لجريدة عمان:
2024-09-13@09:01:15 GMT

الكائن المُفتت !

تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT

عندما خرج أجدادنا من «حجورهم» ليسكنوا في منطقة ساحلية في الباطنة لأسباب تتعلق بمشقة العيش وشظفه آنذاك، أداروا ظهور بيوتهم للبحر ولم يُقابلوه، لم يخرجوا في نزهة إليه في الصباحات الشتوية. يذهبون متعجلين لملاقاة شِراجهم وأوديتهم كلما سقط المطر وكأنّهم في حالة إنكار عميقة له. لا يراقبون الشروق جواره، كما لا يلفت انتباههم الغروب المُذهل فيه، فثمّة ما يجعلهم مُنحازين لجبالهم البعيدة التي نزحوا منها.

تذكرتُ حنين أجدادي ذاك، عندما سمعتُ قصّة مغايرة في حديث جانبي، فقد أخبرني أحدهم عن أمّه التي اُنتزعت من جذرها المجاور للبحر، لتقابل صحراء جرداء - ضمن مشروع طريق الباطنة الساحلي- أخبرني كيف أنّ ذلك سبّب لها اكتئابًا، فقد فقدت بيوت أحبتها وجيرانها الذين جاورتهم لعقود. يأخذها ابنها كلما تسنت له الفرصة في جولة جوار البحر، فلا تكف دموعها عن التدفق والتذكر.

ورغم الأبعاد الكثيرة التي طالتها العشوائية -في قصص صرف التعويض- فإنّ الذي يعنينا هو ذلك الفطام الذي يُورث الأذى، ويبترُ نقطة الاتصال الأولى والحميمية بالديار.

شحوب البشر عند ترك أمكنتهم شحوب أزلي، منذ أن بكى الشعراء القُدامى على أطلالهم، وهذا الشحوب قد لا يدعو لانكفاء المشروعات التنموية، ولكن للتمعن قليلا في روح القرى والمدن وتحولاتها، لجعلها أكثر إنسانية وأكثر رقة في فهم احتياجات الناس، فهم كالأشجار لكل شجرة تربتها ومناخها الخاص بها. يأخذُ الإنسان من سمات مكانه، فالحياة في الحقول تنتج إنسانًا مُغايرًا لذاك الذي عاش في جبال صلدة أو رمال تذروها الرياح أو لحياة إنسان مجاور للبحر. يتجاوز الأمر سمات الفرد الخارجية ليتمثل أنماط تفكيره ونظرته للكون والحياة، وهذا ما لم يؤخذ بعين الاعتبار!

ماذا أيضا عن خزان الذكريات الذي لا يُمكن استدعاؤه إلا مرتبطًا بمكان ما، ولذا يغدو الأمر شديد التعقيد بالنسبة لمن شاخوا في أماكنهم ثمّ جاء من يقتلعهم كما تقتلع العشبة الضارة من حقل، لتُلقى في بيئة لا تمت بصلة لحياتها الأولى!

لقد نُهشت مسرات أولئك الذين نما إيقاع حياتهم على ترددات الموج ورائحة السردين المجفف ورطوبة الرمل بمحاراته اللانهائية. ماذا أيضا عن مجتمعات الصيادين؟ فتغير المهن لا ينعكس على جوانب اقتصادية وحسب وإنّما على بُنى نفسية أشد تعقيدًا، فأرواحهم التي ارتبطت بأرواح البحارة القدامى، تحولت للعيش في السيوح، تحولت من فتنة الزرقة إلى اللون البني الباهت!

والسؤال: لماذا لم تُبن أحياء سكنية متكاملة تضمن استمرار النسيج الاجتماعي على نحو لا يُحدث تمزقات موجعة كهذه؟ لماذا لم يُدرس ضجيج الواقعية النفسية قبل أن تدرس الجغرافيا الصامتة! فالتجول في المكان الذي لم يعد يخصك لصالح مشروعات جديدة ستنهض، يؤلم المتعلقين بخيط شفاف من الذكريات عندما تتكسر انتماءاتهم على زجاج البعد والمسافة!

تهميش مشاعر الإنسان وارتباطه الوثيق بمكانه، يعني تهميش قيمة انتمائه الجغرافي. فالمال «التعويض» لن يُعيد الأحاسيس ولن يعيد النافذة التي تشرع على امتداد سحر البحر الخلاب، لن يعيد البساط الذي يُشرب فوقه القهوة بينما تشخص الأبصار في قرص الشمس المتواري في حضن التخوم. لن يُعيد القوارب والشِباك والرزق في بطون القوارب.

الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار يؤكد دومًا أنّ الإنسان خارج المكان الذي مارس فيه أحلام يقظته وتشكل خياله يغدو كائنًا مُفتتًا، فالبيت هو ركننا الأصيل في العالم المتشظي.

المكان، البيت، الحارة، أكثر حيوية من ظننا بأنّها أشياء جامدة، فالأمكنة تسيل في صميم حياتنا حتى أنّنا نعجز عن تذكر أحداث قصصنا الأولى دون أن يبدو المكان شديد السماكة فيها، دون أن يبدو المكان خلفية مُبهرة لشلال التداعيات المُنهمرة من نهر لا وعينا المتدفق.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

م. أنس معابرة يكتب .. أقلام خلف القضبان

#سواليف

#أقلام خلف #القضبان

م. أنس معابرة

ما زال الأستاذ الكبير، والكاتب الصادق، والمواطن الصالح #أحمد_حسن_الزعبي خلف #القضبان، بسبب تعليق له على منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، وتم توجيه تهمة “إثارة النعرات العنصرية والطائفية والحض على النزاع بين مكونات الأمة”، وحبسه لمدة سنة.

مقالات ذات صلة إعلام عبري: 12 مصابا بانفجار سيارة مفخخة بالرملة 2024/09/12

وعلى الرغم من سوء أحوال الأستاذ الزعبي الصحية وتدهورها، حيث يعاني من ارتفاع انزيم الكبد، والدهون الثلاثية، وارتفاع السكري، وخسر عشرة كيلوجرامات من وزنه في الآونة الأخيرة، وما زالت السلطات تصر على تنفيذ العقوبة.

لقد نال الأستاذ أحمد الزعبي تعاطفاً كبيراً من الشارع الأردني والعربي والدولي، حيث كان دائماً ما ينطق بلسان الشعب، ويحاول أن يتواصل معهم بكلماتهم وعباراتهم، ويشاركهم همومهم وأحلامهم وتطلعاتهم، بعيداً عن جميع أشكال الزيف والكذب والتلفيق أو التضليل.

أحمد الزعبي الذي فضّل العمل الحر والاكتفاء بالقليل من المال، على أن يكتب ما يريده المسؤول، وأن يتغاضى عن جميع أشكال #الفساد والتجاوزات، وأن يصدح قلمه بكلمة الحق، فكانت الكثير من مقالاته تمنع من النشر لأنها لا تتوافق مع سياسة الجريدة التي تريد التطبيل للمسؤولين، وتتغاضى عن الفشل والاخفاق.

أحمد الزعبي خلف القضبان اليوم بسبب تعبيره عن رأيه، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، رأيه الذي أعتقد أن غالبية الشعب الأردني قد تتبناه، لأنه صادر من مواطن صادق في انتمائه، وخوفه على وطنه، ووقوفه دائماً إلى جانب المواطن المغلوب على أمره.

أنت عندما تضع أحمد حسن الزعبي خلف القضبان لا تضع شخصاً فقط، ولا مواطناً كغيره من المواطنين، أنت تضع شخصاً يعبر عن رأيه بقلمه الصادق الحر، الذي ينطق بما يجول في خواطر الناس، تضع خلف القضبان قلماً كان عصياً على دعاة النفاق والتملق للمسؤولين، وأقسم بجفاف حبره ألا يكتب كلمة لا تخرج من ضميره، وللا تتوافق مع مبادئه وحبه لوطنه وامته.

عندما يكون أحمد حسن الزعبي خلف القضبان فأنت تساوي بين #الكاتب_الصادق الشريف مع #اللصوص و #المجرمين وتجار المخدرات وغيرهم من المنحرفين، فكلامهما سيكونان “خريّج حبوس”، ولكن شتان بين من حبسه صدقه وحبه لوطنه، وبين من حبسه اجرامه وجشعه.

عندما يكون أحمد حسن الزعبي خلف القضبان فأنت تدعو جميع الأقلام الوطنية للكف عن الكتابة، والألسن الصادقة للخرس والتوقف عن الكلام، وتفتح المجال على مصراعيه للمطبلين والمنافقين والأفاقين، لكي يزوروا الحقائق التي لا تخفى على الموطن العادي.

إذن كيف سيكون الإصلاح؟ كيف ستسمع للرأي الآخر؟ هل تخشى من النظر في المرآة حتى لا ترى عيوبك؟ هل سيكون السجن مصير كل من يقول الحقيقة؟

ابحثوا عمن سرق خيرات الوطن، وابحثوا عمن باع خيرات الوطن، وابحثوا عمن يجني الملايين من منصبه، وابحثوا عمن يستغل وظيفته لتحقيق المنافع الشخصية والعائلية، ابحثوا عمن أصبحوا من الأغنياء بعد تقلُّد المناصب الرسمية، وابحثوا عن نواب أنفقوا الملايين للانتفاع من خيرات القبة والحصانة والتسهيلات.

عندما تعثروا عليهم، ألقوا بهم خلف القضبان، ثم أطلقوا سراح أحمد حسن الزعبي.

مقالات مشابهة

  • أبرز سلوكيات "الموبايل" التي تؤدي إلى فشل الزواج
  • “هيئة الطرق”: طرق المملكة مهيئة لنقل كافة الحمولات بجميع الأوزان والأبعاد التي تعد الأولى عالمياً في مؤشر الترابط
  • م. أنس معابرة يكتب .. أقلام خلف القضبان
  • الصور الأولى للسفينة التي كانت متجهة إلى مصر وقصفتها روسيا
  • برج غلاطة: رمز إسطنبول التاريخي الذي يروي أسرار الطيران الأولى
  • يمنى البحار تبحث التعاون مع الرئيس التنفيذي للهيئة السعودية للبحر الأحمر والمدير التنفيذي للشراكات الاستراتيجية بالسياحة الساحلية
  • السعودية ومصر تتفقان على تسهيل العبور للمشروعات السياحية بالبحر الأحمر (صور)
  • معنى الانكسار
  • ما سر أهمية المناظرة الأولى التي سيتواجه بها ترامب وهاريس؟
  • العلماء يكشفون عن مقدار النوم الذي يحتاجه الإنسان يوميًا حسب العمر؟