حسام عثمان محجوب
24 أغسطس 2024
الكوميدي/المعلق السياسي الأمريكي الأشهر جون ستيوارت تناول في برنامجه في 3 يونيو الماضي حالة الاستقطاب الحادة في الولايات المتحدة، فعرض عدة نماذج لسياسيين وإعلاميين يعلقون على الحكم بالإدانة الجنائية للرئيس السابق دونالد ترامب تأييداً ومعارضةً، ولا سيما ما ذكره عدد منهم أن الشعب الأمريكي اليوم يعيش في واقعَين مختلفَين (two different realities).
لا أظن أن جون يجهل التبسيط الذي تنطوي عليه عبارته هذه، فالفلاسفة والعلماء ناقشوا كثيراً وجود "واقع موضوعي"، ويبدو منطقياً قبول أنه قد يكون هناك أكثر من واقع تحدده التصورات والقدرات الفردية والسياقات الثقافية والتفسيرات الفلسفية للأشخاص الذين ينظرون لهذا الواقع. ولكن الأهم في حديثه تحديده لمسؤولية الإعلام (ويمكن إضافة الكتاب والمثقفين) في اختبار نسخ الواقع الرائجة ونقدها.
يمكننا نقل هذا المنطق للواقع السوداني وتطبيقه من أي نقطة بداية، ولتكن لحظة اندلاع الحرب ونرجع لما قبلها حسب مقتضى الحال، حيث استحوذ على الخطاب السوداني الأعلى صوتاً "واقعان" متخيلان متضادان يتمثلان في "بل بس" و"لا للحرب *" (النجمة دلالة على طبعة قوى الحرية والتغيير/تقدم). هما متخيلان لأنهما لا يصمدان أمام الفحص والنقد، وهما متضادان في رؤيتهما وتفسيرهما وتحليلهما لأي صغيرة وكبيرة رغم اشتراكهما في الأدوات التي يستعملانها، ثم هما واقعان لأنه يبدو أن كثيراً من السودانيين شديدو الاقتناع بهما بكل تفاصيلهما وينظرون للعالم عبر عدساتهما.
وقد تقاصر الإعلاميون والمثقفون والكتاب عن وضع الخطابين تحت مجاهر الاختبار ونقدهما وتقديم الحقائق للإعانة على تركيب واقع أكثر موضوعية، يسمح بحوار أو نقاش ذوي معنى بين السودانيين والسودانيات، والبحث الجاد عن مخارج من كارثة الحرب الحالية أو لتخفيف آثار أزمات الوطن. بدلاً من ذلك انجرفت جموع كبيرة من أولئك "المثقفين" لتصدر أحد الخطابين، إيماناً أو يأساً أو ضعفاً أو رغبةً أو رهبةً أو انتهازيةً أو عمالةً أو خليطاً من كل ذلك. وذبحت في سبيل تبرير خياراتها المنطق والبديهيات. كما عجزت القوى السياسية صاحبة الخطاب المختلف عن إيصال صوتها للشعب السوداني، وخلق رأي جماهيري يسمح ببناء حراك شعبي يمكن أن يؤثر فعلاً على مجريات الحرب بأطرافها والقوى المؤثرة فيها.
في واقع "بل بس" الأكثر تطرفاً الحرب هي "تمرد" لقوات الدعم السريع على القوات المسلحة، وقد أشعلتها قوى الحرية والتغيير (قحت) ودولة الإمارات. البرهان قائد عسكري محنك، والجيش يحقق انتصارات عسكرية كبرى، وهو قادر على سحق الجنجويد المرتزقة الغرباء أعراب شتات غرب أفريقيا، ولذلك فيجب الاستمرار في بلهم حتى تتم إبادتهم. ثورة ديسمبر خطأ تاريخي ومؤامرة على الشعب السوداني، الذي أثبتت له هذه الحرب، حرب الكرامة، وطنية الكيزان وأهمية المؤسسات والمليشيات التي أسسوها أو تمكنوا منها مثل جهاز الأمن وهيئة العمليات/قوات العمل الخاص ومليشيا البراء بن مالك. الجيش هو أهم مؤسسات الدولة، ودعمه مقدم على أي اعتبارات أخرى بما فيها حماية المواطنين، وانسحاباته المتتالية من المدن ليست هزائم وإنما تكتيكات عسكرية عالية. وفي هذا الواقع "لا للحرب" هي شعار استسلام للمليشيا كل من يؤيده تابع لقحت/تقدم التي تمثل الجناح السياسي لمليشيا الدعم السريع، وهي تشمل كل القوى التي اشتركت في ثورة ديسمبر وأيدتها، والذين يجب بلهم مباشرة بعد القضاء على الجنجويد.
وفي واقع "لا للحرب *" أطلق فلول النظام البائد الكيزان، ومعهم مصر، رصاصة الحرب الأولى من وراء ظهر قيادة الجيش السوداني للقضاء على الثورة السودانية مجسدة في قحت. الجيش السوداني من قيادته وحتى أصغر عساكره من الفلول، يسيره علي كرتي وقادة الكيزان. والكيزان هم المسؤولون عن استمرار هذه الحرب العبثية، والرافضون لإيقافها. الجيش والكيزان مسؤولون عن انتهاكات الحرب الفظيعة، وعن كل مخازي تاريخ السودان المعاصر وحالة البلاد المأساوية اليوم. حتى الاتهامات التي يمكن أن توجه لقوات الدعم السريع والجنجويد هي مسؤولية الجيش فهو من أخرجها من رحمه. الأولوية القصوى لإيقاف الحرب بغض النظر عن أي تفاصيل بما فيها الانتهاكات والجرائم المصاحبة للحروب، والحرب تتوقف بالتفاوض الفوري غير المشروط، ومن لا يتفق مع هذا الموقف فهو بلبوسي فلولي أو مغفل نافع. في هذا الواقع قوات الدعم السريع ليست امتداداً لمليشيا الجنجويد، وحميدتي ليس كوزاً، والكيزان والجيش حاولوا توريطه في انتهاكات ماضية وفي انقلاب 25 أكتوبر، ولكنه تخلى عنهم وانحاز للسلام والتحول الديمقراطي، وواجب القوى المدنية العمل معه وعدم المبادرة بالتشكيك في مواقفه.
هناك خصائص أخرى لهذين الخطابين، وأطياف متعددة بينهما، تتلاشى الحدود بين بعضها أحياناً، كما يظهر بالذات في حالة تماهي واقعي "لا للحرب *" و"جغم بس"، وهو خطاب قوات الدعم السريع بدون مساحيق تجميل. ولكن معظم ما يطرحه المؤثرون من ساسة وإعلاميين ومثقفين لا يخاطب قضايا الحرب بعمق يشي أن هناك فائدة ترجى منه أو من النقاش معه.
غالباً لن تتوقف هذه الحرب قريباً، والسودان لن يكون البلد الذي عرفناه، وقضاياه أصعب من التسطيح والاستهبال اللذين يمارسهما جل قادتنا. نحتاج أصواتاً أعلى لخطاب ينقد خطابات الزيف، بالقدر الذي يفيد في إعادة تركيب الواقع كما هو، للتفكير فيه والعمل على تغييره، دون التوحل في كثير من نجواهم ومعاركهم التي لا خير فيها؛ خطاب يبذل الطاقات المحدودة منطلقاً من وسط جماهير الشعب السوداني ومتوجهاً لها، ولا ينشغل بالمنحازين بوعي أو كبر لخطابات الزور والتضليل ولا بالهياكل المهترئة التي أنتجتها ورعتها.
husamom@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع هذا الواقع لا للحرب فی واقع
إقرأ أيضاً:
الشيخ أبي المنى: إذا كان الواقع يقتضي التّمديد لقائد الجيش... فليكن!
أسف شيخ العقل، لأنّ الحرب توسّعت مذكّراً بأنّه حذّر دوماً «من مخاطر استدراج البلاد إلى حرب موسّعة، لأنّنا نعرف إجرام العدو ومخططاته، فلماذا نستدرجه إلى حرب تدمّر لبنان وتساعده على أن تكون له مبررات ليحتل ويدمر ويقتل ويسيء إلى صيغة العيش المشترك؟ ولمَ نساعده على تنفيذ مخططه في التّغيير الديمغرافي الذي يرغب بتنفيذه. وبالتالي كان لا بد من مقاومته وردعه، لكن لكي ننتهي من الحرب ونخرج بأقل خسائر ممكنة يجب ان نتحوّل الى مقاومة سياسية، دبلوماسية».وقال «المقاومون قاموا بواجبهم لكن العدو يتفوّق بأسلحته المتطورة والفتّاكة وأيضاً التكنولوجيا لعبت دورها في هذه الحرب، اذاً لماذا نعرض أنفسنا ووطننا أكثر وأكثر الى الدّمار والانهيار؟ لذلك نقول آن الأوان لهذه الحرب ان تنتهي».
وأشار إلى أن هذا الموقف كان قد أدرج في بيان القمة الروحية في بكركي، حيث طالب حينها بالوقف الفوري للحرب، معتبراً أنّ «هذا يحتاج إلى ضغط على الدّول وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية وإيران وفي الدّاخل لكي نتفاهم على كيفية إنهاء هذه الحرب، كذلك يجب الضغط على إسرائيل لكي تتقبّل وقف الحرب بصيغة مقبولة تعطي لبنان حقه وتشيح بشبح الحرب عن وطننا». وعمّا إذا كانت مشيخة العقل تضمّ صوتها إلى صوت بكركي الداعي إلى الحياد، لفت الشيخ أبي المنى إلى أنّه منذ البدء رفع شعار «نحن مع الحياد عن كل ما يفرّق ومع الانحياز إلى كل ما يجمع»، «وعلى هذا الأساس نتصرّف، فاذا كان الحياد في مصلحة لبنان، فليكن وإذا كان الانحياز أحياناً في سبيل مصلحة لبنان والقضية، فليكن ايضاً». أضاف «لا حياد في القضايا الكبرى التي تهمنا كدول عربية، ولكن لا يمكن ان نكون منحازين إلى محاور تؤدي بنا إلى الهلاك. هناك حكمة ووعي فندرك متى يجب أن نكون على حياد وننأى بأنفسنا عن الصّراعات ومتى ننحاز إلى الحق الذي نطالب به».
وعن دعوة البطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي إلى مؤتمر دولي لموضوع الحياد قال الشيخ أبي المنى «ربما هذا المؤتمر تكون فيه آراء متباينة ولكنها يجب أن تقود الى موقف واحد. صيغة لبنان يجب ان تكون مميزة ودقيقة ومتوازنة. ربما نحتاج إلى حوارات دولية أو وطنية ولكن يجب أن يكون هناك حوار وطني أوّلاً قبل أن يكون دولياً، لكي نؤكد على الطّائف وعلى الصّيغة اللبنانية».
وفي ضوء موجة النزوح التي شهدتها مناطق الجبل من قبل أبناء الجنوب الفارين من نيران الحرب، لفت شيخ العقل إلى أنّ «النزوح مؤلم وجرح عميق في جسد لبنان. أهل الجنوب يتعرّضون إلى التهجير القسري. وكنا مستعدين نفسياً واجتماعياً للأمر من خلال استشعار الزعيم القائد وليد جنبلاط بهذا الأمر والجبل يستقبل النازحين كضيوف مكرّمين. هناك هواجس تخيف أبناء الجبل ولبنان من التهجير القسري في سبيل التغيير الديموغرافي، وأي تهجير من منطقة إلى أخرى، يبقي الجنوب خالياً من سكانه وهذا أمر مرفوض وإذا تماشينا معه فنحن نساعد إسرائيل على تنفيذ مخططها».
الأزمة الرئاسية كانت أيضاً في صلب حوارنا مع الشيخ سامي أبي المنى الذي شدد على ضرورة «الاستعجال في انتخاب رئيس للجمهورية. والرئيس حاجة ضرورية فالبلاد تمر بظروف صعبة ولا يعقل أن يبقى البلد من دون رئيس. فنحن مع انتخاب رئيس فوراً، وانتشار الجيش في الجنوب فوراً ووقف إطلاق النار فوراً وبناء الدولة فوراً. كل ذلك ضروري وملح. انتخاب رئيس للجمهورية حاجة ضرورية، مثل وقف إطلاق النار. لأنه ليست هناك أولوية في القضايا التي تساعد على بناء الدولة وفي طليعتها انتخاب رئيس. لذا على المجلس النيابي أن يلتئم لانتخاب رئيس، وما حصل في الماضي كان يزعجنا بعدم التمكن من عقد جلسة انتخابية».
وسأل: «لماذا لا يستطيع مجلس النّواب أن يعقد جلسة لانتخاب رئيس؟ كان هناك تمسّك بأهمية الحوار والتّوافق على اسم رئيس يرضي جميع الفرقاء، مع الدّعوة إلى الحوار بناء على ذلك. الحوار مهم ولكن احترام الدّستور مهم أيضاً وملزم. عسى أن نصل بعد هذه المحنة إلى قناعة وجوب احترام المؤسسات الدستورية، ولكن مع الأسف هناك نوع من التّداخل بين قرارات الدّولة وقرارات قوى موجودة على السّاحة اللبنانية، فكانت قرارات الدّولة لا تُحتَرَم كما يجب، ولكن لا بدّ أن نصل الى مرحلة تنتفي فيها أي مبررات لتغييب قرار الدولة. ولو كان هناك رئيس خلال الحرب الحالية لكانت مهمة التفاوض أسهل». دعم مطلق أبداه شيخ العقل للمؤسسة العسكرية، وهو في هذا الإطار، اعتبر أنّه «لا يجوز ان يترك الجيش من دون قائد، فإذا كان الواقع يقتضي التمديد فليمدّد له. فالقائد جوزيف عون كفوء ومتميّز بطيب معدنه ووطنيته وبالتالي لا مانع من التمديد له».
وعشية عيد الاستقلال، وجّه الشيخ سامي أبي المنى رسالة في هذه المناسبة، مشيراً إلى أنّ «لبنان يستحق الاستقلال والعيش الآمن. فالشعب اللبناني خلاّق ومبدع، لماذا نعرّض الشباب اللبناني وهذه الطاقات إلى هذه الأجواء المحبطة؟ فيهاجر أبناء الوطن إلى الخارج، فيما الداخل يعاني ما يعانيه».
وختم: «الاستقلال محطة ولكن يجب أن يبنى على قواعد ثابتة كي لا يتزعزع. ولكي يبقى قائماً علينا ان نحترم الدّستور ونتمسّك بصيغة العيش الواحد وبالتضامن الوطني لإنجاز الاستحقاقات في مواعيدها، والنهوض بالبلد اقتصادياً. ويجب ان تكون مصالحة الجبل مصالحة اقتصادية ايضاً، ونحن نعمل على مشاريع استثمار أوقافنا الدرزية والاوقاف المسيحية والطوائف الأخرى، فنبني مشاريع ومؤسسات لأبنائنا لكي نخفف من الهجرة الداخلية والخارجية».