الخطاط الليبي الشارف قريرة الزناتي يروي للجزيرة نت قصته في كتابة المصحف الشريف
تاريخ النشر: 24th, August 2024 GMT
أسطنبول – في عالم يمتزج فيه الفن بالإيمان، وتلتقي فيه تقنيات الكتابة اليدوية بأحدث التقنيات الرقمية، تبرز شخصية "الشارف قريرة الزناتي" كأحد أبرز خطاطي المصحف الكريم في ليبيا والعالم الإسلامي.
بدأ رحلته مع فن الخط العربي منذ نعومة أظفاره، حينما اكتشف معلمه جمال خط يده، ما دفعه نحو مسار فني يملؤه الإبداع والدقة.
مراجعة كتابة المصحف (الجزيرة)
على الرغم من التحديات العديدة التي واجهته، سواء على الصعيد الشخصي أو المهني، لم يتوقف الزناتي عن السعي لتحقيق حلمه الأكبر: كتابة المصحف الشريف. ومن خلال عمل دؤوب وإصرار، تمكن من تحويل حلمه إلى واقع، ليصبح أحد الأسماء البارزة في كتابة المصحف الشريف.
في حوار خاص مع الجزيرة نت، يكشف الخطاط الليبي الشارف قريرة الزناتي عن رحلته الفريدة، التحديات التي واجهها، ودوره في حفظ ونقل هذا الموروث للأجيال القادمة، وفيما يلي نص الحوار:
كيف بدأت رحلتك مع فن الخط العربي؟بدأت رحلتي مع الخط العربي في سنواتي الأولى بالمرحلة الابتدائية. كان ذلك عندما لفت معلمي "علي بن علي"، ابن عم والدي، انتباهي إلى جمال خطي قائلا: "أنت خطاط، خطك جميل". كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها هذا المصطلح. إلى جانب ذلك، كانت الفنون جزءا من تراث عائلتنا. وأذكر بشكل خاص قريبي الأستاذ "إبراهيم الزناتي"، الذي تخرج في معهد بن مقلة وكان له دور كبير في تعليمي وتوجيهي.
من الأشخاص الذين أثروا في مسيرتك؟الشخص الذي غيّر مسار حياتي في فن الخط هو الأستاذ الفاضل "محفوظ البوعيشي"، حيث كان له تأثير عميق وقوي على تطوري الفني. بالإضافة إلى ذلك، كانت لي علاقة وثيقة مع الخطاط "أبو بكر ساسي"، خطاط مصحف الجماهيرية، خلال فترة تدريسي في شارع الصريم. لقد قال لي حينها: "يا ابني، ستكون بإذن الله خطاط مصحف"، وهذه الكلمات وجدت صداها في قلبي وأثرت فيّ بشدة. كذلك، كانت لي فرصة قيمة للتواصل والعمل مع الأستاذ "الصديق الزغداني"، خطاط مصحف الأوقاف، حيث رافقته في رحلة إلى مالي وأوغندا، حيث قمنا بتدريس فن الخط وكتابة المسجد الكبير هناك. هذه التجارب مجتمعة شكلت جزءا كبيرا من مسيرتي الفنية وأثرت عليها بعمق.
جانب من جلسة الإنتهاء من مراجعة المصحف (الجزيرة) اشرح لنا قصة كتابة المصحف؟بدأت القصة بكلمة مؤثرة قالها الشيخ أبو بكر ساسي: "أنت يا ابني خطاط مصحف"، وقد ترسخت هذه الكلمات في قلبي منذ ذلك الحين. وعندما حان الوقت المناسب، بفضل الله، للشروع في تنفيذ هذا الحلم، كانت الانطلاقة الحقيقية.
في تلك الفترة، كانت البلاد تمر بظروف صعبة حيث كان الجميع منشغلا بالبحث عن الكهرباء والاستقرار، بينما كنت أنا أسعى للعثور على ممول لمشروع كتابة المصحف. وبتوفيق من الله، أرسل لي من أبدى استعداده لخوض هذا العمل العظيم. ومن هنا، بدأنا في وضع الخطوط العريضة للمشروع.
البحث عن الممول استغرق سنوات من العمل الدؤوب بدون كلل أو ملل. وبدأت بالتفكير في الخطوة التالية، فاتجهت إلى الأوقاف باعتبارها الجهة المعنية. هناك، استقبلني الدكتور الشيخ التوهامي الزويتني، مدير إدارة شؤون القرآن الكريم والسنة النبوية. عرضت عليه رغبتي في كتابة المصحف الشريف برواية الإمام قالون عن نافع المدني، موضحا أن هناك حاجة ملحة لملء الفراغ الموجود في تلك الفترة. رحب الشيخ التوهامي بالفكرة وأرشدني إلى كتابة طلب رسمي ليتخذ المشروع مساره الإداري والقانوني. بالفعل، في 19 مارس/آذار 2017، تم تقديم الطلب وجاءت الموافقة، حيث تشكلت لجنة للمتابعة والإشراف على المشروع، إلى جانب الحصول على الأذونات اللازمة للتداول والنشر والتوزيع. وهكذا، كانت هذه هي نقطة البداية التي رسمت ملامح المشروع على الصعيدين الإداري والقانوني.
هل يمكن أن تحدثنا عن الأدوات والتقنيات التي استخدمتها في هذا المشروع؟أدوات الكتابة متنوعة ومتعددة، وبعد تجارب عديدة ومشاورات، اخترت قلم المعدن لأداء هذه المهمة، حيث إن اختيار حجم القلم كان مرتبطا بتناسب طول السطر ودقته. كما كان من الضروري تجهيز الطاولة بحجم مريح يتناسب مع طبيعة العمل، والنظر في نوع الورق سواء كان حجمه كبيرا أم صغيرا، وتحديد ما إذا كان المصحف مخصصا للطباعة أو للكتابة اليدوية أو له غرض خاص. هذه التفاصيل الدقيقة كانت كلها عوامل أساسية ساعدتني في اختيار الأنسب للمصحف، والحمد لله على التوفيق.
وكان لابني محمد دور محوري في هذا المشروع، حيث كانت خبرته التقنية عاملا فارقا في إدارة ملف المصحف بشكل رسمي، مما ساهم في توفير الوقت والجهد بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، كان له دور رئيسي في متابعة ملف المصحف عند دخوله إلى المرحلة الرقمية، مما ساهم في تسهيل التفاعل معه وطباعته. كانت التقنية بالفعل عاملا مساعدا أساسيا، ولها الدور الأبرز في تحقيق هذا الإنجاز.
ما أكبر التحديات التي واجهتها أثناء كتابة المصحف، وكيف تعاملت معها؟أولا، كانت هذه التجربة الأولى لي في كتابة مصحف، وهو تحد ليس بالهين؛ فالأمر يتطلب دقة عالية ولا يحتمل الخطأ. دول عديدة تستعد لكتابة مصاحفها، مما يعكس عظمة هذا العمل. في هذا السياق، كان من الضروري أن أرتب أفكاري وأعد نفسي جيدا. كان الشيخ عبد اللطيف الشويرف، رحمه الله، معروفا بآرائه القوية في مجال الضبط والرسم وشكل الحروف. لذلك قررت أن ألتقي به وأستمع إلى نصائحه وتوجيهاته. جلسنا معا، وشرح لي بتفصيل دقيق ما يتعلق بالضبط وأهمية الحفاظ عليه، مما جعلني أدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقي. هذا المشروع لم يكن مجرد عمل خط، بل كان يتطلب تحضيرا علميا وفنيا عالي المستوى. تساءلت حينها: هل سأتمكن من الجمع بين جمال الخط ودقة الضبط في 604 صفحة؟ وبعد دراسة متأنية، أصبحت أكثر استعدادا لمواجهة اللجنة العلمية والعمل معها بانسجام.
من أبرز التحديات التي واجهتها، والتي تركت علامة فارقة في مسيرتي، كان مرض والدي بالسرطان. قضينا 3 سنوات في تركيا بين المستشفيات وغرف العمليات، وفي الوقت ذاته كنت أعمل على كتابة المصحف بين الطاولة والقلم والحاسوب. رغم الضغط النفسي الشديد، بفضل الله، تمكنت من الوفاء بواجبي تجاه والدي رحمه الله وتجاه المشروع.
كما واجهت تحديات أخرى خلال جائحة كورونا، حيث أصيبت زوجتي، وكان عليّ أن أوفق بين التزاماتي العائلية ورعاية أبنائي الذين يعيشون في مجتمع مختلف بعاداته وتقاليده. كل هذه التحديات كانت شاقة وليست بالهينة.
أما التحدي الأكبر، فقد كان في عملي بمصلحة الجمارك، حيث تم فصلي من العمل بحجة الغياب، رغم وجود اتفاق مسبق مع الإدارات السابقة بأني سأتفرغ لكتابة المصحف. هذا القرار جاء في وقت كان العالم يمر بفترة جائحة كورونا، حيث توقفت جميع الجهات عن العمل، حتى المدارس أغلقت أبوابها. بالإضافة إلى ذلك، كانت طرابلس تمر بحرب استمرت أكثر من عام، مما أوقف عمل معظم الدوائر الحكومية. رغم كل هذه الظروف، لم يُلتفت إليها، مما جعلني أشعر بالظلم من جهة عملي. لقد كان من الواجب على مؤسستي أن تقف بجانبي وتدعمني في هذا الإنجاز العظيم، وليس العكس.
كيف أثر كونك ليبيا وكونك مقيما في إسطنبول على فنك وأسلوبك في الخط؟اخترت إسطنبول لتكون موطني الفني، حيث تُعد عاصمة للخط العربي. فبينما نزل الوحي في الحجاز، وقرئ في مصر، بلغ فن الخط ذروته في تركيا. ازدهار الخط في هذه المدينة جعل من السهل الوصول إلى مصادر المعرفة والاطلاع على أصول هذا الفن العريق، مما جعل إسطنبول أرضا خصبة للإبداع والتعلم.
كيف ترى تأثير عملك على المجتمع؟بالطبع، هناك أدوار ومجالات يمكن للمرء أن يكون فيها مؤثرا، المهم هو معرفة الدور الذي يناسبه. بالنسبة لي، كان هدفي واضحا وهو تطوير كتابة المصاحف. ففي المجتمع الليبي، تشكل الكتاتيب جزءا كبيرا من حياة أبنائه خلال العطلات، وتزداد الحاجة إلى المصاحف في دور التحفيظ. ومن هذا المنطلق، كان لي دور فاعل في التأثير على المجتمع من خلال تلبية هذه الحاجة.
مراجعة كتابة المصحف (الجزيرة) هل لديك خطط لمشاريع مستقبلية في نفس المجال؟بعد أن أكملت كتابة المصحف برواية قالون، بدأ مشروع العمل على كتابة المصحف برواية الخراز بناء على الطلبات المتزايدة. ونحن الآن في مرحلة التحضير لهذا المشروع. كما أنني أطمح لكتابة المصحف بكافة الروايات الأخرى، والتي تصل إلى 20 رواية. أسأل الله التوفيق في هذا السعي.
النسخة الأولى للمصحف بخط الشارف قريرة الزناتي (الجزيرة) ما النصائح التي تقدمها للأجيال الجديدة من الخطاطين؟أنصحكم بالصبر والمثابرة، وأن تسعوا دائما لإضفاء قيمة على أعمالكم. واعلموا أن هذه المهنة شريفة وتستحق كل العناية والاهتمام، فلا تتهاونوا في تطوير مهاراتكم والحفاظ على جمال الخط وأصالته.
الخط أداة التعبير القرآني، وهو هندسة روحانية بآلةٍ جسدية تجمع بين تجريد المعنى ومادية الرسم.. كيف ترى ذلك؟ كيف تتحول الكلمة والحرف لعمل فني؟الحرف والكلمة في الخط العربي يتحولان إلى عمل فني مميز. في كتابة المصاحف، تحقيق الجمال مهمة تتطلب جهدا كبيرا ودقة في الضبط. على الخطاط أن يمزج بين عمق المعنى وجمال الخط، ليأخذ المتلقي في رحلة بصرية تجذبه إلى استكشاف المعاني الأعمق من خلال جمال الحروف وتناسقها. يقول الدكتور إسماعيل فاروقي: "لا نجد بين شعوب ما بين النهرين، والعبرانيين، والهندوكيين؛ ومثلهم الإغريق والرومان… بما في ذلك العرب أنفسهم؛ مَنْ حاول اكتشاف القيمة الجمالية للكلمة المرئيَّة… لكن ظهور الإسلام قد فتح آفاقا جديدة أمام الكلمة كوسيلة للتعبير الفنِيِ. حقًا إن العبقرية الإسلامية هنا لا تُضَارَع، إن هذا الخطَّ قد أصبح لونا من ألوان الأرابيسك، يمكننا إذن أن نتصوَّره عملا فنيا مستقلا، إسلاميا خالصا، بغضِ النظر عن مضمونه الفكري". كيف ترى ذلك؟
عندما انتقل الخط من الصدور إلى السطور، اكتسب قدسية وقيمة عظيمة. فقد ارتبط المعنى بفن الخط الذي تفاعل مع مختلف الفنون حتى أصبح فنا عربيا خالصا، وهو اليوم العنوان البارز للفن الإسلامي. وُصف الخط بأنه "هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية"، حيث دمج بين الروح والهندسة، تماما كما يجمع ضبط المصاحف بجمال الخط ليضفي روحا على النص المكتوب، محولا إياه إلى لوحة فنية جميلة تتجاوز حاجز اللغة. وهكذا، ارتقى فن الخط بالكلمة من وظيفتها التعبيرية إلى آفاق أوسع وأعمق.
الخطاط الليبي الشارف قريرة الزناتي (الجزيرة) الخط العربي لم يتبدل عند أمة من الأمم ذوات الحضارة ما ناله عند المسلمين. كيف ترى ذلك؟الخط ارتبط بنزول الوحي، حيث أبدع الخطاطون في كتابة المصاحف وتنافسوا في تجويدها. لهذا اكتسب الخط قدسية خاصة، وأُسست له قواعد راسخة. من بين أبرز هؤلاء الرواد الخطاطين: ابن مقلة، ابن البواب، ياقوت المستعصمي، وحمد الله الأماسي.
كيف ترى مستقبل الخط العربي في العصر الرقمي؟تباينت الآراء حول هذا الموضوع، فالبعض يرى أن الحفاظ على أصالة الخط بعيدا عن التقنية الرقمية هو الأفضل، بينما يعتقد آخرون أن الاستعانة بالتكنولوجيا تعزز من إمكانيات الخط. لكل وجهة نظر مزايا وعيوب، لكن السؤال الأهم هو: من يستطيع توظيف التكنولوجيا بشكل يخدم فن الخط فعلا؟ وهناك بالفعل من تمكن من تحقيق ذلك بفضل الله.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الخط العربی هذا المشروع جمال الخط کیف ترى فن الخط فی هذا
إقرأ أيضاً:
مدير الجامع الأزهر يتفقد سير الدراسة برواق القرآن الكريم بالغربية ويوصي بانتهاج طريقة المصحف المعلم
قام مدير الجامع الأزهر بزيارة تفقدية لرواق القرآن الكريم في محافظة الغربية. تأتي هذه الزيارة في سياق متابعة سير الدراسة في مختلف فروع الرواق الأزهري وتقييم أداء الدارسين في حفظ وتلاوة القرآن الكريم.
وخلال الجولة، أبدى مدير الجامع الأزهر إعجابه الكبير بمستوى الأداء الذي أظهره الدارسون، مشيدًا بحماسهم واجتهادهم في حفظ وتلاوة آيات الله. كما أوصى د. عودة بانتهاج طريقة "المصحف المعلم"، التي تعتبر من الأساليب الفعالة في تعليم القرآن الكريم. وأوضح أن هذه الطريقة تسهم في ضمان تحقيق نتائج جيدة في الحفظ والتلاوة والتجويد، حيث تتيح للدارسين القدرة على فهم معاني الكلمات وطرق النطق الصحيحة.
وفي إطار زيارته، التقى مدير الجامع الأزهر بعدد من المحفظين برواق القرآن الكريم، حيث ناقش معهم التحديات التي تواجه العملية التعليمية والسبل الممكنة لتطويرها. وأكد على أهمية الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في الاستماع إلى أئمة التلاوة وجهابذة علوم القراءات والتجويد، أمثال الشيخ الحصري والمنشاوي، واستخدام التطبيقات التعليمية والبرامج الرقمية لتعزيز تجربة الحفظ وتحسين مهاراتهم.
كما شدد المدير على ضرورة تقديم الدعم المستمر للدارسين، سواء من خلال توفير الموارد التعليمية المناسبة وتوفير المقارئ المستمرة، أو من خلال تنظيم ورش العمل والدورات التدريبية للمعلمين، مما يسهم في تحسين جودة التعليم القرآني.
وفي ختام الزيارة، قدم المدير شكره وتقديره للجهود المبذولة من قبل المحفظين والدارسين، مؤكدًا أن مثل هذه الزيارات تعكس اهتمام الرواق الأزهري بتعزيز تحفيظ القرآن الكريم في جميع أنحاء البلاد، مما يساهم في بناء جيل جديد يتمتع بفهم صحيح لكتاب الله وقِيَمه.
ملتقى السيرة النبوية بالجامع الأزهر
عقد الجامع الأزهر الشريف اللقاء الثاني لملتقى السيرة النبوية تحت عنوان "بشارة الميلاد وطهارة النسب الشريف". وحاضر في الملتقى أ.د نادي عبد الله، أستاذ الحديث وعلومه ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية بالقاهرة، والأستاذ الدكتور، صلاح عاشور، أستاذ التاريخ وعميد كلية اللغة العربية السابق، وأدار اللقاء فضيلة الشيخ إبراهيم حلس، مدير إدارة الشئون الدينية والعربية بالجامع الأزهر الشريف.
في البداية قال د. نادي عبدالله المولى عزَّ وجلّ يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس. فاصطفى أنبيائه من لدن آدم عليه السلام، اختياراً فيه صفوة وفضل ومنة، إلى أن جمع كل الفضائل في خاتمهم سيدنا محمد ﷺ.
وبيّن أستاذ الحديث وعلومه أن شرف نسب وطهارة شخص النبي ﷺ أمر واضح فهو ﷺ ذكره الله وطهره في كل أموره. في عقله هداية ورشد لأنه يلتقي بوحي السماء، وقلبه قد حفظه ربه. حينما كان يتنزل عليه جبريل بآيات القرآن كان يتعجل ويحرك لسانه خشية أن ينساه، فقال له المولى تبارك وتعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾. جمع الله كل الأنوار وكل الأسرار في قلب نبينا المختار ﷺ، وزكي نطقه وقوله، فهو لا ينطق إلا حقاً، ليس سباباً ولا لعاناً، ولا بفاحش في القول، بل كان ﷺ كل ما يقوله حق. وزكَّاه في فؤاده وشرح له صدره، وكمَّله بصفات الجمال والكمال، وطهره من الذنوب والأوزار. ثم مدحه وزكاه كله فقال:﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
أما عن نسبه ﷺ وطهارة هذا النسب الطاهر يتحدث النبي ﷺ بنفسه عن طهارة نسبه المبارك. هذا اللؤلؤ الذي جرت خرزاته النقية الطاهرة من أول سيدنا آدم الى أبويه ﷺ. يقول ﷺ: (إن اللهَ اصطفى كنانةَ من ولدِ إسماعيلَ، واصطفى قريشًا من كنانةَ، واصطفى من قريشٍ بني هاشمٍ، واصطفاني من بني هاشمٍ). وجد ﷺ في قوم غلبت عليهم نفوسهم، وتغيرت فيهم الفطرة فكانوا يأتون بأشياء من أفعال الجاهلية كوأد البنات، وأكل حق الضعيف، وأمور غير أخلاقية تفشت في مجتمعاتهم. فكانت مهمة النبي ﷺ أمر ثقال وهى أن يخرج هذه النفوس من ظلماتها لاستقبال وحي الله عزّ وجلَّ ونور النبوة العطر. أراد النبي ﷺ أن يخلص تلك النفوس من هواها ومن شهواتها لتنغمس في حب الله ورسوله. فأوجد طائفة من المؤمنين أحبوا الله ورسوله أكثر من حبهم لأنفسهم وأولادهم وزوجاتهم، وأحدث ﷺ تغييراً جذرياً في مجتمع عصبي همجي ليصبح مجتمعاً قائداً ورائداً.
وأوضح د. نادي أنه حين نتحدث عن شرف نسبه ﷺ وطهارته لابد أن نأخذ من وصفه الشريف، وأن نتخلق من خُلقه العظيم. يقول ﷺ: (آلُ محمَّدٍ كلُّ تقيٍّ)، فكل من اتقى الله وطهر قلبه وخلقه نال من نسب سيدنا رسول الله ﷺ. وكل نسب ينقطع يوم القيامة إلا من انتسب إلى سيدنا محمد ﷺ، انتسب إليه بالعمل الصالح، وأن يهتدي بهديه، ويقتدي بخلقه، موصياً بالاقتداء بأخلاق رسول الله ﷺ، واتباع وسنته، والسير على نهجه، وأن تصبغ الأمة نفسها في شرع المولي تبارك وتعالى، ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾.
من جانبه أوضح د. صلاح عاشور أن الحديث عن مولده ﷺ حديث عطر وماتع. فبشارة مولده ﷺ التي أكد المؤرخون على أنها كانت حقيقة ثابتة، أثبتها كثير من المؤرخين من خلال الأمور التي وقعت قبل ميلاده ﷺ وكانت تنبئ فعلا باقتراب ظهور رسالة سماوية في هذه الأرض، وفي هذه البقعة المباركة من الجزيرة العربية -مكة المكرمة- كما كان يوجد أشخاص يرون أن ما عليه قومهم هو باطل، وأن عبادة الأصنام والأحجار لا تفيد ولا تنفع. كانوا يعرفون بالأحناف ومنهم قص بن ساعده، وزيد بن عمرو بن نوفيل. كما توجد بعض الأمور التاريخية التي تؤكد على أن هناك رسول سيبعث منها حادثة الفيل. كانت كل هذه مؤشرات تؤكد على اقتراب ظهور دين جديد ونبي جديد فتهيأت له المنطقة.
وأشار أستاذ التاريخ إلى أنه منذ بزوغ فجر الإسلام تغيرت كثير من المفاهيم التي كانت سائدة في العالم قبل قدوم الإسلام، حيث قدم منهجاً وفكراً جديدين، غيرا تلك المفاهيم المغلوطة. ويكفي أن الإسلام خلص العالم من ذلك الارتكاز الذي كانت فيه البشرية قبل ظهور الإسلام. جاء الإسلام ليخلص العالم من الفساد الذي كان موجوداً قبل الإسلام، وأخرج الإسلام العرب من الجزيرة العربية إلى شتى بقاع الدنيا لنشر علوم الدين وجعلهم أمة ذات شأن. والمتدبر فى القرآن الكريم يجده يؤكد على أن الدين عند الله الإسلام وما دون ذلك فليس هو الدين الصحيح.
وفى ذات السياق ذكر الشيخ إبراهيم حلس، مدير إدارة الشئون الدينية والعربية بالجامع الأزهر الشريف، أن ميلاد النبي ﷺ كان ضرورة للبشر كافة، كما بعث أيضاً للناس كافة، فكانت به تمام الرسالات. ولذلك كانت دعوة سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. فرسول الله ﷺ دعوة سيدنا إبراهيم، وبشارة الرسل من بعده، وبه تمت الرسالات. وكان ميلاده ﷺ ميلاد النور. يقول ﷺ: (مَثَلِي ومَثَلُ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيانًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ مِن زَواياهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به ويَعْجَبُونَ له ويقولونَ: هَلّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ قالَ فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتَمُ النبيِّينَ.) فكانت هذه بشارة ميلاد الهدى والنور ﷺ.