البعد الرقمي وتفاعله في الأحداث البريطانية
تاريخ النشر: 24th, August 2024 GMT
أظهرت أحداث بريطانيا الأخيرة شرخا مجتمعيا كبيرا أحدث ألما في المجتمع البريطاني حكومة وشعبا، وتتجلى صور هذه الأحداث -التي يمكن أن نسميها بالدامية- في شكلها العنيف الذي قاده اليمين المتطرف البريطاني، والذي بدأت شرارته عبر صيحات تتحرك بظاهرها وفقَ الأهواء القومية الداعية إلى كبح صعود العرق الأجنبي -غير البريطاني- وتمدده في المجتمع البريطاني، وتركزت هذه النداءات العرقية والطائفية على المسلمين بشكل خاص والمهاجرين بشكل عام إثر حادثة مقتل ثلاثة أطفال الذي زُعمَ عبر وسائل التواصل الاجتماعي -كذبا- أن القاتل مسلم مهاجر غير شرعي؛ فهاجت مشاعر القوميين البريطانيين لهذه الحادثة عبر ما أُشعلَ في داخلهم من نعرة طائفية سبق أن أُحدِثتْ في نفوسهم وتراكمت.
تأتي أحداث بريطانيا لتكون مظهرا من مظاهر أزمة المجتمعات الرقمية -التي سبق أن حذّرنا من تحدياتها المتصاعدة- المتمثلة في هيمنة الأدوات الرقمية عبر بياناتها المتناقَلة التي تعبر بكل يسر إلى عمق المجتمع البشري؛ فتثير بمساعدة الخوارزميات الذكية ثورتها المؤجِجة لِكُلِّ أصناف العنف والفوضى؛ فنرى عبر هذه الديناميكية الرقمية شكلا آخر للمجتمعات البشرية لم نعتد رؤيته في المجتمعات التقليدية السابقة مثل المجتمعات الصناعية والإلكترونية؛ فيفتقد المجتمع الرقمي رغم تقدمه العلمي والتقني ميزات العقلانية وميزانها؛ فنراه أكثر عاطفية نتيجة الانفصال عن الواقع الذي أحدثه عالمه الافتراضي الذي أوجده الواقع الرقمي، والذي يعكس واقعا لا يلتزم -ضرورةً- بوجود الحقيقة بمطلقها ونسبيتها؛ فمن السهل أن يتخلله الزيف المتعمد الذي يسعى عن طريقه صنّاع القرارات السياسية والمؤسسات الاستخباراتية تحقيق مآربهم السياسية، ولم تعد بريطانيا استثناءً في مثل هذا النوع من الحرب الرقمية التي أظهرت فيها هذه الأحداث هشاشةً مجتمعيةً صعبةَ التحكم رغم تفوقها الرقمي والتقني، ولعل يمكن للبعض أن يعللَ هذه الضعضعة التي عاشتها المملكة المتحدة نتيجةً لتراخيها في القضية الفلسطينية بل لدعمها اللامحدود -الاستخباراتي ومدّها بالسلاح- للكيان الصهيوني وجماعاته المتطرفة، ومنحه صلاحية تتجاوز حدود أمنها القومي، وهذا ما يمكن استنتاجه من أحداث غزة الدامية التي أظهرت الوجه الحقيقي للدول الغربية المساند للكيان الصهيوني.
لا ندرك مدى الوعي البريطاني الحالي بالمخاطر التي تحيط بمجتمعها البشري الرقمي، ولا ندرك أيّ وعي يمكن أن يتداركه الساسة البريطانيون فيما يخص خطر دعمهم للكيان الصهيوني الذي أثبت في أحداث بريطانيا وجوده طرفا مباشرا مشعلا للعنف داخل المجتمع البريطاني؛ ليعلن أنه سيعاقب كل أحد بمن فيهم حلفاءه المخلصين في حالة وجود أي مظهر من مظاهر الدعم لفلسطين بما فيها السماح للمظاهرات المناهضة لحرب غزة، ولكن من اليسير أن نستوعب المعادلة الصهيونية القائمة على الدعم الغربي بأطيافه السياسية والتجارية أنها غير معنية إلا بشأن وجودها واستمرار بقائها، ولو على حساب الحكومات والشعوب بما فيها الحكومات الغربية وشعوبها، وهذا ما يمكن أن نراه جليًّا في ظاهرة الانتخابات الأمريكية -مثالا- التي يتسابق فيها المترشّحُ لنيل رضى اللوبيات الصهيونية طمعا في نيل دعمهم المالي والسياسي، وهذا ما يُلحظ أيضا في معظم الدول الغربية الأخرى التي يتغلغل في مقاعد برلماناتها التأثير الصهيوني الذي يعمل بسياسة «العصا والجزرة»، و«العقوبة والثواب»، وهذا ما ينعكس واقعا في الأحداث البريطانية الأخيرة.
نتحدث عن الأحداث البريطانية لتكون شاهدةً على ما سبق أن حذّرنا منه في ظل دخولنا العصر الرقمي، وتحوّل مجتمعاتنا الصناعية الوادعة إلى مجتمعات رقمية سهلة التحكم والانقياد، ولا يعني هذا غياب الوعي وانعدامه بشموليته المطلقة إلا أننا نشهد سياسة جديدة معنية -لما يمكن أن نطلق عليه- بـ«التحكم بالقطيع»، ويؤسفنا أن يتحول المجتمع البشري إلى مجموعة من القطيع يَسْهُل صناعة أفكاره وفقَ السياقات السياسية المطلوبة ونزواتها؛ فيغدو آلةً مُتحكمًا بها عن طريق ما يبثُ في داخله من أفكار ثبت زيف كثير منها قادته إلى الإخلال بنظامه الإنساني سواء نظامه الأخلاقي والاجتماعي أو نظامه الأمني الذي يربك المجتمعات ويقلق مضجعها.
لعل هذه الأحداث وعلاقة نشأتها وتصاعدها المباشرة بالتحديات الرقمية تدفعنا -مرة أخرى- إلى تقويم مستويات الوعي الرقمي المجتمعي وتحديثه عبر المستجدات المتصلة به؛ فأحداث بريطانيا وما صاحبها من إضرار بالأمن العام وممتلكاتها العامة والخاصة لم يكن ليصل هذا المستوى من السوء حال وجود وعي مجتمعي عالٍ، ولهذا من المهم أن نراجع مستويات وعينا المجتمعي بعمومه، وأن نحدد مخاطر الثغرات الرقمية التي لا تكتفي بفوائدها الجمّة بل تمتلك في جانب آخر كما هائلا من الأسلحة التي يمكن أن تركسَ المجتمعات وتفكك نسيجها؛ فالدعوات إلى المظاهرات والاعتصامات التي يمكن أن تتسرب بصحبة التأثير العاطفي سواء ذلك الذي يصنعه الواقع أو تصنعه الأداة الرقمية زيفا يمكن أن يكون -في كثير من حالاته- ذا بعد سياسي يرمي إلى إحداث فرقعة مجتمعية مزعجة من اليسير أن تتطور إلى أحداث غير مرغوبة تتصاعد باقتناصها الفرص السانحة. نحن في عالم بات من السهل أن يصطبغ بشعارات برّاقة، ولكنها -في غالبها- ذات زيف تهدف إلى صناعة الدمار المجتمعي، ولا يمكن لأي مجتمع أن يخلو من المنغصات والمشكلات بأنواعها، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن أن نجعل من هذه المشكلات مسلكا إلى الفوضى التي تسعى مجموعات خارجية إلى إشعال فتيل عنفها، وكم من مشكلات تعيشها المجتمعات وجدت حلولها بطرقها السلمية الجادة الخالية من معتركات الفوضى والدمار. لست ذا توجه بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولكن من المستحب أن نراجع مثل هذه التجارب الخارجية؛ لتوقظ في داخلنا أسئلة عن الأسباب التي يمكن أن تقود لمثل هذه الاضطرابات، وعن الوعي المجتمعي الذي يأتي في صوره المتجددة منها -في وقتنا الحاضر- الوعي الرقمي وإدراك أعماقه الخفيّة المتشابكة مع ملوثات السياسة ومآربها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: للکیان الصهیونی أحداث بریطانیا التی یمکن أن هذه الأحداث وهذا ما
إقرأ أيضاً:
الشويهدي يناقش الصعوبات التي تواجه منظمات المجتمع المدني
عقد رئيس لجنة الإعلام والثقافة ومؤسسات المجتمع المدني بمجلس النواب “جلال الشويهدي” اليوم الأحد، اجتماعاً مع عدد من ممثلي منظمات ونشطاء المجتمع المدني.
وناقش الاجتماع، الذي عُقد بمقر ديوان مجلس النواب في مدينة بنغازي، الصعوبات والعراقيل التي تواجه عمل منظمات المجتمع المدني.
الوسومالشويهدي الصعوبات منظمات المجتمع المدني