بقلم: حسن ابو زينب عمر
بدأ اعجابي بهؤلاء القوم منذ وقت الطفولة وأنا في بداية الدراسة في مدرسة سلوم الأولية التي تقع قرابة العشرة كيلومترات جنوب غرب بورتسودان .. و سلوم رغم انها منسية في هامش الجبال الرمادية التي تحيط بها فقد كانت عامرة بالهدوء والبيئة التعليمية المعافاة ولذلك فان أولياء الأمور حتى من أقصى شمال السودان كانوا يحرصون الحاق أبنائهم بها بعيدا من صخب المدن وهرجها ومرجها.
(2)
التحقت بالمدرسة كالآخرين ولكن الفارق بيني وبين الكثيرين انني جئت من بيئة خلوية في خاصرة قريتنا الوادعة كليناييب (5 كيلومترات جنوب بورتسودان) كنا نرضع المتعة من ثديها حتى الثمالة ونحن نرعى الضأن في فضاءات لا حدود لها. كنا نزجي الوقت بمطاردة الأرانب البرية حينا ونركض وراء كلابنا خلف الغزلان السريعة وسط الأراضي الرعوية حينا في زمان ليس كزماننا الأغبر هذا .. زمان أرخى فيه الرخاء سدوله فقد كانت الخضرة الممتدة الى مالا نهاية والأنعام التي تسرح متنقلة من اللامكان الى اللامكان ساحرة آسرة للعين.
(3)
تم اقتلاعي من هذه الأجواء للالتحاق بالمدرسة وكانت تلك نقلة كبيرة بالنسبة لحياتي وكان التأقلم أكبر التحديات ولذلك كنت أنا وزميلي أدم أركاب نستنجد بانطباعاتنا اليومية لقتل الوحشة والعزلة التي كنا نعيشها وسط ذلك المجتمع الغريب وكل حواراتنا ووسنتنا اليومية بلغة الأم (البداويت) اذ كنا حديثي عهد ولم نكن نتقن اللغة العربية ..ولكن مشكلتنا كانت مع مدرس اللغة العربية الذي كان يعتبر الرطانة رجس من عمل الشيطان واذا لم نتجنبه فان (البسطونة) التي لا تفارق يده جاهزة لاستباحة أجسادنا كيفما اتفق . ربما كانت تهديداته نابعة من توجيهات وزارة التربية والتعليم بضرورة تعلم اللغة العربية ولعل هذا كان يبرر الغلظة التي كان يتشدق بها (على بالطلاق ثاني ترطنوا أسلخ ضهركم بالبسطونة دي) وكنا نصمت خوفا من الجلد.
(4)
لكن لطف الله بنا وكفى المؤمنين شر القتال أن أستاذ الجغرافيا وكان حلفاوي الانتماء لم يكن موجودا لسماع هذه التهديدات فلو كان موجودا لطلب منا قطع شك عدم الالتفات لتهديدات الناطقين العربية بل مواصلة الرطانة ولسان حاله يقول (هم يتكلموا عربي ليه؟ ) والشاهد أن أحد زملائنا توقف عاجزا عن حل أحد أسئلة امتحان وكانت عبارة عن صورة لخف جمل فلما قرأ المدرس الحلفاوي علامات الحيرة في وجه الطالب سأله ان كان يواجه مشكلة فأجاب أدروب (والله يا أستاذ ما عرفت رجل الجمل دا) فقال له اذا كنت تعرف الكلمة بالبداويت أكتبها فتهللت أسارير الطالب وكتب (دمبيت) وهي الكلمة المرادف للخف ..كل هذا الاعتداء على اللغة العربية كان وقتها حلالا طيبا ووزير المعارف ما عارف .
(5)
ربما نبع اعجابي بأهلنا المحس أو رطانة الشمال عموما من محطة سلوم ولكن (يا ويلك وسهر ليلك) من الجلوس وسط هذا القوم. نحن البجا اذا كان بيننا من لا يفهم رطانتنا حتى لو كان واحدا ونحن عشرون نتحدث باللغة العربية تقديرا للشخص المتواجد وسطنا ولكن هذا آخر من ينطبق على المحس فقد يبلغ اعتزاز اثنان بتراث الاثنية حدا لا يعيرون فيه انتباها لعشرين لا يفهمون لغتهم فيشبكون الرطانة فترات طويلة والضيوف بينهم كقطيع من الطرش في الزفة .. أحيانا يتذكرونهم فيعتذرون لهم انهم سرحوا فيبتهج الضيوف ان الفرج قد أتى أخيرا سيما بعد اعترافهما بأنهم سرحوا ولكن يا فرحة ما تمت اذ سرعان ما يعود الثنائي الى الرطانة مرة أخرى.
(6)
الذي يسترعي الانتباه هنا ان رطانة أهل الشمال هم أهل الابداع في السودان بكل ما تحمله الكلمة من معنى فاذا تحدثنا عن الأدب والشعر فمن ذا الذي لم يسمع بالأيقونة خليل فرح الذي دخل ساحة الشعر من أوسع أبوابه بروائعه (عازة في هواك ..في الضواحي وطرف المدائن ..ما هو عارف قدمه المفارق ...الفجر الباذخ وغيرها ) بعد قدومه الى ام درمان في سن العاشرة ولم يكن وقتها يتقن اللغة العربية ولكن خلال فترة وجيزة ربما لم تتجاوز العشرون عاما تعلم العربية ونهل من علومها وتبحر في شعرها حتى أحتل صدارة شعراء الشعر الغنائي في السودان .
(7)
وهناك أيضا الأديب الدبلوماسي جمال محمد أحمد صاحب (سالي فو حمر) والذي قال فيه الروائي العالمي الطيب صالح (أن جمال للذين عرفوه عن قرب وأحبوه انه لم يكن شخصا بالمعنى المعروف للكلمة بل كان عالما متكاملا قائما بذاته) . وهناك أيضا الأديب جيلي عبد الرحمن والشاعر الفذ محي الدين فارس الذي أصدر عدة دواوين شعرية منها الطين والأظافر 1956 ونقوش على وجه المفازة 1978 وصهيل النهر والقنديل المكسور 1997 والشمس تشرق من جديد وتسابيح عاشق ولكن تظل ملحمة (لن أحيد عن الكفاح) هي الأجمل اذ يقول وقد أعطاه الله رونق الكلام التي زادها متعة العطبراوي (أنا لست رعديدا يكبل خطوه ثقل الحديد ..وهناك قافلة تولول في متاهات الزمان وبلا دليل عمياء فاقدة المصير ..تمشي الملايين الحفاة العراة الجائعون مشردون) .
(8)
هناك أيضا العالم الكبير في منظمة اليونيسكو العربية محي الدين صابر وهناك العالم المرموق محمد إبراهيم أبو سليم مدير دار الوثائق المركزية الذي أعاد ملكية منطقة طابا الى حضن مصر بوثائق نادرة قدمها لخبراء التفاوض المصري مع إسرائيل في حين ان الأشقاء المصريين يرفضون حتى مبدأ التفاوض حول حلايب وشلاتين. وهناك شاعر ان لم يقل شيئا فتكفيه قصيدة (يقظة شعب) وهو القامة مرسي صالح سراج اذ يقول (هام ذاك النهر يستلهم حسنا فاذا عبر بلادي ما تمنى ..طرب النيل لديها فتثنى ..نحن في الشدة بأس يتجلى وعلى الود نضم الشمل أهلا ..ليس في شرعتنا عبد ومولى) والتي ذاد عذوبتها فنان أفريقيا الأول الحلفاوي الجذور محمد عثمان وردي قبل أن تأتي البلابل وتكمل اللوحة الخلابة .
(9)
القائمة تطول ويستحيل حصر كل النوابغ ولكن نستطيع القول ان هؤلاء الرطانة هم أيضا ملوك النكتة والكتابة الساخرة في السودان فهناك في الصدارة جعفر عباس (أبو الجعافر) الذي قال انه حفظ المعلقات السبع بالكفوف والشلاليت وقد كتب مرة يقول أننا نحن السودانيين نسلم باليد ولا نعرف (بوس) أهل الخليج فرد عليه الدبلوماسي والشاعر السعودي الراحل غازي القصيبي يقول (جعفر عباس الذي لا يبوس ولا يتباس) وهتاك أيضا دهب أحمد خيري وقرض وياسر عبد الفتاح ولكن ان نسيت فلا أنسى قصة رواها قرناص يقول فيها ان امام مسجد قريتنا فسر الآية التي تقول (والعاديات ضبحي ) ان الله يأمركم بقتل الذئاب والسبب ان كلمة عاديات تعني في لغتهم الذئاب أما (ضبحي) فهي الذبح .
(10)
الحق سبحانه وتعالى يقول ان (العاديات) هي الخيل وضبحي هي الهمهمة التي تصدر من الخيل أثناء الركض ولكن صاحبنا هذا أخذها من قصيرها وفسرها بما يتماهى مع رطانته .. توضيحا يقول قرناص (ان ذئبا تعيس الحظ تسلل الى قريتنا فهجمنا عليه هجمة رجل واحد ولكنه تمكن من الإفلات بأعجوبة الا أنه لقي حتفه في القرية المجاورة اذ ان فتوى الشيخ كانت قد سبقته الى هناك ) ويقول آخر ان أحد المحس ظل يتعرض لاستهزاء من أحد الناطقين بالعربية وبالذات في اللقاءات الأدبية فكثيرا ما كان يصرخ فيه ( انت حسه تفهم شنو في العربي عشان تزحمنا ..يا أ خى روح كده ولا كده انتو ناس عجم) وتقول الرواية ان المحسي مصدر الاستهزاء كان يمنى نفسه أن يجد فرصة للانتقام حتى عثر على قصيدة للشاعر العباسي أبو نواس اشتهرت ببيت يقول فيه (وسرت الى الحانوت يتبعني مشل شلول شوشل شول) وأبو نواس هو شاعر ماجن يفسر (الشوشلة) فيقول ان الصبي الذي كان يتبعه كان يرتدي زينة نساء وكانت تحدث تلك الشوشلة أثناء السير .
(11)
يقول صاحبنا المحسي انه لم يفهم معنى البيت ولكنه تمكن من حفظه بعد يومين كاملين من القراءة قبل أن يبدأ رحلة البحث عن الذي كان يستهزأ به للانتقام والحصول على الشرح المطلوب ولسان حاله يقول (الليلة تروح مني وين .. أظهر لي الليلة لو ما نجمتك ) وكان اللقاء ساخنا بين الاثنين فحينما طلب منه شرحا لبيت الشعر صمت المستفز الناطق بالعربية برهة ثم قال (الله يسألني دي رطانة عديل ) ومن الطرائف أيضا انه حينما قرر الدكتور حسن أبوعائشة العودة الى السودان نهائيا قرر أبناء ولايتي البحر الأحمر وكسلا تنظيم حفل وداع له في استراحة حديقة النخيل بحي (منفوحة) في الرياض .
(12)
قدمت دعوات للأخوة في كسلا و القضارف وخشم القربة ..وجاء مع أبناء خشم القربة محسي كان قد قرر أيضا العودة الى السودان نهائيا ..وحينما جاء الحديث وتبادل الخطب وقف المحسي وقال لنا (ان البجا قوم طيبون وشهمون وكريمون ولكن لديهم طقوس غريبة في شراب قهوتهم منها أن لا أحد يشرب بفنجان الثاني فلكل فنجانه وهذا صحيح ..وقال انه لم يكن يفهم شيئا في هذا التقليد فجلس بجانب رجل يعد القهوة في ظل أحد الدكاكين وطلب منه أن يتكرم عليه بفنجان قهوة فسأله أن كان لديه فنجان ليصب فيه القهوة فرد بالنفي فقال له أدروب (خلاص ما نديك قهوة أمشي جيب فنجانك وتعال ) .. يقول أخونا المحسي انه منذ ذلك اليوم وكان في بداية السبعينات وحتى استراحة المنفوحة فلا زال يحمل فنجانه معه .
(13)
وأخيرا فقد كنت استمع للقاء مع أحد منسوبي حلفا في فضائية كسلا وكان الحديث عن أحزان الهجرة من حلفا الى خشم القربة بعد غرق حلفا ..بقول الضيف الحلفاوي انهم لم يتركوا بابا الا وطرقوه ولا حجرا الا قلبوه في طريق الاحتجاج على الترحيل بشتى الطرق منها المظاهرات والاضرابات والتتريس دون نتيجة ..يضيف الرجل انه سمع يوما أن حكومة جديدة تكونت برئاسة الصادق المهدي فضرب أكباد القطار من كسلا الى الخرطوم وقابل رئيس الوزراء واشتكي له مر الشكوى أن الكارثة لو اقتصرت على المزارع والبساتين التي غرقت لهان الأمر ولكنها طالت الآثار التي يعود تاريخها الى آلاف السنين والتي اندثرت تحت مياه الخزان ثم اقترب من رئيس الوزراء وهمس في اذنه قائلا ( ألا تعلم ان الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم آخى بيننا فتساءل الصادق المهدي كيف ؟ فكانت الإجابة انتو الأنصار ونحن المهاجرون) .
oabuzinap@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: اللغة العربیة لم یکن
إقرأ أيضاً:
تامر كروان: "الموسيقى لا تنفذ فيلم ولكن تدعم الفيلم"
بدأت منذ قليل ندوة مميزة ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، حيث اجتمع المؤلف الموسيقي تامر كروان مع الناقد السينمائي عصام زكريا للحديث حول الموسيقى التصويرية للأفلام وأهميتها في تقديم تجربة سينمائية متكاملة.
وتحدث تامر خلال الندوة عن دور أهمية دور الموسيقى التصويرية في الأفلام وتدعيمها للعمل والممثلين في العمل.
وقال “تامر”: " الموسيقى لا تنقذ فيلم ولكن تنقذ إخراج ساعات بيكون وجود الموسيقى يكون أسرع أو أبطأ لو الإخراج في مشكلة فتحل الجزء ده فقط ولكن لا تنقذ العمل كامل أما من حيث المونتاج لو المونتاج في مشكلة من حيث الإحساس أنا بيبقى عندي مشكلة كمؤلف موسيقي الفكرة الأهم أن الموسيقى دعم لممثل ولكن لا يمكن تنقذ فيلم تساعد ولكن لا تنقذ".
نبذة عن تامر كروان
تامر كروان هو مؤلف موسيقي ومهندس صوت مصري بارز، يُعرف بإسهاماته الكبيرة في مجال الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات.
وُلد تامر في مصر ودرس الموسيقى وتعلم فنونها على يد متخصصين، مما أكسبه خلفية موسيقية قوية جعلته واحدًا من أبرز الملحنين في عالم السينما العربية.
بدأ تامر كروان مسيرته الفنية في تسعينيات القرن الماضي، ونجح سريعًا في ترك بصمته الخاصة بفضل موهبته في استخدام الموسيقى للتعبير عن المشاعر والأجواء السينمائية المختلفة. تعاون مع عدد كبير من المخرجين المصريين والعرب، وشارك في تأليف الموسيقى التصويرية لأفلام ومسلسلات لاقت استحسانًا كبيرًا من النقاد والجمهور.
يتميز أسلوب تامر كروان بالمزج بين الألحان الشرقية والغربية، والقدرة على نقل الحالة النفسية للشخصيات من خلال الموسيقى، مما جعله ينجح في تقديم موسيقى تتناسب مع مختلف الأنواع السينمائية، سواء الدرامية أو الرومانسية أو الأكشن.
شارك تامر في العديد من الأفلام التي عُرضت في مهرجانات سينمائية دولية وحصدت جوائز، مما أكسبه شهرة وتقديرًا على مستوى عالمي. كما أنه معروف بقدرته على التعاون مع المخرجين بشكل وثيق، لضمان أن تكون الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من رؤية الفيلم العامة.
إلى جانب أعماله السينمائية، يشارك تامر كروان في ورش عمل وندوات تهتم بتعليم الموسيقى التصويرية وتحليلها، مما يجعله مصدر إلهام للعديد من المؤلفين والموسيقيين الصاعدين.