موقع النيلين:
2024-10-01@07:15:48 GMT

البرهان والجيش والإسلاميين

تاريخ النشر: 10th, August 2023 GMT

البرهان والجيش والإسلاميين


ظل البرهان منذ أن تولى رئاسة المجلس السيادي والقوات المسلحة في أبريل/نيسان 2019 وحتى اليوم يكابد وضعا شديد الإرباك، فهو قد نُصِّب في الرئاسة لرعاية مطلوبات تغيير النظام السياسي للإسلاميين، ولكنه يقود جيشا متعاطفا معهم ولا يزال فيه بعض من نفوذهم.
والبرهان متهم -بشواهد عديدة- بأنه يرغب في الحكم، فيما القوى السياسية التي ساهمت في تغيير نظام الإنقاذ ظلت تلح عليه -وبسند غربي- أن يسلمها السلطة، كذلك فإن الضغط الخارجي عليه لم يحمل أهدافا متحدة، مما أعجزه عن أن يرضي الكل.

بدا واضحا أن البرهان قرر أن يثق بدهائه وقدرته على أن يخادع الجميع، فسمح بضرب الإسلاميين إرضاء للثوريين والخارج، ولكنه لم يسمح بالقضاء عليهم إرضاء للجيش ولإفزاع قوى الحرية والتغيير وكل من حاولوا الضغط عليه لتسليم الحكم.

أمنية البرهان ربما تكون أن يضمن موقعا دستوريا وحصانة مقابل تسليم الجيش للإشراف الدولي بعد وقف الحرب

عندما حان ميقات التسليم حسب الوثيقة الدستورية انقلب هو وحلفاؤه العسكريون (حميدتي والحركات المسلحة) على حكومة حمدوك وأزالوا المدنيين من الحكم.

كان البرهان منذ أن تولى الحكم وحتى قامت الحرب يعمل على تقوية الدعم السريع استجابة لإغراءات حميدتي وضغط بعض الدول الإقليمية، ولكن بالأساس لاتقاء انقلاب في الجيش يقوده الإسلاميون، وذلك برفع تكلفة المواجهة المتوقعة بين الجيش والدعم السريع في حال قام ذلك الانقلاب.

حميدتي بدوره كان في وضع مشابه ومارس التلاعب ذاته لفترة طويلة وهو في صف البرهان، وبعد إزاحة المدنيين عن الحكم واحتدام التنافس نحو كرسي الرئاسة بين الرجلين قرر حميدتي أن يغير الاصطفاف طمعا في حلف يقربه من الأميركيين.

وهذا زاد موقف البرهان تعقيدا، إذ إنه تمادى في تقوية حميدتي وقواته للدرجة التي جعلت الجيش يغلي غضبا حتى قامت حركة داخله بانقلاب لم يكتمل، والأمر الفارق أن هذه الحركة وذلك الغضب كان أساسهما مهنيا محضا ولا يحمل شيئا من نفوذ الإسلاميين (اللواء بكراوي قائد المحاولة ليس إسلاميا).

البرهان سمح بتضخم المليشيا لأنه كان يخشى غضب الإسلاميين داخل الجيش، وانتهى به الأمر مُغضبا المؤسسة بكاملها بسبب تراكم الغبن والإهانات التي توالت عليها، أما بعد أن بلغ الأمر مبلغ الحرب وحلّت ويلاتها على عموم السودانيين صار البرهان محلا لسخطهم أجمعين لا يزاحمه في ذلك إلا آل دقلو.

ماذا يصنع البرهان لينجو؟

إن تمكن الجيش من هزيمة المليشيا فقد درعه الوحيد وربما أزاحه الجيش ضربة لازب إن لم يحاكمه بالخيانة، وسيهلل كل الناس لمحاسبته بصرامة كونه شريك حميدتي في المسؤولية عن هذا الخراب، وإن انتصرت المليشيا فهو هالك لا محالة.

البرهان أمله الوحيد والضعيف هو أن تستمر الحرب وأن يصيب الجميع الرهق الشديد فيتراضون على تسوية توقف الحرب، وإن قبل الطرفان بالجنوح إلى السلم وتسوية النزاع فيستبعد أن يكون ذلك إلا بتحكيم وإشراف دولي يقسم الخرطوم إلى منطقة لنفوذ الجيش وأخرى للمليشيا ومنطقة وسط منزوعة السلاح تتوسع تدريجيا حتى تبدأ الحياة في العودة إلى طبيعتها، ثم يقوم المشرفون بعدها بإجراء الجراحة التي تعيد هيكلة القوات المسلحة ودمج الدعم السريع داخلها.

هذا ظاهرا، أما باطنا فإن القتال إذا توقف قلّ حينها اهتمام الغربيين بالأمر وأوكلوه إلى أصحاب المصلحة في الإقليم، مصر قد تحصل على ضمانات من الخليج ثم تعمل أمواله وأموال حميدتي للتأثير على الإشراف الدولي الذي سيكون أفريقيا على الأرجح، ويجد الجيش السوداني أنه قد فقد الدفع العسكري في المعركة وشرعيته كممثل للدولة والشعب وقدرته على فرض أي مطالب، ثم تُفكك قدراته الصناعية والاقتصادية، وساعتها لا يبقى لآل دقلو أو من يأتي بعدهم إن هلكوا سوى أن يُملأ الفراغ الضخم.

أمنية البرهان ربما تكون أن يضمن موقعا دستوريا وحصانة مقابل تسليم الجيش للإشراف الدولي بعد وقف الحرب، لكن إذا أنشب الوسطاء براثنهم في لحم الجيش وصار تحت رحمتهم فإن البرهان سيصبح بلا قيمة، فيما يظل يحمل تركة الخراب الثقيلة، لذلك سينقضون أي عهد قطعوه معه وسيُترك أمره لمن يتولى الحكم أن يقرر ما يفعل به بعد إحالته إلى المعاش.
معضلة الإسلاميين

البرهان سيكون سعيدا لو صارت هذه الحرب محرقة للإسلاميين داخل الجيش وخارجه من شبابهم المقاتلين، هذا يضاف إلى جملة الأسباب التي تدفعه لإطالة أمد الحرب وتعطيل النصر، لكن الحق أن الجيش لديه مشكلة أخرى تعيق نصره، وهي مشكلة المشاة.

قبل الإنقاذ ظل الجيش في سجال طويل مع المتمردين في الجنوب، وكان في ذلك معتمدا على الأسلحة الفنية في تحقيق انتصارات محدودة، بعد الإنقاذ ودخول الدفاع الشعبي ساحة القتال أصبح المشاة من المجاهدين أكثر فاعلية وتأثيرا في الحرب (فاعلية أفزعت الخارج الذي ضاعف دعمه للتمرد وأعاد حالة السجال).

وبعد انفصال الجنوب وتجدد الحرب في دارفور أصبح الجيش يعتمد على مليشيا الدعم السريع لسد فجوة المشاة عنده، وقد أظهروا كفاءة في ذلك خففت نار الحرب بقدر بائن وإن لم توقفها.
المفارقة الآن هي أن شباب الإسلاميين يقاتلون مع الجيش صفا واحدا ضد المليشيا التي أنشأها نظام البشير الذي جاؤوا به إلى الحكم وكأنها تكفير بالدم عن خطايا لم يقترفها الشباب المقاتلون الآن، ولكنهم احتملوا جريرتها حتى يبقى السودان.

المشكلة هي أن المتطوعين وجنود وضباط الجيش في حربهم هذه يواجهون رصاص المليشيا بصدورهم وتتلقى ظهورهم طعن البرهان الذي يبحث عن مخرج.

أفراد الجيش ملزمون بطاعة القائد، ولكن ما الذي يدفع المتطوعين لأن يقاتلوا في حرب لا يرغب قائدهم في النصر فيها؟ أما الإسلاميون فهو يراهم عدوا كما يرى المليشيا عدوا، فكيف يقاتلون تحت قيادته؟ ولن تكون في الحرب انتقائية.

إن تراخي البرهان سيجعل الحرب محرقة للإسلاميين ولجنود وضباط الجيش ولعموم المتطوعين للقتال من السودانيين، وهذا ليس تخذيلا عن القتال ولكنه حساب ضروري لمعطيات المعركة.

جواز الصراط
أولا: لا بد أن يُبعد البرهان عن إدارة المعركة، يمكن أن يصاغ اتفاق داخل الجيش وبالترتيب مع التيارات السياسية والدول الخارجية التي تدعمه على منح البرهان حصانة قضائية وتنصيبه رأسا للدولة لفترة معلومة بعد نهاية الحرب ثم معاشا كريما عند دولة مضيفة، ويمكن أن يظل رئيسا رمزيا للجيش أثناء الحرب، ولكن يقوم الجيش بترتيب بيته الداخلي ليشكل مجلسا يدير المعارك بعد أن يتخلص من كل البؤر الرخوة داخله، سواء الخائنة أو الضعيفة.

ثانيا: بديهي أن من ينتصر في هذه الحرب سيحكم السودان ولو إلى حين، هذا لن يقتصر فقط على العسكريين، لو انتصرت المليشيا فستُشِرك حلفاءها السياسيين في بعض الحكم، وكذلك سيفعل الجيش.لذلك، إن الترتيب الذي سيجري لما بعد الحرب ينبغي أن يصاغ الآن عهدا ملزما قبل أن تنتهي الحرب، لا جدوى من التظاهر استرضاء للغرب بأن الجيش سيسلم السلطة إلى المدنيين بعد الحرب، ولا ينبغي له، فلا هم سيقدرون عليها ولا هو سيقدر.ينبغي أن يصاغ اتفاق سياسي يمنح الجيش منزلة سياسية يقف فيها حارسا لترتيب الانتقال الديمقراطي المتدرج والمدروس ولتعويض وتعضيد الأمن والطمأنينة اللذين فقدناهما في الحرب.ومهمة السياسيين ستكون ألا يصيب السودانيين اليأس من الحرية بعد ويلات الحرب ويُسْلِمون آمالهم في الحرية والعدالة ليجدوا السلام، وتحقيق هذا الاتزان الحرج سيحتاج هذه المرة إلى حكمة عالية وأناة شديدة.

ثالثا: سيطرة تنظيم الإسلاميين على الجيش مجرد خرافة لم تتحقق حتى في أغلب سنوات الإنقاذ، بل إن البشير وحرصا منه على ألا يملك التنظيم الإسلامي أمره عمل على خلق جفوة شديدة بين التنظيم والجيش ونجح في ذلك، وللمفارقة جعل من سقوطه في ديسمبر/كانون الأول 2019 ممكنا.لكن رغم ذلك فإن الحلف الآن بين الإسلاميين والجيش يبدو حتميا بسبب العدو المشترك والطبيعة المحافظة لأغلب العسكريين، وإخفاء هذا الحلف عن أعين السودانيين والخارج يبدو مستحيلا وغير مبرر، وإذا انتصر الجيش في هذه الحرب -سواء بسند قتالي من الإسلاميين أو دونه- فهو سيحتاجهم ظهيرا سياسيا لإدارة الدولة.يحسن أن يكون العهد بين الجيش والإسلاميين والسودانيين معلنا، عهد يحفظ للجيش حظا من الاستقلال الإداري والمالي ويعطي الإسلاميين وحلفاءهم فرصة جديدة لتثبيت نظام سياسي ديمقراطي مستدام بعد أن أضاعوها أيام الإنقاذ.

رابعا: إدارة العلاقات الخارجية بعد الحرب ستحتاج إلى الحكمة الممزوجة بالقوة والاعتزاز، والحكم في السودان بعدها سيكون شبه عسكري، وعلى الغربيين أن يتعاملوا مع هذا، والإسلاميون سيكونون جزءا من المشهد السياسي بعد الحرب، وعلى الغرب وبعض دول الإقليم التعامل مع هذا، وفي تعدد الأقطاب في العالم اليوم مندوحة عن لبس الأقنعة والتذلل.
خامسا: إذا حصلت التسوية بإشراف دولي وانتبه الجيش إلى مزالقها ولم يسلم نفسه للهيكلة فمن الممكن أن ينتهي الأمر بإعادة المليشيا وداعميها ترتيب أمرهم بالتكتل في دارفور ثم العمل على فصلها في دولة مستقلة، وهذا أمر يمكن حينها تداركه ومنعه وقد تكون فيه نهاية بطيئة لأزمة طويلة.

ختاما، يسير علينا كسودانيين أن نرى بارقة الأمل في الخروج من هذا البلاء حين نرى تمايز الحق والباطل هذه المرة شديد الجلاء، ودخان الحريق الذي يشتعل في الخرطوم الآن أزال غبش الرؤية عمن يريد الخير للسودان ومن يريد السوء.

سيتجاوز السودان هذا الصراط نحو العافية، والنار التي يخوضها الآن ستجلو الصدأ وتنفث خبث المعدن وتبعثه عنقاء تنهض من الرماد وتحلق عاليا، وما ذلك على الله بعزيز

علي عبد الرحيم علي
أكاديمي في جامعة لندن

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: بعد الحرب بعد أن فی ذلک

إقرأ أيضاً:

جراح منسية.. الصحة النفسية ليست أولوية للمؤسسات التي تُشغّل الصحفيين في غزة

أُنجِزَ هذا التحقيق بدعمٍ من أريج.

يوثق التحقيق من خلال شهادات وبيانات صحفيين وصحفيات في غزة الأثر النفسي القاسي، الذي تُخلفه تغطية الحرب، في ظل غياب الدعم النفسي اللازم، المُقدم لهم من المؤسسات الإعلامية.

لم يتمكن يوسف فارس من طرد رائحة احتراق الجثث العالقة في ذهنه؛ حتى إن مشهداً اعتيادياً لشواء السمك أثناء عودته من العمل، يذكره بالقصف الإسرائيلي لمدرسة « التابعين »، الذي راح ضحيته نحو مئة شخص. « لم أعد أحتمل رائحة الشواء، بعد أن شممت رائحة الجثث والأشلاء المحترقة »، يقول يوسف فارس (37 عاماً)، الصحفي في شمال غزة.

بعد مضيّ عشرة أشهر من الحرب على قطاع غزة، وعبر حسابه على فيسبوك، كتب أنس الشريف، مراسل الجزيرة شمال القطاع: « أقضي ليالي بلا نوم، كأنني أبحث عن ملاذ لا يمكن الوصول إليه، تتكرر في ذهني صور المجازر في غزة… ربما تكمن الراحة في الموت؟! ».

المشاعر ذاتها وربما هواجس أخرى، دونتها دعاء روقة -عبر صفحتها على فيسبوك- بعد نجاتها للمرة الثالثة من غارة إسرائيلية استهدفت ساحة مستشفى شهداء الأقصى، وأدت إلى مقتل خمسة أشخاص: « هل سأموت حرقاً أم بشظية صاروخ؟! هذا السؤال أصبح يراودني ويقلقني … لا أريد أن يفتفتني الصاروخ لأشلاء، أُريد جسدي كاملاً حين مماتي ».

تلخص كلمات فارس والشريف وأمنيات روقة حال عديد الصحفيين والصحفيات في قطاع غزة، ممن عاشوا الحرب الأخيرة وشاركوا في تغطيتها.

في السابع من أكتوبر 2023، استيقظ الغزيون على أصوات الانفجارات، كانت الصواريخ بحسب وصف أحد الصحفيين تملأ سماء غزة. سارع الصحفيون لتغطية الحرب التي لم يتوقع أيّ منهم حينها أن يطول أمدها إلى هذا الحد. رغم أن القطاع شهد عدة حروب، لكنّ أطولها لم تتجاوز واحداً وخمسين يوماً. وجد الصحفيون أنفسهم أمام حرب لا تبقي ولا تذر؛ فالنجاة منها قدر قد لا يصيب كثيرين.

« المشاهد التي يراها تعلق في ذاكرته، الأصوات التي يسمعها، صافرات الإنذار والانفجارات وصراخ الناس الذين يعانون… كل ذلك مقلق جداً ويستنزف الإنسان، لا يمكن أن يمر بذلك لفترات طويلة من دون أن يترك أثراً »، تؤكد الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد.

لا يوثق الصحفيون والصحفيات أحداث الحرب فحسب، بل يعيشون تفاصيلها كل يوم. يقول يوسف فارس، الصحفي في شمال غزة: « عندما نتحدث مع أفراد فقدوا عائلاتهم، نشعر بدموعهم على خدودنا، وبكل مشاعرهم لأننا عشنا ما يعيشونه ».

 

يوسف فارس من داخل مدرسة التابعين في العاشر غشت بعد قصفها بطيران الجيش الإسرائيلي

في بث مباشر، وبعد تلقيه خبر مقتل زميله محمد أبو حطب رفقة أحد عشر فرداً من عائلته، قال الصحفي سلمان البشير: « نحن ضحايا على الهواء مباشرة، مع فرق التوقيت ». ورغم كل هذه الضغوط والتهديدات، يستمر الصحفيون في التغطية.

« لن يكلف أحد نفسه بسؤالنا إن كنا بخير »

 

يفترش الصحفي مصطفى جعرور (34 عاماً) خيمة نُصبت في ساحة مستشفى شهداء الأقصى، يتقاسمها مع خمسة صحفيين آخرين. انتهى به المطاف في هذه الخيمة بعد شهرين من الحرب، قضاها متنقلاً بين مستشفى الشفاء في مدينة غزة، ومستشفى ناصر في خان يونس.

يقول جعرور، الذي يعمل لصالح مؤسسة محلية: « تحرص المؤسسة على تذكيرك بالسلامة الجسدية والابتعاد عن المخاطر… من هذه الناحية لا يوجد تقصير من المؤسسة، لكن المؤسسات عامة لا تسأل الصحفي إن كان بخير أم لا؟! بل لا يملكون الوقت حتى لفعل ذلك ». مضيفاً أن ما يهم المؤسسات نهاية المطاف، هو استلام المادة الصحفية. ورغم أنه « ناجٍ من أربع حروب سابقة »، فإن هذه الحرب هي الأصعب، وفق تعبيره.

في اليوم الثالث من الحرب، فقد جعرور ثلاثة من زملائه المقربين في قصف إسرائيلي، استهدف عمارة سكنية، وفق ما وثّقت أريج في تحقيق سابق لها. يظهر جعرور في هذا الفيديو منهاراً باكياً، لحظة تأكيد خبر مقتلهم.

 

حتى ساحة مستشفى شهداء الأقصى، تعرضت للقصف الإسرائيلي عدة مرات، منها أواخر مارس، والأخير مطلع غشت. يصف جعرور حاله قائلاً: « أعجز عن النوم أحياناً، وحين تقع مثل هذه الأحداث لن يكون النوم ممكناً، بات الأمر مخيفاً للغاية ».

أهوال كثيرة يعيشها الصحفي مصطفى جعرور، كسائر سكان القطاع. دُمّر منزله، وفقد عدداً من زملائه، ونزحت عائلته عدة مرات، لتستقر أخيراً في منطقة القرارة بخان يونس؛ فيصعب الوصول إليهم. لكنّ المشهد الذي أثر فيه نفسياً وبات جزءاً من « روتينه » الصباحي، هو اصطفاف جثث القتلى في كل ممرات المستشفى.

 

خيمة الصحفيين داخل مستشفى شهداء الأقصى (المصدر: مصطفى جعرور)

يشارك جعرور تفاصيل ما يمر به مع زملائه الصحفيين الذين يتقاسم معهم الخيمة. أما المراسل الحربي عطية درويش (36 عاماً)، يفضّل أن يكون وحيداً، ويحتفظ بالكثير من التفاصيل المؤلمة لنفسه.

يذكر درويش، الذي سبق وتعرض لإصابة أثناء إحدى التغطيات قبل بضع سنوات، أن شعور الخوف والقلق كان يلازمه بداية الحرب؛ فكان أكثر ما يخشاه أن يتلقى خبر قصف محل سكن عائلته، أو أصدقائه. أما الآن فقد تبدّل هذا الخوف، يقول درويش: « ذهب هذا الخوف! لم أعد أشعر به، حتى إنني أصبحت عاجزاً عن البكاء ».

 

عطية درويش

وعن دعم المؤسسات الإعلامية، يشير درويش -الذي فقد شقيقه وابنة أخته، إلى جانب ثمانية أشخاص من عائلته عقب قصف منزلهم- إلى أن المؤسسات الصحفية العربية والدولية التي يعمل لديها؛ لا تسأل عن حالته النفسية في « الوقت الراهن »، وإنما يسألون فقط عن احتياجاته في العمل.

الصحفيان مصطفى جعرور وعطية درويش

ما يقوله درويش يتطابق مع شهادة الصحفي محمد إسماعيل دحروج، الذي أكد أنه حين تعرض لإصابة، تواصلت معه المؤسسة التي يعمل لديها، وحرصت على تقديم الدعم له. لكنّ المفارقة حين حوصروا في مستشفى الشفاء لأيام، لم تسأله أيّ مؤسسة عن حاله؛ بمعنى أن الصحفي يلقى اهتماماً من المؤسسات حين يكون الجرح ظاهراً، أما تلك الجراح الخفية فلا أحد يلتفت إليها.

من جهة أخرى، يقول الصحفي عبد الله عبيد، إن ما يحفزه للاستمرار في العمل هو تواصل مديره للاطمئنان على صحته؛ لكن في الوقت ذاته فإن المؤسسة لا تُقدّم أيّ دعم مادي للصحة النفسية. وأكد عبيد أنه مر بأربع حروب سابقة، لم يتلقَ خلالها أيّ دعم من أيّ مؤسسة.

 

محمد دحروج

على حافة الانهيار

تمكنت أريج من جمع بيانات مئة و25 صحفياً/ة في قطاع غزة؛ أكد 105 منهم/ن حاجتهم الماسة إلى الحديث حول ما شهدوه من أحداث خلال الحرب الأخيرة على غزة.

أظهر الاستطلاع أن أكثر من نصف الصحفيين/ات (64 صحفياً/ة) يشعرون بالخوف والتوتر أثناء تغطيتهم للأحداث، مقابل 72 صحفياً/ة يتعمدون الانشغال هرباً من مشاعرهم.

كما أوضح الاستطلاع أن 69 صحفياً/ة يرون أن علاقاتهم الاجتماعية تأثرت سلباً بتغطية الأحداث، كما أن 77 منهم أكدوا مرورهم بتقلبات مزاجية حادة. وتشير الأرقام إلى أن 75.2 بالمئة من الصحفيين/ات لا تفارقهم الصور والأحداث التي شهدوها حتى بعد انتهاء التغطية.

يجد فارس في العمل لأكثر من 16 ساعة يومياً، مخرجاً للهروب من ضغوط الحرب النفسية. يضيف قائلاً: « لا يكون العمل الصحفي نعمة لصاحبه سوى في الحروب، فالذي يعمل يكون لديه مسار مقنع للهروب من تفاصيل واقعه وهواجس مستقبله ». حاول فارس أن يتوقف عن التغطية ليوم واحد؛ لكنّه لم ينجح.

يتساءل فارس، الذي لم يتوقف يوماً منذ بداية الحرب عن نشر قصص توثق معاناة الغزيين شمال القطاع: « هل يمكن لإنسان سوي نفسياً أن يكتب ثمانين قطعة صحفية، ويقدم أربعين تقريراً وجولة مصورة، وخمساً وعشرين قصة تلفزيونية، لصالح أكبر خمس مؤسسات إعلامية عربية خلال شهر واحد… لا بل ويستمر في روتين كهذا لستة أشهر؟ ».

 

تصوير محمد بعلوشة

أما عن الدعم الذي تقدمه المؤسسات التي يعمل متعاوناً معها، فيؤكد الصحفي يوسف فارس أن علاقته بهذه المؤسسات اتخذت أبعاداً أكثر إنسانية خلال هذه الحرب، وتخطت كونها علاقة عمل؛ لأنها تتواصل معه بشكل يومي؛ للاطمئنان على حاله وحال أسرته. ويشير فارس إلى أنه ترك ارتباطات مع مؤسسات دولية -رغم مردودها المادي الأعلى- لأنها كانت دون المستوى الإنساني، على حد تعبيره.

تشير الأرقام إلى أن 53 صحفياً/ة من المستطلعة آراؤهم، لم يحصلوا على يوم إجازة واحد منذ الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023. حتى أولئك الذين توقفوا عن العمل أياماً معدودات بسبب نزوحهم، أو اعتقالهم، أو حتى إصابتهم، فقد عادوا للعمل مباشرة.

تقول خبيرة الأمن والسلامة الجسدية، عبير السعدي، إن الخطورة تكمن في انخراط بعض المراسلين الحربيين المحليين عاطفياً في التغطيات بمناطق النزاع؛ لأن حينها يختفي حس المراسل للأمن والسلامة الجسدية، مشددة على ضرورة أن يخلق الصحفي مسافة بينه وبين الحدث.

وتضيف السعدي أن المراسل الحربي -على سبيل المثال- يُبقي نفسه منشغلاً هرباً من التفكير، كي لا يتعرض لصدمة نفسية أو « تروما ». وتؤكد ضرورة خضوع الصحفي الحربي لجلسات دعم نفسي، بعد شعوره « بالأمان النسبي »؛ سواء بوقف إطلاق النار أو نزوحه إلى مكان أكثر أماناً، لأنها مرحلة استيعاب ما مر به.

ثنائية مقومات الحياة والأمن

كشف الاستطلاع أيضاً أن 93 من أصل 125مستجيباً فقدوا أفراداً من عائلاتهم، وأن 46 صحفياً/ة تعرضوا للإصابة، في حين واجه أغلب الصحفيين خطر الموت (117 صحفياً/ة).

وكانت أريج قد كشفت في تحقيق سابق أن 72 من أصل 213 صحفياً/ة فقدوا أفراداً من عائلاتهم، من بينهم 49 مستجيباً فقدوا أقارب من الدرجة الأولى، في حين أن 11 شخصاً منهم فقدوا واحداً أو أكثر من أطفالهم.

كما أظهر الاستطلاع، أن كل الصحفيين المُستطلَعين تعرضوا للنزوح؛ 88 صحفياً/ة تعرضوا للنزوح خمس مرات على الأقل، علاوة على ذلك انفصل 81 منهم عن عائلاتهم (64 في المئة).

وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة « فلسطينيات »، وهي مؤسسة أهلية إعلامية عملت على تقديم الدعم النفسي للصحفيين والصحفيات منذ عام 2014، لا تُقلّل من حاجة الصحفيين/ات إلى الدعم النفسي، لكنّها ترى أن هناك حاجات أساسية لكل الفلسطينيين في القطاع، منها تأمين مياه نظيفة، ومكان يلجؤون إليه لحمايتهم وذويهم. تضيف قائلة: « الصحفيون ليسوا منفصلين عن سياقهم وسياق عائلاتهم… بالأول بدي أعيش، أكون قادر على الحياة ».

في السياق ذاته، تؤكد الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، أهمية الحاجات الأساسية للإنسان من الطعام، والراحة، والاستقرار، كي يتمكن من أداء مهامه.

يوسف فارس في منزل العائلة بعد أن دُمّر جزء كبير منه في الحرب الإسرائيلية

 

الدعم النفسي خارج حساب المؤسسات

يرى خبراء في الصحة النفسية ضرورة تقديم الدعم النفسي للصحفيين قبل التغطية، كما يتمّ تزويدهم بالدروع الواقية لسلامتهم الجسدية، لا سيّما في مناطق الصراع، إضافة لجلسات التفريغ النفسي، والحديث عن المهام بعد انتهائها.

وفي الاستطلاع الذي أجريناه خلال هذا التحقيق، أكد 57 صحفياً/ة من أصل 125 صحفياً/ة (45.6 في المئة) أن المؤسسات التي يعملون لديها تقوم بالاطمئنان عليهم طوال الوقت.

من جهة أخرى يرى 51 صحفياً/ة أن المؤسسات التي يعملون لديها لا تقدم الدعم النفسي والإرشادات اللازمة للحفاظ على صحتهم النفسية. أما بعد التغطية، فيرى 33 صحفياً/ة فقط (26.4 في المئة) أن مؤسساتهم تطلب الحصول على تقرير مختصر عمّا واجهوه في الميدان.

إلى جانب ذلك، يعمل 83 صحفياً/ة على الأقل لساعات طويلة، إضافة لما ذكر سابقاً من العمل المتواصل من دون الحصول على راحة.

وأخيراً، كشف الاستطلاع أن 25 صحفياً/ة (20 في المئة) فقط يعتقدون أن للمؤسسة خطة واستراتيجية واضحة للدعم النفسي بعد انتهاء الحرب.

ما يزيد الأمر تعقيداً للصحفيين والصحفيات في غزة، أن غالبية المؤسسات التي يعملون لديها غير قادرة على مساعدتهم في مغادرة مكان التغطية بالقطاع.

مسألة أخلاقية لا قانونية

من خلال تجربته، يشير الصحفي يوسف فارس إلى أن المؤسسات التي يعمل معها بنظام « القطعة » ملتزمة تجاهه بقدر حجم العمل بينهما، وهو عادة يكون أقل من المقدم للموظفين بدوام كلي لدى المؤسسة. لافتاً إلى أنها « غير مُلزمة قانونياً »، وفقاً لطبيعة التعاقد.

في المقابل، أكد فارس أن المؤسسات التي يعمل معها لفترات طويلة قبل بدء الحرب، تلتزم بجملة من الحقوق التي تشمل التعويض وبدل المخاطرة والإجازات، وتغطية تكاليف الإنتاج، وغيرها من الالتزامات؛ على الرغم من طبيعة التعاقد نفسه (بنظام القطعة أيضاً).

وتعلق الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، بأن هذا هو الاختبار الحقيقي لغرف الأخبار اليوم، مضيفة: « زملاؤنا في الميدان الذين يعملون بنظام القطعة، ويشكلون أهمية بالغة لعملنا، ربما لا يتمتعون بمظلة الأمان أو الموارد ذاتها؛ لكنّها تبقى مسألة أخلاقية قبل كل شيء ».

في الاستطلاع الذي أجريناه خلال التحقيق، تبين أن أكثر من نصف الصحفيين المشمولين في الاستبيان (74 صحفياً/ة) يعملون بشكل مستقل. وأكد نحو نصف الصحفيين/ات (واحد وستون صحفياً/ة) عدم تساوي الدعم الذي تقدمه المؤسسات للصحفيين/ات المستقلين، مقارنة بالدعم المقدم للعاملين لديها بدوام كلي.

تقدر وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة فلسطينيات، عدد الصحفيين/ات المستقلين/ات بسبعين في المئة في قطاع غزة. وتشير في حديثها إلى أن هناك مؤسسات دولية وعربية تتعاقد مع المراسلين لديها بعقود « فري لانس » ولسنوات طويلة؛ ما يعفيها من الالتزامات القانونية تجاهم. وتضيف قائلة: « أنا لا أتحدث عن مؤسسات محلية تعاني أساساً من قبل ما يحدث الآن من إبادة… أتحدث عما تقوم به بعض المؤسسات الدولية والعربية مستغلة حاجة الصحفيين للعمل ».

ماذا عن دور النقابة؟

تقول شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، والمتحدثة باسم النقابة إن الصحفيين والصحفيات في غزة يعانون جميعا من « تروما »، مضيفة: « في مكان مثل فلسطين؛ حيث يزداد القتل والاعتقال والإصابة، تصبح السلامة الجسدية أولوية لنا كنقابة… لكنّ يظل موضوع الصحة النفسية أيضاً غاية في الأهمية ».

وتشير إلى أن النقابة قدمت في الحرب الأخيرة على القطاع مساعدات غذائية، ومعدات السلامة الجسدية للصحفيين، وغيرها من المساعدات الطارئة كالخيام، مؤكدة تواصل النقابة يومياً مع الصحفيين والصحفيات في غزة.

وتؤكد شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، أن الجانب المادي المتاح للنقابة، يُقيد حجم المساعدات المُقدمة للصحفيين: « نحن ملزمون بكل الصحفيين/ات، لكنّنا لا نستطيع أن نوفر الدعم لهذا العدد الهائل من الصحفيين؛ ننهي تقديم الدعم لقائمة، لننتقل بعدها لقائمة أخرى ».

تقول مديرة فلسطينيات، وفاء عبد الرحمن، إن المؤسسة عملت في السابق على تقديم الدعم النفسي من خلال ثلاثة أشكال: جلسات التفريغ النفسي الجماعية، و »الخلوة » التي تتضمن التفريغ والترفيه؛ يبتعد خلالها الصحفي أو الصحفية لبضعة أيام عن عمله، وينفصل تماماً عن ضغوط العمل، وأخيراً الجلسات الفردية مع اختصاصي نفسي.

وترى مديرة مؤسسة فلسطينيات أن جلسات التفريغ النفسي غير ممكنة في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مشيرة إلى أن الصحفي لن يقطع تغطيته لساعة أو اثنتين ليجلس داخل حدود خيمته ويشارك في جلسة تفريغ نفسي.

وبالحديث عن دور المؤسسات التي يعمل بها الصحفيون، تقول المتحدثة باسم نقابة الصحفيين الفلسطينيين، إن هذه المؤسسات لا تعدّ الصحة النفسية أولوية لها، إلا حين تُفرض عليها من قبل مؤسسات أخرى، ضمن برامج تدريبية، أو بأيّ وسائل دعم أخرى.

تصوير محمد بعلوشة

 

يرى خبراء في الصحة النفسية ضرورة تقديم الدعم النفسي للصحفيين قبل التغطية، كما يتمّ تزويدهم بالدروع الواقية لسلامتهم الجسدية، لا سيّما في مناطق الصراع، إضافة لجلسات التفريغ النفسي، والحديث عن المهام بعد انتهائها.

وفي الاستطلاع الذي أجريناه خلال هذا التحقيق، أكد 57 صحفياً/ة من أصل 125 صحفياً/ة (45.6 في المئة) أن المؤسسات التي يعملون لديها تقوم بالاطمئنان عليهم طوال الوقت.

من جهة أخرى يرى 51 صحفياً/ة أن المؤسسات التي يعملون لديها لا تقدم الدعم النفسي والإرشادات اللازمة للحفاظ على صحتهم النفسية. أما بعد التغطية، فيرى 33 صحفياً/ة فقط (26.4 في المئة) أن مؤسساتهم تطلب الحصول على تقرير مختصر عمّا واجهوه في الميدان.

إلى جانب ذلك، يعمل 83 صحفياً/ة على الأقل لساعات طويلة، إضافة لما ذكر سابقاً من العمل المتواصل من دون الحصول على راحة.

وأخيراً، كشف الاستطلاع أن 25 صحفياً/ة (20 في المئة) فقط يعتقدون أن للمؤسسة خطة واستراتيجية واضحة للدعم النفسي بعد انتهاء الحرب.

ما يزيد الأمر تعقيداً للصحفيين والصحفيات في غزة، أن غالبية المؤسسات التي يعملون لديها غير قادرة على مساعدتهم في مغادرة مكان التغطية بالقطاع.

مسألة أخلاقية لا قانونية

من خلال تجربته، يشير الصحفي يوسف فارس إلى أن المؤسسات التي يعمل معها بنظام « القطعة » ملتزمة تجاهه بقدر حجم العمل بينهما، وهو عادة يكون أقل من المقدم للموظفين بدوام كلي لدى المؤسسة. لافتاً إلى أنها « غير مُلزمة قانونياً »، وفقاً لطبيعة التعاقد.

في المقابل، أكد فارس أن المؤسسات التي يعمل معها لفترات طويلة قبل بدء الحرب، تلتزم بجملة من الحقوق التي تشمل التعويض وبدل المخاطرة والإجازات، وتغطية تكاليف الإنتاج، وغيرها من الالتزامات؛ على الرغم من طبيعة التعاقد نفسه (بنظام القطعة أيضاً).

وتعلق الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، بأن هذا هو الاختبار الحقيقي لغرف الأخبار اليوم، مضيفة: « زملاؤنا في الميدان الذين يعملون بنظام القطعة، ويشكلون أهمية بالغة لعملنا، ربما لا يتمتعون بمظلة الأمان أو الموارد ذاتها؛ لكنّها تبقى مسألة أخلاقية قبل كل شيء ».

في الاستطلاع الذي أجريناه خلال التحقيق، تبين أن أكثر من نصف الصحفيين المشمولين في الاستبيان (74 صحفياً/ة) يعملون بشكل مستقل. وأكد نحو نصف الصحفيين/ات (واحد وستون صحفياً/ة) عدم تساوي الدعم الذي تقدمه المؤسسات للصحفيين/ات المستقلين، مقارنة بالدعم المقدم للعاملين لديها بدوام كلي.

تقدر وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة فلسطينيات، عدد الصحفيين/ات المستقلين/ات بسبعين في المئة في قطاع غزة. وتشير في حديثها إلى أن هناك مؤسسات دولية وعربية تتعاقد مع المراسلين لديها بعقود « فري لانس » ولسنوات طويلة؛ ما يعفيها من الالتزامات القانونية تجاهم. وتضيف قائلة: « أنا لا أتحدث عن مؤسسات محلية تعاني أساساً من قبل ما يحدث الآن من إبادة… أتحدث عما تقوم به بعض المؤسسات الدولية والعربية مستغلة حاجة الصحفيين للعمل ».

ماذا عن دور النقابة؟

تقول شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، والمتحدثة باسم النقابة إن الصحفيين والصحفيات في غزة يعانون جميعا من « تروما »، مضيفة: « في مكان مثل فلسطين؛ حيث يزداد القتل والاعتقال والإصابة، تصبح السلامة الجسدية أولوية لنا كنقابة… لكنّ يظل موضوع الصحة النفسية أيضاً غاية في الأهمية ».

وتشير إلى أن النقابة قدمت في الحرب الأخيرة على القطاع مساعدات غذائية، ومعدات السلامة الجسدية للصحفيين، وغيرها من المساعدات الطارئة كالخيام، مؤكدة تواصل النقابة يومياً مع الصحفيين والصحفيات في غزة.

وتؤكد شروق أسعد، عضوة الأمانة العامة لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، أن الجانب المادي المتاح للنقابة، يُقيد حجم المساعدات المُقدمة للصحفيين: « نحن ملزمون بكل الصحفيين/ات، لكنّنا لا نستطيع أن نوفر الدعم لهذا العدد الهائل من الصحفيين؛ ننهي تقديم الدعم لقائمة، لننتقل بعدها لقائمة أخرى ».

تقول مديرة فلسطينيات، وفاء عبد الرحمن، إن المؤسسة عملت في السابق على تقديم الدعم النفسي من خلال ثلاثة أشكال: جلسات التفريغ النفسي الجماعية، و »الخلوة » التي تتضمن التفريغ والترفيه؛ يبتعد خلالها الصحفي أو الصحفية لبضعة أيام عن عمله، وينفصل تماماً عن ضغوط العمل، وأخيراً الجلسات الفردية مع اختصاصي نفسي.

وترى مديرة مؤسسة فلسطينيات أن جلسات التفريغ النفسي غير ممكنة في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مشيرة إلى أن الصحفي لن يقطع تغطيته لساعة أو اثنتين ليجلس داخل حدود خيمته ويشارك في جلسة تفريغ نفسي.

وبالحديث عن دور المؤسسات التي يعمل بها الصحفيون، تقول المتحدثة باسم نقابة الصحفيين الفلسطينيين، إن هذه المؤسسات لا تعدّ الصحة النفسية أولوية لها، إلا حين تُفرض عليها من قبل مؤسسات أخرى، ضمن برامج تدريبية، أو بأيّ وسائل دعم أخرى.

تصوير محمد بعلوشة اليوم التالي للحرب

تجاوز عدد الصحفيين الذين قتلوا في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، 165 صحفياً/ة وفق أرقام نقابة الصحفيين الفلسطينية؛ ضمن حصيلة إجمالية تُقدر بنحو أربعين ألف مدني.

حتى الذين نجوا -حتى الآن- من الصحفيين، ما زالوا يعانون آثاراً نفسية قاسية. يقول بعضهم، معلقين على مقتل زملائهم، إنهم أصبحوا أكثر خوفاً وقلقاً على أنفسهم وعائلاتهم، في المقابل يرى آخرون أن استهداف الصحفيين زاد إصرارهم على مواصلة تغطية « الجرائم الإسرائيلية » في القطاع.

تشير منسقة البرامج لدى مؤسسة فلسطينيات، منى خضر، إلى أهمية أن يصبح الدعم النفسي والرعاية الذاتية نهجاً داخل كل مؤسسة إعلامية، لافتة إلى أن بعض المؤسسات تعد هذا الأمر « رفاهية »، حتى إن بعض هذه المؤسسات تطلب من صحفييها تقديم طلب إجازة لحضور ورشة « تفريغ نفسي »؛ ما يشكل عبئاً إضافياً على الصحفيين، وبالتالي يعزفون عن حضور هذه البرامج.

الاختصاصية النفسية في مركز « دارت » للصحافة والصدمة النفسية، كيت بورترفيلد، تؤكد أن الصحفيين/ات يُظهرون الكثير من الصمود أثناء عملهم، لكن ذلك لا يعني أنهم محصنون أو أن بإمكانهم الاستمرار على هذا النهج إلى الأبد.

من جهتها، تؤكد المتحدثة باسم نقابة الصحفيين الفلسطينيين، شروق أسعد، أهمية الحفاظ على الصحة النفسية من أجل استمرارية عمل الصحفيين: « السلامة النفسية توازي السلامة الجسدية، قد نخسر صحفيين/ات من دون أن يتعرضوا للقتل أو الإصابة، لكن بسبب الصحة النفسية فقط ».

ووفقاً للمتحدثة باسم نقابة الصحفيين الفلسطينيين، فإن ما تقدمه المؤسسات غير المحلية، لا يتناسب مع حجم الدعم المطلوب لصحفيين يعملون تحت وطأة الحرب طيلة الوقت، مقارنة مع ما يُقدم للصحفيين في أوكرانيا وأفغانستان والعراق على سبيل المثال.

تواصلنا مع مؤسسات صحفية إقليمية ودولية؛ لنعرف أكثر عن خططها في التعامل مع الصحفيين والصحفيات في غزة؛ من بينها دويتشه فيله DW، التي نفت وجود طاقم لها حالياً في قطاع غزة.

وجاء في ردها أنها تتعامل حالياً مع صحفيين مستقلين في القطاع، مضيفة: « بشكل عام، نحن على استعداد لتقديم أيّ نوع من المساعدة والدعم للمراسلين المستقلين، بما في ذلك الدعم النفسي، على الرغم من الإمكانيات المحدودة للغاية حالياً ».

وعن الفروقات في الدعم المقدم للصحفيين/ات بحسب طبيعة تعاقدهم، أكدت دويتشه فيله DW أنها تدفع أجوراً تتناسب مع حجم العمل المُقدم؛ ورغم ذلك تقدم المؤسسة خدمات الاستشارات والدعم.

أما هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي BBC، جاء في رد مسؤول التواصل بها، روبن ميلر، أن موظفيها في غزة تلقوا تدريباً على البيئة المعادية والإسعافات الأولية. شمل التدريب جلسة بشأن الوعي بالصدمات والرعاية الذاتية. أما بعد بدء الحرب على غزة في أكتوبر 2023، قد تلقى الموظفون دعماً نفسياً من مديريهم المباشرين مع نصائح للتعامل مع المخاطر الأمنية، كما تلقوا جلسات فردية مع معالج متخصص في الصدمات يتحدث اللغة العربية، وفق رد بي بي سي.

« إضافة إلى ذلك، حصل المديرون المباشرون للصحفيين والمراسلين على جلسة مع طبيب نفسي، كان يعمل مع أشخاص في مناطق الصراع؛ لمناقشة كيفية دعم الموظفين في غزة، والعناية بأنفسهم أيضاً ».

كما أكدت هيئة الإذاعة البريطانية أنها تقدم معلومات وموارد لدعم الصحة النفسية لموظفيها، الذين بإمكانهم الوصول إلى برنامج مساعدة الموظفين السري التابع لها على مدار الساعة، طوال أيام الأسبوع.

لكن لم تتطرق البي بي سي في ردها إلى عدد الصحفيين المستقلين المتعاونين معها في قطاع غزة، ولم توضح أيضاً ما إذا كانت هناك فروقات في طبيعة الدعم المقدم بحسب طبيعة العقد أو العمل.

باستثناء هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، ودويتشه فيله DW، لم نتلقَ أيّ رد من عدة مؤسسات إقليمية ودولية أرسلنا لها، حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.

يعلق الصحفي يوسف فارس -الذي لم يتمكن من رؤية زوجته وأبنائه الثلاثة منذ الشهر الأول من الحرب- على الأسباب التي تدفعه لمواصلة التغطية: « قدمت لنا الصحافة كثيراً، ليس من المنطق حين نُمتحن في إخلاصنا لهذه المهنة أن نخونها ». مؤكداً أنه بتوقفه عن التغطية لا يخون المهنة فقط، بل يخون « الضحية التي لا ترغب أن تموت في الظلام ».

كلمات دلالية الصحة النفسية، صحافيو غزة، فلسطين، طوفان الأقصى

مقالات مشابهة

  • الجيش الإسرائيلي يكشف نوعية القوات التي تشارك بالعملية البرية في لبنان
  • شاهد بالصورة والفيديو.. “زردية” البرهان تتحول لترند عالمي.. مواطن “صيني” يثير ضحكات المتابعين بتقليده إشارة قائد الجيش السوداني ويقول: (مافي كلام)
  • شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الإعلام السوداني فاطمة كباشي تشعل مواقع التواصل بتقليدها حركة قائد الجيش البرهان
  • جراح منسية.. الصحة النفسية ليست أولوية للمؤسسات التي تُشغّل الصحفيين في غزة
  • نقول لأصحاب الفيل: لا منتصر في هذه الحرب اللعينة..!
  • البرهان و”الملكية الوطنية للحلول” للحرب
  • الجيش : البرهان قاد عمليات عبور القوات من غرفة السيطرة
  • البرهان يعرض خارطة لإنهاء الحرب في البلاد
  • شاهد بالفيديو.. رواد مواقع التواصل ينشرون مقطع للناشط “الدعامي” صلاح سندالة يتغزل من خلاله في البرهان والجيش والأخير يرد: (ده في الجاهلية قبل الإسلام)
  • ما الذي تمرد عليه الدعم السريع؟