لجريدة عمان:
2025-03-16@17:17:16 GMT

إيذاء «الرِّيف» والمدن المعبأة بالتَّائِهِين

تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT

المجتمع ينتج بنفسه وحدته وتحولاته - (ميشال فريتاغ)

إن السمة الغالبة للمجتمعات الريفية أن أنشطتها الإنتاجية تقوم على قاعدة ثقافية هي هوية ساكنيها، فالهوية الثقافية هي المصدر الجوهري لنشاط المجتمعات، إذ نلاحظ أن منشأ فكرة «التعاونيات» الزراعية مثلا، هو مظهر جلي لمعنى العمل التضامني، قالب تنظيمي ليس لصالح تطوير البنية الإنتاجية فقط بل أكثر للحفاظ على الخصائص الثقافية لجغرافيا الريف، إبداع حقيقي ناحية تنمية المجتمع المصغر عبر تحسين معالم التكيف توظيفا لأساليب معرفية قد لا تنتمي إليه لكنها تعزز من شعوره بالأرض كسمة مركزية في الهوية الريفية.

إن ما يقال في غالب دراسات الاجتماع الاقتصادي حول تطوير الريف، والانتقال بفضائه الإنتاجي إلى معنى حداثي تغفل عن حقيقة مهمة، وهي أن الريف هو أكثر مكون اجتماعي استجابة للمتغيرات الاقتصادية والسياسية، كون بنيته المركزية تقوم على معنى جماعي، فسكان المناطق الريفية (بالذات الزراعية منها) يرتبطون ببعضهم البعض عبر التضامن والتكافل وتقوم أشغالهم على قاعدة صلبة من توظيف لمنظومتهم الثقافية وعدم التفريط في حقيقة وجودهم الاجتماعي، والدعوات لصالح إلحاق الريف بالمدينة تؤذي الريف إذ تنخرط في محاكاة مؤسلبة لطبيعة الحياة فيه، وتنتخب من مدخرات التنظير في الاقتصاد مظاهر لا تنطبق البتة على واقعه، وهو تنظير يعتقد بأنه ولتطوير البنى الاجتماعية الموصوفة بالتأخر فإنه لزاما على صناع السياسات أن ينتقلوا بالريفيين من منطقة منخفضة التمدين إلى «حضرنة» أثبت واقعنا العربي أنها تنتهي إلى مدن معبأة بالتائهين، وهنا مكمن الأذى.. كيف؟

إن صورة الريف في الذاكرة العربية رومانسية، كونها منطقة تعيش حالة من العزلة عن عقيدة التطور الحضاري، أي أنها مظهر تذكاري أو نسخة مؤجلة لحقيقة ساكني المدينة، وهذا ما صنع صورة سلبية عن حقيقة الريف، صحيح أنه يستدعى في الذاكرة متى ما تعانفت المدينة على أهلها، ليستعاد كحالة مؤيتبة (من يوتوبيا) يستعاد باستمرار عبر العودة إليه هربا من هيجان المدينة، هجيانها الحضري، لكن هذا الأمر خلق حالة من الثنائية في التفكير الاجتماعي العربي، فمن ناحية نعود إلى الريف كحالة هروب إلى الجذور، دون أن نفكر بصورة موضوعية عن الطريقة التي يتدبرها أهلنا الذين ظلوا على وفاء مجيد للأرض، وعرفوا كيف يمتنون معاشهم بالصورة التي توافق احتياجاتهم ما منع عنهم إغواء الحضر فيهربوا إليه، ومن ناحية أخرى ظلت سياساتنا التنموية لا تتفهم حقيقة الريف والذي تغيب فيه فكرة التسليع بالمعنى الاستهلاكي، وتحضر بالمعنى الاكتفائي.

وعندما يتدخل العقل المستلب بمظاهر الحضرنة ليقول بضرورة تطوير الريف وتحسين معاش أهله، فإنه يتغافل عن حقيقة علنية، وهي أن القرية كوحدة من وحدات المجتمع الريفي وبسبب من هذا النوع من التدخلات تتفكك من كونها مجتمعا ويعيش توافقها حالة من القمع تتبدى في (الهجرة من الريف إلى المدينة) وهي هجرة مكلفة للريف والمدينة، إذ في الأولى تقطع سلاسل من انتماء ثقافي قادر على تطوير أدواته الإنتاجية، انتماء يعيشه أشخاص يستثمرون في هوية تمنع عنهم غوائل الحاجة والشظف، وفي الثانية تعجز المدينة أيا كانت بلاغتها الخدمية عن استيعاب هجرة سكان الريف إليها، ليعيشوا حالة من الغربة عن الإنتاج، حالة تتدرج حتى تقطع في القادم من هذا التكوين المتماسك والمتوفر على تمتين أدواته في الكفاية، تقطع فيه قدرته على العطاء.

إن الاشتغال على نظرية التنمية المستدامة ينبغي أن يعود في تأسيساته إلى معرفة نوع النمط الاجتماعي الذي يعيشه سكان كل منطقة، ففكرة الخدمات والتي غالبا ما يشار إلى حاجة الريف إليها يتم تقديمها بشكل لا يراعي الطبيعة الثقافية، نعم يحتاج الريف إلى المستشفيات مثلا، لتوفير خدمة طبية متقدمة يستفيد منها كبار السن، لكن أيضا يفضل أن يكون القائمون على أمر استشفاء هذه الفئة ممن ينتمون إلى هذا المجتمع ويعرفون طبائعه الغذائية والبدنية، وحينها ستصبح فاتورة تقديم هذه الخدمة أقل مما هي عليه بكثير، إذ ستجمع بين فئات متباينة القدرات لكنها متكاملة في التوجه، فالحياة في الريف تملك خصوصيتها عن المدينة وهذا من نافلة القول، لكن الجوهري أنه لو قمنا بتطوير سياساتنا الخدمية بحيث يصبح الجانب الثقافي قاعدة لتحسين الخدمات على تنوعها، فبهذا سنكون قد حافظنا على تماسك البنية الاجتماعية في جملة الجغرافيا التي نعيش، وسنصنع سياسات خدمية ترتكز على الخصوصية الثقافية في المنطقة محل الخدمة، ودعوتنا تقوم على الاهتمام أكثر بالاقتصاد الاجتماعي في الريف، وتوطين سياسات التنمية وتجديد السياسات الوطنية لتغيير وعيها بالريف.

أما تطور المدينة فسيظل يعتمد على بناء مستقبل متين ومتقدم في البيئة الريفية، فالمجتمعات قادرة على الإجابة عن أسئلة واقعها، واقعها كما عاشته وتفهمه، لكنها تفشل في إحسان إنتاجها وتوفيره لنفسها والآخرين عندما تتدخل سياسات تقضي على تنوع المجتمعات وتفصل أفرادها عن جذورهم المحلية، ولن نأتي بجديد إن قلنا إن التطور الاجتماعي بحاجة إلى فاعلية إبداعية وهي فاعلية لا يمكن تضمينها وعي الناس بل تنطلق من فهمهم لذاتهم وواقعهم.

والسؤال هنا: من يحتاج إلى التطوير، الريف أم المدينة (مدينة صنع السياسات)؟..

غسان علي عثمان كاتب سوداني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: حالة من

إقرأ أيضاً:

العود جزء من الهوية الثقافية للمجتمع المصري ورمز للجمال والفن.. تفاصيل

    العود هو آلة موسيقية تتنقل عبر الزمن، بدءًا من شاشات السينما المصرية حيث كان يمثل رمزًا للجمال والفن، وصولًا إلى الورش الحرفية التي يتم فيها تصنيع هذه الآلة بعناية ودقة لتصبح تحفًا فنية تنبض بالألحان.

وزير التعليم: نتطلع لتقديم برامج تعليمية متكاملة في مجال الموسيقى

عرضت قناة إكسترا نيوز تقريرًا بعنوان «صوت العود.. لحن يلامس الروح ويحكي قصص التراث المصري»، حيث تناول التقرير الدور الهام الذي يلعبه العود في الثقافة المصرية والفن.

الحرف اليدوية

وأوضح التقرير أيضًا أن الحرفيين الذين يصنعون العود لا يقتصرون على صنع الآلات الموسيقية فقط، بل ينقلون من خلال هذه الآلات قصصًا وحكايات تحمل في طياتها تاريخًا طويلًا من الفن والحرف اليدوية، مؤكدين أن صناعة العود تتم بحب وشغف، ويعتبرون أنفسهم حفظة لهذا التراث الذي سيظل يتنقل من جيل إلى آخر.

مقالات مشابهة

  • الريف المصري: مشروع 1.5 مليون فدان يعكس رؤية الدولة المصرية في تنمية المناطق الريفية
  • الريف المصري: تيسير الإجراءات وتحقيق العدالة في تقنين الأراضي
  • في اجتماعه برؤساء المدن.. محافظ الدقهلية يعلن عن مسابقة لأفضل مركز ومدينة
  • من الريف لقمة المجد الفني.. مؤرخ موسيقي: «أم كلثوم» أيقونة خالدة تُنير دروب الأجيال الجديدة|فيديو
  • عبد الوهاب يلتقى بالمتقدمين بطلبات تقنين وضع اليد فى أراضى الريف المصرى الجديد
  • رمضان في النوبة .. طقوس فريدة تعكس الهوية الثقافية المصرية
  • إيقاف مصنع مياه في نجران لمخالفته معايير السلامة
  • افتتاح ليالي رمضان الثقافية بقصر ثقافة القناطر
  • العود جزء من الهوية الثقافية للمجتمع المصري ورمز للجمال والفن.. تفاصيل
  • من الأسمرات.. ثقافة القاهرة تطلق ليالي رمضان الثقافية والفنية