عندما يُكمم الإعلام.. المجاعة تفتك بالشعب دون شهود
تاريخ النشر: 23rd, August 2024 GMT
تنشر هذه الكلمة بالتزامن مع المؤسسات الإعلامية عضوة منتدى الإعلام السوداني
الجمعة 23 أغسطس 2024
منتدى الإعلام السوداني: الافتتاحية المشتركة
تعيش بلادنا مأساة إنسانية غير مسبوقة، بحسب تقارير وإحصائيات المنظمات الإنسانية الدولية، وشهادات المنظمات القاعدية، وغرف الطوارئ التي تعمل على دعم النازحين، وسكان المناطق التي تعاني نقص الغذاء.
تقول تقارير المنظمات الدولية أن أكثر من نصف سكان السودان تقريبا “حوالي 18 مليونا” يواجهون خطر المجاعة، بينهم خمسة ملايين وصلوا لأعلى مستويات الجوع، ويتزامن ذلك مع فشل الموسم الزراعي للعام الثاني على التوالي؛ بسبب الحرب الكارثية التي حالت دون زراعة المحصولات الغذائية بمناطق الإنتاج الزراعي الرئيسية.
ومما يزيد مستوى الخطورة صعوبة إيصال المساعدات الإنسانية إلى مناطق المتأثرين؛ بسبب تعنُّت طرفي الحرب، ووضعهم العقبات أمام مرور قوافل المساعدات، ومصادرتها أحيانا، بل، وتحويلها لمصلحة المسلّحين المتقاتلين. وجاء فصل الخريف استثنائيا هذا العام ليقطع الطرق الرئيسية، ويهدم الجسور ويعوق بدوره إيصال المساعدات الإنسانية.
تعمل عدد من المنظمات الدولية على متابعة ومراقبة الموقف في السودان، من بينها منظمة الأغذية والزراعة العالمية، برنامج الغذاء العالمي، مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بجانب منظمة اليونيسيف، وعدد من المنظمات الأخرى، كما تعمل غرف الطوارئ والتكايا ولجان دعم النازحين على الأرض في تقديم الوجبات اليومية، والمساعدات الطبية للنازحين واللاجئين في ظل ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد.
يواجه هذا العمل الإنساني العظيم قيوداً متعددة من جانب طرفي الحرب في المناطق التي تقع تحت سيطرة كل منهما، بدءا من التعقيدات الإدارية والروتينية. كما يتعرّض العاملون الإنسانيون والمتطوّعون للتهديدات التي تصل لمدى بعيد من الاعتقالات والتحقيقات المطولة وتقييد الحركة، والاستهداف الممنهج، ومصادرة المساعدات الشحيحة التي يأتون بها لمساعدة المواطنين المتأثرين بالحرب.
وبسبب القيود الكثيرة المفروضة على عمل منظمات المجتمع المدني والمنظمات واللجان القاعدية التي تخدم المجتمعات المحلية، فإن قدرتها على جمع المعلومات، وتقييم الموقف، ثم إصدار النداءات بطلب المساعدة، تبدو محدودة جداً، أو غائبة تماماً. وضاعفت مشكلة انقطاع الاتصالات من هذه المصاعب؛ بسبب تقليص قدرات التواصل والحيلولة دون وصول التمويل عبر التطبيقات المصرفية، والتي أضحت الوسيلة الوحيدة لتحويل الأموال.
وينطبق الوضع نفسه على الإعلام، المحلي منه والأجنبي، والذي يعجز عن متابعة الوضع الإنساني للاجئين والنازحين بسبب القيود المفروضة عليه وبسبب انقطاع الاتصالات وتعطل شبكات الإنترنت. ولا يسمح للإعلاميين بالعمل بحرية في تغطية مثل هذه المواضيع، وغالباً ما يُعْمَل فيها بسرية كاملة، لا تتوافق مع طبيعة العمل، وضرورة الحديث للمتضررين، والمعاينة الشخصية، والحصول على الإحصائيات والأرقام من الجهات المسؤولة.
وحتى في حالات السماح للصحفيين والإعلاميين الأجانب بدخول البلاد، يتم ذلك تحت رقابة مشددة من طرفي الحرب بما يحول دون الحصول على معلومات ذات مصداقية. كما يُغَيَّب الإعلام الوطني عن الصورة وفتح الباب أمام التقديرات والأرقام العشوائية والتقارير غير الحقيقية.
رغم كل هذا لا يتقاعس الإعلام الوطني، الحُر والمستقل، والملتزم بقيم الصحافة، في القيام بواجبه المهني، ويعمل الصحفيون والصحفيات في السودان، في ظروف صعبة، ويتعرضون لكل أنواع الانتهاكات، ولسان حالهم باستمرار هو “نعمل من أجل الإنسان والوطن… أيًّا كان الثمن”.
نحن في (منتدى الإعلام السوداني) سنظل نمسك – ونتمسّك – بمهمتنا في البحث عن الحقيقة، ونشرها، وبدورنا في القيام بكامل واجباتنا ومسؤولياتنا المهنية، بحرفية عالية، رغم التحديات كلهن، والمخاطر التي يتعرض لها زملاؤنا وزميلاتنا في داخل مناطق النزاع في السودان، ومناطق النزوح، وبلدان مناطق اللجوء، لعكس الواقع المريع، مهما كانت التحديات.
وسنظل في (منتدى الإعلام السوداني) نرفع الصوت عالياً لتمكين الصحافة والصحفيين والصحفيات من كافة وسائل الإعلام السوداني والإقليمي والعالمي، للقيام بواجباتهم المهنية، وفق حقّهم/ن في الوصول للمعلومات، وفي نشر الأخبار والتقارير والقصص الصحفية، عن الأوضاع الإنسانية، وأوضاع المجاعة التي تهدد حياة الملايين في السودان، وهو حق يوفره لهم/ن القانون الدولي الإنساني، وقانون حقوق الإنسان، ويتوجّب على طرفي الحرب احترام التزاماتهم الدولية، تجاه سلامة وحماية الصحفيين والصحفيات، دون مماطلة أو تلكُّؤ، وهذا ما سنظل نؤّكده دوماً، لأهمية تمكين الصحافة والصحفيين والصحفيات، من التغطية الصحفية المستقلة، للنزاع المسلح في السودان، وآثاره على حياة وأمن وسلامة المدنيين، حيثما وأينما يكونون.
منتدى الإعلام السوداني
الجمعة الموافق 23 أغسطس 2024
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان طرفی الحرب
إقرأ أيضاً:
«سأرتدي بدلة عندما تنتهي الحرب»!
عليك أن تتذلل لنا، وتنفذ رغباتنا دون اعتراض إن أردتَنا أن نقابلك في بيتنا باحترام، وإلا فاخرج غير مأسوف عليك. هكذا يمكن تلخيص المشادة الكلامية التي صارت حديث العالم اليوم بعد عرضها في الشاشات، والتي كان أطرافها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس من جهة، والرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي من جهة ثانية. ولم يعد خافيًا الآن أن ترامب لم يكتفِ بتوبيخ وإهانة زيلينسكي في اجتماع البيت الأبيض يوم الجمعة، وإنما عَمَد أيضًا إلى طرده من بلاده، في سابقة دبلوماسية خطيرة جعلت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كلاس تقول إن العالم الحر يحتاج إلى زعيم جديد.
بدا زيلينيسكي في الاجتماع تلميذ مدرسة مشاغبًا ضبطه المدير ونائبه متلبسًا بالغش في الامتحان من ورقة زميله، وطفقا يوبخانه على سوء سلوكه. وقد بدأت المواجهة حينما اتهم ترامب زيلينسكي بأنه «غير مستعد للسلام»، وأن أوكرانيا في مأزق ولا تحقق الانتصارات التي يدّعيها رئيسُها، مشددًا على ضرورة أن يكون الرئيس الأوكراني ممتنًّا لواشنطن وأن يقبل بوقف إطلاق النار الذي اقترحه ترامب. أما نائبه فانس فقد رفع صوته على زيلينسكي قائلًا إنه من قلة الاحترام أن يأتي للبيت الأبيض ويدخل في جدل أمام الإعلام الأمريكي بدلًا من إبداء استعداده لوقف الحرب، مضيفًا أن أوكرانيا تواجه مشكلة في التجنيد وأنها تُجبر مواطنيها على الذهاب إلى الجبهة. حاول زيلينسكي الدفاع عن موقفه بالقول إن الجميع يواجهون مشاكل أثناء الحرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، وإنه إذا كانت أمريكا لا تشعر بها الآن فستشعر بها في المستقبل. لكن ترامب قاطعه بنبرة غاضبة أنه «ليس في وضع يسمح له بإملاء المشاعر على الإدارة الأمريكية». كما انتقد فانس زيلينسكي لعدم تقديمه الشكر لواشنطن بشكل كافٍ، مطالبًا إياه بالتعبير عن الامتنان لترامب. ومن سخرية الأحداث التي يمكن عَدُّها شرّ البلية الذي يُضحِك أنه بعد كل ما حصل من إهانات وتجاوزات ضد زيلينسكي انتهت بطرده خرج وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو ليطالبه بالاعتذار عن إضاعة وقت الرئيس!
وهكذا خرج زيلينسكي مطرودًا من البيت الأبيض دون أن يوقّع اتفاق استحواذ أمريكا على مكامن المعادن النادرة والثروات الباطنية الأوكرانية الذي كان يتمناه ترامب، والذي سبق أن بعث به وزير خزانته «سكوت بيسنت» إلى كييف قبل نحو أسبوعين في محاولة أولى لتوقيعه. وخلال تلك الزيارة نسي الوزير أنه وزير في حضرة رئيس دولة، فتَطاوَسَ ووضع رِجْلًا على رجل أمام الرئيس الذي استقبله باحترام، وأمهل الوزيرُ الرئيسَ - بوقاحة منقطعة النظير - ساعة واحدة فقط ليوقّع الاتفاق! لكن زيلنسكي رفض.
كان الرئيس الأوكراني قد طرح السنة الماضية على برلمان بلاده فكرة مقايضة مواردها الطبيعية بالدعم العسكري في الحرب ضد روسيا التي دخلت في فبراير الماضي عامها الرابع بعد أن أكلت أخضر أوكرانيا ويابسها. وقال زيلينسكي إن ثروة البلاد المعدنية تبلغ قيمتها «تريليونات» الدولارات، وإن هذه الثروة ستكون متاحة «إما لروسيا وحلفائها، أو لأوكرانيا والعالم الديمقراطي» اعتمادًا على من يفوز في الحرب. لكن الأمور لم تسر في النهاية على هوى زيلينسكي، ووجد نفسه بين خيارين أحلاهما مُرّ؛ إما أن تسرق روسيا ثروات بلاده بالحرب، أو تسرقها أمريكا بالسلام! خاصة بعد أن دخل ترامب في مفاوضات مع بوتين دون الرجوع لأوكرانيا ولا للاتحاد الأوروبي، فقرر زيلينسكي ابتلاع السم ومنح ثروات أوكرانيا لأمريكا بشرط أن تعطيه ضمانات أمنية تحمي بموجبها بلاده من اعتداءات روسيا وأطماعها، لكن حتى هذه الضمانات رفضت واشنطن إعطاءها لكييف، ولم يشر الاتفاق - الذي صاغه مساعدو ترامب - إلى أي التزام محدد من جانب الولايات المتحدة بحماية أمن أوكرانيا.
كنتُ قبل نحو ثلاث سنوات قد انتقدتُ في هذه الزاوية الرئيس الأوكراني في مقال حمل عنوان «زيلينسكي وتملّق إسرائيل» تعليقًا على خطاب ألقاه بتقنية «زوم» أمام الكنيست الإسرائيلي، متباكيًا فيه على الاحتلال الروسي لبلاده، ومتجاهلًا في الآن ذاته أنه يخاطب محتلين لأراضي غيرهم، متناسيًا أن الشر الحقيقي هو الاحتلال، أيًّا كان مرتكبه. وانتقدتُ نفاقه الفاقع حين استشهد وهو يعرض أزمة احتلال بلاده من جارتها روسيا بعبارة جولدا مائير - رئيسة وزراء إسرائيل السابقة - «نحن نريد الحياة، لكن جيراننا -الفلسطينيين طبعًا لا سواهم- يرغبون برؤيتنا أمواتًا»، وقلتُ إن بحثه عن الدعم من إسرائيل جعله بلا موقف أخلاقي واضح. غير أن هذا لا يمنعني اليوم من إبداء الإعجاب بصلابته وثبات موقفه في وجه الصلف الأمريكي وغطرسة ترامب الذي تعامل معه ومع ثروات بلاده بعقلية شاهبندر التجّار الذي يعقد الصفقات، لا عقلية السياسي الذي يضع الدبلوماسية بوصلته في أي حوار. بل إن زيلينسكي صمد حتى أمام إهانة أحد الصحفيين الحاضرين في الجلسة حين سأله: «لماذا لا ترتدي بدلة رسمية؟ ألا تمتلك واحدة؟ الشعب الأمريكي يجد مشكلة بعدم ارتدائك بدلة رسمية خلال وجودك في أهم الأماكن الرسمية في الولايات المتحدة»، فكان جوابه: «سأرتدي بدلة عندما تنتهي الحرب، ربما مثل التي ترتديها أنت أو أفضل منها».
وبالعودة إلى تباكي وزيرة خارجية أوروبا على عدم وجود زعيم للعالم الحُرّ، فإن الردّ عليها هو: أين العالم الحُرّ أصلًا؟ نحن نعلم أن دعم أوروبا لأوكرانيا، ووقوفها مع زيلينسكي لم يكن لقيمها الأخلاقية الفاضلة، ولا لسواد عيني الممثّل الذي صار رئيسًا، وإنما خشية من احتلال روسيا لفرنسا وألمانيا إذا ما نجحت في ابتلاع أوكرانيا، وطمعًا في أن تكون لأوروبا حصة من ثروات كييف التي لا يريد ترامب أن يشاركه في السطو عليها أحد. أي أن أوروبا تفصِّل مبادئها للعالم الحُر على مقاس مصالحها الضيقة، وإلا فأين هو العالم الحرّ أمام حرب إبادة شنتها إسرائيل على غزة لأكثر من خمسة عشر شهرًا، ولم تترك فيها جريمة إلا وارتكبتها على مرأى ومسمع - بل ومباركة - الجميع!
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني