هزاع أبوالريش (أبوظبي)
نظرة متأملة وقارئة للتصاميم الهندسية، والأساليب المعمارية للمواقع الثقافية في أبوظبي، سواء المتاحف أو المراكز الثقافية، تكشف عن جانب إبداعي مدهش وجاذب من حيث التصميم والبناء والدلالة المعمارية التي تأسست على أفكار عميقة ذات ارتباط وثيق بالمكان وثقافته ومفرداته التراثية، كما أنها تحمل في أشكالها المتميزة هوية بصرية ذات خصوصية، ما يجعل زيارة هذه المواقع أو مشاهدتها مصدراً لجماليات ملهمة للجميع، فيما تحفز المبدعين على تقديم الأفضل والمغاير والجديد.

 

تقول الكاتبة شهد العبدولي: التصاميم الهندسية للمباني والأماكن الثقافية مسألة مهمة جداً في زرع ثقافة الاستسقاء البصري، وجعل المبدع يعيش اللحظة الملهمة، وهي من أهم اللحظات التي من خلالها يستطيع المبدع تحفيز أفكاره لاستلهام الصورة المنعكسة من المكان وتغذية بصره ونقل ما يشعر به إلى واقع إبداعي أكثر إدهاشاً ومتعة. وأغلب الدول المتطورة تركز على تلك المعالم الثقافية وصورتها، لأن تكون هي الجاذبة للأفراد، حتى تسكن في ذاكرتهم اللاشعورية، ويكون المكان جزءاً من الشخص، ومن هنا تتشكل هوية المرء، ويكون هو والمكان جزءاً لا يتجزأ منه. وأضافت: ذكريات المكان وتفاصيله ولحظاته والأوقات التي يقضيها فيه، وخاصة إن كان المكان ذا صورة شاعرية، في حينها المكان يسكن في المرء، ولا المرء الذي يسكن المكان نفسه، ولذلك أغلب الروايات والقصص التاريخية وبعض القصائد شكلت ملحمة مكانية كونها جزءاً مهماً من الإبداع الذي يخرج من القلب، ويدخل إلى القلب مباشرة.

أخبار ذات صلة "الشارقة للمتاحف" تطلق معرض "رحلة الاكتشافات" «الوطني للتصوير» يؤرّخ للتراث المعماري المغربي

إضافة حقيقية
يقول الشاعر الدكتور خالد الظنحاني، رئيس مجلس إدارة جمعية الفجيرة الاجتماعية الثقافية: «بلا شك فإن مثل هذه المباني والأماكن الثقافية في العاصمة أبوظبي تترك أثراً كبيراً في نفس المبدع، وغالباً ما تكون هي الإضافة الحقيقية للإلهام والفكرة كونها تشكل رمزاً ثقافياً في ذهن قارئ المشهد، ومتابع الصورة لهذه الأيقونة المعمارية الثقافية الحية».  
وتابع الظنحاني: «من المفترض أن تكون المباني والأماكن الثقافية بهذه الروح، والتصاميم الإبداعية التي تشد انتباه المشاهد العادي وتلهم المبدع، كونها تعكس رؤية ثقافية، ويجب أن تكون على قدر هذه الثقافة وما تحمله من رسالة عظيمة للإنسانية، فعلى المكان قبل أن يكون حاملاً لوظيفة ثقافية معيّنة، أن يكون معبراً عن تلك الثقافة، وملامساً وجدانية الزائر بعمق المعنى. مختتماً: المباني والأماكن، وخاصة الثقافية، ليست مجرد مكان مبني على مسألة مادية - ربحية، وإنما هي في الأساس روح تسكن في وجدان الزائر، وتبقى في ذهنة ساردة تفاصيل الحضور الإبداعي، والإلهام الفكري الذي ربما ينهل من خلاله إبداعات مهمة، ومن هنا يكون التألق الحضاري لمبانٍ ثقافية بامتياز».

كثافة الإلهام
توضح الكاتبة والناقدة سحر الزارعي، أن التصاميم الهندسية المختلفة والإبداعية للأماكن الثقافية شديدة التأثير الإبداعي على الفنانين، لما تحمله من مُحفّزات فكرية وبصرية من ناحية، وارتباطات تاريخية وتراثية تُثري القريحة القصصية والروائية، هذا بجانب كثافة الإلهام المُختَزَن في الأعمال الفنية العظيمة التي تحتضنها أروقة الأماكن الثقافية؛ فكل عمل فني هو بمثابة مساحة استكشافية شاسعة قادرة على استثارة مكامن إبداعية مختلفة بين فنان وآخر.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: المتاحف المعمار

إقرأ أيضاً:

من القبو إلى القبر.. تأثيرات المكان في «لعنة الأمكنة» للخطاب المزروعي

فـي مجموعته القصصية (لعنة الأمكنة) الصادرة عن دار ميريت للنشر والمعلومات عام 2003م، أشار الخطاب المزروعي فـي عتبة المجموعة إلى الأمكنة مقدمًا إياها باللعنة المرتسمة عليها، وفـي هذا العنوان بالتحديد ما يوحي بخصوصية معينة للأمكنة الواردة فـي المجموعة؛ فهي تمنح انطباعًا أول بأنها أمكنة ذات طابع مسكون بالمجهول والغرابة واللعنة؛ إذ إنّ لفظة اللعنة الملتصقة بالمكان تشير فـي تأويلاتها المكانية بالحكايات الأسطورية والخوف واللاواقعي فـي التعبير المكاني.

إنّ المتأمل فـي المجموعة القصصية يجد حضورًا طاغيًا للمكان فـي السرد القصصي، ويبدو أنّ المؤلف قد اشتغل على المكان اشتغالًا أراد من خلاله إظهار شخصياته وفق المنحى المكاني للقصص وربطها بالأحداث ربطًا تسير عليه الحكايات وتُبنى من خلاله الشخوص. نجد تكرار مفردات (المقبرة/ القبر) واضحة فـي المجموعة، كما نجد غيرها من الأمكنة التي تفاعلت معها المجموعة وأنتجت تحولًا للأحداث المختلفة كـ(البيت والقرية والقبو والبحر والصحراء وغيرها).

القبو مستودع الحكايات:

يظهر القبو فـي المجموعة كونه مستودعًا للحكايات العديدة التي يضج بها السرد؛ ففـي قصة (القبو) يظهر القبو حاملًا بُعدًا رمزيًّا لا أكثر، ومعه تتسع الحكايات وتتوالد من قصة إلى أخرى، وتتوسع الموضوعات باتساع الحكايات، فتُظهر القرية دواخل شخوصها بالتعبير عما تضمره نفوسهم، فمن قضية العبيد إلى التدين الزائف إلى الصراع بين الأب وابنه إلى الحكم الخاطئ على الناس. قضايا عديدة تناولتها القصة الحديثة راسمة صورة القرية فـي الحكايات الشفهية ومعها حاول الكاتب استعادة شيء من صور القرية وصراع شخصياتها.

لقد كان القبو فـي هذه القصة مستودعًا للحكايات المختلفة المتوالدة على لسان الراوي، لكن القبو فـي قصة (هذا الليل ما أطوله) كان فضاءً للعذابات والقهر والجراح؛ فالقبو هنا فضاءٌ ارتبط بالتعذيب الجسدي، والخوف، تصف القصة هذا الفضاء: «ولكن ألم يكونوا يتركونكم تنامون؟ سألته.

- بلى... بعدما تنتهي حفلة الصحراء، نحمل إلى داخل قبوٍ مظلم ويرموننا على الفراش كالجيفة وما أن يحاول الواحد منا أن ينام حتى يسقط عليه عقرب أو ثعبان، فلا يدخل النوم إلى أعيننا وهكذا حتى تبدأ حفلة الصباح...

- ألا تلسعكم العقارب؟ سألته بسذاجة، وكأني أريد الاقتراب منه أكثر.

- تلسعنا.. حتى أننا تعودنا على العقارب والجرذان. فـي يوم من الأيام سقط ثعبان على عنق الذي يرقد بجانب سريري، فأطبق على عنقه وكان نائمًا، وعندما جاء الصباح ركله أحدهم على خاصرته، يحسب أنه مستغرق فـي النوم... انهض يا كلب.. تحسب نفسك نائما فـي بيت أبيك. فتجندلت جثته متشنجة على الأرض، بعدما تدحرجت ونحن نشاهد الموقف وكأننا فـي حلم أو فـي فـيلم هوليودي». ص51

يقابل القبو فـي هذه القصة الصحراء، وهي فضاء الحرية والتنقل على الأغلب، لكنها قد مثّلت هنا فضاء الاستعباد والظلم والتعذيب؛ إذ إنها تمثّل قبوًا أوسع من القبو الضيق المظلم فـي معناه المتعارف عليه. تصف القصة الصحراء: «كانوا يحملوننا إلى الصحراء فـي كل ليلة اثنين، والبرد القاسي، ونحن عراة ومن ثم يربطون أيدينا على الجيب وهم يطفئون أعقاب سجائرهم على صدورنا المشعرة، فأشم رائحة لحمي ومن ثم يأخذون بنتف شعور عاناتنا، فتحس بالألم يصل حتى الروح كإبر صغيرة تغرس فـي جلدك، فأتململ محاولًا أن أتحرر من الرباط لكن دون جدوى... وهكذا حتى يقترب الفجر». ص51

القبر/ المقبرة مستودع الذاكرة:

يحضر القبر أو المقبرة فـي أغلب نصوص المجموعة، وغالبًا ما يستعيد الراوي معها ذاكرة الألم والحزن والغياب والموت. تحضر مريمُ مثلًا بعد الرحيل مُشكّلةً رحلة فـي الذاكرة. وهنا يستعيدها الراوي؛ إذ تمثّل مريم كل الماضي: الحب والحنين والشوق، مستعيدًا مع رحيلها الذاكرة الشعبية المرتبطة بالسحر والسحرة. نجد اقتران المقبرة بهذه الذاكرة الحزينة إذ يصفها الراوي قائلًا: «مريم يا وجعي الآتي، يا شيئي الذي لا يمسك... ينفلت من صرة روحي. فـينوس... عشتار... هكذا أراك، فرس متروكة تروض نفسها فـي حديقة الوجود الذي رفضته. فرسك المجنون أنا أعبث بحوافري، أقتلع العشب الذي ينبت بين أصابع قدميك. يومها لم أستطع الكلام هربت إلى المقبرة وبدأت أصرخ وأتقلب كنورس جريح خضب الدم ريشه الأبيض.

أحسست بالذنب. أركض إلى روحي الممزقة بشتاتي الذي لا ينتهي.... تغطيني أشجار النخيل بظلال وهمية يخترقها ظل مؤقت يزول بزوال شمسك.... صرت أهيم كالمجنون. قلت:

- لا لم تمت... مريم لم تخلق للموت، بل للاستمرار! صرت أتطلع إلى بنات الحي وهن يضحكن، فأثرن ضحكتك فـي ذاكرتي... فتأتي قاسية كضربة قناص مفاجئة.

- يقولون إنّ عمها حمدون سحرها. قالتها أمي بعدما تنهدت وهي تغرز إبرة الخياطة فـي الكمة وكأنها تهدئ من روعي -بميتافـيزقيتها الساذجة-

ولماذا يسحرها؟ سألتها، وكأن الجنون بدأ يخيم على عقلي.

لأنها رفضت تتزوج ابنه، وقالت: أريد عيسى....». ص33

الأمر ذاته فـي قصة (حكاية صديقي الذي لم يمت) فـي اقتران القبر بالذاكرة واستعادتها، والتخيل المتمثل فـي الالتقاء بالصديق الراحل والحديث عن القبر والدود. أما فـي قصة (لعنة الأمكنة) فـيمتزج المكان: القبر/ المقبرة بغرائبية السرد المتمثل فـي الدخول إلى عالم القبور، ثم أخذ أحد الهياكل منها إلى المنزل. تقوم الغرائبية والتخيل فـي مدّ الحكاية منذ قوله: «أخذتُ أذرع المقبرة وكأني أحسدهم، جاءتني فكرة أن أندس فـي لحدٍ ما، لكن ماذا لو رفض ذلك الميت مشاركتي له..؟ قلت: سأجرب». ص83

تمتد الأحداث المتخيّلة بعد ذلك من أخذ أحد الهياكل إلى المنزل فتتبعه بقية الهياكل طارقة الباب خلفه، إلى أن يقرّر إرجاع الهيكل مرة أخرى. تصبح الأحداث غريبة فـي سردها ويتحول الوصف إلى نوع من الوحشة. هنا تنغلق الذاكرة على التخيل والخوف والوصف البشع من داخل القبر لا من خارجه، ويمتزج الوصف بقتامة الصورة، يقول: «أخذت يداي تنسلان إلى جوف اللحد تدخل الرفات المسروقة، ومن ثم أخذت أهيل التراب والأحجار.. فكأن صوتًا ثقيلًا يخرج من جوف اللحد يقول لي:

- شكرًا لأنك أرحتني مرة أخرى من ضنى الحياة وموتها الذي تعيشونه أنتم المساكين بنو البشر...

ارتجفت وأنا أحسده على أنه وحده لا أحد يشاركه نومته، نهضت بتثاقل وصوت بنات آوى يرجع صداه من الجبل.. فتزداد ضربات قلبي كلما كان الصوت أقرب إلى مسمعي، تملكتني رغبة البكاء وأنا أتجه إلى غرفتي.. أخذت أبكي بمرارة، ورجلاي تتعثران بأحجار الطريق، وكأني أسحب جسدي إلى المقبرة لا منها، كان صوت بنات آوى يزداد حدة وقلبي يرتجف أكثر كسمكة أخرجت من البحر لتوها». ص85

لقد قدّم لنا الخَطّاب المزروعي صورًا متعددةً للمكان، مختلفةً فـي سرد شخوصها والتعبير عنهم، أو بوصف المكان وصفًا دقيقًا يحاول معه ملامسة الأحداث وسيرها فـي القصص المختلفة. لم يكن المكان إلا تقنية يعبّر عنها القاص مستلهمًا ذاكرتها الماضية، ووصفها المتخيل لتكوين صورة سردية داخل النص.

مقالات مشابهة

  • "كالشمسِ تظهرُ للعينينِ من بُعُدٍ".. رحلة بصرية غنية يحتضنها "اللوفر أبوظبي"  
  • سياحة أبوظبي تطلق مبادرة «مرفأ أبوظبي الذهبي» التي تتيح لمالكي اليخوت الفاخرة الحصول على الإقامة الذهبية
  • دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي تطلق مبادرة «مرفأ أبوظبي الذهبي» التي تتيح لمالكي اليخوت الفاخرة الحصول على الإقامة الذهبية
  • المكان بصفته فضاء روائيا
  • جمارك صرفيت في المهرة تضبط وحدتين ألياف بصرية مخصصة للطيران المسيّر كانت في طريقها للحوثيين
  • فصل الكهرباء عن عدة مناطق فى كفر الشيخ.. اعرف المواعيد والأماكن
  • الملكية الفكرية وإبداع الموزع الموسيقي بين الواقع والمأمول
  • الكشف عن المكان.. أين سيُدفن نصرالله؟
  • بلدية أبوظبي تنفذ حملة تفتيشية على الرافعات البرجية
  • من القبو إلى القبر.. تأثيرات المكان في «لعنة الأمكنة» للخطاب المزروعي