لا يمكن إنكار أن أمريكا خسرت الكثير خصوصا في العقد الأخير لجهة سياستها الخارجية التي باتت – في نظر الجميع بما فيهم ساسة أمريكيون – تقليدية وتتعارض مع متغيرات وتعقيدات النظام العالمي، فها هي الصورة تتضح أكثر فأكثر لدى الأمريكيين بأن سياسة ما بعد الحقبة الباردة بالاحتواء وعدم السماح لأي قوة عسكرية منافسة بالظهور بدأت تعطي نتائج عكسية، وإذا كانت نجحت في فترة ما إلا أنها مع ذلك لم تستطع من كبح جماح القوى الصاعدة من فرض حضور متنام لها، الأمر الذي صار يفرض عليها بالضرورة أن تغيّر من هذه السياسة.
وشاء أم أبى، أي من الحزبين المتنافسين على دخول البيت الأبيض سيكون مجبرا بأن يكون أقرب إلى الواقعية في التعاطي مع هذه الحقيقة.. ربما الديمقراطيون هم الأكثر قربا لتفهُّم هذه المتغيرات من زملائهم الجمهوريين، إلا أن هذا لا يعني استعدادهم للعمل على أساسها، وأقرب مثل على ذلك هو ما كشفت عنه مظاهرات شيكاغو خلال المؤتمر الوطني الديمقراطي الذي انتهى يوم أمس، وقد وُجهت إليه تحذيرات واضحة بأن استمرار دعم الكيان الصهيوني في سياسة الإبادة الجماعية بحق غزة سيكون له انعكاس غير مريح للديمقراطيين في انتخابات نوفمبر القادم، وعُدّ التجاهل المتعمد لمطالب المتظاهرين، إشارة إلى عدم رغبة كامالا هاريس – المنافسة المزعجة لترامب على قيادة أمريكا – في تبني سياسة جديدة تغادر نمطية النزعة الفوقية التي تُعد متلازمة أمريكية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك على عكس ما حاولت مستشارة (هاريس) للأمن القومي ريبيكا ليسنر الترويج له في كتابها الأخير “كيف يمكن أن تنتصر أمريكا في الصراع على القرن الواحد والعشرين”، بأن الديمقراطيين سيكونون أقرب إلى تبني سياسة جديدة تقف عند مستوى الحرص على الزعامة ولكن بلا توجه فوقي يسمح لها بممارسة الحضور المؤثر في توجيه سياسات العالم، مع تأكيدها أن على الولايات المتحدة التخلي عن (سياسة) التفوق الاستراتيجي وعن “النظام الليبرالي الدولي” لحقبة ما بعد الحرب الباردة.
واقعية بعض الديمقراطيين الأمريكيين – كما سبقت الإشارة – لا تعني بالضرورة توجه الحزب لتبني سياسة جديدة، وإنما قد تأتي من زاوية المحاولة لتبييض صفحة الحزب، بأنه الأكثر عقلانية في المواجهة وعدم الهروب من الحقائق كما هي، ما يعني الاهتمام بإيجاد الحلول، مع ذلك فإن لعب هذا الدور قد يُخفي قناعة تغاير السلوك الحاصل، وهو ما يخشاه اللوبي الصهيوني الذي يعمل على تفكيكها نهائيا لما تمثله من خطر عليه باعتبار أن أمريكا تمثل بالنسبة له الواجهة التي من خلالها يمكن له تنفيذ سياسته العدائية تجاه العالم.
تؤكد ليسنر “أن الولايات المتحدة ربما لم تعد قادرة على إدارة النظام العالمي الذي أوجدته بشكل كامل”، وهذه الحقيقة سواء جاء الاستعانة بها لتهيئة الرأي العام الأمريكي لتقبل فكرة أن الديمقراطيين الذين يدركون هذا الواقع هم الأقدر على إيجاد المخارج التي معها يمكن لأمريكا أن تبقى الأولى عالميا، أو عكست ما يعتمل فعلا داخل الساسة الأمريكيين من مخاوف على مستقبل القوة العظمى التي تكاد تتوارى، والتي تحتم عليها الحفاظ على ما أمكن من سمات الصدارة على العالم، في كل الأحوال، فإن هذه الحقيقة في العموم لا تنفصل عن ما هي عليه اليوم فعلا، وصار الأولى بها أن توجه مليارات التسلّح إلى تحديث الخدمة الاجتماعية ومكافحة الجريمة داخل المجتمع الأمريكي، حسب ما يوصي الكثير من المحللين الأمريكيين، بدلا من هذه الاستماتة في الحفاظ على إيهام الآخرين بالتفوق بقصد الردع.
ووفق ذلك، لا شك أن المرشح سيكون أمام تحديات كبيرة تقف دون تمكين الولايات من الحفاظ على مستوى دخلها التي تجلبها من النهب والإتاوات مع هذا الأفول، خصوصا وأن الشرق الأوسط يكاد ينسحب من سيطرتها، ما يعني اشتراط الحقبة الجديدة لاستراتيجيات جديدة تتوافق مع هذه المتغيرات، ولن يكون لأمريكا بأي حال استعادة ما فقدته من مكانة وسمعة وإن كان لا يزال أمامها فرصة أن تحفظ ما بقي لها من ماء الوجه.
سمعة أمريكا تلطخت بفعل بلطجة قادتها في الأرض، وبفعل انحيازها لمشاهد المجازر الصهيونية وبفعل انسحاباتها المتتابعة من مناطق كانت تعد جزءاً من ممتلكاتها وتحديدا العربية، فضلا عن تعرضها لإهانة الصفعات اليمنية، سواء المباشرة على قطعها البحرية أو تلك التي منعت باقي سفن من أن تشق طريقها إلى الكيان المحتل، وقد كانت أمريكا قبلا تزعم أن مظلتها كافية لحمايتها.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً: