في مايو/أيار الماضي، وقّع قرابة 200 موظف داخل مختبر "ديب مايند"، وهو قسم الذكاء الاصطناعي التابع لشركة غوغل، على خطاب يطالب الشركة العملاقة بإلغاء عقودها مع المؤسسات العسكرية، وفقًا لنسخة من الخطاب اطلعت عليها مجلة تايم ونشرت عنها تقريرا يوم الخميس 22 أغسطس/آب الجاري.

وانتشر هذا الخطاب وسط تصاعد المخاوف داخل قسم الذكاء الاصطناعي من بيع تقنياته إلى الجيوش المتورطة في الحروب عالميا، الأمر الذي وصفه الموظفون بأنه انتهاك لقواعد الذكاء الاصطناعي الخاصة بشركة غوغل.

هذا الخطاب الأخير هو علامة جديدة على تصاعد حدة الخلاف داخل غوغل، على الأقل بين بعض موظفي قسم الذكاء الاصطناعي، الذين تعهدوا بعدم المشاركة في تطوير التقنيات العسكرية، وبين قسم الأعمال السحابية الذي يملك عقودا لبيع خدمات غوغل السحابية، ومنها تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يطورها مختبر "ديب مايند"، للعديد من الحكومات والجيوش ومنها الجيش الإسرائيلي، وخاصة التعاون الذي نشأ من "مشروع نيمبوس".

مشروع نيمبوس

في شهر أبريل/نيسان الماضي، اقتحمت قوات الشرطة مكاتب شركة غوغل، في نيويورك وكاليفورنيا، لاحتجاز مجموعة من الموظفين المتظاهرين احتجاجًا على عقد للخدمات السحابية، بقيمة 1.2 مليار دولار، مع الحكومة الإسرائيلية تحت مُسمَّى "مشروع نيمبوس".

قسم الأعمال السحابية في غوغل متهم بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي عبر مشروع نيمبوس (شترستوك)

لقي هذا العقد -المشترك مع شركة أمازون– معارضة حادة من جانب موظفي الشركتين منذ عام 2021، لكن تصاعدت حدة الاحتجاجات منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

تمثّل الدافع الأساسي وراء هذه الاحتجاجات حينها في مخاوف الموظفين من استخدام الجيش الإسرائيلي لتقنيات غوغل في مراقبة الفلسطينيين وقمعهم، ضمن نظام الفصل العنصري الذي تتبعه دولة الاحتلال منذ سنوات طويلة.

والآن يؤكد موظفو غوغل وأمازون الحاليون والسابقون، المعارضون لمشروع نيمبوس، أنه يضع الشركتين في خانة التواطؤ مع إسرائيل في حربها الدموية على قطاع غزة، وتورط حكومتها في ممارساتها اللاشرعية واللاإنسانية بحق المدنيين الفلسطينيين.

لكن في المقابل، أصرّت غوغل على أن هذا المشروع لا يهدف إلى المشاركة في الأعمال العسكرية، لتنفي تورطها في هذا الأمر وذكرت أنه "لا تربطه علاقة بالأسلحة أو الخدمات الاستخباراتية"، في حين لم تناقش أمازون علنًا نطاق عمل هذا المشروع بالتفصيل.

لكن الأدلة التي ظهرت تخالف هذا الإنكار، وهو ما أشارت إليه تقارير من عدة مواقع صحفية مثل موقع "وايرد" وموقع "ذي إنترسبت" ومجلة "تايم".

سحابة الحرب

وفقًا لتقرير وايرد، أظهرت مراجعة الوثائق العامة وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين وموظفي غوغل وأمازون أن الجيش الإسرائيلي احتل موقعًا مركزيًا داخل مشروع نيمبوس منذ بدايته، إذ شكّل الجيش الإسرائيلي تصميم المشروع كما أنه من أبرز مستخدميه. إذ يرى كبار المسؤولين الإسرائيليين أن مشروع نيمبوس يؤسس لبنية تحتية مهمة للجيش الإسرائيلي.

الجيش الإسرائيلي احتل موقعًا مركزيًا داخل مشروع نيمبوس منذ بدايته (الفرنسية)

في فبراير/شباط الماضي وفي مؤتمر مخصص لمشروع نيمبوس، ذكر غابي بورتنوي، رئيس هيئة السايبر الإسرائيلية، أن "العقد أسهم في الرد العسكري الإسرائيلي على حركة حماس" نقلا عن وسائل الإعلام الإسرائيلية. وأضاف بورتنوي: "تحدث أمور استثنائية في أرض المعركة بسبب السحابة العامة لمشروع نيمبوس، وهي أمور لها تأثير على تحقيق النصر. لكن لن أشارك التفاصيل"، وفقًا لمقال في مجلة "بيبول آند كومبيوتر" التي شاركت في تنظيم المؤتمر.

يتناقض تصريح بورتنوي مع تصريحات غوغل لوسائل الإعلام، التي سعت إلى التقليل من أهمية التورط العسكري لمشروع نيمبوس، كما أشار تقرير وايرد. إذ ذكرت آنا كوالتشيك المتحدثة باسم غوغل في بيان لها: "هذا المشروع ليس موجهًا نحو مهام حساسة للغاية أو سرية أو عسكرية تتعلق بالأسلحة أو أجهزة الاستخبارات. عقد نيمبوس مخصص لمهام العمل على سحابتنا التجارية لصالح الوزارات الحكومية الإسرائيلية، التي توافق على الامتثال لشروط الخدمة وسياسة الاستخدام المقبول لدينا".

من المفترض أن تحظر شروط خدمة غوغل على العملاء أي "أنشطة شديدة الخطورة"، التي تُعرّف بكونها تتضمن حالات "من المتوقع أن يؤدي فيها استعمال الخدمات أو تعطلها إلى الوفاة أو الإصابة الجسدية أو الإضرار بالبيئة أو الممتلكات (مثل بناء أو تشغيل المنشآت النووية أو مراقبة الحركة الجوية أو أنظمة دعم الحياة أو الأسلحة)". لكن من المبهم كيف يندرج دعم المشروع لعمليات جيش الاحتلال الإسرائيلي القتالية في قطاع غزة ضمن هذه الشروط، كما أشار تقرير وايرد.

تعميق الشراكة

يتماشى تصريح غابي بورتنوي مع التقارير الأخيرة التي تظهر الروابط العسكرية لعقد نيمبوس منذ فترة طويلة. ففي شهر أبريل/نيسان الماضي، كشفت وثيقة عن أن شركة غوغل تقدم خدمات الحوسبة السحابية لوزارة الدفاع الإسرائيلية، وقد تفاوضت الشركة العملاقة على تعميق شراكتها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حسبما أظهرت الوثيقة التي اطلعت عليها مجلة تايم.

تفاوضت غوغل على تعميق شراكتها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، حسبما أظهرت الوثيقة التي اطلعت عليها مجلة تايم (شترستوك)

ووفقا للوثيقة، تملك وزارة الدفاع الإسرائيلية ما تسمى "منطقة هبوط" خاصة بها في خدمة غوغل السحابية، وهي تعني حساب دخول إلى البنية التحتية للحوسبة التي توفرها غوغل، التي تسمح للوزارة بتخزين البيانات ومعالجتها بجانب الوصول إلى خدمات الذكاء الاصطناعي.

كما طلبت الوزارة مساعدة استشارية من غوغل لتوسيع وصولها إلى خدماتها السحابية، بحيث تسمح لـ"وحدات متعددة" بالوصول إلى تقنيات الأتمتة، وفقا لمسودة عقد بتاريخ 27 مارس/آذار. ويظهر العقد أن غوغل تقدم فواتير لوزارة الدفاع الإسرائيلية بأكثر من مليون دولار نظير هذه الخدمة الاستشارية.

كانت قد أشارت سابقا تقارير في الصحافة الإسرائيلية إلى أن هذا العقد لا يسمح للشركتين بتزويد الجهات العسكرية بالتكنولوجيا الخاصة بهما بموجب مشروع نيمبوس. لكن كانت هذه أول مرة يُعلن فيها عن وجود عقد يوضح أن وزارة الدفاع الإسرائيلية هي أحد عملاء خدمات غوغل السحابية.

كذلك يشير تقرير وايرد إلى أن أجهزة الأمن الإسرائيلية تشكّل جزءًا مهمًا من مشروع نيمبوس. ففي منشور على منصة لينكدن العام الماضي، ذكر أومري هولزمان، قائد فريق شؤون الدفاع في أمازون ويب سيرفسيز، أن مؤتمرًا عقدته الشركة "شهد حضورا من كل مؤسسة أمنية في إسرائيل"، دون تحديد تلك المؤسسات.

كما عرضت شركة غوغل مؤخرًا على مسؤولي الشرطة والأمن الإسرائيليين نموذجها للذكاء الاصطناعي "جيميني"، وهو جوهر محاولات شركة العملاقة لمنافسة الروبوت الأشهر "شات جي بي تي". وذكر شاي مور، مدير ورئيس القطاع العام والدفاع في غوغل كلاود إسرائيل، في منشور على لينكدن، في مارس/آذار، أنه شارك مؤخرًا معلومات حول "مشاريع الشركة الرائدة المرتبطة بنيمبوس" مع وكالات أمنية تشمل الشرطة الإسرائيلية والوكالة الرقمية الإسرائيلية وهيئة السايبر الإسرائيلية.

عرضت شركة غوغل مؤخرا على مسؤولي الشرطة والأمن الإسرائيليين نموذجها للذكاء الاصطناعي "جيميني" (غيتي) تطبيقات عسكرية

في أبريل/نيسان عام 2021، وقَّعت حكومة إسرائيل على اتفاق مع شركتي غوغل وأمازون لبناء مراكز بيانات إقليمية لتقديم الخدمات السحابية، وبهذا ستضمن استمرارية الخدمة حتى إن تعرضت الشركتان لضغوط دولية لمقاطعة إسرائيل فيما بعد، وقُدرت تكلفة المشروع بنحو 1.2 مليار دولار.

هذا بالطبع ما ذُكر رسميا في وسائل الإعلام حينها، لكن "مشروع نيمبوس" كان ينطوي على أكثر من مجرد مراكز بيانات إقليمية، ورغم عدم توفر تفاصيل رسمية كثيرة حول المشروع حينها، فإن تقريرا لموقع "ذي إنترسبت"، صدر في شهر يوليو/تموز عام 2022، استشهد بوثائق ومقاطع فيديو تدريبية داخلية من غوغل تشير إلى أن جزءا أساسيا من المشروع سيوفر لإسرائيل مجموعة كاملة من أدوات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي تقدمها منصة غوغل السحابية.

وضحت مجموعة الوثائق التدريبية ومقاطع الفيديو الخاصة بشرح المشروع، والموجَّهة لموظفي الحكومة الإسرائيلية، لأول مرة مزايا منصة غوغل السحابية التي تقدمها الشركة لجيش الاحتلال من خلال المشروع.

توفر غوغل مجموعة كاملة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، تلك التقنيات ستمنح جيش الاحتلال قدرات أكبر في التعرّف على الوجوه، والتصنيف الآلي للصور، وتتبع مسار تحرك الأجسام، وحتى القدرة على تحليل المشاعر الذي تدّعي الوثائق أن بإمكانه تقييم المحتوى العاطفي داخل الصور والكلام والكتابة. أشار التقرير حينها إلى أن تلك الإمكانيات ستزيد من قدرات جيش الاحتلال على فرض رقابة صارمة على المواطنين الفلسطينيين، بجانب معالجة كميات هائلة من البيانات.

شركات الأسلحة الإسرائيلية

في مايو/أيار الماضي، كشف تقرير آخر من موقع "ذي إنترسبت" أن مشروع "نيمبوس" يلزم اثنين من أبرز مصنعي الأسلحة الإسرائيليين، وهما شركتا "الصناعات الجوية الإسرائيلية" و"رافائيل"، باستخدام خدمات الحوسبة السحابية من غوغل وأمازون في أعمالهما.

فوفقًا لوثيقة مشتريات صادرة عن الحكومة الإسرائيلية، فإن الشركتين المملوكتين للدولة يلزم عليهما التعامل مع أمازون وغوغل لتلبية احتياجاتهما من الحوسبة السحابية.

شركة أمازون متهمة بالتواطؤ مع تل أبيب في الحرب الإسرائيلية على غزة وفق ما يقول موظفون سابقون وحاليون في الشركة. (غيتي)

لم توضح الوثيقة تفاصيل التعاقد بين غوغل وأمازون مع شركات الأسلحة الإسرائيلية، لكن هاتين الشركتين مسؤولتان عن تصنيع الطائرات المسيرة والصواريخ وغيرها من الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل في قصف قطاع غزة، كما أشار تقرير "ذي إنترسبت".

تتضمن وثيقة المناقصة في معظمها تفاصيل قانونية وقواعد ولوائح تحدد كيفية شراء إسرائيل لخدمات الحوسبة السحابية من أمازون وغوغل، وقد نُشرت الوثيقة الإسرائيلية لأول مرة في عام 2021، ولكن يجري تحديثها دوريًا، وكان آخر تحديث لها في أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي.

لا تُلزم تلك الوثيقة الحكومية أيًا من الكيانات بشراء الخدمات السحابية، ولكن إذا احتاجت تلك الكيانات إلى مثل هذه الخدمات، فيجب أن تشتريها من شركتي التقنية الأميركية. يشير جزء منفصل من الوثيقة إلى أن أي مكتب حكومي يرغب في شراء خدمات الحوسبة السحابية من شركات أخرى يجب أن يقدم التماسًا إلى لجنتين حكوميتين تشرفان على المشتريات للحصول على إعفاء مباشر.

ورغم أن انتقال الحكومة إلى خدمات غوغل وأمازون السحابية قد شهد تأخرًا طويلًا، فإن شركة رافائيل أعلنت في يونيو/حزيران الماضي أنها بدأت نقل بعض احتياجاتها السحابية "غير السرية" إلى خدمات أمازون ويب سيرفيسز دون أن توضح المزيد من التفاصيل، كما يشير التقرير.

تضع تلك العلاقات مع شركات تصنيع الأسلحة الإسرائيلية مشروع نيمبوس في أقرب موقع إلى إراقة دماء الأبرياء في قطاع غزة. وبهذا تتورط شركات التقنية الكبرى مثل غوغل وأمازون في الاستهداف المباشر للفلسطينيين، رغم أن تلك الشركات تقدم دائما تعهدات بتجنب استخدام تقنياتها في الحروب وانتهاكات حقوق الإنسان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات خدمات الحوسبة السحابیة الحرب الإسرائیلیة على الدفاع الإسرائیلیة الجیش الإسرائیلی الذکاء الاصطناعی غوغل السحابیة غوغل وأمازون مشروع نیمبوس على قطاع غزة إلى خدمات شرکة غوغل غوغل ا إلى أن

إقرأ أيضاً:

هل تورطت روسيا في دعم فلول الأسد بالساحل السوري؟

شهد الساحل السوري خلال الأيام القليلة الماضية أحداثا وصفت بأنها من بين الأعنف منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، واشتدت وتيرة الاشتباكات بين قوات الأمن العام وعناصر وزارة الدفاع التابعة للإدارة السورية الجديدة، وبين فلول النظام السوري السابق.

وقد أثارت هذه المواجهات التي اتسمت بالتزامن والتنسيق تساؤلات عن الأطراف الخفية التي تقف وراءها، خصوصا أنها استهدفت نقاطا وحواجز عسكرية تابعة للأمن العام في توقيت واحد، مما أضفى المزيد من الغموض على المشهد الأمني المتوتر في المنطقة.

وفي الوقت الذي اتهمت فيه الإدارة السورية في دمشق جهات خارجية بالوقوف خلف هذه الأحداث التي خلفت مئات الضحايا، بينهم مدنيون وأطفال، وظهور اتهامات لإيران بدعم التمرد العسكري على لسان مسؤولين سوريين، يبرز تساؤل مهم حول إمكانية أن يكون لروسيا ـالحليف التقليدي لنظام الأسدـ دور فيما جرى بالساحل السوري.

ويدعم هذا التساؤل أن المناطق التي شهدت الهجمات هي نفسها التي توجد فيها قاعدتان روسيتان: الأولى "حميميم الجوية" القريبة من جبلة بريف اللاذقية، والثانية ميناء طرطوس الإستراتيجية.

ضبابية الموقف

كان الموقف الروسي الرسمي ضبابيا وأقل وضوحا تجاه الاشتباكات التي شهدها الساحل السوري، على عكس المواقف الإقليمية والأوروبية التي بدت واضحة من حيث إدانة أعمال العنف والمطالبة بحماية المدنيين، ودعوة الأطراف الخارجية إلى احترام سيادة سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها.

إعلان

وقد بدا هذا الموقف واضحا من خلال تصريحات المسؤولين الروس، حيث رفض المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف التعليق على تفاصيل الوضع الميداني في الساحل السوري، وذلك في اليوم الثاني لأحداث السابع من مارس/آذار، واكتفى بالقول "الأمن اللازم لجنودنا متوفر على المستوى المطلوب" مضيفا "بشكل عام، لا أود التعليق على سير هذه العمليات، لأننا لا نعرف التفاصيل".

من ناحيته، وصف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الثلاثاء 11 مارس/آذار الجاري الأحداث الأمنية الذي شهدتها منطقة الساحل السوري بأنها "غير مقبولة"، مطالبا السلطات السورية بضمان مشاركة كافة مكونات المجتمع في العملية السياسية.

وأكد -خلال مؤتمر صحفي- أنه لا بد من ضمان مشاركة المجموعات كافة في العملية السياسية في سوريا والسلطات الجديدة تدرك ضرورة ذلك.

هامش للمناورة

يرى مراقبون أن هذا النهج كان مقصودا للحفاظ على هامش مناورة سياسي، إذ لا تريد روسيا أن تظهر وكأنها تتخلى عن حلفائها السابقين في المنطقة، لكنها في الوقت نفسه تتجنب دعمهم بشكل مباشر إذ إن كلفة ذلك ستكون مرتفعة، كما أن الغموض بالتصريحات يمنحها القدرة على تغيير موقفها لاحقا وفقا لمجريات الأحداث.

وبدا هذا التغيير واضحا، بحسب الباحث في الشأن السوري وائل علوان، بعد تمكن الإدارة الجديدة من إفشال مخططات الفلول بالسيطرة على مدن الساحل السوري من جهة، ووصول الحكومة السورية إلى اتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" من جهة أخرى.

ويتابع علوان -في حديثه للجزيرة نت- أن هذا الموقف السلبي وغير المتعاون مع الإدارة السورية تجاه أحداث الساحل، قد ينعكس سلبا على روسيا من خلال خسارة المزيد من أوراقها التفاوضية لتأمين مصالحها الإستراتيجية في سوريا.

من ناحية أخرى، يبرز تناقض الموقف الروسي من خلال تصريحات صحفية لبيسكوف نفسه، إذ أوضح في العاشر من مارس/آذار الجاري أن روسيا ترغب برؤية سوريا دولة موحدة ومزدهرة ومتطورة وصديقة، وأضاف أن بلاده تسعى من أجل استقرار سوريا والمنطقة بأسرها.

إعلان

دعم الفلول

وسط هذه الضبابية في الموقف الروسي، إلى جانب انتشار تسجيلات صوتية نُسبت إلى فلول الأسد، يُزعم فيها وجود تنسيق مباشر مع القوات الروسية في قاعدة حميميم، بما في ذلك تزويدهم بالسلاح، زادت الشكوك حول وجود صلة لروسيا بدعم فلول النظام في محاولة منها لإثارة الفوضى، ثم فرض حلول تخدم أهدافها الإستراتيجية.

وفي هذا السياق، ينفي المستشار رامي الشاعر، المقرب من الخارجية الروسية، وجود أي علاقة لروسيا بالأحداث التي شهدتها مدن وقرى الساحل السوري.

ويوضح الشاعر -في حديثه للجزيرة نت- أن هدف هذه الاتهامات هو تشويه سمعة روسيا، التي سعت خلال السنوات الماضية إلى وقف الاقتتال السوري- السوري، وفرض "نظام التهدئة" من خلال التعاون مع تركيا وإيران عبر صيغة أستانا.

وتؤيد روسيا، بحسب الشاعر، الإدارة الجديدة في دمشق، وهي على تواصل معها في كثير من القضايا، وعلى ثقة بأن الإدارة ستسيطر على كل المناطق في الساحل السوري، وستحاسب كل من تورط بالانتهاكات ضد المدنيين.

من جانبه، ينقل الصحفي والخبير بالشأن الروسي، رائد جبر، في حديثه للجزيرة نت عن مصادر دبلوماسية روسية نفيها وجود أي معطيات أو إشارات تدل على تورط روسيا بهذا الموضوع.

وأكدت هذه المصادر، بحسب جبر، أن روسيا لن تسمح لأي أشخاص موجودين ضمن الأراضي الروسية أو خارجها بالتعامل مع فكرة زج روسيا في هذا الموضوع.

وبشأن الدعوة الروسية لعقد اجتماع في مجلس الأمن، يقول جبر إنها موجهة، وفقا للمصدر نفسه، للحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية، واتخاذ خطوات لمساعدة سوريا في وضعها الحالي اقتصاديا ومعيشيا كتخفيف العقوبات المفروضة عليها.

مجلس الأمن

وشهد مجلس الأمن توافقا روسيا-أميركيا للمرة الأولى منذ سنوات على الدعوة لعقد جلسة مشاورات مغلقة وعاجلة في مجلس الأمن الدولي، عنوانها بهدف إصدار بيان حول "أحداث الساحل السوري".

إعلان

وشهدت، بحسب وكالات، انتقادات روسية للحكام السوريين الجدد وألقت عليهم باللوم في الانتهاكات التي لحقت المدنيين، ومن المتوقع إصدار بيان رئاسي يدين أحداث العنف ويدعو الحكومة السورية لحماية المدنيين.

من ناحيته، يرى الباحث علوان أن من الصعب الجزم بصحة الأخبار والتسجيلات المتداولة حول تورط روسيا في دعم تمرد مسلح في الساحل السوري، وقد يكون من مصلحة قادة الفلول الذين نظموا الحراك أن يوهموا "الشارع العلوي" بوجود دعم روسي مباشر، بهدف إشراك أكبر عدد ممكن من الناس في تمردهم المسلح.

استغلال روسي

خلافا لما سبق، يرى كثير من المتابعين للشأن الروسي أن روسيا قد تستفيد من أحداث الساحل على المدى الطويل، من خلال استغلالها بما يخدم مصالحها الجيوسياسية في سوريا التي تعتبر حجر الزاوية بالنسبة لوجودها ومصالحها في الشرق الأوسط.

وعن الخسارة التي يمكن أن تلحق روسيا في حال ثبت تورطها بدعم التمرد العسكري في الساحل السوري، يرى الباحث السياسي، نادر الخليل، أن هذا الموضوع إن تم فهو يشير إلى خطأ إستراتيجي في تقدير الموقف من قبل المسؤولين الروس.

وقد يكون هذا الخطأ، بحسب حديث الخليل للجزيرة نت، نابعا من عاملين:

مراهنة روسيا على ضعف الأمن المحلي والعدد غير الكافي لأفراد الأمن العام لتغطية المساحات الشاسعة في الساحل السوري. استخدام الفوضى كوسيلة ضغط في المفاوضات الجارية، خاصة فيما يتعلق باستمرارية وجودها العسكري والاقتصادي في سوريا.

ويشار إلى أن المتابع لتغطية وسائل الإعلام الروسية لمجريات الأحداث في الساحل يلاحظ تبني سردية متماشية إلى حدٍ كبير مع رواية فلول النظام، ومن ذلك موقع "لينتا" الإلكتروني الروسي واسع الانتشار، الذي عنون نصه عن الأحداث في الثامن من مارس/آذار الجاري بالقول "المسيحيون والمسلمون الشيعة يثورون ضد السلطات السورية الجديدة. لقد جاؤوا إلى القاعدة العسكرية الروسية طلبا لحمايتهم من الإبادة الجماعية". وأرفقه بعنوان ثانوي "السلطات السورية ترتكب مجازر بحق العلويين والمسيحيين في شرق وجنوب سوريا".

إعلان

ووكالة "نوفوستي" الرسمية عنونت نصها في السابع من الشهر الحالي بالقول "خبير يصف أحداث اللاذقية بأنها بداية صراع أكثر خطورة في سوريا"، إلى جانب تساؤل كبرى صحف الأعمال الروسية "فيدوموستي" في عنوان نص نشرته في العاشر من الشهر الجاري "هل تؤدي الانتفاضة السورية إلى مزيد من إراقة الدماء؟".

وتعليقا على هذه التغطية، لا يعتقد الخبير الروسي رائد جبر أن ذلك يعكس موقفا حكوميا رسميا داعما للتمرد في الساحل السوري، ويضرب جبر مثالا على ذلك الموقف من القضية الفلسطينية، التي كانت تشهد تفاوتا بين اللهجة الدبلوماسية الروسية التي تتخذ مواقف مناصرة للفلسطينيين، بينما كانت الصحافة ميالة لإسرائيل.

قاعدة حميميم قد فتحت أبوابها لاستقبال عناصر من فلول النظام السابق (صور الأقمار الصناعية) حماية المدنيين

ومع إعلان الحكومة السورية عن وجود "دول وجهات خارجية" تدعم العمل المسلح ضد الدولة، تداول جمهور منصات التواصل الاجتماعي معلومات غير مؤكدة تدعي أن الروس قاموا بتشجيع أهالي الساحل، وخاصة من الطائفة العلوية، على اللجوء إلى قاعدة حميميم تحت ذريعة "الحماية".

ووفقا لما تم تداوله، فقد طُلب منهم هناك التوقيع على بيان يطالب بتدخل دولي لحمايتهم. وقد رأى مدونون سوريون في هذا السيناريو محاولة روسية للتمهيد لتدخل مباشر تحت غطاء دولي وربما بمباركة من الأمم المتحدة.

وكانت قاعدة حميميم قد فتحت أبوابها لاستقبال عناصر من فلول النظام السابق وعوائلهم الهاربين من مطاردة الحكومة السورية، وقامت بتجهيز مخيمات بكل ما يلزم من مأوى وإمدادات غذائية وطبية.

ولم تقتصر الإجراءات الروسية في قاعدة حميميم على الجانب الإنساني فقط، بل شملت أيضا استعراضات جوية ومناورات دفاعية، من ذلك ما أفادت مواقع محلية أن مقاتلة روسية أقلعت من القاعدة في اليوم الأول للاشتباكات، وحلقت فوق المروحيات التابعة لوزارة الدفاع السورية، وحذرتها من مغبة استمرار القصف على مناطق ريف جبلة وأجبرتها على العودة إلى قواعدها.

إعلان

وتعليقا على حركة الطيران النشطة التي شهدتها القاعدة، يذكر الخبير جبر أن هذه الحركة تأتي ضمن المهمات الخاصة للطيران في القاعدة، وأنه لا يمكن لروسيا التدخل بأي شأن سوري داخلي إلا بعد التنسيق مع الإدارة الجديدة في دمشق.

وبالنسبة لحماية المدنيين، يقول جبر إن روسيا ليست هي المبادرة لطرح هذه الفكرة، وإنما هناك بعض الفئات في الساحل السوري قدمت عرائض إلى الروس من أجل الحماية.

من ناحيته، يستبعد المستشار الشاعر أن تقدم روسيا، التي تتواصل مع العديد من الجهات الدولية لرفع العقوبات عن الشعب السوري، على خطوة من قبيل حماية المدنيين تحت وصاية دولية، لأنها ستكون خطوة سلبية في مفاوضاتها مع دمشق من أجل الإبقاء على القواعد الروسية وتعزيز الوجود الروسي، وربما فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.

وكانت وفود من منطقة جبلة وإدارة الأمن العام قد وصلت إلى قاعدة حميميم الجوية بمحافظة اللاذقية يوم السبت الثامن من مارس/آذار، لطمأنة الأهالي الموجودين فيها وإعادتهم لقراهم، وذلك بحسب ما أفادت به وكالة الأنباء السورية (سانا)، إلا أن الأهالي لم يستجيبوا على الفور لنداءات المسؤولين بالعودة.

مقالات مشابهة

  • استغرق العلماء عقدا لحلها.. الذكاء الاصطناعي يحل مشكلة معقدة في يومين فقط!
  • مخلفات الإبادة الإسرائيلية.. قنابل موقوتة تهدد حياة الفلسطينيين
  • المواصلات في غزة تتحدث بشأن المركبات المتضررة نتيجة الحرب الإسرائيلية
  • غوغل تعلن عن نماذجها الجديدة للذكاء الاصطناعي
  • إطلاق برنامج جديد لتأهيل الكفاءات الوطنية في الحوسبة السحابية
  • ارتفاع أسعار المنتجات الأميركية بسبب الحرب التجارية التي أطلقها ترمب
  • فيما ورد خبر من هيئة البث الإسرائيلية ذو صلة بالانفجارات … هذه هي المناطق التي استهدفها الطيران في العاصمة صنعاء ” صور ” 
  • كيكل: الوحدة التي حدثت بسبب هذه الحرب لن تندثر – فيديو
  • هل تورطت روسيا في دعم فلول الأسد بالساحل السوري؟
  • قدرات مميزة.. «غوغل» تطلق أحد أفضل نماذج «الذكاء الاصطناعي» بالعالم