في أحضان قطاع غزة تتسرب الحكايات من بين الجدران، كل منزل يحمل قصة، وكل نافذة تطل على حلم مؤجل.

الأطفال الذين كانوا يلعبون بالكرة في الشوارع، أصبحوا يجلسون على أعتاب البيوت الخاوية على عروشها، يتأملون العالم من بعيد، ويحلمون بمستقبل قد يكون أكثر إشراقًا.

الأمهات اللواتي كن يتبادلن الأحاديث والضحكات أثناء تحضير الطعام، أصبحن يتشاركن الهموم والقلق على مائدة الغداء الخاوية.

وفي الأفق، ترتسم صورة المدينة التي كانت يومًا تعج بالحياة، حيث كان السوق يفيض بالخضار والفاكهة، وكان البائعون ينادون على بضاعتهم بصوت عالٍ ومرح.

الآن، تلك الأصوات قد خفتت، والألوان أصبحت باهته، والحياة تسير بوتيرة أبطأ، وكأن الزمن قد توقف للحظة، ينتظر شروق شمس جديدة تعيد الدفء إلى القلوب والأمل إلى العيون.

يقف المزارع مصعب الكرنز، بعينيه التي تعكس خبرة السنين والأيام، ينظر إلى حقوله التي كانت يومًا ما تموج بالخضرة والحياة، والآن لا تبقى منها سوى الذكريات.

يتحدث بنبرة ملؤها الحنين والأسى، قائلاً لـ«عُمان» خلال حديثه: «كانت هذه الأرض تعطي بلا حدود، الطماطم والخيار والبطيخ، كل شيء كان هنا».

ويضيف: «الخضراوات والفواكه أصبحت كالكنوز النادرة ولا تكفي جميع الناس، الأسعار تحلق في السماء، والفلفل وصل سعره إلى 70 دولارًا، بعد أن كان سعرة دولار واحد».

وتابع: «الناس هنا، باتوا بلا رواتب، ولا يجدون محلات صرافة لقبض ما تبقى من أموالهم».

ويشير وقد امتلأت عيناه بالدموع: «لقد جرفت الجرافات الإسرائيلية كل شيء، الأراضي التي كانت تنبض بالحياة، الآن مجرد صحراء قاحلة، لا محاصيل، لا إنتاج، والمياه والكهرباء أصبحتا من الأحلام».

تتجسد في كلماته صورة الحياة اليومية في غزة، حيث تتشابك أزمات المياه والغذاء، وتتعانق الأمل والألم في رقصة البقاء على قيد الحياة في القطاع المكلوم.

وفي كل زاوية من زوايا هذه المدينة الصامدة، تجد قصة إنسان تحتضنها الجدران، وحلم ينتظر الفجر ليولد من جديد.

وفي زاوية أخرى من المدينة يقف محمد عبدالعال متأملًا ما آلت إليه الأحوال، يروي بنبرة تختلط فيها الأسى بالأمل، «كانت الأرض هنا تعطي بلا حدود، حماماتنا الزراعية كانت مصدر فخرنا، والشمس كانت حليفتنا في كل موسم».

ويكمل: «كنا نزرع ونحصد، ثم نصدر الخضراوات والفاكهة إلى خارج حدودنا، تلك الأراضي التي كانت تروى بعرق الجبين والماء العذب».

الأسواق خاوية والأسعار خيالية

يتنهد الرجل بعمق ويواصل حديثه: «لكن الحرب لم ترحم، فقد أخذت منا الكثير، واليوم نعاني من نقص المياه والغذاء والكهرباء».

ويؤكد: «الأراضي الزراعية التي كانت تنبض بالحياة، أصبحت جرداء بفعل الاحتلال الإسرائيلي، والمعدات التي كانت تساعدنا في الزراعة، كالحمامات الزراعية والشمسية، أصبحت ذكرى من الماضي حيث جرفت بفعل الآلة الحربية الإسرائيلية».

ويشير إلى الأسواق، حيث كانت الألوان تتراقص بين الأخضر والأحمر والأصفر، ويقول: «اليوم، الأسواق خاوية، والأسعار تكاد تكون خيالية. كيلو الطماطم الذي كان بدولارين، أصبح الآن بخمسين دولارًا، نحن نمر بمجاعة لا ترحم».

ويضيف: «تحول قطاع غزة من مصدرين للخيرات كالفواكه والخضراوات، إلى مستوردين للضروريات، وكل ذلك بسبب الحرب التي أغلقت المعابر وحرمتنا من أبسط مقومات الحياة».

وفي عينيه بريق أمل خافت، يختتم حديثه، «لكننا شعب لا ييأس، وسنعيد بناء ما تهدم، وسنزرع مرة أخرى، وستعود الحياة إلى أرضنا، فالأمل لا يموت في قلوبنا، وإن طال الليل، فلا بد للفجر أن ينشق».

وعلى الجانب الآخر من سوق الخضراوات يقف رجل عجوز يتأمل الأرفف الخالية، ويحكي بصوت مبحوح، «كان هذا المكان يومًا مليئًا بالخيرات، الخيار والفلفل كانا يملآن المحلات، والأسعار في متناول الجميع، كنا نفخر بأننا نغذي العالم بمحاصيلنا».

ويستطرد قائلا: «لكن الآن، الحرب قد حولت الخصوبة إلى قحط، والوفرة إلى ندرة، نبحث عن خيار أو فلفل، ولكن كل ما نجده هو الغلاء الفاحش، الأسعار التي كانت في متناول اليد، أصبحت الآن كالسراب».

ينظر حوله بعينين تبحثان عن أمل ضائع، ويقول: «لقد انقلبت الأمور رأسًا على عقب، من مصدرين للخضرة إلى مستوردين لها، الأسواق التي كانت تعج بالخضراوات والفاكهة، أصبحت الآن صامتة، تنتظر الإنعاش الذي لا يأتي».

يتوقف للحظة، يجمع أفكاره، ويضيف بصوت يحمل وقع الحزم، «سنجد طريقة لنعيد الحياة إلى أسواقنا، سنزرع مرة أخرى، وسنحصد مرة أخرى، وسنعود لنكون مصدر الخير للعالم، فالأمل ينبت في الأرض الخصبة، وقلوبنا لا تزال خصبة بالإيمان والعزيمة».

وبينما تتصاعد مخاوف الجوع وسوء التغذية، يُطلق العاملون الإنسانيون في الأمم المتحدة نداءً عاجلاً للتحذير من أن الأنشطة الزراعية في غزة، لا تزال متوقفه بسبب الحرب.

تقلص الإنتاج المحلي

من جهة أخرى، تُشير الأمم المتحدة إلى أن الخضراوات المحلية المتاحة في شمال غزة محدودة وتُباع «بأسعار مرتفعة»، محذرة من أن النقص في البذور والأسمدة وغيرها من المدخلات الضرورية للإنتاج الزراعي والحيواني يُعيق بشكل كبير استعادة الإنتاج الغذائي المحلي.

كما يُشير المكتب إلى أن العمليات العسكرية الإسرائيلية قد تسببت في أضرار جسيمة في رفح وأدت إلى المزيد من النزوح هذا الأسبوع من شرق خان يونس، حيث كان يتركز الإنتاج الزراعي بشكل كبير قبل النزاع.

وبالإضافة إلى الأضرار الأخيرة التي لحقت الدفيئات البلاستيكية الزراعية، وأصبحت الأراضي الزراعية في غزة مهجورة.

ويُحذر مكتب الأمم المتحدة من أن «تفويت الموسم الزراعي القادم قد يُدمر بشكل كبير سبل العيش للسكان»، ويُشير التقرير الأخير للأمم المتحدة حول مستويات الجوع في غزة إلى أن 96% من السكان - أي ما يقرب من 2.15 مليون نسمة - يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی کانت

إقرأ أيضاً:

برلماني: طرح قضية محو الأمية على مائدة الحوار الوطني خطوة مهمة

كتب- نشأت علي:

أكد الدكتور أيمن محسب، عضو مجلس النواب ومقرر لجنة أولويات الاستثمار بالحوار الوطني، أهمية الدور الذي يلعبه الحوار الوطني في دعم سياسات الدولة المصرية لتحقيق المفهوم الشامل لحقوق الإنسان. حيث تولي إدارة الحوار الوطني اهتمامًا خاصًا لعدد من القضايا المجتمعية، وعلى رأسها قضية محو الأمية، التي من المقرر طرحها على مائدة النقاش في الفترة المقبلة، تزامنًا مع اليوم العالمي لمحو الأمية. وأشار إلى أن هذه الخطوة تأتي انطلاقًا من إيمان الدولة بضرورة الاستثمار في العنصر البشري ورفع كفاءته من أجل تدعيم ركائز الجمهورية الجديدة.

وقال "محسب" في بيان اليوم، إن قوة المجتمع وتعزيز تماسكه تبدأ بمحاربة الجهل وتعزيز فرص التعلم والمعرفة، وهو حق من حقوق الإنسان المصري، حيث نص الدستور على أن التعليم حق مكفول للجميع. وأكد أنه لا سبيل لرفعة هذا الوطن سوى بأمة متعلمة ومثقفة وعقول مستنيرة، وأنه لا بديل عن الحوار والعمل المشترك وتضافر الجهود من أجل مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تحيط بحدود الدولة المصرية وتهدد أمنها واستقرارها. وأشار إلى أن الحوار الوطني نجح منذ اليوم الأول لجلساته في إذابة الجليد بين القوى السياسية ليجلس الجميع على مائدة واحدة يناقشون قضايا الوطن ويضعون حلولاً للتعامل معها.

وأضاف عضو مجلس النواب أن إدارة الحوار لديها إيمان راسخ بأهمية العلم في بناء الأمم وازدهار الأوطان، وأن المجتمع المتعلم هو ركيزة التنمية الشاملة والمستدامة. وأوضح أن الأمية قضية خطيرة لا يمكن تجاهلها، إذ تمثل تهديدًا لأمن البلد واستقراره، خاصة مع ارتفاع معدلاتها في القرى ومحافظات الوجه القبلي والمناطق النائية. وهو ما يُفسر تفاقم العديد من المشكلات الاجتماعية مثل الفقر والبطالة والزيادة السكانية وزواج القاصرات والتطرف الديني في تلك المناطق. وأكد أن مكافحة الأمية أصبحت أولوية وطنية في إطار حرص الدولة على دعم بناء الإنسان المصري.

وشدد النائب أيمن محسب على أن الدولة المصرية تحت قيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي حققت تقدمًا ملحوظًا، اتساقًا مع رؤية مصر 2030 التي تضع التعليم في صدارة أولوياتها. حيث وضعت الدولة خطة استراتيجية لإعلان "مصر خالية من الأمية بحلول عام 2030"، وكثفت جهودها في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية ضمن مبادرة "حياة كريمة"، حيث تم العمل على دمج فصول محو الأمية. وساهم ذلك في فوز مصر بجائزة اليونسكو عام 2021 ضمن أفضل ست دول طبقت أفضل برامج لمحو الأمية. وأكد أن قضية محو الأمية من القضايا الهامة التي تسعى مصر للقضاء عليها من خلال زيادة قدرة الأفراد في المجتمع على القراءة والكتابة.

مقالات مشابهة

  • الصور الأولى للسفينة التي كانت متجهة إلى مصر وقصفتها روسيا
  • محافظ شمال سيناء يتناول الغداء مع الأسر الأكثر احتياجاً
  • حزب الاتحاد: الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان أحدثت تحولات في الملف الحقوقي
  • مستعد ليأكلك على الغداء.. تداول رد هاريس على ترامب عندما تحدث عن علاقته ببوتين
  • الاعلامى محمد فودة: تحولات جذرية تعيد رسم خريطة المنظومة الصحية بتوجيهات الرئيس السيسى
  • هاريس: بوتين يستطيع التهام ترامب على وجبة الغداء
  • "دبي للرطب"على مائدة نقاش "حمدان لإحياء التراث"
  • هاريس توجه رسالة عنيفة لـ ترامب في المناظرة: بوتين سيأكلك على الغداء
  • أوضاع مميتة في رومية.. سجناء سوريون بمعركة الأمعاء الخاوية
  • برلماني: طرح قضية محو الأمية على مائدة الحوار الوطني خطوة مهمة