النقاط العمياء.. تموضعات مهلكة
تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT
النقاط العمياء؛ هي مشروعات غير مكتملة البناء؛ أو هي مشروعات ناشئة تعرضت لوأد في مراحلها المبكرة بقصد أو بجهل، أو هي مشروعات تاهت عنها بوصلة التوجيه والاهتمام والعناية. وقد لا نبالغ في وصف النقاط العمياء عندما نقول إنها مشروع جريمة غير مكتملة الأركان، وعدم اكتمال أركانها يعود إلى قدرة الفرد إلى تصحيح أخطائه قبل أن تتعمق، ويصبح حلها صعبا، ويأتي هذا التوصيف في مجمله ليعكس مدى الحسرة على ما لم يتم نموه ليؤتي ثماره بالصورة التي ينبغي أن تكون، ويحدث ذلك لأن هناك حلقة مفرغة أو مفقودة أثرت بصورة مباشرة على اكتمال النشأة والتطور لذات المشروع.
تدخل مسألة «تداخل المصالح» في توسعة رقعة النقاط العمياء، ذلك لأنها تدخل الخطط والبرامج في كثير من الضبابية وعدم وجود الرؤية الواضحة للتنفيذ، والمراجعة والتدقيق، وعدم المحاسبة أيضا، كما تسودها الكثير من القرارات الارتجالية التي لا تخضع كثيرا للتدقيق، ولعل مؤسسات القطاع العام أكثر تعرضا للنقاط العمياء، وذلك بحكم التغاضي عن مسألة تجاوز مفهوم الربح والخسارة المطبق بحذافيره في مؤسسات القطاع الخاص، ويعود ذلك إلى صورة نمطية شائعة عن مؤسسات القطاع العام وهي أن «الحكومة أم الجميع» وهذا مما يعمق من ثقافة عدم الاهتمام باستحقاقات الوظيفة التي تديرها المؤسسة العامة، ويبدو أن هذه الصورة النمطية شائعة في كثير من التجارب الإدارية في عدد من دول العام النامي على وجه الخصوص.
تلعب أهمية التخصص دورا محوريا في تقليص مساحات النقاط العمياء في مختلف الوظائف الإدارية والفنية، بالإضافة إلى استمرار عمليات التدريب والتأهيل، والاستفادة من التجارب الناجحة من مختلف الدول؛ شريطة أن تخضع هذه التجارب أولا؛ للمختبر الفني الخاضع لظروف البيئة المحيطة، فلا يصح - على سبيل المثال - تنفيذ خطة دولة متقدمة تقنيا وفنيا وإداريا على دول لا تملك المستوى الأدنى من ذلك كله، فهذا من شأنه أن يعمق من مستوى المشكلة، وبدلا من تضييق مساحات النقاط العمياء في المؤسسات يعمل على توسيعها بصورة أكثر، وذلك لخلل بنيوي يعود إلى المستوى المهني لدى الأفراد في المجتمعات الأقل تطورا.
كثيرا ما تعاني المؤسسات من حالات الإحباط التي تصيب بعض الموظفين الطموحين، وذلك عندما يتقدمون بمقترحاتهم فلا يجدون ذلك التجاوب الكبير من قبل المسؤول المباشر أو من فريق العمل؛ حيث تدخل حالات الحسد و «اللوبيات» التي تخدم مصالحها الخاصة عن مصالح المؤسسة، وربما يحدث ذلك أكثر عندما تكون هناك حلقة مفرغة بين صاحب القرار وأصحاب الأفكار الإبداعية الذين تقلقهم مجموعة الإخفاقات التي يعيشونها في مؤسستهم، وحلقة الفراغ هذه يوجدها المسؤولون المباشرون لمجموعة هؤلاء المبدعين، حيث لا يكترث هؤلاء المسؤولون المباشرون بمجموعة المقترحات أو الأفكار الإبداعية التي يتقدم بها هؤلاء، وقد يرون فيها أفكارا غير منطقية أو أنها سوف تقلص من صلاحياتهم عند تطبيقها، أو سوف تعلي من شأن هؤلاء المبدعين، مما يوسع من حالات الشقاق والتنافر بين المؤسسة والعاملين فيها، فيكثر الانتقاد السلبي الذي يفضي؛ عادة إلى كثير من الترهل وعدم الإخلاص، فتتكاثر بذلك النقاط السوداء؛ وتضيع بين دهاليز الاختلافات خطط العمل الواضحة، فيأتي الموظف إلى المؤسسة، لا ليؤدي وظيفته بما يمليه عليه واجب المسؤولية، وإنما ليقبض عائدا ماديا على نهاية كل شهر، ولا يهمه بعد ذلك الغايات الكبرى التي تسعى المؤسسة إلى تحقيقها.
من هنا تأتي أهمية الدور الذي يلعبه صاحب القرار في إيجاد بيئة تناغمية لجميع أفراد المؤسسة مع مختلف المستويات الإدارية، وجعل الجميع في مستوى المسؤولية؛ فما يسعى إلى تحقيقه كبار المسؤولين؛ هو ذاته ما يشعر به صغار الموظفين، ومن هنا يأتي تبني الأفكار الطموحة التي تقلق صغار الموظفين، ولا تهمل إطلاقا مهما كانت فكرتها متواضعة، وذلك يأتي من باب الاهتمام بالجميع وتعزيز دورهم في المؤسسة، فالإهمال وعدم الاهتمام هو الذي يسرع في وجود نتوءات - نقاط سوداء - في بيئات العمل وتكاثرها مع مرور الزمن، وهذا ليس في صالح العمل، هذا بالإضافة إلى وضوح الأهداف التي تسعى المؤسسة إلى تحقيقها لدى كل موظف فيها؛ وليست محتكرة لدى المسؤولين فيها، ومعنى هذا أن صاحب القرار غير معذور عن ما يدور في مؤسسته من إخفاقات؛ خاصة اليوم في ظل تطور أدوات العمل، وقراءة وتقييم ما يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي.
يمكن القول: إن مسألة نشأة النقاط السوداء، أمر مفروغ منه، وذلك لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها تجربة الخطأ والصواب التي يمر بها كل فرد في هذه الحياة؛ وهي الناتجة عن أسباب كثيرة؛ أغلبها حداثة التجربة عند كل فرد على حدة، وبالتالي فوجود هذه الحالة في البدايات الأولى لعمر التجربة، يكون مقبولا، أما استمراره مرفوضا بالمطلق، ويقاس ذلك على كل الأنشطة البشرية، وليس فقط في بيئات العمل، فحتى البيئات الاجتماعية معنية بذلك؛ فالمجتمع يهمه كثيرا أن ينشأ بين محيطه أفراد صالحون لرفعة شأنه، ويقينا لا يتمنى أن تكون بين مجموعة الأسرة التي يشرف عليها هناك أسرة غير نشطة تمثل على امتداد مساحته نقطة عمياء؛ بمعنى غير قادرة على أداء الدور الكامل المنوط بها مع بقية الأسر الفاعلة بين محيطه، وإلا عد ذلك تراجعا موضوعيا في مستوى الوعي الذي وصل إليه أفراد المجتمع.
وهنا يمكن المقارنة بين نشأة النقاط السوداء في بيئات العمل، والتقييم بعدم قبولها بالمطلق، وذلك لأن المؤسسات؛ أيا كان نوعها، وحجمها تقوم على خطط وبرامج وأهداف، حيث تنتفي هنا تجربة الخطأ والصواب، أما في البيئات الاجتماعية؛ فالأمر مقبول إلى حد ما، وذلك لأن المسألة هنا متوقفة على الجهد الشخصي الذات، فالفرد حر فيما يقوم به بين محيط أسرته، وعليه أن يستشعر واجب المسؤولية الاجتماعية في الأخذ بأفراد أسرته إلى مصاف النجاحات في الحياة، ولا يُسَلِّمْ أي أحد من أفرادها إلى مجموعة من المهالك في الحياة، وما أكثرها، فعليه هو أيضا أن يسعى وفق خطط وبرامج من شأنها أن تقلص الكثير من الإخفاقات التي قد يتعرض لها أفراد أسرته.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النقاط العمیاء
إقرأ أيضاً:
ويسألونك عن الإجادة!
محمد بن عيسى البلوشي **
قادني حديث مع أحد الإخوة وهو يعبر عن امتعاضه في مسألة تقييمه السنوي في نظام إجادة، وكيف قام مسؤوله بتغيير التقييم من ممتاز إلى جيد جدًا بحجة أن واحدًا فقط يستحق هذا التقييم في ذلك القسم، رغم أحقيته- حسبما يقول- بينه وبين زميله.
ربما تقودني هذه الحكاية إلى الأسباب التي دفعت الجهة إلى تبني مثل هكذا نظام، ومن نافلة القول أن أنظمة التقييم السابقة لم تكن فيها أطر منهجية واضحة فالجميع فيها في خانة الامتياز والجيد جدًا، وهذا في عرف الإدارة لا يجوز كما يؤكد المختصون.
سأعود خطوة قبل تطبيق نظام الإجادة وأسال: ما الفرق بين الإدارة في المؤسسات العسكرية والأمنية ومؤسسات الخدمة المدنية؟ وربما نتفق جميعًا بأن الإدارة في المؤسسات العسكرية والأمنية أكثر التزامًا ووضوحًا في قيادة الموارد البشرية من أي قطاع آخر.
ففي المؤسسات العسكرية والأمنية ينتسب الموظف وله برنامج من حيث الإعداد الإداري والنفسي والفني من أول يوم إلى وقت تقاعده، في خطة استراتيجية تعرف فيها المؤسسة ماذا تريد من هذا الفرد وكيف لها أن تصقله وتُدرِّبه وفق أعلى المعايير، وما هي طموحاتها من هذا المنتسب القادم إليها.
هنا أجدد للقطاع المدني سؤالي: هل هناك برنامج واضح للموظف المنتسب إليها من أول يوم إلى وقت تقاعده؟!
إن غياب البرامج الواضحة والصريحة والمخطط لها مسبقًا لكل موظف في المؤسسة هو واحد منه التحديات التي تواجه قطاع الأعمال العامة في المؤسسات، فإلى الآن لا يعرف الموظف ما هو خط سيره الوظيفي في مؤسسته وما هي برامج التطوير والتأهيل التي سيخضع إليها بشكل سنوي وما هي الدورات الاستراتيجية التي من الضروري التي يلتحق بها لتطوير قدراته القيادية والإدارية.
ما يجعلني أُثني على القطاع العسكري والأمني هو برنامج الترقيات؛ سواء للرتب العليا أو الرتب الأخرى، والذي يخضع فيه المنتسب إلى برامج تدريبية وتأهيلية واضحة تمكنه بعد اجتيازها بنجاح إلى جانب عطائه السنوي للحصول على ترقية، كما أن للأعمال الاستثنائية الملموسة تقديرها الخاص كلا حسب مجاله وتَخصُّصه.
أعتقدُ أنه من الجيد أن نستفيد من تجربة هذا القطاع الحيوي والممتدة لأكثر من خمسين عامًا، وهي من التجارب المميزة، وهنا أقترح بأن يقوم القائمون على منظومة إجادة بتطوير هذا النظام عبر الاستفادة من التجربة الرائدة للقطاع العسكري والأمني، مع إعطاء مساحة أن تقوم كل مؤسسة حسب طبيعتها بإدخال متطلباتها بما يتناسب مع مهمتها وطبيعة أعمالها ويتسق مع التوجه الوطني العام في رفع كفاءة الموارد البشرية ويمكن المؤسسة من تحقيق أهدافها وفق رؤية "عُمان 2040".
** مستشار إعلامي واقتصادي
رابط مختصر