كتبت بالأمس منشوراً قصيراً، حوى خلاصة تحليلي وانطباعاتي لما سيحدث بعد اجتماعات جنيف وأثر ذلك على مستقبل الدولة السودانية، وفقاً لما شهدته وسمعته بصفتي الصحفية والإعلامية، وربما قبل ذلك بصفتي سوداني مهموم بأهله وبلده، ومشغول بمعرفة ما يدور في الأروقة وبين الطاولات، اتاحت له الظروف أن يحصل على بعض المعلومات عن هذه الاجتماعات من مكمنها ومن أفواه دبلوماسيين وفنيين حضروا هذه الاجتماعات- فأنا لا صفة أخرى لدي لحضور الاجتماعات بالطبع- خاصة مع ما أحيط بهذه الاجتماعات من سرية وتكتم.


ما كتبته بالأمس، هو تعبير عن مخاوفي ومخاوف عدد كبير من السودانيين وإشفاقهم من مآلات الحرب الحالية على بلادنا التي نعشق، ولا علاقة له بموقفي الثابت والمعلن من اعتزال الحرب وأطرافها، بل هو محاولة لتقديم إفادة لجميع من يقرأ ويفهم، بمن فيهم الداعمين للقوات المسلحة أو الداعمين للدعم السريع أو من هم على الحياد، عن مشاهداتي وتحليلي لما حدث في جنيف، وذلك من باب الشعور بالمسؤولية الشخصية نحو ذلك الأمر.
لقد كنت حضوراً في لقاء الإعلاميين السودانيين مع المبعوث الأميركي الاثنين الماضي، كما حضرت المؤتمر الصحفي الختامي للمباحثات أمس الجمعة، وطرحت- ضمن زميلات وزملاء آخرين- ما بدا لي ولهم أنها أسئلة واستفسارات عموم السودانيين، وفق الزمن المتاح، واعتقد أن من تابع أو شاهد اللقاء أو المؤتمر الصحفي، لاحظ أن الإجابات على هذه الأسئلة كانت عمومية وغير شافية!

هل تقسيم السودان وارداً؟
نعم، وفق شواهد عديدة ومنها:
1- لاحظت أنه بالرغم من الشكل الظاهر باتفاق وتناسق المواقف بين الوسطاء إلا أن الخلاف بينهم كبير، وهذا الخلاف كما هو معلوم لكل متابع، ينسحب كذلك على عدد من الدول والمجموعات المؤثرة ممن هم خارج دائرة الوسطاء، وبالطبع يعود ذلك لتعدد المصالح وتضاربها في بعض الأحيان، فمثلاً موضوع شريط البحر الأحمر والموانئ السودانية، تعتبره بعض الدول شأناً يدخل في نطاق الأمن القومي لها، وتعتبره دول أخرى مدخل للمكايدة مع الخصوم، والحصول على نصر ما من أجل ملفات اخرى وهكذا. هذا الملف سيطيل أمد الحرب لأن التحالفات ودعم أي طرف من أطراف الحرب في السودان سيحكمه موقف هذا الطرف من مصلحة الحليف الإقليمي أو الدولي، وهذا شكل من أشكال التفاوض الدائر منذ زمن بين أطراف الحرب الداخلية والحلفاء والداعمين الإقليميين والدوليين يجري حالياً بعيداً عن أي عين. هذا خلاف الصراع على الموارد الأخرى للدولة السودانية بداية بالأرض وما عليها في السطح أو مافي باطنها من موارد وثروات.
2- لاحظت أيضاً تغير نبرة الخطاب تجاه القوات المسلحة والدعم السريع، خاصة من الوسيط الأميركي، وبالضبط بعد عدم انعقاد اجتماع القاهرة! من الواضح أن جميع مواقف المبعوث كانت بتنسيق عالٍ مع وزير الخارجية والرئيس الأميركي(بعكس ظن البعض)، وبالتالي ما رشح عن إحباطه- إقرأ غضبه- من مواقف الجيش يعكس موقف الإدارة الأميركية، وقد انعكس ذلك في وصفه لوفد الحكومة ب"وفد بورتسودان" في أكثر من مناسبة. ومن الواضح كذلك أن حضور وفد الدعم السريع وقبوله بأغلب طلبات الوساطة، لم يكن هدفه الوصول لاتفاق مع القوات المسلحة فحسب، بل الهدف الرئيس هو الوصول لرضا الوساطة، وبالتالي إعادة تموضعه في الطاولة كجهة موثوقة بدلاً عن وضعه السابق وفق وصف المبعوث بأنه" لا مستقبل للدعم السريع في السودان". وبذلك حضور وفد الدعم السريع هو للتفاوض مع الوسطاء حول وضعه ومستقبله هو في المقام الأول، واعتقد أنه نجح لحد ما في صنع اختراق في هذا الجانب(راجع بيان ALPS) وهو بيان التكوين الجديد للوسطاء والذي ختمت به اجتماعات جنيف.
3- خطاب الحكومة مؤخراً تجاه بعض أطراف الوساطة، أثّر كثيراً وسيؤثر في مواقف هذه الأطراف مستقبلاً، ولا أعلم كيف ستتم معالجة هذا الأمر! هناك تضارب مصالح داخلي بائن بين القيادات في الحكومة والجيش فيما يتعلق بالتفاوض، وهذا ما جعل فيما يبدو، إعلان بعض المواقف الحادة وسيلة لتحقيق هذه المصالح!
4- أخيراً لا أعلم كيف سيتم ضمان تنفيذ ما اتفقت عليه الوساطة مع الجيش والدعم السريع حول إيصال المساعدات الإنسانية واستمرار تدفقها خاصة مع عدم الوصول لاتفاق حول وقف الأعمال العدائية ناهيك عن وقف إطلاق النار، وقد صممت على حد علمي مجموعة النساء السودانيات اللاتي حضرن إلى جنيف في اجتماعات موازية، مسودة اتفاقية لتكون جزءاً من أي اتفاق لوقف إطلاق النار-الذي لم يحدث بالطبع- ومن ضمنها ما أسمينه (بروتكول الأعمال المحظورة)، وهو ما كان يمكن في حال تبنيه أن يكون أحد الضمانات. كذلك أشار بيان المجموعة حديثة التشكيل(ALPS) لتقديمهم لمقترح "لطرفي الحرب"، أسموه(آلية امتثال) لحل النزاعات ولاستقبال الشكاوى، ولم يقل البيان هل تم قبول المقترح من أي من الطرفين أم لا، فهذا أيضاً كان سيكون في حالة قبوله أحد الضمانات.
ولكن في غياب كل ذلك فإن الاتفاق على إيصال المساعدات الإنسانية، عبر مسارين أو ثلاثة، يصبح على المحك، وهو أقصي ما توصلت إليه اجتماعات جنيف دوناً عن الهدف الرئيس وهو وقف الأعمال العدائية ووقف إطلاق النار- الذي كان سيسهل وصول المساعدات- وكان سيكون المدخل الأساسي للوصول لاتفاق سلام.
لكل ما سبق فإنه من المرجح أن يبدأ العالم في التعامل مع إدارتين في السودان، وهو ما سيجعل وجود حكومتين واقعاً ملموساً حتى ولو لم يعترف العالم بذلك بشكل رسمي، وقد أعلن البعض بالفعل ذلك الموقف ومن ضمن هؤلاء سليمان صندل حقار الذي كتب " علينا أن نسلك الطريق الثالث والنظر في الإجراءات العملية لنزع الشرعية من مجموعة بورتسودان الرافضة لوقف الحرب" وهو مطابق لمواقف آخرين ولكن لم يعلنوا عنه.

ما العمل؟
قلناها وسنقولها مجدداً، لا حل للمشكلة السودانية إلا عن طريق السودانيين أنفسهم وبالتفافهم وتوافقهم حول صيغة تحقق السلام وتمنع تفكك البلاد، ففي ظل حالة التشظي في المواقف والاستقطاب والاستقطاب المضاد ورواج واستحكام خطاب الكراهية والعداء، بين المدنيين بالذات، وعدم الاتفاق على رؤية واحدة تجاه الحرب، لن يستطيع السودانيون المساهمة في الحل، وسيظل أمرنا ومستقبل بلادنا يُدار داخلياً بين جنرالات الحرب ومصالحهم، وخارجياً بين طاولات المصالح والأحلاف، وإن استمر هذا الحال فطريقنا معبد نحو تقسيم البلاد.  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: اجتماعات جنیف

إقرأ أيضاً:

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )

في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .

لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.

عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .

هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.

فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.

ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .

أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)

اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .

النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.

Mujtabā Lāzim

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • ???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
  • مناوي يقول إنه ناقش مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي أوضاع الحرب السودانية
  • تحليل الوضع الراهن في السودان وتحديات مستقبل الدعم السريع
  • السفير الحارث: الحرب لن تتوقف إلا حين توقِف الإمارات دعمها لمليشيا الدعم السريع
  • هدوء حذر في العاصمة السودانية بعد تضييق الخناق على الدعم السريع وسط الخرطوم
  • قيادي بـ «مستقبل وطن»: إدماج التأمين الصحي والمعاشات في الكارت الموحد يعزز الحوكمة الرقمية
  • ???? درع السودان اربك الجميع وخلط الاوراق واختصر علي الدولة السودانية ثلاثين عاما قادمة من الابتزاز بالسلاح
  • المستشار السياسي السابق لـ”حميدتي” يكتب عن مستقبل الدعم السريع في السودان
  • الدعم السريع تختطف طبيباً في شمال كردفان بعد هجوم مسلح على منطقة «أم سيالة»
  • دراسة تكشف ما سيحدث لدماغك إذا تركت الهاتف 3 أيام