الحرب كابتلاء الهى بالخوف والفقدان الإنساني والمادي: ضبط شرعي مفاهيمى
تاريخ النشر: 24th, August 2024 GMT
د.صبرى محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه فى جامعه الخرطوم
Sabri.m.khalil@gmail.com
مفهوم الابتلاء لغه واصطلاحا: الابتلاء لغه الاختبار . اما اصطلاحا فقد ورد لفظ الابتلاء بمشتقاته في القرآن الكريم بمعنيين: الأول: النعمة كما فى قوله تعالى(وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) (الأنفال:18) ، الثاني :الاختبار والامتحان كما فى قوله تعالى ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ((البقرة:124)، فالاخير يتسق مع معناه اللغوى .
المكلف "، طبقا لشرطي الوعي والحرية.
الابتلاء مفهوم فلسفى اسلامى كلى يفسر طبيعه الوجود الانسانى " المستخلف"
: فالابتلاء مفهوم فلسفى اسلامى كلى ، يساهم فى تفسير طبيعه الوجود الانسانى ، ويستند الى المفاهيم الفلسفيه الاسلاميه الاكثر كليه ، والتى تشكل معا فلسفه الاستخلاف كفلسفه اسلاميه- ذات طبيعه دينيه "روحيه" / انسانيه - والتى تفسر الوجود العام، ( وهذه المفاهيم هى : مفهوم التوحيد لتفسير الوجود الالهى " المستخلف بكسر اللام" ، ومفهوم التسخير لتفسير الوجود الطبيعى "المستخلف فيه"، ومفهوم الاستخلاف لتفسيرالوجود الانسانى"المستخلف بفتح اللام" ).وطبقا لهذا فان هذا المفهوم يشمل الوجود الانسانى بكافه مجالاته ومستوياته وعلاقاته ، حتى الاقرب والاحب كالابناء والأموال مثلا (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة )، ورد فى تفسير ابن كثير ( أي : اختبار وامتحان منه لكم ؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها ، أو تشتغلون بها عنه ، وتعتاضون بها منه(.
تعدد انماط مفهوم الابتلاء: اتساقا مع شمول المفهوم للوجود الانسانى - المتعدد المجالات والمستويات والعلاقات- اشار القران الكريم الى تعدد انماط الابتلاء، من خلال اشارته لانماط متعدده منه :
اولا: ابتلاء تكليفى : ابتلاء بالتكليف كما في قوله تعالى (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) ·
ثانيا: ابتلاء سرائى: ابتلاء بالنعم والخيرات كما فى قوله تعالى على لسان سليمان (عليه السلام) (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) (النمل:40(
ثالثا:ابتلاء ضرائى: ابتلاء بالمحن والشدائد والمصائب ، كما فى قوله تعالى ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)( سورة آل عمران :186).
رابعا:ابتلاء عقابى: ابتلاء هو عقاب على المعاصي التي يرتكبها العباد، كما فى قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون· فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت
كالصريم) (القلم: 17 ـ 20)
خامسا:الابتلاء اجتماعى: ابتلاء الناس بعضهم ببعض كما فى قوله تعالى (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (الفرقان :
20)
الحرب ابتلاء اجتماعى ضرائى: فالحرب تندرج تحت اطار النمطين الثالث والخامس من انماط الابتلاء.
فهى ابتلاء ضرائى لانه ابتلاء بالضراء - وليس بالسراء- قال تعالى (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )،ورد فى تفسير الطبرى) الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف، والأهواء، وسفك دماء بعضهم بعضًا(
كما انه ابتلاء اجتماعى لان اثره يشمل الجماعه كلها- طالحها وصالحها- وغير مقصور على فرد او افراد معينين- طالحين او صالحين وقال تعالى (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )، وورد فى الحديث ان زينب بنت جحش(رضى الله عنها)أنها سألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقالت له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث).. فهو ابتلاء ذو اثر عام رغم ان تكييفه الجزائى يختلف حسب صلاح او طلاح الفرد- كما سنوضح ادناه-
الحرب ابتلاء الالهى بالخوف والفقدان الانسانى والمادى: والحرب هى نمط من انماط الابتلاء الالهى بالخوف والفقدان الانسانى والمادى قال تعالى(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( ( البقرة :
155-157).ورد فى تفسير الطبرى (... وقوله: " بشيء من الخوف "، يعني من الخوف من العدو، وبالجوع -وهو القحط... فتنقص لذلك أموالكم, وحروبٌ تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار, فينقص لها عددكم, وموتُ ذراريكم وأولادكم, وجُدوب تحدُث, فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم, فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه..) .وورد فى تفسير القرطبى(... من الخوف أي خوف العدو والفزع في القتال ... والجوع يعني المجاعة بالجدب والقحط ... . ونقص من الأموال بسبب الاشتغال بقتال الكفار . وقيل : بالجوائح المتلفة . ... والأنفس قال ابن عباس : بالقتل والموت في الجهاد )
ضبط شرعى مفاهيمى:
ابتلاء الهى جزئى وليس كلى : ان الحرب هى َابتلاء الهى جزئى وليس كلى،لان الابتلاء الكلى - سواء بالخوف او الفقدان الانسانى والمادى- يترتب عليه فناء المبتلى "الانسان " ، اى الغاء الوجود الانسانى ، بينما الهدف من الابتلاء الالهى تصحيح مساره- بالرجوع من الشر الى الخير(لعلهم
يرجعون-) - وليس الغائه - كما سنوضح ادناه عند الحديث عن الغايه الاساسيه من الابتلاء الالهى – لذا فسر العلماء ورود كلمه شىء فى الايه ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ..) بانها دلاله على جزئيه هذا الابتلاء الالهى ، ورد فى تفسر السعدى(أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله, أو الجوع, لهلكوا, والمحن تمحص لا تهلك) ، وورد فى التفسير الوسيط (والتنوين في قوله: بِشَيْءٍ للتقليل.
أى بقليل من كل واحد من هذه البلايا والمحن وهي الخوف وما عطف عليه(. و جزئيه هذا الابتلاء الالهى ايضا دليل على الرحمه الالهيه المطلقه، وان كل شر مهما كبروعظم فهو محدود ، وبالتالى مهما تطاول زمنه الى زوال.ورد فى التفسير الوسيط ) وإنما قلل- كما قال الزمخشري- ليؤذن أن كل بلاء وإن جل ففوقه ما يقل إليه وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم، وأنه- سبحانه - يبتليهم من هذه المصائب بقدر ما يمتاز به الصابرون من غير الصابرين.)
الغايه الاساسيه للابتلاء الالهى بالحرب الرجوع من الشر الى الخير: وعلى تعدد غايات الابتلاء الالهى بالحرب الثانويه ، فان الغايه الاساسيه منه رجوع الناس من الشر الى الخير، اى تصحيح المسار الروحى - القيمى للوجود الانسانى " المستخلف – وليس الغائه . قال تعالى ) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )(السجدة:21) وقال تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )(الروم:41). وقال تعالى (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون)( الاعراف 168).
عموم اثر الابتلاء الالهى بالحرب لا ينفى خصوصيه تكييفها الجزائى: وكما اشرنا اعلاه فان عموم اثر الابتلاء الالهى بالحرب ، وبالتالى شموله للصالحين والطالحين، لا ينفى خصوصيه تكييفه الجزائى، فيختلف حكمه الجزائى بين الصالح والطالح، فقد يكون عقابا للاول ، وتطهيرا للثانى، ورد فى تفسير القرطبى للايه.( (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (فهذا يدل على أن الهلاك العام منه ما يكون طهرة للمؤمنين ومنه ما يكون نقمة للفاسقين ). ومن علل هذا العموم - المقيد بالخصوص من جهه معينه- ان الترقى او التردى الروحى والقيمى على المستوى الاجتماعى مسئوليه اجتماعيه مشتركه، ورد وفي صحيح الترمذي : إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده وقد تقدمت هذه الأحاديث . إذا ظهر السوء في الأرض ، أنزل الله بأهل الأرض بأسه . قالت : وفيهم أهل طاعة الله ؟ قال : نعم ، ثم يصيرون إلى رحمة الله
كون الحرب ابتلاء الهى لا ينفى كونها محصله الكسب البشري: وكون الحرب ابتلاء الهى لا ينفى كونها محصله الكسب الانسانى قال تعالى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).ورد فى تفسير ابن كثير ( وقوله :لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا.. يقول جل ثناؤه: ليصيبهم بعقوبة بعض أعمالهم التي عملوا، ومعصيتهم التي عصوا (
كون الحرب ابتلاء الهى يعنى انها خاضعه لاراده الله تعالى ولا يعنى كونها محل لرضاه تعالى: وكون الحرب ابتلاء الهى يعنى انها خاضعه لاراده الله تعالى،ولكن لا يعنى ذلك انها محل لرضاه تعالى . فالاراده الالهيه المطلقه قد تاذن بحدوث الشر- الذى مصدره المخلوقات وليس الخالق- فى هذا العالم، لحكمه الهيه يكون طبقا لها هذا الشر لدفع شر اعظم او تحقيق خير اعظم. (وهو هنا كما اشرنا اعلاه هو الرجوع من الشر الى الخير )، ولكن هذا لايعنى باى حال من الاحوال كون الحرب واى شر اخر محل رضا الله تعالى ومحبته ،لان محل ذلك هو الخير فقط ولامجال فيه للشر. لذا ميز النص القرآني بين الارادة والرضا الالهيين ،فالله تعالى أودع فى الإنسان القدرة على التزام إرادة الله التكوينية والتكليفية فينال بذلك رضا الله ( رضي الله عنهم ورضوا عنه)، كما أودع فيه القدرة على مخالفة إرادته فيوجب ذلك غضب الله (.. وغضب الله عليهم )ـ يقول الامام ابن تيميه (وجمهور أهل السنة مع جميع الطوائف وكثيرون من أصحاب الاشعرى يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضا ، فيقولون انه وان كان يريد المعاصي لا يحبها ولا يرضاها ، بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها، وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله ومحبته ) (رسالة التوحيد: ص
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الله تعالى قال تعالى
إقرأ أيضاً:
علي جمعة يحذر من 6 أمور تؤثر على القلب.. وهذا حلها
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ان الإمام الشافعي رحمه الله: قال «ما حلفت بالله تعالى لا صادقًا ولا كاذبًا قط»، فانظر إلى حرمته وتوقيره لله تعالى، ودلالة ذلك على علمه بجلال الله سبحانه، وسُئل الشافعي رضي الله عنه عن مسألةٍ فسكت، فقيل له: ألا تُجيب رحمك الله؟ فقال: «حتى أدري الفضل في سكوتي أو في جوابي». يفكر هل يتكلم أم لا .
وكان يقول رحمه الله : الكلمة تملكها حتى تنطق بها فهي تملكك.
فانظر في مراقبته للسانه مع أنه أشد الأعضاء تسلطًا على الفقهاء، وأعصاها عن الضبط والقهر، وبه يستبين أنه كان لا يتكلم، ولا يسكت إلا لنيل الفضل، وطلب الثواب.
وقال: أحمد بن يحيى بن الوزير خرج الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يومًا من سوق القناديل فتبعناه فإذا رجلٌ يسفه على رجلٍ من أهل العلم؛ فالتفت الشافعي إلينا وقال: «نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به ؛ فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه لينظر إلى أخبث شيءٍ في إنائه فيحرص أن يُفرغه في أوعيتكم، ولو رُدت كلمة السفيه لسعد رادها كما شقي بها قائلها».
وهنا كان ينبهنا مشايخنا رحمهم الله تعالى قبل أن ينفرط العقد، وينهار الحال الذي نحن فيه إلى أن الاستماع إلى الغيبة، والنميمة، والكذب، والبهتان، والضجيج، واللغو يؤثر تأثيرًا قويًا في القلب، وأن من تأثيره أن يهون المنكر علينا، يعني نرى المنكر وكأنه شيء عادي، وقد كان -يعني هؤلاء الناس- لم يستمعوا، وأصبحنا الآن بين ضرورات؛ فإذا انعزلنا بالكلية عن المجتمع فيكون هذا هروب من مواطن المسئولية، وإذا بقينا وصبرنا على أذية الناس، وغيبتهم، ونميمتهم، وبهتانهم، وكذا إلى آخره فإن هذا يؤثر في القلب، والمخرج من هذا هو ذكر الله؛، فإن نور الذكر يحمي من طَمْس الخنا ،فالذكر هو واجب الوقت فـ {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} لأن الذكر لا يحتاج إلى مؤنة، ولا يحتاج إلى وقت.