة الذى لا يجد ما يؤكل به أولاده إلا بالدين الربوى من هذا وذاك، أقصد بتلك الثروة» النفايات»، وأكمل معكم حديث الأربعاء الماضي، وفقاً للإحصائيات الرسمية تنتج مصر سنوياً أكثر من 2 مليار طن من النفايات، نسبة إعادة التدوير لهذه المخلفات لا تتجاوز ١٦%، وهو ما يشكل عبئاً على البيئة للتخلص بصورة نهائية من باقى المخلفات فى مدافن بصورة آمنة لا تلوث البيئة ولا تضر بالصحة العامة فى ظل المتغيرات المناخية الخطيرة، وتزداد تلك المشكلة خطورة فى الريف والمناطق الشعبية بصورة أكبر. السبب الأول لخسارة مصر تلك الثروة، عدم وجود حاويات مخصصة لكل نوع من القمامة بالأحياء كما هو المعمول به فى دول أوروبا مثلا، حيث توجد حاويات لنفايات الزجاج، أخرى للورق، ثالثة للنفايات الصلبة، رابعة للمواد الخطرة كالبطاريات، مخلفات سرنجات الحقن، وهكذا، ويخصص المواطن فى بيته أكياس صغيرة لكل نوع من المخلفات ليضع كل منها فى الحاوية المخصصة، إدراكا منه لأهمية ذلك لما تدره على خزانة بلده من مال سيعود بالنفع الملموس عليه فى تطوير مؤسسات الخدمات العامة، أما المخلفات العضوية كبقايا الطعام بكل أنواعها، مخلفات الحدائق من بقايا شجيرات وزهور ونباتات، مخلفات الحيوانات التى تتغذى فقط على الأعشاب، وهكذا، فيتم وضعها فى حاويات كبيرة لها لون متميز، وتوضع هذه الصناديق بعيدًا عن أشعة الشمس المباشرة، مع تغطية أسفلها بورق الجرائد لأن البلاستيك أو المعدن المصنوع منه الحاويات يرفع درجة الحرارة ويؤدى إلى تعفن المخلفات وعدم الإستفادة الإقتصادية منها قبل نقلها وإعادة تدويرها، ويتم كتابة تنبيه على الحاوية للمواطن بضرورة إغلاقها بعد إلقاء المخلفات بها، وتمتاز هذه المواد بأنها تتحلل خلال فترة بسيطة لا تتعدى خمسة أسابيع، لذا يتم نصح المواطن بوضعها فى أكياس ورقية بدلاً عن الأكياس البلاستيكية.
المثير فى الأمر أن المواطن الذى يخالف تعليمات فصل القمامة يتم تغريمه من قبل مجلس المدينة فى الدول الأوروبية، ويتم التعرف عليه أولا من خلال فحص كيس القمامة، فقد يتم العثور على عنوان أو ورق يشير إلى صاحب القمامة، وإن تعذر ذلك يتم فحص الكاميرات الموجودة أمام البنايات السكنية والمنتشرة بالشوارع والأحياء، حتى يتم تحديد المواطن المخالف، ولان الغرامة تكون كبيرة، يتجنب المواطنون المخالفات أثناء التخلص من مخلفاتهم، فمن أمن العقاب أساء الأدب، أما المخلفات الكبرى كقطع الأثاث القديم والأجهزة الكهربائية، على المواطن أن يتصل أولاً بمجلس المدينة القسم الخاص بالبيئة والنظافة، ويخبرهم أن لدية مخلفات من هذا النوع، فيحددون له موعدا ليضع مخلفاته فى الشارع بجانب حاويات القمامة، وليتم على الفور فى نفس اليوم قدوم سيارة ضخمة لحمل تلك المخلفات أيضا للإستفادة بها وإعادة تدويرها، ولا يتم الأمر كما يحدث فى بلدنا الحبيب، حيث يتم إلقاء كل شيء مع كل شيء وفى أى وقت وفى أى مكان من الشارع، فى فوضى مذرية تلوث البيئة، وتهدر مليارات على الدولة.
والمخلفات العضوية التى نستهين بها ونتخلص منها مع مواد اخرى خطرة تؤدى لتلفها، تعد ثروة لا يستهان بها فى تصنيع السماد للأراضى الزراعية وصناعة الغاز الحيوى الصديق للبيئة، وفى توليد الكهرباء. لذا نجد أن أول خطوة للإستفادة الكاملة من المخلفات فى مصر بدلا من إستيرادها من الخارج بالمليارات، هو وضع الحاويات المخصصة لكل نوع من المخلفات، نشر الوعى الإعلامى بين المواطنين بضرورة التخلص من قمامتهم على نحو مصنف، أن يتم تشجيع المواطنين بتوزيع أكياس للقمامة متعددة وفقا للتصنيفات على الأقل مرة كل شهر حتى لا يكسل المواطن فى تصنيف قمامته ويضعها كلها فى كيس واحد، أن يتم عمل غرامات مالية لمن يخالف تعليمات فصل القمامة، وهو بالطبع أمر سيثير غضب الكثيرين ضدى وسيقولون «هو كان ناقصنا غرامة قمامة» لكن الأمر بسيط هو التزام التعليمات التى تضعها الدولة فى هذا الإطار والتدريب والتعود على التعامل مع المخلفات على أنها ثروة للبلد. والخطوة المهمة فى هذا الأمر أن يتم إنشاء شركة وطنية لجمع وتصنيف القمامة، وألا يتم ترك الحابل على النابل للأباطرة المستفيدين من تلك الثروة دون أن تستفيد خزانة الدولة شيئا يذكر، أن يتم إغلاق مقالب وتجميع القمامة العشوائية فى القاهرة وكل المحافظات، أن يتم إقامة مقالب رسمية لتجميع وتصنيف القمامة ومعالجتها، ومن ثم إعادة تدويرها محليا أو تصديرها للخارج، فى أوروبا الدولة نفسها هى من تتولى هذا الأمر، بل يوجد مكتب فى الإتحاد الأوروبى اسمه « مكتب نفايات الإتحاد الأوروبي»، هو يتولى التعامل الرسمى مع دول الإتحاد فى هذا الإطار، حتى تعود ثروة تلك المخلفات إلى خزانة كل دولة، ولا تذهب إلى أفراد بعينهم أو إلى تجمعات عائلية بعينها.
خلاصة القول لا بد من وجود استراتيجية وطنية واضحة لجمع وتصنيف ومعالجة وتدوير وتصدير المخلفات تشارك فيها الوزارات المعنية وذات الصلة ايضا، كوزارات البيئة، الصناعة، التجارة، المالية، والإتصالات، للإستفادة الحقيقية والمثلى للمخلفات، ولا أعرف لماذا أشعر بأنى أضن بتلك الثروة على أفراد وجهات إستثمارية خارجية، وأرى أن خزانة الدولة أولى بعائد تلك الثروة، وأن تتولى الدولة من خلال شركة وطنية إدارة المخلفات والتعامل مع المصانع الخاصة التى تعتمد فى إنتاجها على المخلفات أو على الطاقة الناتجة عن تدويرها قبل التفكير فى تصديرها، فمصر أولى بالاستفادة من نفاياتها بدلا من إحتضان نفايات الدول الأخرى بالإستيراد، لا يعقل أن يكون لدينا مصدر ثروة نفرط فيها بالإهمال، ونشترى أخرى من الخارج بالمليارات، ولا اعرف لمصلحة من يتم هذا؟
[email protected]