5 أيام في بورتسودان .. كيف تبدو قيادة الدولة والجيش ؟ الحلقة (5- 5)
تاريخ النشر: 24th, August 2024 GMT
~ في برنامج الوفد الإعلامي السوداني المصري ، كان لابد من مقابلة سعادة سفير جمهورية مصر العربية لدى السودان هانىء صلاح والقنصل العام اللواء تامر منير والقنصل العام السفير سامح فاروق.
~ داخل مبنى القنصلية المصرية في بورتسودان ، استقبلنا بحرارة ومحبة سعادة السفير هانىء صلاح ، نجم السفراء العرب والأفارقة في بلادنا ، وأيقونة الدبلوماسية المصرية ، هذا الرجل الرفيع البديع الذي ظل مهتماً بالوفد ومتابعاً اجراءات سفره حتى وصل مطار بورتسودان ، مثلما تابعه بذات الإيقاع سفيرنا في القاهرة سعادة الفريق أول عماد الدين مصطفى عدوي الذي ودع الوفد المصري بمكتبه في الدقي.
~ في نهار بورتسودان القائظ ، جمعت الوفد المشترك جلسة حوار شفاف حول العلاقات السودانية المصرية مع السفير هانئ والقنصل سامح بحضور عدد من المستشارين بالسفارة ، وتبادلنا بحُب الأفكار والآراء حول سبل تعزيز علاقات شعب وادي النيل العظيم.
~ في ونستنا الجانبية مع الزملاء في القاهرة تعودنا أن نطلق لقباً على الشخص الإيجابي فنسميه (الرجل أو الشاب التفاحة) ، وعلى هذا المنوال ، فإن السفير هانىء صلاح هو ( تفاحة الخارجية المصرية) ، فشكراً له على جميل التعاون وحفاوة الاستقبال.
~ *في مقر المخابرات ..*
~ عبرت السيارات التي تقلنا بوابة رئاسة جهاز المخابرات العامة في بورتسودان ، وهبطنا أمام الباب الداخلي ، مروراً بجهاز الفحص الإلكتروني ، ومنه إلى درج ينتهي إلى باب ثالث يفتح بشفرة ، دلفنا إلى بهو دائري كبير تزينت جدرانه بصور داخل براويز تشكل معرضاً صغيراً لنشاط مدير المخابرات السودانية في فترة ما بعد الحرب ، حيث جمعت الصور الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل مع عدد من رؤساء أجهزة المخابرات الدولية.
طفنا على المعرض ، ثم انتقلنا إلى صالون فخيم ملحق بمكتب المدير العام.
~ لا مقارنة بين مباني رئاسة الجهاز في الخرطوم الشاهقة الفسيحة ومبنى بورتسودان الذي كان في الأصل مقر إدارة المخابرات في ولاية البحر الأحمر ، لكنه الأفضل قياساً إلى وزارات ومؤسسات حكومية عديدة انتقلت إلى بورتسودان فلم تجد مقرات تناسب طبيعة عملها وعدد موظفيها.
~ *الفريق أول مفضل .. الخبرة والحكمة*
~ أطل علينا الفريق أول أحمد مفضل عبر باب مكتبه الداخلي وصافح أعضاء الوفد السوداني المصري ثم أخذ مقعده وإلى جواره مدير إدارة الإعلام اللواء التجاني ، التجليس هنا كان بدقة عالية ونظام ، حيث جلس الوفد المصري على يمين المدير العام بينما الوفد السوداني على يساره.
~ رحب الفريق أول مفضل بالوفد المصري وتحدث عن العلاقات السودانية المصرية بتقدير كبير وعرفان ومحبة ، وأثنى على دعم القيادة المصرية لوحدة واستقرار السودان ، وحُسن استقبال الشعب المصري لأشقائه السودانيين الذين لجأوا لشمال الوادي بعد اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023م.
~ مدير المخابرات العامة طلب عدم نشر الحديث المطول الذي أدلى به للوفد المشترك ، والاستفادة منه في فهم خلفيات حرب مليشيا الدعم السريع على الدولة السودانية وآفاق المستقبل السياسي والعسكري.
~ بدا مفضل واثقاً من حسم التمرد وإنهاء الحرب ، لكنه مهموم بالمستقبل الذي يؤسس لدولة سودانية زاهرة وآمنة ومستقرة.
~ يمتلك الجهاز خبرات عالية وقدرات بشرية هائلة مكنته من إسناد الجيش بقوة في معركة الكرامة ، سواء على صعيد المعركة في ميادين القتال عبر قوات مكافحة الجريمة والإرهاب (هيئة العمليات سابقاً) ورصد حركة خلايا التمرد في الداخل ، أو على مستوى العمل الخارجي بالغ الأهمية في كسر طوق الحصار الدولي المفروض من رعاة التمرد على الجيش السوداني وفي هذا الملف بذل مفضل جهداً جباراً نعلمه ونتابعه منذ أيام الحرب الأولى.
~ ورغم أن الفريق أول مفضل ينحدر من إحدى قبائل دارفور التي انخرط منها الآلاف في صفوف التمرد ، إلا أن قيادة الدعم السريع تضمر كراهيةً وغلاً تجاه الرجل ، لدرجة أن عبدالرحيم دقلو رفض وجود الفريق أول مفضل في مفاوضات المنامة السرية !!
~ ولا شك أن سبب كراهية آل دقلو للرجل هو الدور الكبير الذي قام به ومؤسسة الجهاز في إحباط عملية الإطاحة بالدولة وابتلاع القوات المسلحة في أسبوع الحرب الأول ، فخاب ظن حميدتي وأخوانه وفشل مخطط سادتهم الأغبياء.
~ الفريق أول مفضل من جيل معتق في الجهاز ، غير أنه يتميز على مَن سبقوه وخلفوه في الديسك السياسي ، بأنه مستقيم وحكيم ، متدين ومهني ، لا ولاء له لقبيلة أو حزب ، ولاؤه الوحيد للسودان .. الشعب .. الأرض والدولة.
~ *في مكتب الرئيس .. كيف يبدو البرهان ؟*
~ داخل مكتب رئيس مجلس السيادة وقف المدير الجديد لمكتبه اللواء الركن عادل سبدرات وإلى جواره سكرتير المكتب المقدم مدثر عثمان ، وفي الصالون وقف الفريق أول عبد الفتاح البرهان يستقبل الوفد واحداً تلو الآخر ، بينما توثق الكاميرا الفوتوغرافية والتلفزيونية مصافحة الرئيس لأعضاء الوفد.
~ جلسنا بعد أن دعانا للجلوس ، وبدأ يتحدث باستفاضة عن خلفيات الحرب وما تلاها وصولاً إلى دعوة مفاوضات جنيف ، استغرق حديثه نحو عشرين دقيقة دون توقف ، ولم يكن يستخدم أي مذكرات أو يلجأ إلى نوتة وقلم يرقدان على طاولة صغيرة إلى يمينه.
~ إكتسب الجنرال البرهان خبرةً في التعامل مع الإعلام ، ورغم ما تبدى على وجهه من رهق ، إلا أنه كان متقد الذهن حاضر البديهة.
~ البرهان قال إن الجيش عثر على وثائق ومستندات في برج رئاسة قوات الدعم السريع بعد ضربه ، تكشف عن مخطط الاستيلاء على السلطة في السودان ، إضافة إلى رصد مكالمة هاتفية بين حميدتي وضباط إماراتيين في شهر مارس قبل الحرب ، يقولون فيها لقائد التمرد : (سنعود قريباً إلى السودان لنهنئك بالرئاسة في القصر الجمهوري) !
~ الفريق أول البرهان برأ ساحته من مسؤولية تمدد الدعم السريع على حساب الجيش ، حتى بلغت قوته نحو 200 ألف جندي ، وقال إنه استلم السلطة وقد كان عدد القوات 106 ألف جندى ، أُضيفت لها 60 ألف من قوات حرس الحدود والمجندين بموجب الترتيبات الأمنية أواخر عهد النظام السابق.
~ الرئيس البرهان أكد أن القوات المسلحة ستنتصر في هذه الحرب وتجبر المتمردين على الخروج من منازل المواطنين ومغادرة كل المدن والقرى في الخرطوم والجزيرة ودارفور ، وقال إن دعوة الأمريكان لنا إلى مفاوضات جنيف (لم تكن محترمة) ، ولن نوافق إلا بمشاركة وفد يمثل حكومة السودان وليس الجيش.
~ البرهان شكر مصر حكومة وشعباً على استقبال السودانيين في أزمة الحرب الراهنة ، وأكد أنه على تواصل مستمر مع الرئيس عبدالفتاح السيسي.
~ وبشأن محادثته مع رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد ، قال إن الوسيط كان رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد ، و أنه كان واضحاً مع بن زايد وكاشفه بالمعلومات المتوفرة والموثقة عن رحلات الطيران الإماراتي التي زودت المليشيا يالسلاح والذخيرة والمؤن وعن الطائرات الإماراتية التي حملت قادة التمرد إلى عدد من العواصم الأفريقية ، وأنه خاطبه ( كل هذا يتم بعلمك أو بدون علمك ، وبالتالي أنتم تشاركون في قتل الشعب السوداني). وعد محمد بن زايد بإصلاح ما يمكن إصلاحه واستمرار التواصل.
~ بالنسبة لآلية الرقابة المقترحة من الجيش لعملية وقف إطلاق النار ، كشف البرهان أنهم اقترحوا مراقبين من مصر وجنوب السودان وعدد من دول الجوار ، إلا أن قيادة المليشيا رفضت وجود مصر وجنوب السودان في الآلية !!
~ بعد أن أكمل حديثه الأول ، طلبتُ من الرئيس أن يسمح لكل واحد منا بطرح سؤال ، فوافق بعد أن قال (يعني الكلام دا كلو ما كفاكم ؟).
~ طرح كل عضو من الوفد سؤالاً ، وكان الرئيس يجاوب مباشرة بعد السؤال ، كان مباشراً وواضحاً وسريعاً .
~ وجهنا له كل الاسئلة المطروحة من قبل الشارع السوداني ، غير أن بعض الإجابات غير مناسبٍ للنشر في الوقت الحالي ، لتأثيرها على مجريات حرب الكرامة.
~ بعد نهاية المقابلة الرسمية ، وقف البرهان يتبادل معنا الحديث وبدا لي أنه كان يرغب في تمديد زمن اللقاء الذي اقترب من الساعة ونصف الساعة ، إلا أن مدير مكتبه اللواء سبدرات كان يذكره بالبرنامج التالي خارج المكتب.
~ كان الرئيس البرهان منفتحاً وسعيداً بالتواصل مع الوفد السوداني المصري ، وكنا أيضاً سعداء بأن يكون ختام رحلتنا إلى بورتسودان لقاء رأس الدولة لنتزود بالمزيد من المعلومات ونتعرف على الكثير من الخلفيات لتساعدنا في قراءة المشهد السياسي والعسكري على نحو صحيح.
~ أقوال الفريق أول البرهان توافق أقوال الفريق أول كباشي والفريق جابر ، لا تناقض بينها ، وقد توصلتُ إلى نتيجة مفادها أن قيادة الجيش متفقة ومتسقة تماماً وعلى هذه الوحدة والصلابة تكسرت نصال المؤامرة الأمريكية الإماراتية في جنيف.
~ صباح اليوم التالي كنا في صالة كبار الزوار بمطار بورتسودان ، وكان اللواء التجاني والعميد الحوفي في وداعنا ، بينما أشرف الضابط المنضبط حاتم على تكملة الإجراءات بهمة عالية.
~ الشكر الكثير الغزيز لمدير شركة بدر للطيران في مصر الأستاذ عثمان الأحمر الذي كان بكامل طاقمه في وداعنا بصالة الدرجة الأولى في مطار القاهرة ، وبذات المثابرة تابع المدير التنفيذي لشركة تاركو للطيران الأستاذ موسى محمد علي رحلة مغادرتنا إلى القاهرة وأشرف طاقم تاركو في مطار بورتسودان على توفير كافة سبل الراحة للوفد.
~ انتهت الحلقات .
الهندي عز الدين
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الدعم السریع إلا أن عدد من
إقرأ أيضاً:
الثائر الجيد هو الثائر الميت: التصفيات الجسدية كأداة لإعادة إنتاج الهيمنة في السودان
في قلب المشهد السياسي السوداني، حيث تتناسل الأزمات كأفاعٍ تتبدل جلودها دون أن تغيّر طبيعتها السامة، لا تزال الجبهة الإسلامية، بروافدها العميقة في الدولة، تمارس طقسها المقدّس في وأد الثورات. لم يكن إسقاط البشير في أبريل 2019 إلا لحظةً في سيرورة طويلة من الصراع بين إرادة التحرر وبين قوى الهيمنة، التي أعادت تشكيل نفسها داخل أجهزة الدولة، متخفيةً خلف قناع جديد، لتستمر في إنتاج الموت كأداةٍ لضبط المجال السياسي وإخضاع الإرادة الشعبية.
منذ اللحظة التي سقط فيها رأس النظام، بدأت الدولة العميقة في إعادة فرض سيطرتها على المشهد، محاولةً تحويل الثورة إلى لحظة خاطفة لا تدوم. لكن الشعب الثائر و شباب المقاومة، الذين واجهوا رصاص المجلس العسكري الانتقالي في مجزرة القيادة العامة في يونيو 2019، كانوا يعلمون أن معركتهم الحقيقية لم تنتهِ، وأن إسقاط البشير لم يكن إلا الشجرة التي تخفي الغابة.
التقارير وقتها أشارت إلى أن عدد القتلى بلغ 203 شهداء، لكن الأرقام لم تتوقف عند هذا الحد، إذ كشفت لاحقًا المقابر الجماعية وتكدّس الجثث في المشارح عن 2500 شهيد، إضافةً إلى 357 إصابة، وممارسة عنف جنسي ضد 65 متظاهرًا، واغتصاب 31 من المعتصمات، وعشرات المفقودين الذين لم يُعرف مصيرهم حتى اليوم. كما تم رمي بعض الجثث في النيل، في تكرار لذات التكتيكات التي استخدمها نظام الجبهة الإسلامية في التسعينيات.
كانت الجبهة الإسلامية، المتخفية في العتمة، تعمل على إعادة فرض سطوتها، مستخدمةً الجيش كأداة، تمامًا كما فعلت منذ أن اختطفت الدولة في 1989 عبر انقلابها على الحكومة المنتخبة، في عملية تفكيكٍ ممنهجةٍ للمؤسسات، وتحويلها إلى أدوات خادمة لأجندتها.
غير أن الدولة العميقة لم تكتفِ بإعادة إنتاج ذاتها سياسيًا، بل لجأت إلى استراتيجية أكثر وحشية، تقوم على تصفية كل من يشكل تهديدًا لاستمرارها. فعندما خرج الشباب في ديسمبر 2018، لم يكونوا يواجهون نظامًا سياسيًا فحسب، بل كانوا يواجهون بنيةً متغلغلةً في الجيش، وفي الاقتصاد، وفي المؤسسات، وفي الوعي العام.
يقول عبد الخالق محجوب: “إن القوى الرجعية لا تقتل مناضلًا، بل تقتل رمزًا، وتدفن معه فكرةً، لكنها تفشل دائمًا، لأن الأفكار تولد من جديد وسط الرماد.”
كانت الدولة العميقة أشبه بكائنٍ طفيلي، لا يموت بسقوط رأسه، بل يتحور ليستمر.
هذه البنية أدركت أن بقاءها مرهونٌ بإنتاج العنف، وأن أنجع طريقة لترميم سلطتها المختلة هي اغتيال الفاعلين الجدد في المشهد.
لكن العنف المادي لم يكن الأداة الوحيدة، فقد استُخدم الاقتصاد كسلاحٍ موازٍ للتصفية الجسدية. كانت الدولة العميقة تدرك أن سحق الثائر لا يكون فقط بالرصاص، بل يمكن أن يكون أيضًا بتجويعه وكسر روحه عبر الإفقار الممنهج.
في 25 أكتوبر 2021، كشف الجيش عن وجهه الحقيقي، عندما نفذ قائد القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان انقلابًا عسكريًا أطاح بالحكومة المدنية الانتقالية، منهياً بذلك أي وهم بأن الجيش قد ينحاز إلى الشعب. لم يكن هذا الانقلاب مجرد تغيير سياسي، بل كان إعلانًا صريحًا بأن الثورة يجب أن تُدفن، وأن أي محاولةٍ لإعادة بناء السودان على أسس ديمقراطية ستُقابل بالحديد والنار.
لكن البرهان لم يكن وحيدًا في هذا الانقلاب، فقد حصل على دعم قوى إقليمية ودولية، وجدت في استمرار الحكم العسكري ضمانًا لمصالحها الاقتصادية في السودان. فالدول التي استفادت من عقود الفساد والنهب لم تكن مستعدة لرؤية تحول ديمقراطي يهدد امتيازاتها.
لقد أصبح السودان ساحةً مفتوحةً للتدخلات الأجنبية، حيث تتصارع الدول الإقليمية على النفوذ، مستغلةً الانقسامات الداخلية لتحقيق مكاسبها. مصر، التي ترى في حكم العسكر في السودان امتدادًا لمنظومتها، دعمت البرهان بصمت، بينما تحركت بعض دول الخليج لضمان بقاء النظام العسكري الذي يحفظ مصالحها الاقتصادية، لا سيما في القطاعات الزراعية والموارد المعدنية. في المقابل، وجدت روسيا، التي تسعى لتعزيز وجودها في أفريقيا، موطئ قدم لها عبر صفقات الذهب وشركات المرتزقة.
في هذه الدوامة من المصالح المتشابكة، ظل البرهان ثابتًا في مكانه، رغم أن كل من حوله قد تغيروا. فقد سقط البشير، وسُجن أعوانه، وتبدلت التحالفات، لكن البرهان بقي متمسكًا بكرسيه، وكأنه يرى في ذلك تحقيقًا لنبوءةٍ قديمة، و هي أن والده حلم ذات ليلة بأن ابنه سيكون له شأن عظيم.
لم يكن البرهان يقرأ السياسة بواقعيتها، بل كان مأسورًا بوهم شخصي، يرى فيه نفسه القائد الذي لا غنى عنه، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بوطن بأكمله.
يقول مهدي عامل: “ليست الهزيمة أن يُقتل الثائر، بل أن يُقتل الأمل في قلوب الجماهير. الطغاة يدركون ذلك جيدًا، ولهذا يحرصون على تحويل الموت إلى سياسة، والاغتيال إلى نظام حكم.”
ومع دخول السودان في أتون الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، وجدت الدولة العميقة فرصةً ذهبيةً لتصفية الثوار تحت غطاء الفوضى الأمنية. فجأة، بدأت المليشيات الإسلامية، التي كانت تعمل سابقًا كأذرع خفية في الأجهزة الأمنية، في الظهور مجددًا، ولكن بأسلوب أكثر وحشية.
في الحاج يوسف، تم العثور على جثث خمسة من شباب المقاومة، مقيدة الأيدي، وعليها آثار تعذيب وحشي، وذُكر في تقارير الطب الشرعي أن بعضهم تعرّض للذبح.
وفي الحلفايا، ارتُكبت واحدة من أبشع المجازر، حيث تم إعدام أكثر من 60 شابًا في ميدان عام بدمٍ بارد، في مشهد أعاد للأذهان مجازر الإسلاميين في دارفور وجبال النوبة. كما وثّقت لجان المقاومة عمليات تصفية أخرى في مدني، الجزيرة، سنجة، والدندر، حيث تم إعدام الثوار بالرصاص وقطع الرؤوس، في عمليات موثقة بالفيديو، حيث بثّ القتلة جرائمهم في الميديا لإرهاب البقية.
يقول إدوارد سعيد: “القمع لا يقتل فكرة، بل يمنحها حضورًا مضاعفًا، لأن الفكرة التي تُقمع تتحول إلى ذاكرة جماعية تتناقلها الأجيال.”
في النهاية، قد تكون القاعدة لدى الطغاة أن “الثائر الجيد هو الثائر الميت”، لكن الحقيقة التي يؤكدها التاريخ هي أن الثائر الميت يترك خلفه فكرةً تصبح لعنةً تطارد قاتليه.
فالمعركة لم تكن يومًا بين سلطةٍ وشبابٍ أعزل، بل بين إرادة الحياة ومنظومة الموت، وبين زمنٍ جديدٍ يحاول أن يولد من رحم الخراب القديم.
إن الطغاة يراهنون دائمًا على النسيان، لكن التاريخ لا يُمحى، والأفكار لا تموت، بل تتحول إلى بذور تُزرع في وعي الشعوب، لتُثمر في يومٍ قد يبدو بعيدًا، لكنه حتمي.
zoolsaay@yahoo.com