المقتولة والصايحة.. من ذاكرة الثورة السودانية
تاريخ النشر: 25th, August 2024 GMT
عندما وقفت قيادات ما كان يطلق عليهم بالمعارضة خلال حكم البشير، وطالبت بالتفاوض مع النظام ومشاركته في الحكم، وخوض انتخاباته المخجوجة.
كانت هناك قوى حية ترفع شعارات لا للتفاوض ولا للمشاركة ولا للانتخابات الصورية، و"إسقاط النظام" وتفكيك حزبه ومؤسساته.
عندما اجتهدت ذات القيادات، في وصف شعار "إسقاط النظام" بشعار الحالمين والحالمات، وأنه فارغ المضمون والمعنى.
كانت هناك قوى حية تدافع عن شعار إسقاط النظام، وتفككيك دولة الحزب الواحد وبناء جيش قومي واحد ومهني، لصالح الدولة المدنية الديمقراطية.
عندما وقفت قيادات وجماهير ما كانت تسمى معارضة، ووقفت ضد انتفاضة سبتمبر 2013، وصمتت عن سلوك نظام البشير، الذي قتل الثوار واعتقلهم ومارس ضدهم ابشع انواع التعذيب.
وقفت القوى الحية وصاحبة المصلحة في التغيير والتحول الديمقراطي بصلابة ضد الانتهاكات وقتل الثوار، لأن من مورس ضدهم هذا السلوك هي جماهيرها المؤمنة بالتغيير.
عندما هرولت ذات القيادات بعد تردد وبعد أن تأكدوا بأن الجماهير نجحت في تجاوز خطوط النظام الحمراء، إلى ميدان الاعتصام لمخاطبتها، وتمجيد شعار "إسقاط النظام"، واختطاف كافة شعارات الثورة التي وقفوا ضدها بالأمس، بعد وصفها بشعارات الحالمين والحالمات، وحينها عادت بعض تلك القيادة بخيبة أمل بعد أن منعوا من دخول ميدان الاعتصام بأمر الجماهير، وبعض هذه القيادات لم تكن له الشجاعة الكافية حتى إلى اتخاذ قرار الذهاب إلى ميدان الاعتصام، وبعضهم خرج ببيانات تنادي الجيش بضرب الثوار بيد من حديد، وبعضهم جلس في انتظار الكفة التي تميل، وبقية الحكاية يعرفها الجميع.
حينها كانت القوى الحية وسط الجماهير في ميدان الاعتصام والأحياء، تهتف بشعارتها المجربة، وتنادي "بتسقط بس"، ورحبت بكل تلك القوى التي رفضت هذا الشعار ذات يوم، لإيمانها الراسخ بأن التغيير يجب أن يصطحب الجميع دون فرز، عدا تلك القوى التي تقف ضد التغيير.
عندما هرولت قيادات تحالف الحرية والتغيير، للتوقيع بعشرة أصابع على وثيقة دستورية معيبة نتيجتها الحتمية تصفية أهداف الثورة، وتغريغ شعار الحرية والسلام والعدالة من مضمونة، والتمهيد لسرقة الثورة، والقضاء على الشرعية الثورية مقابل شرعية دستورية زائفة.
كانت القوى الحية، تناضل في كل الجبهات في محاولة اخيرة لاقناع التحالف بعدم التوقيع على هذه الوثيقة، وعدم الثقة في المكون العسكري من جيش ودعم سريع، وعدم منح الحركات المسلحة شرعية حمل السلاح بعد الثورة. وعندما وصلت إلى قناعة تامة بأن هذه القوى وعبر تاريخها تختار أسهل الطرق للوصول للحكم حتى وإن كان المقابل إجهاض شعارات الثورة، وعدم تطبيق العدالة باتفاقات جانبية وتحت الطاولة،، حينها قررت الانسحاب من تحالف "قحت" ومواصلة النضال من أجل التغيير الحقيقي.
عندما ماطلت حكومة الدكتور حمدوك (التي جاءت وفقا للوثيقة الدستورية)، في تطبيق العدالة، وفشلت تماما في محاكمة المجرمين والقتلة، ومنهم قتلة الشهيد أحمد خير الذين دانتهم المحكمة بالأدلة، وفشلت لجنة المحامي نبيل أديب في إدانة الجيش والدعم بجريمة مجزرة الاعتصام رغم توفر الأدلة والشهود، وتم حفظ الجريمة بدعوى حسن النية، وتطبيق مبدأ عفا الله عما سلف، ظنا بأن حفظ القضية سيغير سلوك المؤسسة العسكرية التي تحمل السلاح، ولكن كانت النتيجة عنف أكثر وتجاوزات أبشع، ومجازر وحصار للمواطنين وتشريد للملايين.
وقتها كانت القوى الوطنية، تحمل الجيش والدعم المسؤولية كاملة لما حدث من مجزرة، وطالبت بمحاكم فورية، وشرعنة الثورة بتطبيق العدالة على الكل دون مجاملة أو مماطلة، فالمجرم سيرتكب المزيد من الجرائم اذا غابت العدالة، ولكن للأسف لم تطبق العدالة وضاعت أحلام ملايين الثوار.
عندما هرولت ذات القيادات، إلى جوبا لتوقيع اتفاق جوبا للسلام، الذي يعتبر أكبر خوازيق الثورة، إذ لا يعقل أن توقع اتفاق لتقسيم الثروة والسلطة، مع حركات مسلحة كان هدفها المعلن إسقاط نظام البشير عبر الكفاح المسلح، وترسيخ الديمقراطية، وخصوصا بعد نجاح الجماهير السلمية في تحقيق هذا الهدف، فالهدف تحقق، والواجب وقتها أن تضع الحركات المسلحة السلاح وتنخرط في عملية سياسية ترسخ الدولة المدنية، ولكن للأسف كل ما حدث هو تقسيم معيب للثروات والمناصب، منح من لا يملك لمن لا يستحق، وكان اتفاق جوبا مسمار آخر في نعش الثورة، واشعال الحرب.
وقتها وقفت القوى الحية من لجان مقاومة وتجمع مهنيين وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني، ضد هذا الاتفاق المعيب، وقالت بالحرف، إنه اتفاق لا عدالة فبه، ولا شرعية له، ولن يكون سببا في سلام، وصدقت القوى الحية فيما قالت.
عندما قفت قيادات الحرية والتغيير في حكومة الدكتور حمدوك الأولى، وقالت في الجيش والدعم السريع مالم يقله مالك في الخمر، وما لم يمدح به عنترة عبلة، وكانت لهم جولات وصولات في حضور تخاريج قوات الدعم السريع وكرنفالات تسليحه، وتسجيل زيارات دعائية لما عرف بالتصنيع الحربي والصناعات الدفاعية، وعملوا حينها وكأنهم متخصصون في الإعلانات مدفوعة القيمة، متناسين تماما حقيقة أن هذه المؤسسة يسيطر عليها الفلول الكيزان.
كانت القوى الحية، تتحدث بكل جراءة ونكران عن هذه الحقائق، وأن المؤسسة العسكرية مختطفة، ويجب عدم منحها شرعية ممارسة السياسة والتجارة، ويجب أن تمارس مهام الدفاع وحفظ الأمن لأنها المؤسسة الوحيدة التي تمتلك شرعية العنف ضد من ينتهك الحدود أو يهدد الأمن القومي أو يقوض الدستور، ولكن حينما يتحول هذا العنف إلى عنف ضد المواطن وضد التغيير وضد أمن الدولة، وتصبح المؤسسة العسكرية في ذاتها هي المهدد لأمن المواطن واستقراره، يجب الوقوف بصلابة ضدها وبكل شرف وقوة.
وعندما حدث انقلاب البرهان في أكتوبر وذج بحكومة حمدوك كلها في المعتقلات، ثم خرجوا ووقعوا مع الحكومة الانقلابية وتحالف ما عرف "بتحالف الموز" حينها اتفاق سياسي يعيد الدكتور حمدوك من المعتقل إلى رئاسة الوزراء، وصفق حينها من صفق لهذا الاتفاق الغريب والمثير للشفقة.
عندها كانت القوى الحية تناضل لكشف كل الزيف، وبح صوتها وهي تصرخ بأن ما يحدث خطأ لا يغتفر، وأن ما حدث هو نتيجة للتوقيع على الوثيقة الدستورية، ولأنهم لم يستمعوا لكل الوصايا، والتحذيرات من المكون العسكري وتحالفه السياسي، ولكن للمرة الثانية شرعنوا الانقلاب مع سبق الإصرار.
وعندما هرولت قيادات الحرية والتغيير مرة أخرى خلف سراب آخر اسموه "الاتفاق الاطاري"، وظلوا يدافعون عنه بذات ادواتهم القديمة والمجربة والفاشلة، وحاولوا بكل جهد تصوير الاتفاق الاطاري المسخ على إنه قارب النجاه إلى بر الديمقراطية والدولة المدنية.
وقفت القوى الحية بصلابة ضد هذا الاتفاق الاطاري، وصرخت بأن ما يحدث مؤامرة كبيرة نتيجتها انهيار السودان، وتسليمة للعسكر والفلول على طبق من ذهب، وكل شي حدث بالحرف، ولم تعترف قيادات الحرية والتغيير وجماهيرها، ولن يعترفوا مستقبلا عن أي خطأ، وسيتبرأون من كل كوارثهم، لأن هذا هو ديدنهم على مر تاريخهم القريب والبعيد.
وعندما اندلعت الحرب، وكعادتهم ذات القيادات وذات الوجوه، والتي كانت تمارس ذات السلوك أيام نظام البشير، واصلت في ذات الطريق الخاطئ، الذي دائما ما يظنونه الأسهل والأسرع والخاطف نحو دولة مدنية ديمقراطية، وسلطة قريبة المنال، ولكن للأسف نظرتهم دائما قاصرة ولا تتعدى مصالحهم الذاتية من منصب ونظام صوري دون صلاحيات، وفي هذه المرة اختاروا الدول التي لها مصالح في السودان، وهرولوا خلفها لتعيد لهم ثورتهم وحكومتهم، ولكن هيهات، لأنهم وقعوا في رمال السياسة الدولة المتحركة، ووقعوا في فخ الانحياز لطرف دون الحياد، فكانت سقطة أخرى تضاف إلى سقطاتهم السابقة، وانكشفوا أمام الجماهير بانهم الذراع السياسي للدعم السريع وإن كان بطريقة غير مباشرة، وكانت فرصة الجيش في الانقضاض عليهم.
وحينها وقفت القوى الحية، ووضعت النقاط على الحروف بكل احترافية، وقالت لهم بالحرف، المليشيا تظل مليشيا والجيش مؤسسة دولة وسظل كذلك رغم سيطرة الفلول عليها، والنضال ضد الفلول حتى تصفيتهم من داخل الجيش وفضحهم، لا يعطي الحق في الانضمام إلى مليشيا لا مبادئ لها وترفع شعارات الديمقراطية والانحباز للجماهير فقط لتحقيق اهدافها بتكتيك ودهاء، وعلى الجميع الوقوف بصلابة ضد الحرب، والعمل على اسعادة الجيش من سيطرة الحركة الإسلامية، ولكن للأسف، سلوك تلك الفئة منح الشرعية والفرصة التاريخية لتحكم الحركة الإسلامية سيطرتها مرة أخرى على هذه المؤسسة، رغم أنهم في اضعف حالاتهم، وكانوا يجمعون اطرافهم للهروب من السودان، ولكن عندما وجدوا الساحة مهيئة لعودتهم بسبب القرارات الخاطئة، وضعف تلك الفئة، عادوا بقوة، والسبب الخط السياسي الفاشل للحرية والتغيير.
وعندما، هرولت للمرة الألف ذات القيادات إلى تكوين جبهة جديدة باسم "تقدم"، جبهة لا طعم لها ولا رائحة، ولا تقدم ولا تؤخر، ونادوا بالمفاوضات، والعودة إلى الاتفاق الاطاري والوثيقة المعيبة، وحكومة الدكتور حمدوك ووزراءه، واقصوا كل القوى الحية ظنا منهم أنهم وجدوا الحل والطريق ممهدة امامهم إلى السلطة، مع رفع عصا الدعم السريع وتسليحه المتقدم، وجزرة المشاركة في السلطة وعودة تحالفهم مع العسكر.
حينها وقفت القوى الحية مرة أخرى وبكل شرف وقالت (لا).. لطريق الحلول السطحية والفوقية والاسعافية، لأنه سيمنح الجيش شرعية ممارسة السياسة والتجارة، وسيمنح المليشيا شرعية الحكم والمشاركة في ثروات السودان، وسيمنح الحركات المسلحة الحق في الحكم الذاتي والتوسع في تكوين الجيوش الموازية، وسيمهد للتقسيم، وسيحفز العسكر على التمادي في استخدام عنف الدولة ضد المواطن، ولن تكون هناك دولة مدنية ديمقراطية مستقرة، ولن يكون هناك حزب سياسي، ولن تكون هناك حرية أو سلام أو عدالة، فالسلام الذي يأتي عبر هذا الطريق دون ضغوط شعبية حقيقية. ودون تمكين الجماهير من استعادة ثورتهم، واستعادة روح الانتفاضة، وعودة الحريات العامة، والاتفاق حول التغيير الحقيقي، والتمترس بكل صلابة حول شعارات ومبادئ الثورة، لن يكون هناك دولة سودانية واحدة، ولن تكون هناك حكومة ذات سيادة تسيطر على ثروات البلد، وتحمي المواطنين، وتجريب المجرب جريمة في حق الشعب السوداني.
والشعب السوداني وقواه الحية تعلم يقينا أن طريق التغيير هو النضال المدني، وأدوات التغيير هي السلمية، ووقود التغيير هي الجماهير، وروح التغيير هي شعارات الحرية والسلام والعدالة، وأي طريق آخر سيكون مصيره هو ذات مصير الوثيقة الدستورية واتفاق البرهان حمدوك والاتفاق الاطاري وتحالف "تقدم".. والمثل السوداني يقول "المقتولة ما بتسمع الصايحة"، ولكن الصايحة لن تموت وستظل تشهر صوتها وهتافها ضد الرصاص والانتكاس.
حبا وودا
نورالدين عثمان
manasathuraa@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الحریة والتغییر الاتفاق الاطاری الدکتور حمدوک إسقاط النظام ما حدث
إقرأ أيضاً:
مفهوم التجديد بين التقليد والتبديد.. مشاتل التغيير (14)
تقوم فكرة مشاتل التغيير على ساقين لا تستغني إحداهما عن الأخرى في عمليات الإصلاح والنهوض؛ ويتأكد ذلك في مسارات ومسالك؛ وأساليب وطرائق؛ وأدوات ووسائل؛ أحدها يتعلق ببناء وصناعة وترشيد الوعي؛ وثانيها مفاتح ومعابر تسديد السعي. ومن ثم لا يحسبن أحد أن هذه المداخل مجرد مداخل نظرية؛ بل هي في حقيقتها مسارات جامعة ودافعة ورافعة للعلم والوعي والحركة والسعي. ومن ثم يُعد مفهوم التجديد كغيره من الأركان المهمة في عمليات التغيير؛ بل هو من أكثر المفاهيم التي تنازعتها التيارات الثقافية والفكرية المختلفة، وقد انعكس هذا التنازع على المفهوم ذاته من حيث معناه ودلالاته، وواقعيا يصل الباحثون لمُسلَّمة هي أن التجديد -على المستوى النظامي والحركي- قد تُخفق أهم جهوده نظرا لعدم وضوح التأصيل الفكري والمنهجي لعملية التجديد، في تأكيد واضح على أهمية الربط بين النظرية والفاعلية في مجال التجديد الحضاري.
والتجديد -في اللغة العربية- من أصل الفعل "تجدد" أي صار جديدا، و"جدده" أي صيّره جديدا وكذلك أجدّه واستجده، وكذلك سُمِّي كل شيء لم تأت عليه الأيام جديدا، ومن خلال هذه المعاني اللغوية يمكن القول: إن التجديد في أصل معناه اللغوي يبعث في الذهن تصورا تجتمع فيه ثلاثة معانٍ متصلة:
أ- أن الشيء المجدد قد كان في أول الأمر موجودا وقائما وللناس به عهد.
ب- أن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديما.
جـ- أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويَخْلق.
ولقد استُخدمت كلمة جديد -وليس لفظ التجديد- في القرآن الكريم بمعنى البعث والإحياء والإعادة -غالبا للخلق- حيث كثر تساؤل الكفار إنكارا: "أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ" (الرعد: 5)، وكذلك في موضعين في سورة الإسراء "أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقا جَدِيدا" (49 و98).
يعد التجديد مفهوما مناقضا لمفهوم التقليد، ويقصد بالتقليد محاكاة الماضي بكل أشكاله وشكلياته، ولقد أدى التقليد إلى انفصال بين الوحي والعقل، وكأنهما متضادان لا يمكن الجمع بينهما، وبناء على ذلك فإن عملية التجديد تعتبر ضرورة لإعادة ضبط العلاقة بين الوحي والعقل حتى لا تضطرب الأمور فيصير التجديد نابعا من الخارج (التقليد الغربي) أو مرتدا نحو الماضي لمحاولة إعادته
وكذلك أشارت السنة النبوية لمفهوم "التجديد" من خلال المعاني السابقة المتصلة من مثل: الخلق -الضعف أو الموت- الإعادة والإحياء. ويعتبر حديث التجديد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد دينها" (رواه أبو داود)، من أهم الإشارات إلى مفهوم التجديد في السنة النبوية، وقد تعلقت بهذا الحديث مجموعة من الأفكار أهمها:
1- تجديد الدين: هو في حقيقته تجديد وإحياء وإصلاح لعلاقة المسلمين بالدين والتفاعل مع أصوله والاهتداء بهديه؛ لتحقيق العمارة الحضارية وتجديد حال المسلمين، ولا يعني إطلاقا تبديلا في الدين أو الشرع ذاته.
2- زمن التجديد: اعتبر بعض الباحثين أن الإشارة الواردة في الحديث عن زمن التجديد على رأس كل مئة إنما هي دلالة على حقيقة استمرارية عملية التجديد، وتقارب زمانه بحيث يصبح عملية تواصل وتوريث.
3- المجدِّد: اجتهد العلماء في توصيف وتحديد "المجدِّد" على رأس كل مئة سنة، لكن البعض يرى أن المجدد يقصد به الفرد، أو الجماعة التي تحمل لواء التجديد في هذا العصر أو ذاك، ويجوز تفرقهم في البلاد، ويعرفهم ابن كثير بأنهم حمَلة العلم في كل عصر.
ويعد التجديد مفهوما مناقضا لمفهوم التقليد، ويقصد بالتقليد محاكاة الماضي بكل أشكاله وشكلياته، ولقد أدى التقليد إلى انفصال بين الوحي والعقل، وكأنهما متضادان لا يمكن الجمع بينهما، وبناء على ذلك فإن عملية التجديد تعتبر ضرورة لإعادة ضبط العلاقة بين الوحي والعقل حتى لا تضطرب الأمور فيصير التجديد نابعا من الخارج (التقليد الغربي) أو مرتدا نحو الماضي لمحاولة إعادته (تقديس التراث)، ولكنها تعني أن العقل هو آية تكريم الإنسان وأساس تحمله للأمانة وقاعدة التكليف والالتزام بقواعد الاستخلاف.
ويتيح الربط بين فكرة التجديد والخبرة التاريخية الغربية أبعادا جديدة؛ حيث يعتبر مفهوم التجديد لدى الغرب إفرازا لصراع حاد بين الكنيسة من جانب وسلطة المعرفة والعلم والعقل من جانب آخر، مما دفع الأخيرة للاتجاه نحو تجاوز كل النظريات الدينية تحت مسمى التجديد. ويرتكز مفهوم التجديد في الفكر الغربي على أساسين:
أ- لا تُرى عملية التجديد إلا بمنظور التكيف في إطار من نسبية القيم وغياب العلاقة الواضحة بين الثابت والمتغير؛ إذ تعتبر كل قيمة قابلة للإصابة بالتبدل والتحول، وعلى الإنسان أن يستجيب لهذه التغيرات بما أسمته التكيف. ولم يطرح الفكر الغربي قواعد لعملية التجديد، وحدوده، وغاياته، ومقاصده.
ب- يغلب على مفهوم التجديد في الفكر الغربي عملية التجاوز المستمرة للماضي أو حتى الواقع الراهن؛ من خلال مفهوم الثورة والذي يشير إلى التغيير الجذري والانقلاب في وضعية المجتمع.
وتبدو فكرة "التجاوز" مرتبطة بالفكر الغربي الذي يقوم على نفي وجود مصدر معرفي مستقل عن المصدر المعرفي البشري المبني على الواقع المشاهَد أو المحسوس المادي. ومقارنة بالفكر الغربي القائم على تجاوز الماضي وغياب المعايير الثابتة للتجديد، فإن مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي يعني العودة إلى الأصول وإحياءها في حياة الإنسان المسلم؛ بما يمكّن من إحياء ما اندرس، وتقويم ما انحرف، ومواجهة الحوادث والوقائع المتجددة، من خلال فهمها وإعادة قراءتها تمثلا للأمر الإلهي المستمر بالقراءة: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق: 1).
وفي الواقع يرتبط "مفهوم التجديد" بشبكة من المفاهيم النظرية المتعلقة بالتأصيل النظري للمفهوم، والمفاهيم الحركية المتعلقة بالممارسة الفعلية لعملية التجديد. على سبيل المثال: يتشابك مفهوم "التجديد" مع مفهومي "الأصالة" و"التراث"؛ حيث يقصد بالأصالة تأكيد الهوية والوعي بالتراث دون تقليد جامد، وتلك المقاصد جزء من غايات التجديد. كما يشتبك "التجديد" مع مفهوم "التغريب" الذي يعبر عن عملية النقل الفكري من الغرب، وهو ما قد يحدث تحت دعوى التجديد.
مفهوم التجديد في كل من النسق المعرفي الإسلامي والنسق المعرفي الغربي يشكل ما يمكن أن نطلق عليه "المفهوم- المنظومة"، إذ أن النظر لمفهوم التجديد تحكم في منظومة كاملة من المفاهيم ترتبط به أو تتداعى له، أو تختلط به، كما أن محورية هذا المفهوم في كلا النسقين المعرفيين (الغربي والإسلامي) جعل من اختلاط المفهوم الأساس؛ التجديد، سواء في اللفظ أم في المعنى، يتبعه بالضرورة اختلال المفاهيم الفرعية التابعة له
وعلى صعيد المفاهيم الحركية، تطرح مفاهيم مثل "التقدم" و"التحديث" و"التطور" و"التقنية" و"النهضة" لتعبر عن رؤية غربية لعملية التجديد نابعة من الخبرة التاريخية الغربية، ومستهدفة لربط عملية التجديد في كل الحضارات بالحضارة الغربية، باعتبارها قمة التقدم وهدفا للدول الساعية نحو التنمية، كما تظهر مفاهيم مثل "الإصلاح" و"الإحياء" وهي نابعة من الرؤية الإسلامية لعملية التجديد، حيث التجديد هو إحياء لنموذج حضاري وجد من قبل.
ويتضح مما سبق مدى الارتباط بين "مفهوم التجديد" فكرا وممارسة، وبين الخبرة التاريخية والمرجعية الكبرى النهائية للمجتمع.
على هذا فإن التجديد في الرؤية الاسلامية لا يتقبل مطلق الجديد أو يرفض مطلق القديم، كما أنه لا يرفض مطلق الجديد أو يتقبل مطلق القديم، إنه دائما يتحرك من نقطة ثابتة يعود إليها ويتفاعل معها لتشيد عمارته الحضارية، يرتبط بأصل ثابت قادر على العطاء المتجدد خلال التفاعل البشري والمطلق والنسبي من خلال تقديمه لعلاقة واضحة بينهما بينة الأسس، مستلهمة المقاصد؛ التجديد ليس بالتجميد أو التقليد أو التبديد.
نستطيع القول إن مفهوم التجديد في كل من النسق المعرفي الإسلامي والنسق المعرفي الغربي يشكل ما يمكن أن نطلق عليه "المفهوم- المنظومة"، إذ أن النظر لمفهوم التجديد تحكم في منظومة كاملة من المفاهيم ترتبط به أو تتداعى له، أو تختلط به، كما أن محورية هذا المفهوم في كلا النسقين المعرفيين (الغربي والإسلامي) جعل من اختلاط المفهوم الأساس؛ التجديد، سواء في اللفظ أم في المعنى، يتبعه بالضرورة اختلال المفاهيم الفرعية التابعة له (الاجتهاد- التغيير- التراث- التنمية- التحديث.. الخ).
وفي سياق متلازم بين النسق المعرفي والغربي والإسلامي؛ كان من الضروري بيان أثر اختلال معاني التجديد في اختلال المنظومات الفكرية والثقافية والحضارية، سواء تعلق الأمر بمفاهيم أقرب إلى النظر (مثل: الاجتهاد- الجِدة- المعاصرة- القدم والأصالة- الحداثة- التقليد- السلفية- الاتباع- التراث- التغريب والعلمانية والعقلانية والتنوير واليسار.. إلخ)، أو تعلق الأمر بمفاهيم أقرب ما تكون إلى الحركة الحضارية والتأثير عليها وفيها (مثل مفاهيم: النهضة- العلاقة بين الحضارات- التواصل الحضاري- الانفتاح الحضاري- اللحاق بالركب الحضاري- الاتجاه الانساني- وحدة الثقافة والحضارة- مفاهيم التقدم والتخلف والتمية والتحديث والتطور- والتبعية والتصنيع- واليقظة والصحوة والنهضة والبعث- التجديد والتغيير والإصلاح والإحياء- التنمية السياسية- التحديث- التطور- التقدم)..
التجديد وفق هذه الرؤية لا بد أن يمتد إلى معاني النهوض الحضاري والقدرة على تحقيق أصول الشهود الحضاري، ويكون عنوان التجديد بذلك واحدا من أهم العناوين الأساسية فيما يمكن تسميته بأصول الفقه الحضاري، وربما قد يشير ذلك إلى ضرورة التوقف عند مصطلح ذاع وشاع وهو الذي يتعلق بتجديد الخطاب الديني.
x.com/Saif_abdelfatah