غزة حكاية موت معلن.. حرب على وجوه الظلم بالملتقى الدولي الثامن للكاريكاتير
تاريخ النشر: 23rd, August 2024 GMT
لم يعد فن الكاريكاتير خطوطا متشابكة تصنع صورة ساخرة للواقع وكفى، بل أضحى قضية ووجهة نظر وصراعا وحوارا وحروبا ودماء وأشلاء ومنع أرزاق وقطع أعناق.
والساسة في كل الدنيا يخافون الكاريكاتير ويفزعون من رؤية صورهم، لما له من قدرة على المواجهة والاشتباك مع الأحداث السياسية، وصرير قلم على "إسكتش" به عدة خطوط متصلة ببعضها، قد يغضب القادة ويغير السياسات ويطيح بالحكومات، أو -على أقل تقدير- يطيح برأس صاحبه.
وهذا ما حدث مرارا في حرب الإبادة في غزة وقبلها أيضا. وفي يوليو/تموز 2019، أعلنت صحيفة "نيويورك تايمز" توقفها تماما عن نشر الكاريكاتير السياسي، وجاء القرار على خلفية كاريكاتير نشره الفنان البرتغالي أنطونيو موريرا في أبريل/نيسان من نفس العام، يصور فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في صورة أحد الكلاب التي تقود المكفوفين، وتطوق عنقه نجمة داود وهو يسحب خلفه الكفيف (الرئيس السابق دونالد ترامب) الذي يرتدي الطاقية اليهودية "الكيباه". وتم توصيف هذا الكاريكاتير على أنه معاد للسامية.
كما نفى الرسام أنطونيو أنتونس أن يكون رسمه معاديا للسامية، ويقول إنه ينتقد سلوك إسرائيل الإجرامي في فلسطين.
وبسبب حرب غزة أيضا أقيل ستيف بيل رسام الكاريكاتير من عمله في صحيفة ذي غارديان البريطانية بتهمة معاداة السامية بعد أن رسم كاريكاتيرا ينتقد فيه ممارسات نتنياهو في قطاع غزة.
ويظهر الكاريكاتير نتنياهو مرتديا قفازات ملاكمة وهو يحدد جزءا من خريطة تمثل قطاع غزة (تمهيدا لاقتطاعه) مع إرفاق عبارة "يا سكان غزة اخرجوا الآن" في إشارة إلى أن إسرائيل تطلب من أهالي غزة النزوح جنوبا قبل غزو بري متوقع.
وتحوّل رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى مادة متجددة لرسوم الكاريكاتير في وسائل الإعلام العالمية، منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وعلى صفحات صحيفة "ذي إندبندنت" البريطانية، تم نشر عدد من رسومات الكاريكاتير نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن، بدءًا من 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وخلال الأيام الماضية افتتح بالقاهرة "الملتقى الدولي الثامن للكاريكاتير" بقاعتي نهضة مصر وإيزيس بمركز محمود مختار الثقافي بمنطقة الجزيرة، ويضم 270 عملاً فنياً لنحو 246 فناناً من 54 دولة عربية وأجنبية، عن الحرب في غزة، والذكاء الاصطناعي، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتسليط الضوء على شخصية الملتقى للفنان الكوميدي سمير غانم، واختيار إسبانيا ضيف شرف الملتقى، بالإضافة لتكريم "فيلسوف الكاريكاتير" الفنان محمد حاكم تقديراً لدوره البارز في إثراء فن الكاريكاتير المصري.
في لقاء للفنان مصطفى الشيخ رئيس الجمعية المصرية للكاريكاتير المسؤولة عن الملتقى مع الجزيرة نت، قال: الكاريكاتير فن يعتمد بالأساس على اصطياد الفكرة وعرضها بشكل ساخر، حيث يرصد كل تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكافة الجوانب السلبية في حياتنا، ولهذا يهتم الملتقى بما يهم المواطن العربي، ويتعاطف مع آماله ويحزن لأحزانه، ولما نشبت الحرب على غزة كنا أول من عقد معرضا خاصا بالحرب على غزة، حمل كل آلام وآمال المواطن العربي والفلسطيني، ولذا فإن هذا المعرض وغيره من المعارض التي تقيمها جمعية الكاريكاتير المصرية معنية بالمقاومة والدفاع عن الأرض والوطن، وهي في النهاية مهداة لكل الإعلاميين والفنانين الشهداء في الأرض المحتلة، من ناجي العلي شهيد الكاريكاتير الذي حمل القضية الفلسطينية حيا وميتا، فنحن أيضا رسمنا كل الشهداء ممن قضى نحبه إلى كل المناضلين الأحياء على الأرض.
ويضيف الشيخ: والملتقى الدولي الثامن للكاريكاتير يعد الآن من الأحداث الثقافية المهمة في العالم، ويدعى إليه الفنانون من كل دول العالم، واستطعنا أن نستقطب عددا من الفنانين العرب في المهجر ليأتوا، فيعرضون لوحاتهم في الملتقى، أذكر من هؤلاء الفنان السويدي الجنسية السوري الأصل سعد حاجو والذي يعد الآن من أبرز فناني الكاريكاتير في العالم، وكانت مشاركته لافتة من خلال لوحات لاقت إعجاب الفنانين والجمهور، وكذلك الفنان البحريني علي الصميخ والذي يعد من أبرز فناني البورتريه على مستوى العالم، ومن العراق الفنان خضير الحميري، وهو واحد من ألمع الرسامين وتميّز بلونه الخاص الذي يعتمد على الخطوط المتشابكة في إعطاء الملامح الساخرة منها.
وفنانو الكاريكاتير العرب لقوا أكثر من غيرهم مرارة الاعتداءات والترهيب والاضطهاد، وعلى رأسهم العلي مبتكر شخصية الفتى الفلسطيني "حنظلة " التي أصبحت رمزاً فلسطينياً عاش بعد وفاة صاحبه الذي تلقى طلقة من مجهول في أغسطس/آب 1987 في لندن، إضافة إلى السوري علي فرزات الذي تعرض لعملية اختطاف واعتداء عام 2011، وشملت الاعتداءات أيضاً الجزائري جمال غانم، والتونسي جابر ماجري، والمغربي خالد قدارة.
وفي لقاء مع الجزيرة نت، قال الفنان فوزي مرسي قوميسير عام الملتقى الدولي الثامن للكاريكاتير والأمين العام للجمعية المصرية للكاريكاتير: درج الملتقى على أن يتضمن محورين كل عام، محور الكاريكاتير ويضم الأعمال الفنية التي تتطرق إلى قضايا مهمة، ومحور البورتريه الكاريكاتيري الذي يركز على الاحتفاء بشخصية فنية أو ثقافية، واخترنا هذا العام الممثل الكوميدي سمير غانم وذلك للعلاقة القوية بين الكاريكاتير والكوميديا، وفي المعرض مجموعة كبيرة من من البورتريهات التي رسمها فنانون من مختلف دول العالم، تصاحبها بورتريهات أخرى للممثل الكوميدي الإسباني الشهير خوسيه لويس باثكيس.
وفكرة الكاريكاتير الجوهرية تقوم بالأساس على السخرية، وتاريخياً نجد أن المصريين القدماء برعوا في فنون السخرية الكاريكاتيرية، والعرب عرفوا هذا الجنس الأدبي الراقي الصعب، فالجاحظ بأسلوبه الساخر المميز كان رسام كاريكاتير، ومن ذريته جاء المضحكون الكبار: البشري ومأمون الشناوي وأحمد بهجت ومحمود السعدني، وإذا انتقلنا للشاطئ الآخر نجد أن هنري برغسون صاحب رواية "الضحك" الحائز على جائزة نوبل أول من تنبه للقوة الكامنة في فن الكاريكاتير الشخصي مع نهاية القرن الـ19.
ثم جاء الكاتب الأميركي مارك توين، ليرسم لنا صور كاريكاتيرية لبعض شخصياته، نسوق منها هذه الواقعة:
وأرسل مارك توين لعدد من الشخصيات المرموقة في أميركا على سبيل الدعابة عبارة "اهرب لقد اكتشفوا أمرنا" وصباح اليوم التالي كانوا كلهم قد غادروا أميركا!
الكاريكاتيريون العربوبرع الكثير من رسامي الكاريكاتير العرب الذين تخصصوا في الكاريكاتير السياسي، وبعضهم دفع حياته ثمناً لفنه، ومن الأسماء المعروفة عربياً، من مصر: صلاح جاهين ومصطفى حسين وجورج بهجوري وأحمد طوغان وعمرو سليم والعراقي غازي ومحمود كحيل وأمجد رسمي، بالإضافة لأسماء عربية أخرى منها الليبي حسن دهيمش الملقب بـ"ساطور" والفنان أحمد الشكري ومواطنه الليبي محمد زواوي، توفي في عام 2011، والأردني عماد حجاج مبتكر شخصية "أبو محجوب" والسوري رائد خليل، ومن العراق الفنان خضير الحمير وفيصل لعيبي ونبيل يعقوب وطالب مكي ووليد نايف وعلي المندلاوي وكفاح محمود وحمودي عذاب وكذلك علي هاشم الكرخي وعادل صبري وانطلاق محمد عليو وفائزة الخطيب.
وفي لقاء للفنان التشكيلي ياسر عبيدو مع الجزيرة نت قال: بلغ الكاريكاتير العربي شأوا كبيرا خلال المرحلة الماضية، ولمعت من خلاله نجوم كبار عبروا عن قضايا المواطن العربي بذكاء واحترافية بالرغم من مساحة الحرية المحدودة للفنان العربي للتعبير عن هموم مواطنيه.
وفن الكاريكاتير الأكثر شعبية في تكثيف اللحظة، حيث السخرية والمبالغة لتضخيم الزاوية المنتقدة، ولما لهذا الفن من قدرة واسعة في تشكيل الرأي العام حول القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية التوعوية، هي قدرة استغلها الفنان الفلسطيني في التعبير عن قضايا وطنه للتعامل مع الاستعمار الاستيطانيّ الصهيونيّ للأرض المحتلة، وقد استطاع من خلالها كشف روايات ومزاعم مركزية في البنية الصهيونية وتعريتها أمام الناظر لهذه الرسومات.
ويضيف عبيدو: ولما كان الكاريكاتير فنًّا مهتما بالأحداث اليومية، متتبعًا جرائم العنف الصهيونيّة التي مثلت العنف في أشد حالات ظهوره ووضوحه، هنا يبرز دور الكاريكاتير السياسي في التضخيم من حجم المأساة، وهذا ما نراه سنوياً في ذكرى النكبة (1948) حيث توظف عناصر مشتركة، منها مفتاح العودة وجذور شجرة الزيتون، ونجد المفتاح مثلاً شائع الاستخدام في الكاريكاتير الفلسطيني المخصّص لذكرى النكبة.
ويعدد لنا عبيدو عددا من فناني الكاريكاتير الذين برعوا في رسم الواقع الفلسطيني الأليم، منهم: الفنان سائد نجم وهو واحدٌ من أكثر من 20 فنانا فلسطينيا، معظمهم يعيشون خارج فلسطين، ونذكر منهم الفنان محمد سباعنة الفائز بعدة جوائز عالمية، والفنان الفلسطيني محمود نعيم عباس وهو عضو نقابة الصحفيين السويديين والاتحاد الدولي للصحفيين وشبكة الكرتون الدولية، وقد ولد في مخيم الوحدات للاجئين الفلسطينيين في الأردن عام 1986 وتعود أصوله إلى قرية حمامة جنوب فلسطين، وقد فاز بعدة جوائز عالمية.
ولن ننسى ابن مخيم الشاطئ الدكتور علاء اللقطة الذي استطاع أن يعبر عن أحزان وطنه من خلال خطوط ورسومات الكاريكاتير المتمردة، وما زال إلى اليوم يحارب بريشته، ونال عددا من الجوائز المهمة في الكاريكاتير من مصر والدول العربية، بالإضافة لعدد آخر من الفنانين منهم: سائد نجم وأسامة نزال وصفاء عودة.
علامات على الطريقويحضرني أسماء أوروبيّة كبيرة قد لاقت العنت والمعاناة في سبيل النهوض بفن الكاريكاتير، لكنهم تركوا بصمات خالدة في تاريخ الفن، منهم وليام هوكارث (1697-1764) وهو رسام وطبَّاع إنجليزي، وقد تميزت رسومه بالنقد الاجتماعي الساخر، كما كان يرسم الكرتون في الصحف، وهو رائد الفن المسلسل. والإنجليزي جورج كرويكشانك (1792-1878) الذي ابتكر هجاءً سياسياً للعائلة المالكة البريطانية، بالإضافة إلى رسومه الاجتماعية للحياة البريطانية، والإسباني فرانشيسكو دي جويا (1746-1828) الأصم صاحب اللوحات الصارخة الذي ألهم بيكاسو سيزان.
وكذلك الرسام الرائد أونوريه دومييه (1808-1879) وهو طبّاع فني ورسام كاريكاتير مصور ونحات فرنسي، وقد عكست أعماله الحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا في القرن الـ19. ورسم أكثر من 500 لوحة فنية، وأنتج أكثر من 4 آلاف لوحة طباعة حجرية وألف عمل فني محفور على الخشب ومثلها رسوم بالإضافة إلى مئة منحوتة.
والفنان الفرنسي أونوريه دومييه الملقب بأبي الفنون الكاريكاتيرية الحديثة (1808-1879) والأميركي توماس ناست (1840-1902) الذي يعرف أيضا بأنه "أبو الكاريكاتير السياسي في الولايات المتحدة" وقد تميز بإنتاج العديد من الرسومات المميزة، منها صور كاريكاتيرية لسانتا كلوز، الفيل الجمهوري، الحمار الديمقراطي.
وكان الألماني ليونيل فايننجير (1871-1956) يمتلك مهارات كبيرة في الرسم جعلت منه بحلول نهاية القرن كبير رسامي الكاريكاتير السياسي في ألمانيا.
كما قام الفنان الشيوعي ويليام جروبر(1897-1977) بإنتاج رسوم كاريكاتيرية تميزت بالواقعية الاجتماعية، والروسي أليكس جارد (1900-1948) أنتج أكثر من 700 رسم كاريكاتيري للمشاهير.
أما الفنانة الأميركية هيرشفيلد (1903-2003) فقد عكست أعمالها حال مجموعة من السياسيين والفنانين، وتم اختيار أعمالها على الطوابع البريدية الأميركية، وأعمالها في العديد من المتاحف الفنية الأميركية بما في ذلك متحف متروبوليتان للفنون ومتحف الفن الحديث في نيويورك.
ويعد رسام الكاريكاتير مورت دركر (1929-2020) أحد المؤسسين لمجلة "ماد" ذائعة الصيت، وتميّز بأنه الأكثر شهرة برسومه الكاريكاتيرية لنجوم السينما والممثلين التلفزيونيين، وقد ساهم بعمل أغلفة وصور داخلية لمجلة "تايم" في العديد من المناسبات.
وهناك جيرالد أنتوني سكارف الذي ولد سنة 1936 وهو رسام صحيفة "نيويوركر" ورسام كاريكاتيري في صحيفة "صنداي تايمز" وهو صديق سابق لرسام الكاريكاتير رالف ستيدمان المولود سنة 1936، وأنشأ رسومات توضيحية لمجلة "ذي ديلي سكتش" ومجلة "ذي ستاندرد ستاندرد آند بانش" وقام بإنتاج سلسلة من الرسومات التي تعبر عن مجموعة من الشخصيات البريطانية المشهورة بما في ذلك هنري الثامن، الملكة إليزابيث الأولى، ونستون تشرشل، أغاثا كريستي، البيتلز، ديانا.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات فن الکاریکاتیر لوحة لفنان فی العالم أکثر من فی غزة
إقرأ أيضاً:
هل سافر ابن بطوطة إلى الصين؟ باحثون يروون من جديد حكاية الرحالة المغربي
طنجة- في مدخل متحف برج النعام بمدينة طنجة، يقف تمثال ابن بطوطة بشموخ حاملا رسالة تذكّر العالم برحلته التاريخية التي ساهمت في مد جسور بين الشرق والغرب.
انطلق ابن بطوطة من هذه المدينة الساحلية، حيث ولد، في رحلة استغرقت ربع قرن، جاب خلالها العالم، ووصل إلى بلدان لم يسبقه إليها أحد، في أقصى الشرق في ماليزيا والفلبين، ومرورا بجزر المالديف والهند.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2مسجد إيفري كوركورون.. تحفة معمارية أندلسية ومنارة علمية وثقافية في فرنساlist 2 of 2المدينة العتيقة بتونس.. معلم تاريخي يتوهج في رمضانend of listترك هذا الرائد في الرحلة وأدبها كتاب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، المعروف أيضا بـ"رحلة ابن بطوطة"، لكن ما جاء في روايته عن زيارته الصين أسال كثيرا من المداد وأثار حوله الشكوك من قِبل المستشرقين.
جدل رحلة الصينيرى الباحث المغربي عبد الله العلوي مؤلف كتاب "ابن بطوطة في الصين" -في حديث للجزيرة- أن سوء الترجمة أدى إلى تشكيك المؤرخين الغربيين في بعض روايات ابن بطوطة، إذ فهم المؤرخ الفرنسي هنري بول (1946-2017) من وصف ابن بطوطة تجارا صينيين يستخدمون الفيلة في مدينة "قلقيلية" (مدينة لم تعد قائمة) بالأرخبيل الإندونيسي أنه يتحدث عن الصين، وهو ليس كذلك.
كما أن المغاربة شككوا في روايات ابن بطوطة التي تصف ثراء الصين، وفي القصص الخارقة مثل حكاية المشعوذ الذي قطع أعضاء صبي ثم ركبها من جديد، وهذه حكاية أكد ابن بطوطة أنها خدعة.
إعلانلذلك، فإن انتقاد ابن بطوطة جاء نتيجة سوء فهم، وقد تعرض لهذا الموقف كل الرحالة تقريبا ومنهم ماركو بولو، فالناس تظن أن جميع الشعوب تعيش على شاكلتها، ثم إن الصين كانت بعيدة ومختلفة الثقافة كليا، ومن ثم فلا أحد صدق الرحالة فيما رووه.
ويلاحظ الأكاديمي المغربي ناصر بوشيبة -في حديث للجزيرة نت- أن ابن بطوطة يعد من أبرز رواد أدب الرحلة في العالم الإسلامي، إذ جاب أصقاع الأرض من المغرب إلى الصين وإندونيسيا، حاملا معه رؤية صوفية ساهمت إلى حد ما في المبالغة في روايته لبعض الأخبار، متأثرا بالمتخيل الشعبي الذي يؤمن بالكرامات والخوارق.
مع ذلك، يشدد الباحث بوشيبة -صاحب كتاب "تاريخ العلاقات بين المغرب والصين"- على أن انتقاص مستشرقين من ابن بطوطة غير مقبول، مشيرا إلى أن ذلك يأتي في سياق تاريخي من التنافس بين الشمال والجنوب، ومحاولات التقليل من قيمة الحضارة الإسلامية.
ويستعرض عدة أدلة من المصادر الصينية التي تثبت صحة رواية ابن بطوطة، ومن أهمها وجود شخصية الشيخ برهان الدين الكازروني، الذي ذكره ابن بطوطة في رحلته، في الوثائق الصينية القديمة، كما أن وصف ابن بطوطة مختلف الهدايا المتبادلة بين سلطان الهند وإمبراطور الصين وأهداف البعثة الدبلوماسية الصينية إلى الهند، تتطابق بشكل كبير مع ما ذكره المؤرخون الصينيون.
في حين يقول رئيس معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث وارف قميحة للجزيرة نت إن الشكوك حول رحلة ابن بطوطة إلى الصين تعود إلى: "وصفه بعض العادات الصينية (مثل استخدام الأوراق النقدية) الذي يتطابق مع روايات ماركو بولو، مما دفع المؤرخ هنري بول للاعتقاد بأنه نقلها من مصادر أخرى. كما أن غياب ذكر سور الصين العظيم في روايته، رغم أنه رمز بارز، يثير تساؤلات عن مدى دقته". ويرى المغاربة أن رواية ابن بطوطة عن "عجائب الصين" تشبه قصص "ألف ليلة وليلة"، مما قد يشير إلى تضخيم أو استعارة أدبية.
دور التجار والمستكشفين العرب في نقل المعرفة والثقافة بين الحضارتين الصينية والعربية أثار اهتمام الباحثين، فوجدوا في تتبع خطى ابن بطوطة وسيلة لفهم هذا الترابط العميق.
إعلانولاحظ الباحث اللبناني وارف قميحة التأثير الإسلامي في المعمار المحلي، إذ إن هناك جناح الآثار الإسلامية بمتحف مدينة الزيتونة (تشيوانتشو حاليا) للمواصلات البحرية مما يؤكد وجود جالية إسلامية نشطة.
ومن الآثار التي صادفها وذكرها ابن بطوطة:
ميناء تشيوانتشو حاليا الذي كان يعد من أكبر الموانئ التجارية. مسجدها القديم (مسجد تشينغ جينغ/ مسجد الأصحاب) ولا يزال قائما حتى اليوم، ويعد من أقدم المساجد في الصين. في مدينة خان بالق (عاصمة الخان/ بكين حاليا)، تحدث عن قصر الإمبراطور المنغولي، الذي يحتمل أن يكون موقع "المدينة المحرمة" لاحقا. وصفه العمارة الفخمة في المدينة يتوافق مع سجلات الحقبة اليوانية (سلالة يوان). مقابر صحابة النبي محمد ﷺ في جنوب الصين، مثل مقبرة سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في غوانغتشو، وهذه المقبرة لا تزال مزارا للمسلمين الصينيين.يقول الأكاديمي قميحة إن ابن بطوطة وصل إلى الصين في أواخر عهد أسرة يوان (المنغولية)، التي كانت تعاني اضطرابات سياسية وثورات ضد الحكم الأجنبي، مما جعل تحركاته محدودة وخطرة.
ويرجح أن تنقله بين المدن الساحلية بدلا من التوغل داخليا جعله يعتمد على كرم التجار المسلمين، مما يفسر تغير وضعه المادي بين الرفاهية والاعتماد على الآخرين.
وهو ما أكده بوشيبة بذكره أن ابن بطوطة سافر عبر القناة المائية التي تربط بين الخنساء (هانغتشو) وبكين، وقدم وصفا تفصيليا لكل مدينة وحاكمها، مبرزا أن رحلته أثارت إعجاب الباحثين الصينيين، الذين رأوا في شهادته دعوة إلى التعايش الممكن بين الثقافات المختلفة.
ويبرز العلوي أن ابن بطوطة كان "متغير الخاطر"، كما عبر هو بنفسه، إذ لم تعجبه المنكرات في الصين، ولم يكن له حظ للالتقاء بالإمبراطور والأمراء كما في بلدان أخرى، بينما كان مصدره الأساسي للمعلومات التاريخية هو القاضي "الصاغرجي"، الذي نصحه بمغادرة الصين.
إعلانويشير إلى أن ابن بطوطة وضع عِلم الرحلة المقارن على خلاف من سبقوه الذين كانت رحلاتهم وصفية فقط، إذ كان يقارن الخضر واللحوم، والخزف، والفواكه، والأنهار، والكرم، والبحار، وعادات الشعوب، حتى أنه قارن فاكهة "النبق" الشوكية في المغرب وفي الهند، وذكر أن الخزف الصيني الذي يصنع بها يصل إلى المغرب في تلك المرحلة.
يقول قميحة إن ابن بطوطة انبهر أيضا بالاختراعات الصينية مثل الورق النقدي، مقارنة باستخدام المغرب للعملة المعدنية، كما أشار إلى أن الصينيين "لا يغادرون بلادهم أبدا" بسبب الاكتفاء الذاتي، بينما المغاربة كانوا تجارا رحالين، ووصف القصور الصينية ذات الأسقف المزخرفة، مقارنة ببساطة العمارة المغربية الإسلامية، وذكر أن المسافر في الصين يمكنه حمل الذهب لمسافات دون خوف، بينما في المغرب كانت القوافل تحتاج حراسة مسلحة.
ويقول رئيس جمعية التعاون الأفريقي الصيني للتنمية بوشيبة أن المؤرخين الصينيين استفادوا من كتاب ابن بطوطة لفهم تاريخ المجتمع الصيني والإدارة العمومية المحلية في تلك الحقبة، والذي كان مقسما إلى الطبقة الحاكمة من أسرة اليوان (المغول)، والعرب من غرب آسيا المشتغلين في الصناعات الحربية والمصارف، ثم الصينيين الأصليين (الهان) الذين كانوا يعانون الاضطهاد.
ويضيف أن ابن بطوطة روى أن الصين أحسن مكان لتطوير الأعمال التجارية، لوجود إجراءات أمنية صارمة، مثل محطات الإقامة والتفتيش، وتجهيز المسافرين بالمؤن الضرورية، وإرسال كل المعلومات الضرورية إلى المحطة الموالية، كما وصف بدقة جوانب من الحياة الصينية، مثل الطبخ بالبخار وصناعة الخزف، وقارنها بالمنتجات المحلية.
كان ابن بطوطة يميز ما شهده وما سمع به وما حُكي له، ويضيف أحيانا "والله على ما أقول شهيد". ويشرح العلوي أن خلفيته الإيمانية تمنعه من مخالفة الصدق، فمثلا سمع أن سد يأجوج ومأجوج يقع على بعد 6 أشهر من خان بالق، وأن هناك بشرا يأكلون "بني آدم إذا ما ظفروا به"، غير أنه أكد أنه "لم يشاهد السد ولا من شاهده".
إعلانبينما يبرز قميحة أن ابن بطوطة، بصفته فقيها مالكيا، كان ينظر إلى الصين عبر عدسة "دار الإسلام ودار الكفر"، فوصف إعجابه بتسامح الصينيين مع المسلمين، لكنه استنكر عادات مثل عبادة الأصنام.
ويضيف أن عدم إتقانه اللغة الصينية جعله يعتمد على ترجمة التجار المسلمين، مما قد يكون سبب أخطاء في نقل بعض التفاصيل. كما قد يكون أدخل بعض القصص الشفوية التي سمعها في رحلته ضمن سياق مشاهداته الشخصية، لتعزيز عنصر الإثارة في الرواية.
يحتفي الصينيون بابن بطوطة ليس فقط بصفته رمزا للتعددية الثقافية، بل أيضا لجذب السياح وتعزيز السياسة الخارجية.
يقول الأكاديمي قميحة إن الصين اليوم تروج لتراثها كملتقى للحضارات، وابن بطوطة يمثل التواصل التاريخي بين الصين والعالم الإسلامي. كما أن تسمية الشوارع والفنادق باسمه في مدن مثل تشيوانتشو تعكس رغبة في تسليط الضوء على تاريخها كجزء من شبكة طريق الحرير.
ويضيف أن الاحتفاء يأتي بتوافق مع خطاب "الحزام والطريق" الذي يُظهر الصين دولة منفتحة تاريخيا، وهي مبادرة صينية قامت على أنقاض طريق الحرير في القرن الـ19 من أجل ربط الصين بالعالم، لتكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية.
بالإضافة إلى ذلك، أفرد الصينيون لابن بطوطة دراسات منشورة في مجلة العالم العربي، وهناك عديد من الكتب حول تاريخ أسرة "اليوان" التي اعتمدت على رحلاته، والتي لم تُترجم بعد إلى اللغة العربية، كما يبرز الكاتب العلوي.
ومن بين من اهتم برحلة ابن بطوطة المستشرق الصيني عضو مجمع الكتاب الثقافي الصيني الدولي وو فو قوي (عبد الكريم)، الذي استغرق تأليف كتابه "رحلات ابن بطوطة في الصين" عدة عقود.
ويعد هذا الكتاب مرجعا أكاديميا مهمًا يوثق عملية الترجمة والتواصل الثقافي بين الصين والمغرب، ويقدم تحليلات وشروحات النسخ الأصلية من "رحلة ابن بطوطة".
يقول الخبير في شؤون الشرق الأوسط الصيني وو فو قوي عبد الكريم للجزيرة نت إن كتاب "رحلة ابن بطوطة"، قدم وصفا دقيقا لتفاصيل الحياة في الصين، من عادات وتقاليد وفنون وعمارة، مما أتاح للأوروبيين والعرب على حد سواء فرصة التعرف على حضارة بعيدة ومختلفة، وصحح الصورة المشوشة وغير الدقيقة التي كانت سائدة في أوروبا عن الصين.
ويبرز أن كتاب ابن بطوطة يعد وثيقة تاريخية ثمينة توثق العلاقات العريقة بين العرب والصين في القرن الـ14، وشهادة حية على الروابط الثقافية والتجارية التي كانت قائمة بين الحضارتين.
إعلانكما ساهم في تقديم صورة إيجابية عن الصين في العالم العربي، ووصف حياة المسلمين المغتربين هناك، مما ساعد على تعزيز الاحترام والتقدير للحضارة الصينية، والتواصل والتفاهم بين المسلمين في مختلف أنحاء العالم.