أثار تعهد حكومة رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي بإرسال قوات عسكرية إلى الصومال ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي مطلع العام المقبل، التساؤلات حول ما قد يتبع الموقف المصري من تشابكات دولية وإقليمية خاصة مع إثيوبيا والإمارات، صاحبتي الأدوار المثيرة للجدل في إقليم "أرض الصومال" غير المعترف به دوليا، والمنفصل عن حكومة مقديشو.



ومنتصف الشهر الجاري، أعلن الاتحاد الأفريقي أن مصر ستساهم للمرة الأولى بقوات عسكرية في بعثة الاتحاد لدعم وتحقيق الاستقرار في الصومال "أوصوم"، في كانون الثاني/ يناير المقبل، لتحل محل بعثة الاتحاد المكونة من بوروندي وجيبوتي وإثيوبيا وكينيا وأوغندا، والتي تنتهي مهمتها في نهاية العام الجاري.

"أجواء القرار المصري"
وشهدت علاقة القاهرة ومقديشو مؤخرا تطورا لافتا، جاء على وقع اتفاق وقعته إثيوبيا -الدولة الحبيسة- مع أرض الصومال "صومالي لاند" لاستخدام ميناء "بربرة" كمنفذ على البحر الأحمر وكقاعدة عسكرية بحرية، في كانون الثاني/ يناير الماضي، وهو ما رفضته مصر بشدة، فيما دعا السيسي الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود لزيارة القاهرة.


والتقى شيخ محمود، السيسي في القاهرة، في 20 كانون الثاني/ يناير الماضي، وفي 14 آب/ أغسطس الجاري، حيث جرى مؤخرا توقيع العديد من الاتفاقيات منها فتح المقر الجديد لسفارة القاهرة في مقديشو، وإطلاق خط طيران مباشر بينهما، فيما كان أهمها توقيع بروتوكول للتعاون العسكري.

كما أن القاهرة وأنقرة اللتين تستعيدان مؤخرا دفء علاقاتهما التي ظلت لنحو عقد في توتر شديد، بدت متوافقة مع مقديشو، بل إنه في 20 شباط/ فبراير الماضي، وقعت تركيا والصومال اتفاقا دفاعيا مدة عقد كامل يسمح للجيش التركي بحماية سواحل الصومال، مقابل استغلال 30 بالمئة من ثروات الساحل الصومالي الأطول في القارة الأفريقية.

الحكومة المصرية التي استعادت علاقاتها مع تركيا لم تبد أي تعليق على الاتفاق التركي الصومالي الذي يبدو متوافقا من حيث الشكل مع التوجهات المصرية بمنع وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر عبر أرض الصومال، وفق وصف وكالة "أسوشييتد برس".

كما أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، وخلال زيارته إلى القاهرة ولقائه وزير الخارجية الجديد بدر عبدالعاطي، مطلع آب/ أغسطس الجاري، أكد التزام مصر وتركيا بوحدة أراضي الصومال.

"ماذا عن إثيوبيا والإمارات؟"
ذلك التطور في الموقف المصري يدعو للتساؤل حول ما إذا كانت مساهمة القاهرة خطوة لاستعادة دورها الأفريقي والعربي في بلد عربي شقيق، أم إنها في إطار الصراع المصري الإثيوبي القائم منذ عقد حول ملف مياه النيل.

وأيضا يثار التساؤل بشأن ما إذا كان القرار المصري يزعج حليفتها الإمارات التي تقدم الدعم لإقليم "أرض الصومال"، خاصة أن تحالف أبوظبي والقاهرة السياسي والاقتصادي وحتى العسكري قائم في كثير من الملفات الإقليمية، ويظل دون صدام في الملفات الخلافية مثل الحرب في السودان.

كما أن توافق مصر وتركيا في الملف الصومالي يدعو إلى التساؤل: هل يصنع ذلك أزمة بين القاهرة وأبوظبي، التي تمتلك العديد من المصالح في إقليم "أرض الصومال"؟

"لمصلحة النظام لا الوطن"
وفي إجابته على التساؤلات السابقة، قال مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير عبدالله الأشعل، لـ"عربي21": "لا توجد رؤية لدى مصر الحالية في السيادة والسياسة الخارجية، والمصالح جميعها تخضع لمصالح النظام وليست لمصالح مصر".

وأضاف: "وبالتالي فإن دخولنا للصومال ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي قد يكون له هدف شخصي، وأنفي تماما أن تكون هناك قرارات مصرية مدفوعة بدوافع وطنية تماما".

الدبلوماسي المصري السابق أشار إلى احتمال أن "تقع البعثة العسكرية المصرية فريسة لحركة (الشباب) الصومالية، وبالتالي يكون السيسي بطلا كونه يطارد الجماعات الإسلامية في أي مكان، وبالطبع هذا لحساب إسرائيل"، وفق رؤيته.

وأكد أن "إرسال قوات عسكرية مصرية للصومال ليس هدفه أبدا استعادة دور القاهرة الأفريقي والعربي المفقود، لأنه لا توجد رؤية عامة وطنية"، متوقعا أن "تتوافق إثيوبيا مع حركة الشباب الصومالية وتشترك في إفناء القوة المصرية".

وحول ما قد يصيب العلاقات المصرية الإماراتية من تأزم في حال تنفيذ القاهرة اتفاقها مع الصومال والاتحاد الأفريقي، قال الأشعل إن "مصر تسير على خط ضد الإمارات في بعض المواقف، كما أن تحالف القاهرة وأبوظبي أساسه مائع، والهدف منه الحصول شخصيا على أموال الإمارات، والقسمة معها في ما تحصل عليه شركاتها من أراض ومشروعات مصرية".

وختم حديثه بالقول: "نحن في عصر المصالح الشخصية للنظام الحاكم لا المصالح الوطنية".


"علاقات على المحك"
وفي تعليقه على الموقف المصري قال الكاتب الصحفي والإعلامي السوداني الدكتور عبدالمطلب مكي لـ"عربي21": "يمكن النظر إلى المسألة من جانبين، الأول: دبلوماسي روتيني وهو في إطار واجبات الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي، لأن القوة المصرية المذكورة ستشارك ضمن بعثة الاتحاد، وليست قوات مصرية منفردة وذات نزعة تدخلية في سياسات دولة عضو في الاتحاد الأفريقي".

الأكاديمي السوداني، أضاف: "أيضا يمكن النظر إلى القرار من جانب سياسي، حيث إنه يثير تساؤلات وصراعات ونزاعات وربما مكايدات أيضا في ظل التوتر الكبير في القرن الأفريقي، وهو ملف له تبعات متعلقة بأمن مياه البحر الأحمر وأمن القرن الأفريقي والأطماع الدولية في الإقليم".

ويرى أنه "أيا كان التفسير فسيبقى الوجود المصري في هذه القوة ضرورة ملحة؛ فغياب مصر عن منصة الاتحاد الأفريقي وقراراته المؤثرة على الإقليم ستفتح المجال بلا شك لتدخلات خارجية قد تكون ذات أبعاد مؤثرة على مستقبل الدبلوماسية المصرية في المنطقة".

وقال: "تمثل هذه المشاركة عودة للنفوذ المصري من باب مشروع وضروري ومؤثر، وقطعا هو أفضل من التدخلات التي تفرضها بعض القوى أيا كان مصدرها وأهدافها، كما هو الحال في مليشيات الدعم السريع في السودان".

وأكد أن "هذا الأمر سيطرح تساؤلات كبيرة على الدبلوماسية المصرية في ما يتعلق في الوضع في السودان، لأن طبيعة العلاقات المصرية السودانية وخطورة سيولة الأوضاع في السودان على مصر تحتم على القاهرة تدخلا فاعلا أسوة بدول الوساطة الأخرى مثل السعودية والإمارات وأمريكا".

وفي نهاية حديثه استدرك قائلا: "لكن لا شك أن التحركات الدبلوماسية الأخيرة في الملف السوداني عقب انهيار مباحثات جنيف، وزيارة مدير المخابرات المصرية في السودان، يضاف إلى ذلك مشاركة القوة المصرية بالصومال ودعمها لتوجهات الاتحاد الأفريقي كل ذلك سيضع العلاقات المصرية الإماراتية أمام المحك".

"توجه مصري"
من جانبه قال الأكاديمي المصري والخبير في الشأن الأفريقي الدكتور خيري عمر إن "هناك توجها مصريا منذ عام 2018 نحو أفريقيا باتخاذ سياسة مزدوجة تجمع بين العلاقات العادية مع الحكومات وتطوير العلاقات الثقافية وللأزهر واتحاد الجامعات الأفريقية وشيخ الأزهر أحمد الطيب، دور فيها".

عمر، وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "وتحت هذه النقطة تتم مراجعة كل العلاقات مع الدول الأفريقية، ومنها الصومال، سواء لحالات الضرورة أو لحالات التصحيح القائمة، ووفق حالة الضرورة فهناك احتياج متبادل لمصر والصومال، يقوم على الدفاع عن مصالح كل دولة، ومن هناك جاء الاتفاق الدفاعي والتجاري".

وأكد أنه "عندما نتكلم عن اتفاق دفاعي بنقل قوات لحفظ السلام من مصر في الصومال فقد يكون للأمر صيغتان، الأولى: أن يكون وفق اتفاقية ثنائية مثلما فعلت تركيا، والصيغة الثانية: أن تكون ضمن قوات سلام الاتحاد الأفريقي، فيما كانت آخر مشاركة لمصر في دارفور".

وأوضح أن "الصيغتين تمنحان الحضور المصري في الصومال، الإطار القانوني لتحرك القوات"، نافيا أن يكون الإطار الثاني من خلفه عائد مادي من الاتحاد الأفريقي، قائلا إن "الاتحاد ليس لديه أموال ولا يدفع".

ويعتقد أن "فتح سفارة القاهرة في مقديشو بعد ما كان سفير مصر في كينيا يدير مصالح مصر والمصريين بالصومال أمر جيد قد يتبعه استعادة الأملاك المصرية الموجودة في الصومال".

وعن دفع إثيوبيا جنوب السودان للتوقيع على "اتفاقية عنتيبي"، التي ترفض مصر التوقيع عليها، وأن ذلك الموقف جاء نكاية في دعم مصر للصومال، قال إن "عنتيبي، لا قيمة لها، من ناحية أن هناك مياها وفيرة جدا في منطقة البحيرات بجنوب السودان و80 بالمئة منها يذهب في البحر"، مؤكدا أن "الخطر في عنتيبي إذا ضمت النيل الأزرق".

وعن زيادة الملفات الخلافية بين مصر والإمارات ملفا جديدا إلى جانب ملف السودان، يرى أن "الأمر ليس مهما بالقدر المتوقع، لأن أبوظبي في مشاكل مع دول عديدة بينها السعودية وأمريكا، وتنفق الكثير من الأموال في صراعات دون عائد سياسي واضح".

وخلص إلى القول إن "ما بين القاهرة وأبوظبي لن يرقى لأن يكون عداء، ولكنه في إطار تنافسي، وإذا كان هذا ملفا خلافيا جديدا فإنهما يقومان بإدارة هذه الخلافات بشكل جيد"، مؤكدا أن "التمييز بين مسارات السياسة الخارجية وقضية الصراع أو الخلاف أمر مهم".

"تشابكات خارج الحدود"
وفي تحليله، قال الباحث المصري في الشؤون السياسية والاستراتيجية والعلاقات الدولية، أحمد مولانا، إن "الجهود المصرية الأخيرة والاتفاقيات الناتجة عنها، التي تشير إلى أن القاهرة تعمل على تشكيل محور يضم الصومال وأريتريا وجيبوتي بمواجهة الطموحات الإثيوبية، قابلتها أديس أبابا بتحركات مضادة".

الباحث في مجال الدراسات الأمنية، أوضح في حديثه لـ"عربي21" أن "نفوذ إثيوبيا بالقرن الأفريقي أثبت أنه قادر على تحدي الخطوات المصرية"، لافتا إلى "توقيع جنوب السودان رسميا على (اتفاقية عنتيبي)"، معتبرا أنها "ضربة للجهود المصرية الساعية لاستعادة التوازن مع أديس أبابا بملف مياه النيل".

لكن مولانا، يرى أن "إرسال القاهرة قوات عسكرية للصومال يمثل تغييرا بنهجها الحذر من التورط في صراعات خارج حدودها"، وألمح إلى أن هذا التغيير "يبين حجم الرغبة المصرية في التصدي للتمدد الإثيوبي، وتعنتها في ملء بحيرة سد النهضة دون اتفاق مع دولتي المصب مصر والسودان".


كما أنه ألمح إلى جانب هام، موضحا أن حكومة القاهرة لن تتحمل أية تكلفة مالية بل إنها قد تجني بعض الأموال، إذ قال إن "القاهرة لا تريد أن تتحمل الأعباء الاقتصادية لنشر قواتها، إنما ستحصل على مقابل مالي من ميزانية بعثة الاتحاد الأفريقي".

ولفت إلى أن "القاهرة تدخل المعترك الصومالي بعد غياب لنحو 20 عاما، والذي منح دولا كإثيوبيا وكينيا وتركيا والإمارات وقطر الحضور القوي هناك"، مبينا أن "القاهرة وأنقرة بينهما تقارب لافت في الملف الصومالي".

وحول موقف الإمارات توقع مولانا أن "يتسبب الحضور العسكري المصري في الصومال في صناعة قضية خلافية جديدة بين القاهرة وأبوظبي، بالإضافة إلى ملف الحرب في السودان، حيث تدعم مصر الجيش السوداني، بينما تدعم الإمارات مليشيات الدعم السريع".

لكن الباحث المصري في نهاية حديثه قلل من احتمالات زيادة الخلاف المصري الإماراتي بسبب الصومال، مؤكدا أن "الصدام بينهما مستبعد بفعل المصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية، المشتركة".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات سياسة دولية المصري الصومال الإمارات مصر الصومال الإمارات أثيوبيا المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاتحاد الأفریقی القاهرة وأبوظبی بعثة الاتحاد قوات عسکریة أرض الصومال فی الصومال فی السودان المصریة فی المصری فی کما أن

إقرأ أيضاً:

على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (12 – 20)

لن يستطيعَ أحدٌ أنْ يركبَ على ظهرِك، ما لمْ تَكُنْ منحنياً”

مارتن لوثر كينج

النور حمد

وجدت مصر ضالتها في البرهان

منذ الغزو المصري الخديوي للسودان في الربع الأول من القرن التاسع عشر، لم تجد مصر حاكمًا سودانيًا أتاح لها نهب موارد السودان كما فعل الفريق عبد الفتاح البرهان. وسنأتي لاحقًا إلى ذكر ذلك بشيء من التفصيل. وعمومًا، إن نهب موارد السودان ظل منذ العصور الغابرة هو الهم الأكبر المسيطر على العقلية المصرية. وقد سبق أن ذكرت كيف أن للجغرافيا وفقر مصر من الموارد دورٌ في هذا الهوس المصري بالسودان وبموارده؛ من أراضٍ خصبةٍ شاسعةٍ، ومن مواردَ طبيعيةٍ ثرةٍ؛ نباتيةٍ وحيوانيةٍ ومعدنية. يُضاف إلى ما تقدَّم، أن السودان يمثل خطرًا على حصة مصر من مياه النيل، الأمر الذي يفرض على مصر التحكُّم في نموِّه بمختلف الطرق. وكما سلف القول، فإن الفريق البرهان منذ أن اعتلى قمة السلطة، رئيسًا لمجلس السيادة للفترة الانتقالية، كانت خطته ألا تكمل الفترة الانتفالية مدتها. وألا تجري انتخابات تقود إلى أن يتولى المدنيون زمام الحكم، وفقًا لنهج التبادل الديمقراطي السلمي للسلطة. وبالفعل، أطاح الفريق البرهان بالوثيقة الدستورية وبحكومة الفترة الانتقالية، بالانقلاب الذي نفذه في 25 أكتوبر 2021، التي ترأس وزارتها الدكتور عبد الله حمدوك. وقد انقلب الفريق البرهان على حكومة حمدوك، بعد أن وضع في سبيلها كل العراقيل الممكنة، كما سبق أن ذكرنا. خطة البرهان، وقد أثبتتها الأحداث التي ظلت تجري منذ وصوله إلى قمة هرم السلطة وإلى اليوم، هي أن يحكم منفردا. وهذا يجعله في مواجهة قوتين هما: قوى الثورة، من جهة، والإسلامويون من الجهة الأخرى.

للنجاح في هذه اللعبة الخطرة المركبة، اهتم الفريق البرهان، أولاً، بالحرب على قوى الثورة. وأصبح عليه أن يلعب على التناقض بين حليفيه المتمثلين في الإسلامويين، والنظام. فمن جهةٍ، وافق فتون البرهان وجنونه بالسلطة ما يريده النظام المصري وهو وجود جنرال على قمة السلطة في السودان يكون خاضعًا بالمطلق لإرادة المصرية. ومن الجهة الأخرى يحتاج البرهان العون الدبلوماسي والعسكري المصري، لكي يبقى في السلطة. ولكي يجد العون الدبلوماسي والعسكري المصري عليه أن يقدم شيئًا في مقابل ذلك، وهو فتح الباب على مصراعيه للنظام المصري، ولمجموعات المصالح الخاصة المصرية الملتفة حول النظام المصري، لنهب موارد السودان؛ بلا قيد أو شرط، وبأقل الأسعار، بل وبلا مقابل أحيانا. وكذلك، الخضوع الكامل لمصر فيما يتعلق برؤيتها حول مياه النيل. وأيضًا، أن يصبح مخلب قطٍّ لمصر في تسبيب القلاقل والمتاعب لإثيوبيا، ولغيرها من دول حوض النيل. وقد قام البرهان بكل أولئك كما أُرادت منه مصر، منذ أن أصبح رئيسًا لمجلس السيادة.

في فترة سيطرة البرهان على السلطة في السودان، ظلَّت مصر تشتري مختلف موارد السودان بالعملة السودانية المحلية. ولم نعرف أبدًا أن دولةً ما في العالم رضيت أن تبيع لدولةٍ أخرى مواردها بالعملة المحلية للبلد البائع. بل تردَّد كثيرًا أن العملة التي يشتري بها المصريون الموارد السودانية عملةٌ مزيفةٌ تجري طباعتها في القاهرة. وقد وردت في شهادات سودانيين مقيمين في القاهرة أن هناك من عرض عليهم حزمًا كبيرةً من الأوراقٍ النقدية السودانية، نظير مبالغ زهيدةٍ للغاية بالجنيه المصري. خلاصة القول، إن شراء موارد السودان بعملته المحلية، المُبرِّئة للذمة والمزيَّفة، يعني أن موارد السودان تذهب إلى مصر مجانا. أما فيما يخص ملف مياه النيل وتسبيب القلاقل لإثيوبيا فقد اصطف البرهان وراء مصر اصطفافًا كاملاً، بل ومنح مصر قاعدةً مروي الجوية في شمال السودان لتصبح منصةً عسكرية متقدمةً لتهديد الجارة إثيوبيا.

يعرف البرهان أن نظام السيسي قد سحق حركة الإخوان المسلمين في مصر، ونكَّل بهم شر تنكيل. وهو يعرف أن نظام السيسي يقف ضد الإخوان المسلمين حيثما كانوا، ولكنه استثنى إخوان السودان لخدمة هدف تكتيكي مرحلي، هو مساعدة الفريق البرهان للبقاء في السلطة حتى تثبت فيها قدماه، ثم يجري التخلص منهم عقب ذلك. أيضًا، يعرف الفريق البرهان أن مصر تعرف أنه عمل ضابطًا في الجيش السوداني في خدمة الحركة الإسلامية السودانية، وذراعهاالمؤتمر الوطني لعقود طويلة. ولذلك، لكي يجعل الفريق البرهان نظام السيسي ينخرط في دعمه سياسيًّا وعسكريًا بالطريقة التي ظهرت في هذه الحرب، لابد أن يكون الفريق البرهان قد قدَّم للنظام المصري، في لقاءاته العديدة بالفريق عبد الفتاح السيسي وجهاز مخابراته، تطميناتٍ فيما يخص حلفه مع الإسلامويين. وغالبًا ما تكون هذه التطمينات أنَّ حلفه مع الإسلامويين حلفٌ تكتيكيٌّ قصيرٌ الأمد، من أجل خدمة مرحلةٍ بعينها. فحزب المؤتمر الوطني وما تسمى الحركة الإسلامية السودانية يتشاركان مع الفريق البرهان الحرص على هزيمة الثورة. لكنهما يختلفان معه في أنهما يريدان العودة إلى الحكم من جديد. ولذلك، هم يتعاملون مع الفريق البرهان بحذر وشكٍّ كبيرين لمعرفتهم برغبته في الحكم منفردًا وبعلاقته الوطيدة بمصر. وقد بان في مراتٍ عديدةٍ أن الفريق البرهان والإسلامويين يتربصان ببعضهما. فلكل واحدٍ منهما خطته الجاهزة للانقضاض على الآخر، عندما تصل الأمور نقطة مفترق الطرق.

أيضًا، ربما توصل النظام المصري عبر اختراقه للنخب العسكرية والأمنية والسياسية التي عملت مع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير إلى قناعةٍ مفادها أن قادة ما تسمى “الحركة الإسلامية في السودان”، ليسوا قادةً مبدئيين بقدر ما هم حارسين لمصالح تخصهم. أي، أنهم ليسوا سوى مجموعة من الأوليغارك الغارقين في حب المال والسلطة حتى أذنيهم. وأنهم في حقيقة أمرهم براغماتيون، وليسوا مبدئيين. وأن ذلك يجعل اصطحابهم في خدمة مرحلة بعينها ثم رميهم جانبًا أو تطويعهم بصورةٍ دائمةٍ خيارًا ممكنا. لكن، في تقديري، أن هذا التصور، إن وُجد، فإنه تصورٌ خاطئ. فما تسمى الحركة الإسلامية في السودان ليست بمفردها وإنما مرتبطة بمنظومة إقليمية معقدة متضاربة الأجندة تشكل تركيا وإيران وقطر. ولذلك بقيت ما تسمى الحركة الإسلامية السودانية، تلعب على عدة حبالٍ. وقد عرفت عبر ما يزيد على الخمسة والثلاثين عامًا من التجربة، كيف تتلون وتخدع، وتنافق، وتلعب على عنصر الوقت وعلى متغيرات الأحداث وعلى تضارب أجندة دول الإقليم.

العلاقة الملتبسة بين البرهان والإسلامويين

من الشواهد على العلاقة الملتبسة بين الفريق البرهان ومجموعة الإسلامويين، ما نراه بين فترةٍ وأخرى من انتقال الأبواق الإعلامية الناطقة باسم الإسلامويين في السودان، بين الإسراف في تمجيد الفريق البرهان ووضعه في مكانة البطل القومي، وبين تحولها، في أحيانٍ أخرى، إلى الهجوم عليه، بل، ومُلصقةً به أسوأ التهم. فقد قال إمام مسجد جبرة في الخرطوم، المتطرف، عبد الحي يوسف، المقيم حاليًّا في تركيا: إن الإسلاميين لا يثقون في البرهان، وأن الفضل في الانتصارات الأخيرة للجيش، حسب زعمه، يعود إلى الإسلاميين وليس إلى الجيش. وأضاف واصفًا البرهان بأنه شخصٌ: “ليس له دين ويحمل النصيب الأوفر في التسبب في هذه الأزمة. فتقوية قوات الدعم السريع عدةً وعتادًا كانت تحت سمعه وبصره”. وأضاف أيضًا: أن “البرهان أعجز من أن يقضي على الإسلاميين، فهم موجودون حتي في مكتبه”. وينطوي هذا على أن لدى “الإسلاميين” شعورًا قويٍا وربما شواهد على أن البرهان يتربص بهم. وقد حذر عبد الحي يوسف الإسلامويين قائلاً إن البرهان في آخر زيارة له إلى أميركا قبل شهرين من حديثه هذا، التقى مسؤولين أميركيين ولم يصدر بيانٌ عن تفاصيل الاجتماع. وتنطوي هذه على تهمة للبرهان بأنه ربما يخطط مع الأمريكيين للغدر بهم. وعزا عبد الحي يوسف الانتصارات التي تحققت أخيرًا إلى المقاومة الشعبية وليس إلى الجيش، قائلاً: “إن الله ساق هذه الحرب من أجل أن يُعيد للحركة الإسلامية ألقها وقوتها”. (راجع: صحيفة سودان تربيون، على الرابط: https://shorturl.at/Em5aa).

لم يقتصر الهجوم على الفريق عبد الفتاح البرهان على إمام مسجد جبرة، عبد الحي يوسف، وحده، وإنما شارك في الهجوم عليه، أيضًا، بل والسخرية منه، في بضع مراتٍ، كلٌّ من الإعلامي، الطاهر حسن التوم، ومهرِّج “السوشال ميديا” الملقب بـ “الانصرافي”. بل وتشير بعض حوادث المسيَّرات التي أسقطت قذائفها على بعض اللقاءات الجماهيرية التي حضرها الفريق البرهان، إلى أنها قد كانت رسائل تحذيرية له من دهاقنة ما تسمى “الحركة الإسلامية”، عبر جناحها الداعشي المتطرف المسمى “كتائب البراء”. وغرض تلك الرسائل التحذيرية هو ألا يجنح البرهان قط إلى أي حلٍّ تفاوضيٍّ لإيقاف الحرب، يمكن أن يقصي الحركة الإسلامية وحزبها المؤتمر الوطني من المشاركة في الحكم، وهو المطلب الرئيس لثوار ثورة ديسمبر. أو، أن يكتفي بمنحها دورًا هامشيًا في المرحلة المقبلة بناءً على ما يتوصل إليه التفاوض. فإرسال المُسيَّرات وإلقاءها قنابلها على اللقاءات الجماهيرية التي يحضرها البرهان تعني أن الحركة الإسلامية تستطيع أن تصل بهذه المُسيَّرات إلى عقر دار الفريق البرهان. فالحركة الإسلامية لا تريد حلاً تفاوضيًا تفرضه القوى الدولية أو الإقليمية. فهي أصلاً لم تشعل الحرب إلا لكي تقضي نهائيًا على قوات الدعم السريع، وهو السبيل الوحيد في نظرها الذي يمكنها من العودة إلى السلطة بمفردها. ولتتفرغ، من ثم لذبح الثوار المدنيين المطالبين بالتحول الديمقراطي. وهو، كما ذكرنا، السبب الرئيس الذي جعلها تقود الأمور عبر الفترة الانتقالية لتصل إلى نقطة إشعال الحرب الشاملة الجارية حاليا.

في 8 فبراير 2025 تحدث الفريق البرهان من عاصمة حكمه البديلة بورتسودان داعيًا المؤتمر الوطني المحلول للابتعاد عن المزايدات السياسية، مخاطبًا لهم بقوله: أنه لا فرصة لهم في الحكم، مرةً ثانية، على أشلاء السودانيين في هذه المرحلة، وإلا فلن يكون هناك فرق بينهم وبين تنسيقية “قحت”، أو “تقدم”، حسب قول البرهان. وقال إذا أراد المؤتمر الوطني أن يحكم، عليه أن يتنافس في المستقبل مع بقية القوى السياسية. فانبرى في الرد عليه وبسرعة حزب المؤتمر الوطني ببياناتٍ مقتضبةٍ جنحت إلى اللوم والعتاب. أما إعلاميو الإسلامويين والمؤتمر الوطني فقد انتقدوا ما ورد في الخطاب بلهجة بالغة الحدة. وأما قائد ميليشيا لواء البراء الذي يمثل الذراع العسكري المتطرف في المؤتمر الوطني فقد قال: لا ننتظر شكرًا أو تقييمًا من أي شخص، ونرجو من الله أن يتقبل الجهد والجهاد، وسنظل ندافع عن كل شبر في الوطن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الفريق البرهان كان قد زار قائد لواء البراء المصباح أبوزيد طلحة، عقب هروبه مباشرة من مباني القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم التي كان محاصرًا فيها لأربعة أشهر عقب اندلاع الحرب. الشاهد، فيما يتعلق بمناقضة البرهان المتكررة لنفسه أنه رجع بعد يومين من خطابه الذي حذر فيه الإسلامويين وحزبهم المؤتمر الوطني بألا يفكروا في العودة إلى السلطة ليقول: الذين حاربوا إلى جانبنا سيكون لهم مكانٌ في السلطة. ومعلومٌ أن الذين حاربوا إلى جانبه هم الإسلامويون وكتائبهم الجهادية المتطرفة.

انكشاف خضوع البرهان للمتطرفين

تناقلت عديد المواقع الإلكترونية تسريباتٍ نشرتها كاتبة العمود بصحيفة الجريدة، صباح محمد الحسن، ذكرت فيها أن إجتماعًا عاصفًا جمع الأمين العام لما تسمى “الحركة الإسلامية”، علي كرتي، وقائد الجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان. تقول التسريبات أن علي كرتي هدد الفريق البرهان في ذلك الاجتماع بأنه، في حال انصياع الفريق البرهان للضغوط الدولية والإقليمية، سوف يكشف عن الكثير من الوثائق السرية المفصلية المتعلقة بالحرب الحالية وبإنقلاب أكتوبر 2021، وبعملية فض الإعتصام. وذكرت الصحفية أن مصادر سياسية خارجية رفيعة كشفت عن ورقةٍ جديدةٍ على طاولة الحل للأزمة السودانية. وأن تلك الورقة وضعها تحالفٌ دوليٌّ ضم دول الوساطة بالتعاون مع دولٍ إقليميةٍ، من بينها دولٌ حليفةٌ للمؤسسة العسكرية. وذكرت أن تلك الورقة تتضمن خطةً عاجلةً، قد لايتجاوز مدى وضعها موضع التنفيذ شهرًا. وتهدف الخطة للقضاء على ما أسمته “المد الإسلامي الإخواني بالسودان” وأقتلاعه من جذوره، عبر عدة آليات قالت أنها متاحة. وتقول الصحفية أن تلك المصادر رجَّحت أن قناعة تلك الدول جاءت لسببين: أولهما أن قائد الجيش السوداني أخلَّ بإتفاق سبقت موافقته عليه. وهو السيطرة على القيادة العامة التي كان من المقرر أن يؤكد الفريق البرهان عقب انسحاب قوات الدعم السريع منها، ذهابه إلى التفاوض. لكن، كما هو واضحٌ الآن، فقد مر أكثر من شهر من نشر تلك التسريبات، ولم يتغير شيءٌ في المشهد السوداني.

أيضًا، أضافت الصحفية قائلةً: إن تلك المصادر ذكرت أن البرهان كان في نيته تنفيذ الاتفاق. حيث لمَّح إلى ذلك في خطابه الأخير في مباني القيادة العامة، في حين صرح به بوضوح أكثر، نائبه مالك عقار. إلا أن القيادات الإسلامية حاصرت البرهان ومنعته من تنفيذ الخطوة. وبعد الإجتماع وعدول البرهان عن رأيه خرج قائد كتيبة البراء ليعلن ألا تفاوض مطلقًا مع قوات الدعم السريع. الأمر الذي كشف لتلك الدول أن قادة الكتائب الإسلامية هم الذين يقررون بدلاً عن الفريق البرهان، وأثبتوا عمليًا أنهم الطرف الأقوى. وتخلص الصحفية إلى القول إن إزاحة البرهان الذي أصبح عقبةً، ضرورةٌ ينبغي أن تسبق التفاوض المنتظر. وتقول الكاتبة: إن الذي دفع تلك الدول لقرار إقتلاع الإسلاميين، إضافةً إلى ما تقدم، ووفقًا لتك المصادر، هو الجرائم الأخيرة التي قامت بها كتائب البراء بن مالك ومليشيا درع السودان. وزعمت الكاتبة إن تلك الجرائم قد نسفت الدعم الدولي المؤسسة العسكرية السودانية، وباعدت بينها وبين الدول التي فضلت الوقوف إلى جانبها، بإعتبارها تمثل الجهة الرسمية بالبلاد. خاصةً أن الفريق البرهان والمؤسسة العسكرية وقفوا متفرجين وعاجزين. ولم يفعلوا شيئًا أمام الجرائم الوحشية التي إرتكبتها تلك الكتائب والمليشيات بإسم الجيش. (راجع: موقع أخبار السودان، على الرابط: https://shorturl.at/kSwME).

(يتواصل)

الوسومالنور حمد

مقالات مشابهة

  • الطرابلسي: معالجة ملف الهجرة تتطلب تعاون الاتحادين الأفريقي والأوروبي
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (14 – 20)
  • الاتحاد الأوروبي يبحث خطة مساعدات عسكرية لأوكرانيا
  • الدعم السريع يتوغل في جنوب السودان ويسيطر على حامية عسكرية بعد مقتل قائدها 
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (13 – 20)
  • رئيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم يفجر مفاجأة بخصوص صلاح والكرة الذهبية
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (12 – 20)
  • بينها السودان.. تسريبات خطيرة حول مقترح أمريكي إسرائيلي جديد لتهجير سكان غزة إلى 3 دول أفريقية
  • رفض المقترح الأمريكي.. السودان ينفي تلقي أي طلب لتوطين مهجرين من غزة
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (12 – 20)