أوروبا في احتياج إلى رؤية اقتصادية جديدة
تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT
كانت الصدمات الاقتصادية العالمية التي شهدتها السنوات القليلة الأخيرة سببا في جعل أوروبا عُرضة للخطر بشكل خاص. ففي حين عانى الجميع تقريبا من الارتباكات المرتبطة بالمناخ والجائحة، كان الاتحاد الأوروبي يعاني أيضا مع توالي فصول الحرب الدائرة في أوكرانيا على أعتابه، وكان اعتماده الحاد على واردات الطاقة يعني أن ارتفاع الأسعار -والحاجة إلى التحول بعيدا عن الوقود الأحفوري الروسي- مؤثر بدرجة موجِـعة.
من المؤكد أن بعض هذه الصدمات كانت قصيرة الأمد، فقد حلت الارتباكات المرتبطة بالجائحة نفسها بنفسها إلى حد كبير، وحتى التضخم، الذي ارتفع في أعقاب الجائحة، يبدو أنه أصبح الآن تحت السيطرة إلى حد كبير، وذلك بفضل جهود البنوك المركزية في الاتحاد الأوروبي، وخاصة البنك المركزي الأوروبي، ويبدو من المرجح أن تُـحَـلّ القضية بالكامل في غضون الأشهر الـ12 المقبلة.
لكن الاتحاد الأوروبي يواجه عددا من التحديات الاقتصادية الهائلة التي لن تختفي ببساطة من تلقاء ذاتها. بادئ ذي بدء، تسببت المخاطر الأمنية المتزايدة في جواره، فضلا عن الشكوك المتنامية حول متانة التزام أمريكا بالدفاع الأوروبي، في فرض ضغوط على الاتحاد الأوروبي تحمله على تعزيز قدراته. وهذا يعني ضمنا ليس المزيد من التنسيق بين البلدان فحسب، بل وأيضا زيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي الإجمالي: يبلغ إجمالي إنفاق الكتلة حاليا 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، وهذا أقل كثيرا من المستوى 2% من الناتج المحلي الإجمالي المستهدف من جانب حلف شمال الأطلسي.
علاوة على ذلك، كان نمو الإنتاجية، الذي كان متراجعا في كثير من أنحاء العالم، منخفضا بشكل خاص في أوروبا، وتتسع الفجوة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كل عام. مع بلوغ معدل البطالة نحو 6.5% في المتوسط، وأصبح المجال المتاح لزيادة الطلب الكلي لتغذية النمو ضئيلا، لكن النمو القوي في الأمد البعيد سيكون مستحيلا تقريبا إذا لم تتمكن أوروبا من معالجة الإنتاجية المتأخرة.
لن تكون هذه بالمهمة السهلة، إذ يعتمد نمو الإنتاجية في الأمد البعيد في الاقتصادات المتقدمة إلى حد كبير على التغير البنيوي، الذي يحركه في المقام الأول الإبداع التكنولوجي. وهنا تكمن مشكلة أوروبا الرئيسية: في مجموعة من المجالات، من الذكاء الاصطناعي إلى أشباه الموصلات إلى الحوسبة الكمومية، تتقدم الولايات المتحدة وحتى الصين كثيرا على أوروبا.
الواقع أن الأسباب الرئيسية وراء عجز الاتحاد الأوروبي في مجال الإبداع معروفة تماما، فقد عانى كل من البحث والتطوير الأساسي والتطبيقي من نقص الاستثمار المزمن. وتتقوض فعالية تمويل البحوث الأساسية بفعل نهج لا مركزي، حيث تحظى برامج وطنية غير منسقة ورديئة التوجيه بالأولوية على التمويل والإدارة على مستوى الاتحاد الأوروبي. فضلا عن ذلك، يظل تكامل السوق الموحدة منقوصا، وخاصة في قطاع الخدمات، وهذا مهم بشكل خاص في المجالات الرقمية، حيث تعتمد العائدات على الاستثمار في الابتكار والإبداع على حجم السوق.
يواجه الاتحاد الأوروبي حواجز أخرى تحول دون تحوله إلى مركز للإبداع، أحدها الافتقار إلى البنية الأساسية الضرورية، وخاصة الكميات الهائلة من قوة الحوسبة المطلوبة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. (في الوقت الحاضر، يعتمد الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير على شركات التكنولوجيا العملاقة الأمريكية لتأمين مثل هذه القدرات). وتتمثل عقبة أخرى في حقيقة مفادها أن رأس المال الاستثماري والأسهم الخاصة اللازمة لدعم الإبداع -المستثمرون من ذوي الخبرة والدافع لمساعدة رواد الأعمال الشباب على بناء مشاريع مبتكرة- غير متاحة على نطاق واسع، على الرغم من وجود أنظمة بيئية واعدة لريادة الأعمال في عدد من البلدان.
لكن هذه الحواجز يمكن التغلب عليها. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الاتحاد الأوروبي يتمتع بمواطن قوة مهمة يمكنه الاستفادة منها، بدءا بمواهب وفيرة قادمة من جامعات من الدرجة الأولى. بالإضافة إلى ذلك، توفر الخدمات الاجتماعية وأنظمة الضمان الاجتماعي المتطورة في أوروبا مستوى من الأمن الاقتصادي الكفيل بتسهيل خوض المجازفة الريادية. ولكن ما لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من الاستفادة من المحركات التكنولوجية للتغيير البنيوي، فسوف تظل أجزاء من اقتصاده خاضعة لسيطرة القطاعات الصناعية التقليدية التي أثبتت بطأها في تبني الابتكارات الـمُـعَـزِّزة للإنتاجية.
وفي اقتصاد عالمي حيث تُـستَـمَـد القيمة على نحو متزايد من مصادر غير ملموسة، سوف يستمر الاتحاد الأوروبي في الاعتماد على أصول ملموسة لخلق القيمة، وسوف يصبح مُـجَـمَّـع رأس المال البشري العميق في أوروبا أكثر ضحالة، مع هجرة أفضل المواهب إلى حيث الفرص أكثر وفرة. يتعين على أوروبا أن تقرر: إما أن تظل على مسارها الحالي، الذي سيقودها بكل تأكيد إلى ركود نسبي، أو يمكنها أن ترسم مسارا جديدا تماما. النهج الأخير أشد خطورة، لكنه يحمل أيضا إمكانات أكبر كثيرا على الجانب الإيجابي. ولا يوجد نقص في الناس في الحكومة، والأعمال، والسياسة، والأوساط الأكاديمية، الذين يدركون التحديات التي تواجهها أوروبا وهم أكثر من قادرين على ابتكار، ومناقشة، وتعديل، وتنفيذ خطة إبداعية تتطلع إلى المستقبل. من المؤسف أن مثل هذه الخطة لا تبدو ذات أولوية عالية داخل البلدان الأوروبية أو على مستوى الاتحاد الأوروبي. وهي لا تظهر في المناقشات السياسية التي تحيط بالانتخابات الوطنية. ولعل ما ينقصنا هو صورة واضحة للعواقب المحتملة المترتبة على الإبقاء على الوضع الراهن، والأهم من ذلك، رؤية مقنعة قادرة على إلهام وتوجيه السياسات والاستثمار. عندما تكون الرحلة صعبة، فإن الرؤية الواضحة للوجهة تشكل أهمية بالغة للحفاظ على الحافز الذي يحرك الناس. كثيرا ما يفشل التكنوقراط في إدراك هذه الحقيقة، لكن أوروبا ذاتها شهدت ذلك بصورة مباشرة في سعيها إلى تبني أنماط النمو والنماذج الاقتصادية المستدامة، حيث توجد رؤية واضحة للوجهة. على نحو مماثل، يروج القادة في البلدان النامية الناجحة عادة لصورة واضحة لمستقبلهم المرغوب، من أجل تشجيع وتمكين الخيارات الصعبة اللازمة لبنائه. لا يوجد من الأسباب ما قد يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الاتحاد الأوروبي غير قادر على ابتكار رؤية جديدة لمستقبله وخريطة طريق للتحول الرقمي والبنيوي الذي يحتاج إليه بشدة. ولكن أولا، يتعين على الأوروبيين الإجابة على سؤال بسيط لكنه بالغ الأهمية: كيف ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يبدو -عندما يتعلق الأمر بالإبداع، والاقتصاد، والأمن، والقدرة على الصمود- في غضون عقد من الزمن؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی إلى حد کبیر
إقرأ أيضاً:
سفيرة الاتحاد الأوروبي تستضيف سحوراً دبلوماسياً
أبوظبي: «الخليج»
نظّمت بعثة الاتحاد الأوروبي لدى دولة الإمارات سحوراً مميزاً خلال شهر رمضان المبارك تحت شعار «المرأة في الدبلوماسية» وذلك بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، استضافت السحور سفيرة الاتحاد الأوروبي لدى الدولة لوسي بيرجر، في مقر إقامتها بأبوظبي، حيث جمع الحدث عدداً من السفيرات من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ودبلوماسيات إماراتيات من وزارة الخارجية ودبلوماسيات إماراتيات قيد التدريب، بالإضافة إلى ممثلين عن منظمات شبابية وطلاب العلاقات الدولية.
وكان من بين الضيوف: ميروبي كريستوفي، سفيرة جمهورية قبرص وأليسون ميلتون، سفيرة أيرلندا وماريا كاميليري كاليجا، سفيرة مالطا وماريا بيلوفاس، سفيرة إستونيا وقد شاركن في مناقشات ثرية مع طلاب من أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية وجامعة الشارقة، إلى جانب ممثلين عن مركز الشباب العربي.
وفرّ الحدث منصة للاحتفاء بالدور المحوري الذي تلعبه المرأة في المجال الدبلوماسي وتعزيز النقاش حول مساهماتها والتحديات التي تواجهها.
ومن خلال الحوارات الهادفة، سعى هذا التجمع إلى إلهام وتمكين الجيل القادم من الدبلوماسيات في دولة الإمارات.
وأكدت لوسي بيرجر، على أهمية هذه المبادرات، قائلة: «لطالما كان المجال الدبلوماسي حكراً على الرجال، لكن النساء يواصلن ترك بصماتهن في الشؤون العالمية».
يشكل هذا السحور فرصة للاعتراف بإنجازاتهن، ومناقشة التحديات المستمرة، وتحديد سبل تعزيز المساواة بين الجنسين في المجال الدبلوماسي ومن خلال جمع الدبلوماسيات ذوات الخبرة مع القادة الشباب الطموحين، نأمل في خلق تبادلات مثمرة تلهم وتمكّن الأجيال القادمة».
يأتي هذا السحور في إطار الجهود الأوسع لبعثة الاتحاد الأوروبي لتعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة في مختلف المجالات ومن بين المبادرات البارزة في هذا السياق، سلسلة «حوارات مهنية» التي تنظمها البعثة بالتعاون مع الجامعات الإماراتية، لتسليط الضوء على النساء اللواتي تميزن في مجالات يهيمن عليها الرجال وخلال الأشهر الماضية، قدّمت هذه السلسلة منصة لنساء ملهمات من الاتحاد الأوروبي ودولة الإمارات حققن نجاحات كبيرة في مجالات الدبلوماسية والدفاع والهندسة والتكنولوجيا المتقدمة ولا تزال قصصهن تحفّز الشابات على تحقيق طموحاتهن وخلال السنة الجارية، ستوسّع بعثة الاتحاد الأوروبي هذه المبادرة لتشمل مجالات الطيران والسياسة والتمويل والذكاء الاصطناعي، مما يعزز من حضور المرأة في هذه القطاعات.