الأسد يحول التوترات الإقليمية إلى مكاسب شخصية
تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT
أنقرة (زمان التركية) – في أغلى الأوقات، تصيب عبارة أنه لا فائز في الحرب، غير أن البعض قد ينجح في تحويل الأوضاع الكارثية لصالحها، ويمكن قول الشيء نفسه على الحكومة السورية التي حققت مكاسب سياسية، بإدارتها التوترات الإقليمية الناجمة عن الحرب على قطاع غزة بمهارة.
عززت سوريا علاقاتها الدبلوماسية الإقليمية مع الدول العربية من خلال الامتناع عن المشاركة في الأعمال العسكرية لـ “محور المقاومة” ضد إسرائيل.
وبطريقة مشابهة، يستخدم النظام التوترات المتصاعدة بين إسرائيل وحزب الله في أعقاب اغتيال القائد العسكري الأعلى لحزب الله، فؤاد شكر، لتعزيز موقعه الدولي، كما تستغل دمشق المخاوف المتزايدة من اندلاع صراع شامل لتعزيز العلاقات مع البعثات الدبلوماسية الأجنبية التي تستعد لإخلاء لبنان.
لطالما اعتبرت دمشق نفسها الركيزة الرئيسية لمحور المقاومة، لكنها تجنبت المشاركة النشطة في عملياتها العسكرية منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما كانت هناك زيادة كبيرة في الهجمات الإسرائيلية التي تستهدف جماعات محور المقاومة في المنطقة، وحتى عندما استخدمت إسرائيل سوريا كساحة معركة بالوكالة ضد تلك الجماعات.
ويتعارض نهج الأسد مع استراتيجية “وحدة الساحات” لمحور المقاومة، والتي يحكمها مبدأ “الكل للواحد والواحد للجميع” والتي تحتشد فيها الجماعات تحت سقف واحد لدعم بعضها البعض عندما تواجه تهديدًا لبقائها.
وتزداد المفارقة إثارة للاهتمام من حقيقة أن الأسد استفاد استفادة كاملة من حلفائه في محور المقاومة خلال الانتفاضة الشعبية ضد نظامه، وأن العديد من الجهات الفاعلة المهمة من لبنان والعراق وإيران قاتلت إلى جانبه حتى لا يسقط نظامه، ثم رفض دعمهم بعد دعمهم له.
عندما تم عكس الأدوار، ظل الأسد غير مبال ليس فقط في موقفه ضد الهجمات على حماس، ولكن أيضًا في الهجمات على حزب الله وإيران، حيث تعرضوا لهجمات مباشرة.
عصفوران بحجر واحدهناك عدد من العوامل التي تساهم في موقف الأسد غير التطفلي، فسوريا لا تزال مجزأة بسبب أكثر من عقد من الحرب الأهلية، مما أضعف إلى حد كبير القدرة العسكرية للنظام. واقتصاد البلاد مدمر وغير مستعد لتحمل تكلفة المزيد من التصعيد. ويشعر الأسد بالقلق من الانتقام المحتمل من قبل إسرائيل، التي أوضحت أن أي تدخل عسكري سيكون له عواقب وخيمة، كما أن استيائه من حماس لدعمها الانتفاضات المناهضة للنظام هو عامل في إحجامه عن الدفاع عنها.
من الناحية السياسية، يستخدم نظام الأسد استراتيجية سحب الاستثمارات هذه لتعزيز علاقاته النامية مع الدول العربية.
اتخذت الدول العربية نهج تهدئة التوترات لمنع اندلاع صراع إقليمي محتمل منذ بداية الحرب في غزة. و سعت الدول العربية منذ فترة طويلة إلى إبعاد سوريا عن مجال نفوذ إيران، بينما سعت دمشق إلى جعل سياستها الخارجية أقرب إلى سياستها من سياسة طهران.
وإدراكًا لهذه المواقف العامة، صاغ النظام استراتيجية الاغتراب الخاصة به بما يتماشى مع موقف الدول العربية، على الرغم من أنه تصرف بدافع البقاء على قيد الحياة. وتجدر الإشارة إلى أن جهود الرئيس السوري الأسد لها أهمية إضافية تتمثل في الابتعاد عن استراتيجية إيران الانتقامية التي تهدف إلى منع إسرائيل من تدمير حماس.
ولا تظهر فوائد نهج النظام المدروس فقط في تفاعلاته الدبلوماسية المتزايدة مع الدول العربية بعد عودته إلى عضوية جامعة الدول العربية، ولكن أيضًا في وجوده الدبلوماسي العربي المتزايد في دمشق منذ وقت سابق من هذا العام.
تعزيز النظام الروسي لموقفه الدوليومثلما أفادت الحرب في غزة النظام السوري في علاقاته مع الدول العربية، فإن الخوف المتزايد من الحرب بين إسرائيل وحزب الله في لبنان يتيح للنظام الفرصة لتعزيز علاقاته الدولية. وعلى الرغم من أن الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول أصبحت حدثًا يوميًا تقريبًا فإن خطر الحرب الشاملة قد ظهر في الأيام الأخيرة.
تصاعدت التوترات بعد أن اغتالت إسرائيل القائد العسكري الأعلى لحزب الله، فؤاد شكر، في جنوب لبنان، واغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، في طهران.
وأثارت التوقعات بأن ترد إيران وحزب الله بقوة وأن نية إسرائيل للرد مخاوف من أن الوضع قد يخرج عن السيطرة بسرعة. ونتيجة لهذا الوضع، تكثفت الاتصالات بين البعثات الدولية والسفارة السورية في بيروت من أجل تنسيق عمليات الإجلاء المحتملة.
الاتصالات التي بدأت بعد فترة طويلة من الصمت، تم تكثيفها ليس فقط من قبل سفارات الدول الصديقة تقليديا مثل بعض دول أمريكا اللاتينية في لبنان، ولكن أيضا من خلال المفاوضات مع سفارات الدول الغربية مثل النرويج وسويسرا وإيطاليا. واتخذت بعثات الأمم المتحدة في لبنان خطوات مماثلة وتخطط لعمليات إجلاء محتملة في حالة الحرب.
وقالت المصادر إن السفارة السورية في بيروت مستعدة أيضًا للتعاون بناءً على تعليمات من دمشق، غير أنه لم يتضح بعد ما الذي يطالب به الأسد، المعروف بمساءلته ومهارته في استخدام هذه التطورات بما يتماشى مع مصالحه الخاصة، في المقابل.
سياسة “الجميع فائز”غالبًا ما يُنظر إلى سوريا على أنها مكان غير مناسب لإجلاء الناس عند الحاجة، بسبب النزاعات المستمرة، والوضع الأمني الهش في المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام، ولكن في حالة نشوب حرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله، يمكن أن تصبح سوريا طريقاً محتملاً للهروب عبر لبنان، خاصة إذا كان من الضروري تنفيذ عمليات الإجلاء بسرعة عند ارتفاع الطلب على النقل الجوي والبحري داخل لبنان.
ويمكن أن تكون دمشق خيارًا بديلًا إذا استهدفت إسرائيل مطار بيروت الدولي أو الموانئ البحرية. ولا ينبغي تجاهل هذا السيناريو، خاصة وأن المطار كان مغلقًا لمدة شهر خلال الحرب بين إسرائيل وحزب الله عام 2006، لأنه في ظل هذه الظروف، ستصبح عمليات الإجلاء عبر سوريا عبر مطار دمشق الدولي أو مطار عمان الدولي ضرورة ملحة.
في مثل هذه الحالة، من المهم أن نفهم أن النظام السوري سيستفيد من الوضع، سواء تمت عمليات الإجلاء أم لا.
وعندما يوافق النظام على التعاون، يمكن أن يدعي أنه يتمتع بالتفوق الأخلاقي في مساعدة الآخرين، بما في ذلك أولئك الذين أخطأوا في الماضي. بالإضافة إلى ذلك، سيزيد التعاون تلقائيًا من اتصالاتهم بالبعثات التي لم يكن لديها سابقًا سبب للاتصال بالسفارة.
وقد تحتاج بعض البعثات الدبلوماسية أيضًا إلى اتخاذ ترتيبات داخل سوريا وهو ما قد يؤدي ذلك إلى المزيد من الزيارات إلى دمشق.
علاوة على ذلك، يُخشى أن تضغط دمشق على البعثات الدبلوماسية لاستئناف أنشطتها في سوريا، مستغلة عمليات الإجلاء المحتملة، أو لتوسيع أنشطتها بحجة أن مثل هذه الاستعدادات هي متطلبات لوجستية. حتى لو انتهى التوتر الحالي في لبنان بسلام، فلا شك أن العديد من البعثات تفضل إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع دمشق في حالة ظهور سيناريوهات مماثلة في المستقبل.
لا ينبغي تجاهل مكاسب النظام السوري من الحرب في غزة وآثارها البعيدة المدى. قد يمنحها تعزيز دمشق لمكانتها الإقليمية والدولية بعض المزايا السياسية، لكن هذه المكاسب لا تخفف من التحديات الاقتصادية التي يواجهها الأسد اليوم والتي تهدد بقاء نظامه على المدى الطويل.
ومن المهم مراقبة التداعيات المحتملة لمناورات الأسد عن كثب، حيث يبدو من غير المرجح أن يستمر الأسد في اللعب لجميع الأطراف، خاصة إذا استمرت التوترات في التصاعد.
Tags: اسرائيلالحرب الاسرائيلية على قطاع غزةبشار الأسدحزب الله اللبنانيلبنانالمصدر: جريدة زمان التركية
كلمات دلالية: اسرائيل الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة بشار الأسد حزب الله اللبناني لبنان بین إسرائیل وحزب الله مع الدول العربیة عملیات الإجلاء فی لبنان ولکن أیض
إقرأ أيضاً:
الفرقة الرابعة.. الإمبراطورية التي نهبت اقتصاد سوريا
دمشق "أ.ف.ب": من مقارّها في تلال وعرة مشرفة على دمشق، استنزفت الفرقة الرابعة، امبراطورية ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الاقتصاد السوري، فنهبت مقدراته واستنفدتها حتى آخر قطرة.
بعد إطاحة حكم الأسد، تعرض الكثير من مقار تلك الوحدة العسكرية السيئة السمعة التي أثارت الرعب في سوريا، للنهب. لكن مستندات متناثرة داخلها تروي تفاصيل عن حياة ترف وثروات تمتع بها "سيدي المعلم"، أي ماهر الأسد، مع المحظيين من معاونيه، فيما كان بعض جنوده يكافحون لتأمين قوت عائلاتهم الى حدّ التسوّل.
وتكشف مجموعة وثائق اطلعت عليها وكالة فرانس برس داخل عدد من هذه المواقع المهجورة الآن، النقاب عن امبراطورية اقتصادية واسعة بناها ماهر الأسد وشبكته من المنتفعين، لم تترك مجالا لم تتدخل فيه، من صنع الكبتاغون والاتجار به وصولا الى فرض أتاوات على المعابر الحدودية والحواجز.
ولطالما اتهمت حكومات غربية ماهر الأسد وأعوانه بتحويل سوريا إلى "دولة مخدرات" أغرقت الشرق الأوسط بأقراص الكبتاغون، وهي مادة منشطة غير قانونية كانت تهرّب خصوصا الى الخليج.
لكن بعيدا من التجارة التي تقدّر قيمتها بأكثر من 10 مليارات دولار، تُظهر المستندات التي تفحصتها فرانس برس كيف تغلغلت الفرقة الرابعة في الكثير من مفاصل البلد، ما جعلها أشبه بـ"مافيا" محظية داخل دولة مارقة.
استولت الفرقة الرابعة على منازل ومزارع، وصادرت بضائع شتى من مواد غذائية وسيارات وأجهزة إلكترونية لبيعها. ونهبت النحاس والمعادن من مناطق دمرتها سنوات الحرب الطويلة.
وفرضت كذلك أتاوات عند الحواجز ونقاط التفتيش، وجنت أموالا من مرافقة صهاريج نفط وحماية مسارها، حتى تلك الآتية من مناطق سيطر عليها الجهاديون. واحتكرت أيضا تجارة التبغ والمعادن.
أنفاق وخزنات
في صلب هذه الشبكة الفاسدة، تربّع المقر الخاص لماهر الأسد فوق متاهة أنفاق محفورة في قلب جبل يعلو دمشق، يتسع بعضها لمرور شاحنة.
وقاد حارس ملثم تابع للسلطة السورية الجديدة فريق وكالة فرانس برس عبر الأنفاق، كما لو أنه دليل سياحي مشيرا الى حمام هنا وغرفة نوم هناك، وما بدا أشبه بمسارات خروج في حالات الطوارئ.
بعد النزول عبر سلم شديد الانحدار مؤلف من 160 درجة، توجد غرف موصدة ببوابات مصفحة.
ويقول الحارس إنه أحصى تسع خزنات داخل إحدى الغرف.
ويوضح كيف أن الخزنات تعرضت "للكسر" والنهب على أيدي أشخاص اقتحموا المكان في الثامن من ديسمبر، بعد ساعات قليلة على إطاحة فصائل معارضة بقيادة هيئة تحرير الشام بحكم عائلة الأسد التي قادت سوريا بقبضة حديد لأكثر من خمسة عقود.
وبحسب مصدر عراقي رفيع المستوى ومصدرين سوريين آخرين، لم يعلم ماهر الأسد (58 عاما) حينها بعزم شقيقه الفرار إلى روسيا. وهرب بشكل منفصل في مروحية أقلته إلى العراق ومنها الى روسيا، عبر إيران على الأرجح.
في المجمع تحت الأرض، تبدو جلية الفوضى: خزنات مفتوحة وصناديق ساعات رولكس وكارتييه فارغة مرمية في كل ناحية. ولا يتضح ما إذا كانت الخزنات قد أُفرغت من الأموال قبل نهبها أم لا.
ويشير الحارس الى مكتب، يقول إنه "المكتب الأساسي" لماهر الأسد، مؤلف من "طابقين فوق الأرض وتحته أنفاق تضم (...) غرفا مغلقة لا يمكن فتحها".
إلى جانب خزنة مهجورة داخل ممر، يمكن رؤية جهاز تغليف حراري جرى استخدامه على الأرجح لتغليف الأوراق النقدية.
ثروات مخفية
في أحد المستندات التي تفنّد بالتفصيل النفقات كافة، وعثر عليه فريق فرانس برس بين مئات الأوراق المبعثرة داخل مكتب أمن تابع للفرقة الرابعة، يظهر أنه كان هناك حتى الرابع من يونيو سيولة نقدية قدرها ثمانون مليون دولار، وثمانية ملايين يورو، و41 مليار ليرة سورية.
وتوثّق مئات المستندات احتفاظ ماهر الأسد ومكتب الأمن بمبالغ شبيهة في الفترة الممتدة بين العامين 2021 و2024.
ويقول الباحث لدى معهد كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط خضر خضور لفرانس برس "هذا ليس إلا عينة صغيرة من الثروة التي جمعها ماهر وأعوانه عبر صفقاتهم التجارية المشبوهة".
ويقدّر أن تكون ثروتهم الحقيقية مخفية "في الخارج، على الأرجح في دول عربية وإفريقية".
ويضيف "كانت الفرقة الرابعة بمثابة آلة لطباعة المال" في سوريا حيث يعيش أكثر من تسعين في المئة من السكان، وفق الأمم المتحدة، بدولارَين أو أكثر بقليل في اليوم الواحد.
دولة داخل الدولة
لم تنجح العقوبات الغربية في كبح جماح ماهر الأسد ورجاله أو الحدّ من نفوذهم طيلة سنوات النزاع.
ويقول العميد السابق في الفرقة الرابعة عمر شعبان الذي عقد تسوية مع الإدارة السورية الجديدة "كانت الفرقة الرابعة دولة مستقلة، تمتلك (...) كل شيء".
وفي حين كان التعامل بالدولار الأميركي محظورا في سوريا، أصبح العديد "من ضباط الأمن أصحاب ثروات، لديهم خزنات وأموال (...) بالدولار حصرا"، على حد قوله.
وأقام أعوان ماهر المقربون في قصور فاخرة واعتادوا على شحن سيارات فارهة من الخارج، بينما كان البلد خارج أسوار قصورهم غارقا في دوامة من الفقر والبؤس والخوف.
بعد أسابيع من إطاحة حكم الأسد، كان سوريون ما زالوا يأتون الى فيلا ماهر الأسد المشيّدة على تلة في منطقة يعفور الراقية، ويفتشون في الغرف القريبة من اسطبلات اعتادت ابنته الفائزة بجوائز عدة، ركوب الخيل فيها.
داخل القصر المنهوب، سأل رجل بانفعال فريق فرانس برس وهو ينتقل من غرفة الى أخرى "أريد الذهب. أين الذهب؟".
لكنه لم يعثر إلا على صور قديمة مبعثرة على الأرض، إحداها لماهر وزوجته مع أولادهما الثلاثة.
الرجل الخفي
لطالما كان ماهر الأسد شخصية غامضة تثير الخوف في سوريا. ويُنظر إليه على أنه الرجل الذي تولّى تنفيذ "الأعمال القذرة للنظام".
ومع أن صوره غُلّقت داخل كل مقر للفرقة الرابعة، لكنه نادرا ما كان يظهر في الأماكن العامة.
ورغم اتهامه من منظمات حقوقية بإصدار أوامر لقتل متظاهرين عزل في سوريا منذ العام 2011، وربط اسمه باغتيالات، لكنه بقي بمثابة "الرجل الخفي"، وفق ما يقول مصدر مقرب من عائلة الأسد لفرانس برس.
ويوضح المصدر "ستجد قلة من الأشخاص يقولون إنهم يعرفونه" شخصيا.
في مقابلة مع قناة العربية السعودية مطلع فبراير، قالت مجد الجدعان، شقيقة زوجة ماهر الأسد والتي غادرت سوريا بعد خلافات معه عام 2008 وتقدّم نفسها على أنها معارضة لعائلة الأسد، إنه كان كريما وأحيانا ذا صحبة طيبة. لكن "حين يغضب، كان يفقد السيطرة بالكامل على تصرفاته واقواله، وهذا ما كان مرعبا في شخصيته".
وكانت الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد بمثابة القبضة الحديد للنظام وارتبط اسمها بسلسلة طويلة من الفظائع.
بعد اندلاع الحرب في سوريا، قالت جدعان في مقابلة مع تلفزيون فرنسي، "ماهر يعرف كيف يدمّر، يعرف كيف يقتل ثم يكذب ليظهر بريئا"، مشبهة قسوته بوالده الراحل حافظ الأسد.
سيارات فارهة
حين يعدّد سكان في دمشق بسخط انتهاكات الفرقة الرابعة، يتردّد اسم آخر إلى جانب اسم ماهر الأسد، هو غسان بلال، مدير مكتب الأمن في الفرقة الرابعة.
على غرار رئيسه، كان بلال مولعا بجمع السيارات الفارهة ويقيم في فيلا في يعفور. وتقول مصادر أمنية إنه غادر سوريا بعد سقوط الحكم.
داخل مكتبه الفسيح في المقر الرئيسي لمكتب الأمن، تكشف معاينة فاتورة تلو الأخرى تفاصيل أسلوب حياته الباذخ. وبين تلك الفواتير واحدة متعلقة بصيانة سيارة الكاديلاك خاصته.
في صيف 2024، شحن بلال إلى دبي سيارتَين من طراز ليكسس ومرسيدس، بحسب وثيقة اطلعت عليها فرانس برس. وتظهر فواتير تسديد مبلغ بقيمة 29 ألف دولار كبدل جمارك وتأمين في دولة الإمارات عبر بطاقة ائتمان مسجّلة باسم شخص آخر.
وتظهر ورقة مكتوبة بخط اليد أنه كان يسدّد، بسبب خضوعه لعقوبات غربية على خلفية اتهامه بانتهاكات لحقوق الانسان، بدل اشتراك بمنصة "نتفليكس" للأفلام "بواسطة أحد الأصدقاء عبر بطاقة ائتمان في الخارج".
وتتضمن قوائم أخرى نفقات، غالبيتها منزلية ولأولاده أو للمطبخ أو لشراء الوقود ومصاريف أملاك بينها الفيلا التي تعرضت لاحقا للنهب.
وبلغت قيمة تلك النفقات خلال عشرة أيام فقط من شهر أغسطس 55 ألف دولار.
في الشهر ذاته، كتب جندي من الفرقة الرابعة الى بلال متوسلا منحه "إعانة مالية (كونه) بوضع مادي سيء جدا".
وقد صرف له بلال 500 ألف ليرة سورية كإعانة، أي ما يعادل حينها 33 دولارا، فيما تظهر وثيقة أخرى ضبط أحد جنود الفرقة الرابعة يتسوّل في الشوارع أثناء دوامه.
رجال المال
وتمّ إحراق آلاف المستندات والملفات، على ما يبدو، لكن العديد من الوثائق السرية التي نجت تحمل في طياتها معلومات كثيرة.
من بين الأسماء البارزة المذكورة في بعض الوثائق والتي ساهم أصحابها في تمويل الفرقة الرابعة، تبرز أسماء رجال أعمال مدرجين على لوائح العقوبات، على غرار خالد قدور ورئيف القوتلي، والأخوين قاطرجي المتهمين بجني مئات الملايين من الدولارات لصالح الحرس الثوري الإيراني والحوثيين في اليمن، عبر بيع النفط الإيراني إلى سوريا والصين.
وبحسب مصادر أمنية ومن قطاع الأعمال، تولى القوتلي إدارة نقاط تفتيش ومعابر، حيث "فُرضت أتاوات" على بضائع أو جرت مصادرتها.
ونفى قدّور الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات لدعمه ماهر الأسد ماديا في تهريب الكبتاغون والسجائر والهواتف، أن يكون له أي تعامل مع ماهر الأسد حين سعى لأن تُرفع العقوبات الأوروبية عنه عام 2018.
لكنّ قائمة إيرادات المكتب الأمني لعام 2020، أظهرت أنه وفّر نحو 6,5 ملايين دولار في ذاك العام لصالح المكتب.
وتتضمن الوثيقة لائحة طويلة من المبالغ بالليرة السورية ومصادرها المتنوعة، وبينها الدخان الوطني، و"ترفيق"، أي حماية صهاريج النفط، وبيع المصادرات.
مافيا
ويشير خضر خضور إلى أن مكتب الأمن كان يتولى معظم المعاملات المالية للفرقة الرابعة ويصدر بطاقات أمنية للأشخاص الذين تعامل معهم لتسهيل تحركاتهم.
في 2021، قال أحد تجار المخدرات الذي يحمل جوازي سفر لبنانيا وسوريا، لمحققين لبنانيين إنه استحوذ على بطاقة أمنية من الفرقة الرابعة، وإن مكتب الأمن وافق على حماية شحنة مخدرات لتاجر آخر مقابل مليونَي دولار، بحسب إفادة اطلعت عليها فرانس برس في حينه.
وتؤكد مصادر أمنية عدّة لفرانس برس أن بلال كان الشخص الأساس في تجارة الكبتاغون لدى الفرقة الرابعة، واتهمته وزارة الخزانة الأميركية بالفعل بأنه من اللاعبين الرئيسيين في تلك التجارة.
وزارت فرانس برس مصنعا لإنتاج الكبتاغون داخل فيلا استولت عليها الفرقة الرابعة في بلدة الديماس بريف دمشق قرب الحدود مع لبنان. وكانت غرفها مليئة بصناديق وبراميل من مواد الكافيين والإيثانول والباراسيتامول المستخدمة في صنع المخدر.
ويقول سكان محليون إنه لم يُسمح لهم أن يقتربوا من الفيلا، وكان يُمنع حتى على الرعاة التواجد في التلال المحيطة.
ويقول ضابط سابق أمضى جزءا من خدمته في مكتب الأمن دون الكشف عن اسمه، إن المكتب كان يتمتع بـ"حصانة وكان ممنوعا على أي جهة أمنية التعرّض لأي عنصر إلّا بموافقة ماهر".
ويضيف "كانت مافيا، وكنت أعلم أنني أعمل لدى مافيا".
تركوا الشعب يجوع
وطارد جشع الفرقة الرابعة عائلات على مدى عقود، كما تُظهر رسالة كتبها عدنان الديب، وهو مشرف على مقبرة في مدينة حمص (وسط).
عند حاجز مهجور للفرقة الرابعة قرب دمشق، وبين مئات المستندات المتسخة والمرمية أرضا، عثر فريق فرانس برس على رسالة من ديب يطلب فيها من الفرقة الرابعة استعادة مزرعته.
ويروي الديب لفرانس برس كيف أن الفرقة الرابعة صادرت فيلا تملكها عائلته وقصورا أخرى مجاورة قبل عشرة أعوام في قرية كفرعايا قرب حمص.
ورغم عدم السماح له بالاقتراب من ممتلكاته، كان على الديب دفع الضرائب المتوجبة على العقار الذي حولته الفرقة الرابعة بحسب قوله، إلى مكاتب، بينها أحد فروع مكتب الأمن، ومستودعات للمواد المصادرة، وغرفة أشبه بسجن.
خلال جولة في العقارات المصادرة، يقول أحد السكان لفرانس برس "مكتب أمن الرابعة هنا كان خطا أحمر لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه".
ويروي كيف وجد بعد فرار العناصر كمية هائلة من البضائع المصادرة وبينها سيارات ودراجات نارية ومئات غالونات زيت القلي.
ويضيف "تركوا الشعب يجوع فيما كان كل شيء متاحا لهم هنا".
وتُظهر وثيقة من أحد العقارات المصادرة، أن مواطنة بلغ عدد أفراد عائلتها 25 شخصا، كان قسم منهم يقيم في خيمة وآخرون في "قنن للدواجن"، طلبت أكثر من مرة أن يخلي عناصر من الفرقة الرابعة منزلها لتقيم فيه مع عائلتها.
حصة الأسد لبشار
لم تسيطر الفرقة الرابعة على أي قطاع في الاقتصاد السوري بقدر سيطرتها على سوق المعادن.
ويقول العميد الشعبان "كان ممنوعا أن يحرّك أحد الحديد من دون موافقة الرابعة"، مضيفا أن التعامل بالنحاس مثلا كان حقا "حصريا" لها.
ويروي الضابط في مكتب الأمن الذي رفض الكشف عن اسمه، كيف توافد عناصر من الفرقة إلى احدى ضواحي دمشق بمجرد سيطرة القوات الحكومية عليها حينها، وبدأوا يسحبون أسلاك النحاس والحديد من المنازل المدمرة.
ويقول رئيس غرفة الصناعة السابق فارس الشهابي إن أحد مصانع المعادن الذي كان يديره أحد شركاء ماهر الأسد، كان يحتكر السوق، وأُجبر الجميع على الشراء منه حصرا.
و"لم يعد بإمكان" العديد من المعامل العمل جراء هذا الضغط، وفق الشهابي.
ويوضح أن ماهر الأسد و"أصدقاءه" كانوا يسيطرون على حصة كبيرة من الاقتصاد السوري، لكن المستفيد الأكبر كان بشار الأسد.
ويقول الشهابي "كانت شركة واحدة... والقصر الرئاسي كان دائما المرجع".
ويؤكد الضابط السابق في مكتب الأمن أن حصة من الأرباح والمضبوطات كانت تذهب دائما الى القصر الرئاسي.
إرث سام
ورغم أنه لم يتبق من الفرقة الرابعة اليوم إلا مستودعات مهجورة ومقرات منهوبة، يحذر الخبير في الشأن السوري لارس هاوخ من مؤسسة "كونفلكت ميدييشن سولوشنز"، من أن إرثها قد يكون ساما جدا.
ويقول "كانت الفرقة الرابعة لاعبا عسكريا، وجهازا أمنيا، وكيانا استخباراتيا، وقوة اقتصادية وسياسية، ومؤسسة إجرامية عابرة للحدود".
ويضيف "مؤسسة ذات تاريخ يمتد لعقود، وقدرات مالية هائلة، وعلاقات وثيقة مع النخب، لا يمكن ان تختفي ببساطة".
وينبه الى أنه "فيما فرّت القيادة العليا من البلد"، فقد تراجعت "نواتها الصلبة"، ومعظمهم من الموالين للحكم السابق، إلى المناطق الساحلية ذات الغالبية العلوية، الطائفة التي تنتمي إليها عائلة الأسد.
وسعت السلطات الجديدة منذ وصولها الى دمشق مرارا لطمأنة الأقليات بأنهم لن يتعرضوا لأي أذى، لكن أعمال عنف طالت العلويين في مناطق مختلفة، خصوصا في وسط البلاد وغربها.
ولا يستبعد هاوخ وجود أسلحة مخبأة في مخازن، تضاف اليها "مليارات الدولارات" التي كانت موضّبة في خزنات الفرقة الرابعة.
وينبّه من أن "كل ما يلزم لتمرد طويل الأمد متوافر... إذا فشلت عملية الانتقال في سوريا في أن تكون شاملة بالفعل وتحقق العدالة الانتقالية".