صفقة غزة: وهم التفاوض وتكريس الهيمنة الإسرائيلية
تاريخ النشر: 24th, August 2024 GMT
أكتب هذه السطور وقت بدء الجولة الأخيرة من مفاوضات «صفقة غزة» في القاهرة، ومن دون رغبة في المصادرة على المطلوب، لا يبدو أن شيئا جوهريا تغير، ولا أن المآلات قد تختلف عما جرى في مكوكيات التفاوض عبر شهور طويلة.
وقبل أسابيع، كتبت في هذا المكان نفسه مقالا بعنوان (لا صفقة في غزة) بتاريخ 13 تموز/يوليو الماضي.
في صور متلاحقة، صنعت وضع «نتنياهو» الجديد باعتباره رئيسا لحكومتي «إسرائيل» في «تل أبيب» و»واشنطن» معا، وباعتباره حاكما أعلى للإدارة الأمريكية، وهي في أضعف مراحلها، وهي ترجوه أن يوافق على ما أسمي «الاقتراح الأمريكي المحدث»، الذي يدرج شروط «نتنياهو» المعلنة في صلب الصفقة المطروحة.
وعلى الرغم من تفاؤل مصنوع، أبدته الإدارة الأمريكية، خلال الأسبوعين الأخيرين، إلا أن النتائج لم تختلف عن سابقاتها، فقد ألقت إدارة «بايدن» باللوم على حركة «حماس» وأخواتها كالعادة، على الرغم من أن «حماس» أبدت مرونة ظاهرة لم تتراجع عنها، إذ وافقت في 2 تموز/يوليو الماضي على الصيغة التي نقلها الوسطاء المصريون والقطريون.
ووافقت قبلها على ما أسمي «صفقة بايدن» المعلنة في 31 مايو/أيار الماضي، وعلى قرار مجلس الأمن رقم 2735 المتضمن لعناصرها الأساسية، أي وقف الحرب والانسحاب «الإسرائيلي» الكامل من قطاع «غزة» وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، بينما داوم «نتنياهو» على رفض وقف الحرب من حيث المبدأ، وعلى رفض الانسحاب من محور «فيلادلفيا» (عند الحدود مع مصر) ومحور «نتساريم» الفاصل بين شمال القطاع ووسطه وجنوبه، وأراد حصر النقاش كله في عنصر تبادل الأسرى، وربما وقف إطلاق نار موقوت لستة أسابيع، هي عمر المرحلة الأولى من الصفقة، وشطب المرحلتين الثانية والثالثة، وهو ما أظهرت له الإدارة الأمريكية السمع والطاعة، وأعدت ما أسمته «الاتفاق المحدث» تلبية لأوامر «نتنياهو»، وضغطت بما أسمته سد الفجوات واتفاق الفرصة الأخيرة، وسعت لدفع الوسيطين المصري والقطري للضغط على حركة «حماس».
كان السنوار طوال وقت الحرب هو صاحب القرار الفصل دائما
لم تسفر المساعي كلها عن جديد، رغم تولي «يحيى السنوار» قيادة «حماس» خلفا للشهيد «إسماعيل هنية»، فقد كان «السنوار» طوال وقت الحرب هو صاحب القرار الفصل دائما، وكل ما جرى، أن مركز القرار الفعلي صار هو المركز الرسمي، وصيغة 2 تموز/يوليو التي وافقت عليها «حماس» زمن « هنية»، كانت هي ذاتها التي عادت إليها «حماس» في عهد «السنوار»، وكان طابع المرونة فيها تكتيكيا، دار حول سحب ذرائع الخصم الأمريكي «الإسرائيلي»، وتعلق بفسح مدة التفاوض، خلال المرحلة الأولى، حول ترتيبات وتفاصيل المرحلة الثانية، التي كان يفترض فيها إطلاق سراح العسكريين «الإسرائيليين» المحتجزين مقابل كبار الأسرى من الفلسطينيين، وإكمال الجلاء «الإسرائيلي» عن قطاع «غزة»، بما فيه الانسحاب من المناطق العازلة الحدودية.
وقتها رحبت الإدارة الأمريكية رسميا بمرونة «حماس»، ثم عادت لتنكرها، مع فرض شروط جديدة في الأسبوعين الأخيرين، تتملص من انسحابات جيش الاحتلال المفترضة في المرحلة الأولى، وبالذات من محوري «فيلادلفيا» و»نتساريم»، وهو ما كان سببا في استياء الوسيط المصري، الذي صمم على انسحاب «إسرائيل» بالكامل من محور «فيلادلفيا» ومعبر «رفح» على الجهة الفلسطينية.
واعتبر وجود قوات الاحتلال في هذه المناطق خرقا لما يسمى «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية» وملحقاتها، ودهسا لاتفاقيات مصرية «إسرائيلية» عقدت عام 2005 مع الجلاء «الإسرائيلي» وقتها عن «غزة»، ونصت على عدم وجود قوات «إسرائيلية» في محور «فيلادلفيا» (ممر صلاح الدين) على الجهة الفلسطينية، وعلى تنظيم إدارة معبر «رفح»، وعلى أن يكون الفلسطينيون ـ دون غيرهم ـ هم المسؤولون عن إدارة المعبر على الجانب الفلسطيني.
وقد فشلت محاولات «إسرائيل» في تخفيف صيغ الرفض المصري، الذي لم يستجب أيضا لصيغ أمريكية، تحدثت عن تخفيف الوجود «الإسرائيلي» لا إزالته بالكامل، لكن الإدارة الأمريكية تجاهلت ما يجري كله.
وأعلن وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكن» في ختام زيارته للعاصمة القطرية «الدوحة»، أن «إسرائيل» وافقت على الاتفاق المحدث، وهو «إسرائيلي» الأصل، ودعا إلى زيادة الضغط على «حماس» لإعلان موافقتها، بينما كان الرئيس الأمريكي المنسحب يعلن في مؤتمر حزبه الديمقراطي، في «تبجح»، أن «حماس» تتراجع عن الاتفاق، وكأنه أصبح شاهدا «ما شافش حاجة»، أو كأنه لا يعرف أصل العلة في ما جرى من تعثر، وأن أمريكا تقدم نفسها زورا باعتبارها وسيطا، بينما هي الخصم الصريح للفلسطينيين والشريك الأصرح للعدو «الإسرائيلي» وشروط «نتنياهو» المعلنة.
واقتصر دورها على ترجمة شروط «نتنياهو» من العبرية إلى الإنجليزية، بدعوى أن واشنطن، كما قال «بلينكن»، تعترض على وجود احتلال «إسرائيلي طويل الأجل» في قطاع «غزة»، ومن دون أن يعرف أحد بالضبط معنى تعبير «طويل الأجل»، وكأن احتلال القطاع لسنوات مقبلة لا تنطبق علية صفة «طول الأجل» بالمفهوم الأمريكي المخاتل.
م تكن واشنطن في أي وقت وسيطا بأي معنى بل كانت الخصم والعدو طوال الوقت
والمحصلة ظاهرة بوضوح قاطع، فما جرى في غرف التفاوض العبثي، هو ذاته ما يجري في ميادين القتال وحروب الإبادة الجماعية للفلسطينيين المدنيين العزل، وقد اقترب رقم الضحايا من المائة وخمسين ألفا بين شهيد وجريح ومفقود في «غزة» وحدها، ولم تكن واشنطن ـ في أي وقت ـ وسيطا بأي معنى، بل كانت الخصم والعدو طوال الوقت.
وفي ذروة اصطناعها لتفاؤل موهوم في المفاوضات الأخيرة، كانت واشنطن تعلن عن صفقة أسلحة جديدة لكيان الاحتلال بقيمة 20 مليار دولار، تضاف لأسلحة وذخائر سبقت بعشرات المليارات الأخرى، كانت ولا تزال سببا رئيسيا لزلازل الدمار وشلالات الدماء في «غزة».
ومن دون أن يفلح الرئيس الأمريكي الذاهب «بايدن» في اصطناع براءة تطمس حقيقة انصياعه الطوعي والجبري لرغبات «نتنياهو» وشروطه، وكذلك تفعل بديلته في الترشح للرئاسة الجديدة «هاريس»، وهي مثله تذرف دموع التماسيح أحيانا على الضحايا الفلسطينيين، ربما سعيا إلى كسب أصوات الأمريكيين من أصول عربية ومسلمة، تبدو ضرورية لكسب السباق مع «ترامب» في الولايات المتأرجحة، كذا إلى استعادة رهائن «إسرائيليين» محتجزين لدى «حماس» وأخواتها، يحملون الجنسية الأمريكية إلى جوار «الإسرائيلية».
في الأثناء يزايد «ترامب» على «بايدن» و»هاريس» في الولاء المطلق لإسرائيل، ويتحدث عن ضرورة مساعدة «إسرائيل» في توسيع مساحتها، مع رفض إقامة أي «دولة فلسطينية» طبعا، فلا صوت يعلو في واشنطن الرسمية على صوت «إسرائيل»، خصوصا في هذه الأيام، ولا شخص ينازع «نتنياهو» في السيطرة شبه المطلقة على كافة المؤسسات الأمريكية، وما من حاجة لحديث عن أدلة مضافة، فالجيوش والغواصات النووية وحاملات الطائرات الأمريكية توالى احتشادها في المنطقة دفاعا عن «إسرائيل».
وقد امتنعت طهران عن الرد على جريمة اغتيال «إسماعيل هنية» على أراضيها، وكذلك امتنع «حزب الله» عن الرد عن جريمة اغتيال القيادي «فؤاد شكر» في ضاحية «بيروت» الجنوبية، وبدت حسابات طهران و»حزب الله» متصلة جزئيا بما كان يجري من مفاوضات ومناشدات على جبهة «غزة»، ولم ترد إيران ولا «حزب الله» أراد، أن يبدو في وضع المعيق لمفاوضات، كان عنوانها وقف الحرب والعدوان على «غزة».
وبعد انقشاع وهم التفاوض، صار على «إيران» أن تراجع حساباتها، وإن كنا لا نولي أهمية حاسمة لرد طهران حتى إن جرى، ونركز بالذات على رد «حزب الله» الألصق جغرافيا بكيان الاحتلال، والأوثق صلة بقضية فلسطين المقدسة.
صحيح أن غالب سلاح «حزب الله» من مصادر إيرانية، لكن التجارب أثبتت أن السلاح نفسه بيد فصائل المقاومة العربية أكثر تأثيرا في الحروب مع كيان الاحتلال. ثم إن فصائل المقاومة المعنية، أثبتت مقدرتها على تطوير صناعة سلاح ذاتية، على نحو ما جرى ويجري طوال نحو 11 شهرا في حرب «غزة»، صمدت فيها فصائل «حماس» وأخواتها على نحو أسطوري مذهل، كما لم يفعل أحد في تاريخ الحروب كلها مع العدو «الإسرائيلي» الأمريكي.
وقد تعود «حماس» وأخواتها في الفترة المقبلة إلى تكتيك «العمليات الاستشهادية» في الداخل الفلسطيني المحتل، خصوصا مع تصاعد أمارات المقاومة المسلحة في الضفة الغربية، وقد يكون ذلك هو الرد الأبلغ على انهيار مفاوضات الصفقة.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة الاحتلال الولايات المتحدة غزة الاحتلال صفقة التبادل مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة تكنولوجيا مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإدارة الأمریکیة حزب الله ما جرى
إقرأ أيضاً:
القناة 12 الإسرائيلية: نتنياهو سيعقد جلسة أمنية خاصة تتناول احتمال انهيار المرحلة الثانية لاتفاق غزة
أفادت وسائل اعلام اسرائيلية بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يعقد مناقشة أمنية تتناول احتمالية انهيار المرحلة الثانية لاتفاق غزة وعودة الجيش الإسرائيلي إلى القتال على الفور.
وستجري المناقشة في الوقت، الذي يزور فيه مبعوث ترامب الخاص إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف إسرائيل، استعدادا لزيارة نتنياهو الرسمية إلى واشنطن الأسبوع المقبل.
ومع إطلاق سراح أربيل يهود وآغام برغر، الخميس، إلى جانب غادي موزيس، انتهت فئة النساء المدنيات والجنديات في الصفقة، وتستعد إسرائيل للضربات التي ستأتي وكذلك لاحتمال انهيار الاتفاق والعودة إلى القتال، لكن ليس من المتوقع أن يحدث هذا قريبًا.
ومن بين 25 مختطفا إسرائيليا كانوا مدرجين على القائمة حتى الآن، عاد 10 منهم على قيد الحياة خلال 10 أيام، كما عاد 5 عمال أجانب آخرين.
وبحسب كافة التقديرات في إسرائيل، وبحسب القائمة التي وصلت من حماس، لم يعد هناك أي نساء مختطفات على قيد الحياة.
وذكرت وسائل إعلام أميركية أن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، يواجه عقبات خطيرة في مراحله المقبلة مشيرة إلى عدد من التحديات والمؤشرات على ذلك.
وقال موقع "ذا هيل" الأميركي في تقرير: "تنفس الإسرائيليون والفلسطينيون الصعداء مع بدء وقف إطلاق النار الأخير، لكنهم الآن يحبسون أنفاسهم ليروا ما إذا كان سيدوم. على الرغم من وجود بعض علامات الأمل، إلا أن هناك أسبابا أكثر تدعو للقلق، خاصة مع التحديات التي تواجه المراحل المقبلة من الاتفاقية".
وأشار الموقع إلى أن الاتفاقية تنقسم إلى 3 مراحل، كل منها أكثر تعقيدا وهشاشة من سابقتها.
وبدأت المرحلة الأولى، التي تستمر 6 أسابيع، بالإفراج عن 3 أسرى إسرائيليين مقابل إطلاق سراح 90 أسيرا فلسطينيا.
ومن المقرر أن يتم الإفراج تدريجيا عن 30 إسرائيليا آخر وأكثر من 1600 فلسطيني.
لفت "ذا هيل" إلى أنه على الرغم من استمرار وقف إطلاق النار، فإن تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تثير شكوكا بشأن التزامه بتنفيذ المرحلة التالية، فقد أعلن نتنياهو أن "كلا من الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب والرئيس السابق جو بايدن قد قدما دعما كاملا لإسرائيل في حقها بالعودة إلى القتال إذا توصلت إلى استنتاج مفاده بأن المفاوضات حول المرحلة الثانية غير مجدية".
جاء هذا التصريح في أعقاب قصف إسرائيلي مكثف حتى اللحظات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار، مما أسفر عن مقتل 73 شخصا في غارات جوية ليلة الإعلان عن الاتفاقية.
ووفقا لمسؤول إسرائيلي رفيع، فإن نتنياهو وافق على الاتفاقية فقط تحت ضغط من مبعوث ترامب، ستيفن ويتكوف، الذي نقل رسالة صارمة من الرئيس الأميركي مطالبا بعقد صفقة.
المرحلة الثانية من الاتفاقية، المقرر بدؤها بعد 42 يوما من وقف إطلاق النار، تتطلب إعلان "هدوء مستدام" يتبعه الإفراج عن الأسرى المتبقين مقابل عدد غير محدد من الأسرى الفلسطينيين والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية.
ومع ذلك، فإن التفاصيل العالقة، مثل إنشاء منطقة عازلة حول غزة وربما بعض الوجود العسكري داخل القطاع، قد تعرقل تنفيذ هذه المرحلة، وفقا لتقرير "ذا هيل".
ونظرا لعزم نتنياهو على الاحتفاظ بالسلطة بأي ثمن فقد يكون تهديد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بالانسحاب من الحكومة إذا لم "تحتل إسرائيل غزة وتنشئ حكومة عسكرية مؤقتة" فيها، كافيا لإفشال الصفقة.
أما المرحلة الثالثة، التي لا يوجد لها موعد محدد، فتشمل إعادة إعمار غزة فضلا عن إعادة فتح المعابر الحدودية وإعادة جثث الإسرائيليين والفلسطينيين الذين قتلوا في الصراع، وهي مهمة قد تكلف ما يصل إلى 80 مليار دولار.