رأينا فيما سبق من مقالات أن كتابة السيرة بصورة مستقلة بدأت من عهد الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، ثم استمر التدوين فيها بصورة خاصة مستقلة فى الجيل التالى لهم على أيدى أبناء الصحابة الكرام وتابعيهم، ونعنى بقولنا: «بصورة مستقلة» أن المدونات كانت مدونات خاصة بالسيرة النبوية وليست السيرة فيها أمراً عرضياً.

وبعد هذين الجيلين من المصنفين فى السيرة النبوية جاء جيل ثالث عُرفوا باهتمامهم بالسيرة النبوية والمغازى، من هؤلاء عاصم بن عمر بن قتادة (ت 120هـ)، وهو حفيد الصحابى الجليل سيدنا قتادة بن النعمان رضى الله عنه، وعاصمٌ هذا لم يدرك جده قتادة، وإنما يروى عنه بواسطة أبيه، ولكنه أدرك بعض الصحابة الكرام رضى الله عنهم، فأدرك جدته السيدة رُميثةَ بنت عمرو بن هاشم بن المطلب، وأدرك سيدَنا أنس بن مالك، وسيدَنا جابر بن عبدالله رضى الله عنهم وأرضاهم، وقد روَى عنهم.

وقد كان عاصم بن عمر على علم بالمغازى، وله فيها كتابٌ كما ذكر ابن قُتَيبة، وقد عقد مجالس للتحديث بالمغازى فى مسجد دمشق بأمر من سيدنا عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه، وهذا يبين مدى ثقة الخليفة فى علم عاصم بالسيرة والمغازى النبوية، وكيف لا وهو قد أدرك -كما سبقت الإشارة- بعض الصحابة الذين كانوا جزءاً أساسياً من بعض أحداثها؟!

ومن هذه الطبقة أيضاً محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى (ت 124هـ)، من بنى زُهرة أخوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أدرك عدداً من الصحابة الكرام وروى عنهم منهم سيدنا عبدالله بن عمر بن الخطاب (ت 73هـ)، وسيدنا أنس بن مالك (ت 93هـ) رضى الله عنهم وأرضاهم، وهذا مما يوثق علمه بالسيرة وكتابته فيها.

وقد روَى ابن شهاب كتاب عروة بن الزبير فى المغازى، وكان له هو كتاب فى السيرة النبوية يشير إليه أصحاب كتب السيرة بقولهم: فى سِيَر الزهرى.

ومن هذه الطبقة أيضاً عبدالله بن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصارى (ت 135هـ)، وجده الأكبر سيدنا عمرو بن حزم رضى الله عنه الصحابى الأنصارى الذى أرسله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والياً على نجران باليمن ليعلم أهلها ويفقههم فى الدين، وكتب له كتاباً فيه توجيه وتشريع، وقد سبقت الإشارة إلى أن سيدنا عمرو بن حزم اهتم بجمع ما كتبه صلى الله عليه وسلم للجهات المختلفة من كتب، حتى اجتمع لديه منها بضع وعشرون كتاباً، وكان هذا المجموع هو الجمع الأول للوثائق النبوية، وقد ظلت هذه الوثائق مع الكتاب الذى أرسله به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن مع أبنائه وأحفاده من بعده، حتى وصلت إلينا.

وقد تتلمذ جده وأبوه لعدد من الصحابة الكرام، ورووا عنهم، وتولى أبوه إمارة المدينة المنورة والقضاء بها، فهم بيْتُ عِلم. وقد تتلمذ عبدالله نفسه لعروة بن الزبير ولأبان بن عثمان؛ فهو تلميذ مباشر للطبقة الثانية من كُتَّاب السيرة النبوية، وهذا يبين التخصص فى تلقى علم السيرة العطرة، كما أنه أدرك بعض صغار الصحابة، فأدرك سيدنا أنس بن مالك وروى عنه. وقد ألّف كتاباً فى المغازى ذكره الذهبى.

إذن فالتأليف فى السيرة لم ينقطع منذ بدأ فى عهد الصحابة الكرام، بل ظلَّ مستمراً جيلاً فجيلاً، وكان مصنفو كل جيل مهيئين لهذا التصنيف؛ من حيث تتلمذهم للجيل الذى عاش السيرة وكان جزءاً منها، ومن حيث دراسة ما تم تدوينه فى هذا العلم وروايته لمن بعدهم، ومن حيث إقرار الجيل الأول لهم ما تضمنته كتبهم.

وهذه الطبقة الأخيرة من العلماء هم أشياخ محمد بن إسحاق صاحب السيرة المشهورة، التى هذَّبها بعد ذلك ابن هشام، وعرفت باسم سيرة ابن هشام.

 

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: السيرة النبوية الصحابة الكرام التابعين صلى الله علیه وسلم الصحابة الکرام السیرة النبویة رضى الله عنه عمرو بن بن عمر

إقرأ أيضاً:

خالد الجندي: الصحابة تميزوا بوعي ديني عميق وجرأة أدبية في سؤال النبي عن الوحي والاجتهاد

أكد الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، أن الصحابة رضوان الله عليهم امتلكوا وعيًا دينيًا راسخًا وجرأة أدبية محمودة في سعيهم للمعرفة، مشيرًا إلى أنهم لم يترددوا في سؤال النبي محمد ﷺ عما إذا كان كلامه وحيًا من الله أم اجتهادًا شخصيًا منه.

وأوضح الشيخ الجندي خلال حلقة برنامجه «لعلهم يفقهون» على قناة DMC، والتي حملت عنوان «حوار الأجيال»، أن الإسلام لم يمنع طرح الأسئلة بل شجع عليه، طالما كان ذلك في إطار الأدب وحسن النية بهدف الفهم والتعلم الصحيح للدين.

نماذج من وعي الصحابة في التمييز بين الوحي والرأي

استعرض الشيخ الجندي أمثلة من حياة الصحابة التي تجسد هذا الوعي، منها موقف الصحابي الحباب بن المنذر في غزوة بدر، حين سأل النبي ﷺ عن موقع الجيش: "أهذا منزل أنزلكه الله، لا رأي لنا فيه، أم هو الرأي والمكيدة؟"، وبعد أن أجابه النبي ﷺ بأنه الرأي والمكيدة، اقترح الحباب تغيير الموقع بناءً على اعتبارات استراتيجية.

وأكد الجندي أن هذا الموقف يدل على فهم الصحابة العميق لضرورة التمييز بين ما هو وحي واجب التسليم به، وما هو اجتهاد قابل للمناقشة.

كما استشهد بموقف الصحابي كعب بن مالك عندما بشره النبي ﷺ بقبول توبته، فسأله كعب: "أمنك أم من الله؟"، ليجيبه النبي ﷺ: "بل من الله"، فسجد كعب شكرًا لله. وأشار الجندي إلى أن هذا السؤال يعكس حرص الصحابة على التثبت من مصدر المعلومة وإيمانهم الراسخ.

التسليم الواعي أساس الفهم الصحيح للدين

شدد الشيخ خالد الجندي على أهمية التمييز بين الوحي والاجتهاد النبوي، موضحًا أن النبي ﷺ لا ينطق عن الهوى، ولكنه في بعض الأحيان كان يجتهد.

وأكد أن الخضوع لما جاء من الله ورسوله كتشريع هو واجب، مستشهدًا بالآية الكريمة: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم".

كما أكد الشيخ الجندي أن الصحابة لم يسلموا تسليمًا أعمى، بل كانوا يتحققون ويفهمون، مما يدل على وعيهم ونضجهم في التعامل مع النصوص الشرعية.

طباعة شارك خالد الجندي حوار الاجيال الاسلام

مقالات مشابهة

  • علي جمعة: قراءة السيرة والصلاة على النبي وتدبر القرآن مفاتيح محبة وتعظيم رسول الله
  • علي جمعة: قراءة السيرة والصلاة على النبي وتدبر القرآن مفاتيح محبة وتعظيم الرسول
  • في عيد العمال.. كيف حث سيدنا النبي على إعطاء حقوقهم؟
  • من أنوار الصلاة والسلام على سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم
  • لماذا نذكر سيدنا إبراهيم بالتشهد الأخير دون غيره من الأنبياء؟.. الإفتاء توضح
  • خالد الجندي: الصحابة تميزوا بوعي ديني عميق وجرأة أدبية في سؤال النبي عن الوحي والاجتهاد
  • الجندي: الصحابة لم يترددوا في سؤال النبي ﷺ عن طبيعة أقواله وأفعاله
  • لازم نتعلم.. خالد الجندي: الصحابة كانوا بيسألوا النبي عن كل معلومة بياخدوها
  • ماذا فعل النبي عند هبوب الريح؟ ردد دعاء الرياح وهذه السنن النبوية
  • معايير اختيار الصديق الصالح على الطريقة النبوية