عربي21:
2025-02-19@20:55:20 GMT

خواطر حول التأسيس الجديد في تونس بعد الثورة

تاريخ النشر: 23rd, August 2024 GMT

لفهم الأطروحات السياسية المهيمنة على المشهد التونسي وعلاقتها الملتبسة بـ"الجمهورية الأولى" -أي بالنظام القديم في مرحلتيه الدستورية والتجمعية- وللوقوف على الآثار الكارثية لتلك العلاقة غير المتكافئة نظريا وواقعيا، فإننا لن نجد أفضل من أطروحة مهمّشة بعد الثورة ألا وهي أطروحة "الجمهورية الثانية". وقد كان المعارض المرحوم طارق المكي (غرة كانون الثاني/ يناير 2013) قد أسس حزبا يحمل هذا الاسم، بما يحمله من دلالات رمزية ومن تناقضات داخلية أكدتها مواقف المرحوم قبل الثورة وبعدها.



فـ"الجمهورية الثانية" هي حزب غير قانوني قبل الثورة، وهو حزب يكاد زعيمه أن يتماهى مع البورقيبية رغم نقده الحاد لنظام المخلوع الذي ورثها؛ كما كان زعيم "الجمهورية الثانية" أول من أشاع مقولة "ديغاج" (ارحل) التي تحولت إلى أيقونة من أيقونات "الربيع العربي"؛ وكان أول من وظّف وسائل التواصل الاجتماعي بصورة ممنهجة (سلسلة "ألف ليلة وليلى) عبر موقعي "الدايلي موشن" و"يوتيوب" لإحراج النظام داخليا وخارجيا، وذلك رغم سياسة حجب المواقع في تونس قبل الثورة؛ وهو أخيرا تلك الشخصية المهمشة شعبيا ونخبويا بعد الثورة، بحيث لم يحضر في جنازته -بعد موته المريب بسكتة قلبية- أبرزُ الوجوه السياسية والحقوقية من مختلف التيارات الفكرية.

النجاح الأبرز لمنظومة الاستعمار الداخلي أو للدولة العميقة بعد "الثورة" كان هو الفصل بين نظام المخلوع والبورقيبية من جهة أولى، ومن جهة ثانية نجاحها في حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى مدار هوياتي أساسه التقابل بين "العائلة الديمقراطية" التي تشمل "الدساترة" (أي التجمعيين) وبين "الظلاميين" و"الرجعيين" المهددين للنمط المجتمعي التونسي بقيادة حركة النهضة
لقد أردنا أن ننطلق من المصير "المأساوي" (بالمعنى الإغريقي للكلمة) لأحد رموز النضال ضد نظام المخلوع؛ لأننا نعتبره قابلا للتعميم على أبرز السرديات الأيديولوجية التي هيمنت على مرحلة التأسيس والانتقال الديمقراطي برمته خلال ما يُسمّى الآن بـ"العشرية السوداء". فالبورقيبية التي كاد المرحوم أن يتماهى معها -رغم أنها السردية التأسيسية لانقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 الذي طرح نفسه "تحولا مباركا" من داخل التراث البورقيبي- لعبت بعد "الثورة" وخلال مرحلة التأسيس دور السردية المرجعية أو "الخطاب الكبير" والمهيمن على مختلف الفاعلين الجماعيين.

والخطاب الكبير كما هو معلوم في المدارس النقدية هو ذلك الخطاب الذي تستمد منه سائر الخطابات المتصارع شرعيتها، بحيث تزداد تلك الشرعية كلما اقتربت منه وتماهت معه، وتفقدها كلما ابتعدت عنه أو اتخذت مسافة نقدية منه. وقد تجلّى انتصار "البورقيبية" على الثورة وخطاباتها المتنازعة بإعادة تدوير رموز المنظومة القديمة والاحتكام إليهم زمن التأسيس تحت شعار "استمرارية الدولة". فلم يكن نفض الغبار عن شخصية المرحوم الباجي قائد السبسي -رغم أنه أحد رموز المنظومة القديمة- وفرضه في رئاسة الحكومة؛ إلا دليلا على تهافت مرحلة التأسيس وهشاشتها المنذرة بالانقلاب على مخرجاتها ولو بعد حين.

إن النجاح الأبرز لمنظومة الاستعمار الداخلي أو للدولة العميقة بعد "الثورة" كان هو الفصل بين نظام المخلوع والبورقيبية من جهة أولى، ومن جهة ثانية نجاحها في حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى مدار هوياتي أساسه التقابل بين "العائلة الديمقراطية" التي تشمل "الدساترة" (أي التجمعيين) وبين "الظلاميين" و"الرجعيين" المهددين للنمط المجتمعي التونسي بقيادة حركة النهضة.

ولذلك كانت القضايا الهوياتية أهمَّ قضايا مرحلة التأسيس ودُفع بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية إلى خلفية المشهد والهامش، أما البورقيبية فقد أصبحت مقدسا وطنيا مشتركا بحيث لم تتخلف حركة النهضة ذاتها في تبنيه، سواء تحت ضغط مطلب "التَّونسة" أو تحت شعار البحث عن "المشترك الوطني" داخل التراث الدستوري، لتبرير التحالف السياسي -خيار التوافق- مع حلفائهم من ورثة التجمع. ولذلك أصبحت لحظة التأسيس مجرد لحظة من لحظات إعادة التوزان -بل إعادة الشرعية- للنظام القديم وللجمهورية الأولى برموزها وخياراتها الكبرى ومكوناتها الصلبة، فأصبح الحديث عن "جمهورية ثانية" مجرد مجاز في خدمة حقيقة واحدة هي أن الثورة قد فشلت في بناء سرديتها الخاصة التي تجعلها تتجاوز جدليا "الجمهورية الأولى" بلحظتيها الدستورية والتجمعية على حد سواء.

إذا كانت عملية التأسيس خلال مرحلة الانتقال الديمقراطية قد فشلت في بناء "الجمهورية الثانية" (جمهورية المواطنة الكاملة التي تتجاوز جمهورية ما دون المواطنة أو المواطنة المشروطة)، فإن "تصحيح المسار" قد جاء بمشروع "التأسيس الثوري الجديد" رافعا شعار "لا عودة إلى الوراء". ولكنّ هذا "الوراء" الذي تقصده سردية تصحيح المسار يكاد ينحصر فيما يسميه أنصارها وموالاتها النقدية بـ"العشرية السوداء"
بانقلاب "الآباء المؤسّـسين" على الثورة واستحقاقاتها ومطالبها المشروعة، وبتجنّبهم مساءلة البورقيبية في أسسها قبل محصولها، تحولت لحظة التأسيس بعد الثورة إلى مجرد صفقات أو تسويات لا مبدئية تحكمها موازين القوى الداخلية المؤقتة وإملاءات القوى الخارجية المهيمنة على الشأن الوطني من وراء ألف "حليف" (وكيل محلي). وهو ما يعني واقعيا أن لحظة التأسيس لم تكن مطابقة لرهانات المرحلة ولا لانتظارات التونسيين؛ بقدر ما كانت مطابقة لاستراتيجيات المنظومة القديمة في إعادة التموقع والانتشار تحت غطاء "البورقيبية" ومقاومة التطرف والدفاع عن النمط المجتمعي التونسي. وهي مقولات سجالية كان دورها تذويب الخلاف بين العائلات الحداثية اللائكية (بتجمعييها ويسارييها وقومييها) وبناء كتلة أيديولوجية تجد علة وجودها في مقاومة الإسلاميين، لا في التخلص من إرث الاستبداد والفساد وتفكيك مرتكزاته الفكرية وأطره المؤسساتية.

أما حركة النهضة فقد اختارت دخول الدولة لا مواجهتها، وهو خيار لا يمكن إنكار وجاهته من حيث المبدأ وإن كان قابلا للنقد الجذري من حيث "الشروط". فالنهضة اختارت التحالف مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة، وهو ما يعني فك الارتباط بين تمثيليتها الشعبية وبين تمثيلها داخل أجهزة الحكم ومراكز صنع القرار من جهة أولى، كما يعني من جهة ثانية سلبيتها أمام استمرار الابتزاز السياسي الممنهج لها، سواء بمنطق مواجهة "أخونة الدولة" أو بمنطق مسؤوليتها الجنائية في ملفي الإرهاب والاغتيال السياسي.

إذا كانت عملية التأسيس خلال مرحلة الانتقال الديمقراطية قد فشلت في بناء "الجمهورية الثانية" (جمهورية المواطنة الكاملة التي تتجاوز جمهورية ما دون المواطنة أو المواطنة المشروطة)، فإن "تصحيح المسار" قد جاء بمشروع "التأسيس الثوري الجديد" رافعا شعار "لا عودة إلى الوراء". ولكنّ هذا "الوراء" الذي تقصده سردية تصحيح المسار يكاد ينحصر فيما يسميه أنصارها وموالاتها النقدية بـ"العشرية السوداء". وبصرف النظر عن أصل هذه التسمية (فترة الحرب الأهلية في الجزائر)، فإن "السواد" لا يمتد ليشمل منظومة المخلوع وسلفها البورقيبي.

ورغم أن الرئيس لم يبرر إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 بالخطر الداهم الوارد في الدستور فقط، بل تحدث عن "خطر دائم" يشمل فلسفة التأسيس وأجسامها الوسيطة (خاصة الأحزاب)، فإن موقفه من الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة وكذلك تطبيعه مع تركتها القيمية والبشرية -من خلال علاقة التعامد الوظيفي مع الدولة العميقة- يجعلنا نعتبره ممثلا لضرب من البورقيبية المعدّلة.

فالرئيس الذي يرفض العودة إلى الوراء لم يجد مهربا من إعادة الاعتبار لبورقيبة وتمجيده عند زيارة ضريحه، وهو ما يمثل انقلابا على بعض الانتقادات السابقة لمؤسس الدولة-الأمة، كما أن الرئيس -بحكم طبيعة مشروعه السياسي ذي البنية الحداثية الدينية الهجينة- قد اضطُرّ إلى التماهي مع جوهر الجملة السياسية للبورقيبية (الزعامة الفردية، هيبة الدولة، وحدة السلطة، شيطنة المعارضين باعتبارهم خونة ومتآمرين على الدولة ذاتها وليس على نظام الحكم) دون التطابق معها (رفض مفهوم التحزب، وهو رفض يمكن رده إلى الخلفية الأيديولوجية اليسارية للديمقراطية المباشرة بحكم قولها بنهاية زمن الأحزاب).

ختاما، فإننا نستطيع الجزم -دون مجانبة الصواب- أنّ التأسيس (سواء أكان ذلك زمن الانتقال الديمقراطى أم كان بعد "تصحيح المسار") هو عملية تحمل بذور فشلها في تناقضاتها الداخلية قبل غيرها من العوائق الموضوعية. فما قامت به الأحزاب وكل الفاعلين المؤثرين خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي كان مجرد تغيير للبناء التشريعي الذي لا يمس بمصالح منظومة الاستعمار الداخلي وما يؤسسها في مستوى السردية البورقيبية.

الصراع بين 24 تموز/ يوليو (الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة) و25 تموز/ يوليو (الديمقراطية المباشرة وإنهاء الحاجة للأحزاب) ليس صراعا بين مشروعين للتأسيس لجمهورية ثانية، بقدر ما هو صراع بين مشروعين لإضفاء الشرعية على الجمهورية الأولى لكن بمفردات مختلفة
فقد أصبح الدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي" والبحث عن "التوافقات" و"التسويات" مجرد غطاء للدفاع عن المصالح المادية والأسس الفكرية لمنظومة الحكم الريعية الزبونية التابعة. أما المهمشون والمقصيون من آليات إنتاج/ توزيع السلطة والثروات المادية والرمزية فلم يكن نصيبهم من الثورة إلا مزيدا من التفقير رغم المشاركة الصورية في صناعة المشهد السياسي. أما "تصحيح المسار" فإن غياب أية حاضنة حزبية له وقيامه على التعارض المطلق مع كل الأجسام الوسيطة قد جعله يبحث عن حاضنته في أجهزة الدولة، ويبحث عن أسباب بقائه في علاقة الاعتماد المتبادل بين سردية تصحيح المسار (باعتبارها سردية سياسية توفر للدولة العميقة شرعية جديدة) وبين منظومة الاستعمار الداخلي (باعتبارها النواة الصلبة للنظام وأداة ضرب الربيع العربي وإفشال أي مشروع ديمقراطي يقوم على الاعتراف بالإرادة الشعبية وممثليها).

ولذلك كله، فإنه لا شك عندنا في أن الصراع بين 24 تموز/ يوليو (الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة) و25 تموز/ يوليو (الديمقراطية المباشرة وإنهاء الحاجة للأحزاب) ليس صراعا بين مشروعين للتأسيس لجمهورية ثانية، بقدر ما هو صراع بين مشروعين لإضفاء الشرعية على الجمهورية الأولى لكن بمفردات مختلفة. فما دامت البورقيبية هي "الخطاب الكبير" فإن كل الخطابات الإصلاحية والثورية ستظل مجرد خطابات وظيفية عاجزة عن بناء مشروع حقيقي للتحرير الوطني بمعناه المزدوج: التحرر من منظومة الاستعمار الداخلي في المستوى المحلي، وبناء مقومات السيادة لمواجهة القوى الخارجية وإملاءاتها التي تنسف مفهوم الاستقلال ذاته.

x.com/adel_arabi21

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسي الثورة الشرعية الديمقراطية تونس الثورة الديمقراطية شرعية أيديولوجيا مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة تكنولوجيا مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجمهوریة الثانیة الجمهوریة الأولى مرحلة التأسیس تصحیح المسار حرکة النهضة بعد الثورة خلال مرحلة من جهة

إقرأ أيضاً:

ماذا تفعل المعارضة في تونس؟

الطرف الآخر لمعادلة الحكم في تونس، إلى جانب سلطة الأمر الواقع للرئيس قيس سعيد ومنظومته، هو المنتظم السياسي، ويهمّنا منه جانبه المعارض؛ لأن جانبه المساند أو الموالي هو جزءٌ من منظومة الحكم حتى وإن اضطرته الظروف والسياقات لإظهار بعض النقد الذي لم يغيّر ولن يغيّر في المعادلة شيئًا.

كلّ العائلات السياسية المعارضة؛ (الإسلامية، اليسارية، الديمقراطية) أقدم من قيس سعيد وحكمه. كلّهم حضروا، بدرجات متفاوتة، في المحطات والمفاصل الكبرى للتاريخ السياسي والنضالي التونسي، منذ بداية دولة الاستقلال مع بورقيبة (1957)، إلى سقوط نظام بن علي وقيام ثورة الحرية والكرامة في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 – 14 يناير/ كانون الثاني 2011، بينما غاب عنها كلّها قيس سعيد الذي كان قريبًا من منظومة حكم بن علي وناشطًًا في دوائرها، ومفتيًا قانونيًا لتعديل دستورها تحت طلب بن علي ورغبته في تمديد حكمه خارج الآجال الدستورية التي وضعها بن علي بنفسه وعلى مقاسه.

المعارضة والفرص المهدَرة

عرف المشهد السياسي التونسي بعد الثورة (2011) وإلى غاية الانقلاب على التجربة الديمقراطية في 25 يوليو/ تموز 2021 طفرة في عدد الأحزاب السياسية. ما يهمّنا من هذه الأحزاب فقط التي شاركت في الانتخابات التي انتظمت في عشرية الانتقال الديمقراطي وعددها ستة، هي التأسيسية في 2011 والتشريعية والرئاسية في 2014 و2019 والبلدية في 2018.

إعلان

لئن بقيت العائلات السياسية هي نفسها لم تتغيّر؛ (الإسلامية، اليسارية، الديمقراطية، القومية، الدستورية)، فقد غيّرت الثورة أحجامها وخريطتها وموازين القوة بينها، وهو ما ترجمته نتائج الانتخابات التي شهد الجميع بنزاهتها وديمقراطيتها وتمثيليتها، عندما كانت تشرف عليها هيئة مستقلة منتخبة من السلطة التشريعية، وتحت رقابة الملاحظين والمراقبين المحليين والدوليين.

فقد أثبتت كل المحطات الانتخابية تقريبًا زمن الانتقال الديمقراطي قوة العائلة الإسلامية؛ (الأولى في انتخابات 2011 و2019 التشريعية، و2018 البلدية، والثانية في تشريعيات 2014، والثالثة في الانتخابات الرئاسية 2019).

في مقابل ذلك، وباستثناء فوز نداء تونس؛ (خليط بين القديم وروافد يسارية ونقابية وغيرها معارضة لحركة النهضة) أولًا في تشريعيات ورئاسيات 2014، وإحراز حزب قلب تونس؛ (نفس تركيبة حزب نداء تونس ويمكن اعتباره وريثًا له) المرتبة الثانية في تشريعيات ورئاسيات 2019، فقد حافظت بقية العائلات السياسية؛ (اليسارية والقومية والديمقراطية) على أوزان ضعيفة نسبيًّا، تتقدم حينًا، وتتأخر حينًا آخر دون أن يمنعها ذلك من المشاركة في الحكم ولعب أدوار سياسية مؤثرة.

إلى جانب الاختلاف الواضح في الأحجام والأوزان الانتخابية، تميّزت الحالة الحزبية والسياسية في عشرية الانتقال الديمقراطي بخاصيات عديدة، كانت لها آثارها البيّنة على التجربة الديمقراطية، وتسرّب من خلالها الانقلاب.

فقد اتَّسمت الحالة الحزبية في عمومها بضعف ساهم في قيام مشهد سياسي فيه الكثير من الهشاشة؛ تسرّبت منه أجندات تعفين المشهد السياسي وخروجه عن وظائفه الأساسية في تعبئة المواطنين وإدماجهم في الشأن العام، وتقديم العروض السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمنافسة الديمقراطية في الانتخابات؛ لقيادة الحكم أو المشاركة فيه، أو معارضته على أساس جملة من القيم والمبادئ المشتركة.

إعلان

من الأسباب الرئيسية التي أنتجت مشهدًا حزبيًا وسياسيًا هشًا وهزيلًا بقي في عمومه على هامش سياق الانتقال الديمقراطي واستحقاقاته، يمكن أن نتوقف عند:

الفشل الانتخابي المتكرر للعديد من الأحزاب، ما حوّل مشروعها السياسي إلى مجرّد استثمار في خطاب الكراهية والصراع الصفري، وإستراتيجية لتعطيل مسار الانتقال الديمقراطي واستهداف الفاعلين فيه. ضعف البنى التنظيمية وانحسار التوزع الجغرافي والفئوي للعديد من الأحزاب جعل قدراتها محدودة في التعبئة والإقناع، والاستمرار في مشهد سياسي انتقالي متحرك. كثرة الانشقاقات على أساس خلافات تنظيمية حول التموقع وتوزيع النفوذ وبعيدًا عن الخلافات الفكرية العميقة التي تثري التجربة، وتستجيب للتحولات الكبرى في الواقع. لم تبقَ النهضة، أكبر الأحزاب السياسية وأقدمها وأكثرها تنظّمًا، في مأمن من الانقسام بعد أن استقال منها عدد غير قليل من القيادات والأعضاء منفردين أو مجتمعين، اتجه بعضهم إلى تكوين حزب سياسي منافس. غياب العروض السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجادة والجاذبة نتيجة انشغال الأحزاب في اليومي وفي الصراعات الجانبية، وفي المعارك الإعلامية المفتعلة، جعل الخطاب السياسي فاقدًا لجمل سياسية بنّاءة وبعيدًا عن واقع التونسيين ومطالبهم. ويبدو تواضع العروض السياسية والاقتصادية للأحزاب واضحًا في نتائج الانتخابات العامة التي شهدتها البلاد في 2014 و2019، مرورًا بالانتخابات المحلية في 2018 التي فاز المستقلون بأغلبية مقاعدها. ضدية حادة وصفرية تجاه حركة النهضة ومشروعها السياسي والمجتمعي تنبع من موقف أيديولوجي متصلب لا يعترف بالنهضة وبحقها في تمثيل جزء غير قليل من التونسيين، ويرفض التقارب معها ويسعى إلى عزلها واستئصالها وإقصائها من المشهد السياسي وإخراجها من الفضاء العام بعد تحميلها كل مساوئ المرحلة وغمط كل نجاحاتها. إعلان

إلى جانب كل ما تقدّم ذكره، يمكن إضافة سببين آخرين مهمّين من خارج المنظومة الحزبية يتعلّق الأول بقصور المنظومة القانونية المنظمة للأحزاب السياسية (المرسوم عدد 87 المؤرخ في سنة 2011)، وضعف التمويل العمومي لها حتى الفائزة منها في الانتخابات، ما حرم الأحزاب من أدوات وآليات تطوير بنيتها التنظيمية، وبلورة عرضها السياسي وضمان استقرارها وديمومتها ومساهمتها في بناء حالة حزبية متطورة، ومتجددة وجاذبة لقوى التغيير من الشباب والنساء والكفاءات. كان انخرام التوازن الحزبي لصالح النهضة وراء منع تمرير قانون تمويل الأحزاب؛ لأن النهضة كانت ستكون أكبر المستفيدين من ذلك.

ويتعلّق الأمر الثاني بالتدخل الخارجي للتأثير سلبًا في المشهد السياسي ومساراته منعًا للتجربة من النجاح ودعمًا للثورة المضادة ولعودة المنظومة القديمة. تبدو آثار هذا التدخل واضحة في برامج بعض الأحزاب السياسية وفي الخط التحريري لعدد من المؤسسات الإعلامية وفي مقايضة التونسيين بين التمسك بالثورة، وما قد يجلبه ذلك عليهم من أزمات وصلت إلى حدّ الإرهاب والاغتيال السياسي والاحتقان الاجتماعي، وبين التخلي عن الثورة مقابل الوعد بإغداق الأموال عليهم، وهو ما لم يحصل بعد الانقلاب.

توازن الضعف بين السلطة والمعارضة

ما نشاهده اليوم، بعد قرابة أربع سنوات من انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021، من ضعف المعارضة وتشتتها، رغم أن جميعها يعيش تحت سقف الانقلاب والاستبداد، دليل على أنها لا تزال تستصحب أثقالًا قديمة جعلت أغلبها أداة وظيفية، من حيث تدري أو لا تدري، من أدوات تعطيل الانتقال الديمقراطي، وفسح المجال واسعًا للانقلاب لإيقاف التجربة وتصفية إرثها.

رغم ما تعيشه السلطة من أزمات وما تواجهه من مخاطر لا تنفك تتعاظم، لم تقطع المعارضة أي خطوات مقدّرة تجعلها تغادر وضعها القديم وتنخرط في ديناميكية جديدة لبناء حالة سياسية جديدة تؤهّلها لمواجهة الانقلاب وتقرّبها لاستعادة حالة ديمقراطية خالية من أعطاب التجربة السابقة.

إعلان

ما يميّز المشهد السياسي العام في تونس هو توازن الضعف بين السلطة والمعارضة، وهي حالة قد تطول بذاتها أو بإرادة جهة أو جهات لها مصلحة في هذا الضعف المتبادل بين السلطة والمعارضة؛ لتمرير أجنداتها وخدمة مصالحها. عندها تكون المعارضة بصدد القيام بخطيئة ثانية هي المساهمة في إضعاف تونس وفتحها للتدخل الخارجي "المقنّع" حينًا والمفضوح حينًا آخر بعد أن ارتكب أغلبها خطيئته الأولى، وهي تعويق الانتقال الديمقراطي.

لا تزال أثقال الماضي مستحكمة في أغلب الطيف السياسي، ولا تزال الجملة السياسية لأغلب رموز وتيارات المعارضة عاجزة عن استيعاب التطورات وقاصرة عن اجتراح المواقف الوطنية الكبرى الجامعة رغم بعض "المبادرات" المحتشمة، ورغم ما وفّرته الانتخابات الرئاسية الأخيرة (أكتوبر/ تشرين الأول 2024) من فرص هامة للمعارضة للانطلاق في بناء أرضية سياسية جديدة تقطع مع الماضي.

الطريق إلى الديمقراطية

لا يختلف اثنان أن المعارضة في وضع التوقف أو في أحسن الحالات التقدم ببطء شديد لا تدركه العين المجردة، لا يمكن أن يفتح على المستقبل قريبًا. فخطّ سير المعارضة إن تواصل على ما هو عليه فإنه لا أفق واضحًا له والأرجح أنه سيظلّ يراوح مكانه، يستنزف أوقاتًا ثمينة وطاقات هائلة في معارك انتفت تقريبًا مبرراتها وانتهت مدّة صلاحيتها وتقلّصت دائرة المعنيين بها إلى حدود كبرى حتى إنها لم تعد تعني القطاع الأوسع من الشعب بل حتى من المنتسبين لجلّ أحزاب المعارضة وخاصة شبابها.

في المقابل، فإن الطريق إلى الديمقراطية واضحة وجلية، أوضحت ملامحها التجربة التونسية والتجارب المقارنة والشبيهة. الطريق إلى الديمقراطية طريق سريعة وسالكة، وأكثر أمانًا وأقل خطرًا؛ لأنها معبّدة بإسمنت مسلّح هو تركيب محكم ومتين بين مكونات عديدة لازمة منها:

الموقف من الديمقراطية موقف مبدئي غير قابل للتجزئة أو المساومة أو المقايضة؛ لأن بناء حالة ديمقراطية يستلزم ضرورة بناء ثقافة ديمقراطية ووجود ديمقراطيين يجتمعون حول فكرة ميثاق أو بيان أو عهد ديمقراطي معلن وملزم. الموقف من الحريات موقف مبدئي لا يتغيّر ولا يتحدّد بحسب لون الضحية وانتمائها السياسي أو الفكري. يمكن أن يكون باب الحقوق والحريات في دستور الثورة (2014) أرضية جامعة يلتقي عليها الجميع بطريقة صريحة ومعلنة، خاصة أنه جاء بطريقة توافقية بعد مسار طويل وواسع من التداول السياسي والمدني. التصدّي لأجندات التعفين السياسي والممارسات السياسية الطفيلية بوضع التشريعات اللازمة لمنع ذلك ومحاسبة من يحاول تلويث الحياة العامة والسياسية وترذيل الديمقراطية والالتفاف عليها وتمجيد الاستبداد. التنافس في تقديم العروض السياسية عبر خطاب سياسي بنّاء يتمحور حول الوطن والمواطن من خلال تقديم أفكار ومشاريع بعيدًا عن استهداف الأشخاص أو الكيانات. الاعتراف المتبادل بين الجميع على أساس المواطنة والحق في التنظم والتعبير والالتزام الجماعي؛ لبناء مقومات العيش المشترك بين كل التعبيرات السياسية على اختلافها. مدنية الدولة وسلمية التداول على السلطة عبر انتخابات حرة، نزيهة وشفافة وتعدّدية تنظمها وتشرف عليها هيئة مستقلة تحت رقابة المجتمع المدني. القبول بنتائج الصندوق وحق الفائز في تولي السلطة وإدارة الحكم بكل أدواته كما حق الآخرين في المعارضة والمنافسة. الديمقراطية الحزبية التي تسمح بالتداول القيادي بين الأجيال وتجديد الأفكار وتغذية المشهد السياسي العام بقوى جديدة، فالديمقراطية لا تبنيها إلا أحزاب ديمقراطية. إعلان

كما تبدو طريق الديمقراطية خالية من الحواجز المانعة للتقدم والذهاب بعيدًا من أجل استعادة الديمقراطية. من هذه الحواجز:

التنافي والإقصاء والصراعات الصفرية بين مختلف الفاعليين السياسيين مهما كانت درجة الاختلاف معهم في الخلفية الفكرية أو في الخيارات والعروض. الصراع على أساس الهوية باعتبار أن دستور الثورة (2014) قد حسمه وثبّت أن تونس دولة عربية دينها الإسلام، كما ثبّت حرية المعتقد وحرية الضمير وملّك المجتمع المدني الأدوات التي تجعل من تونس مجتمعًا آمنًا، منسجمًا يدير اختلافاته بالقانون بعيدًا عن هيمنة الدولة أو أي طرف آخر. التداخل بين الفضاءات المختلفة، كالتداخل بين السياسي والمدني والسياسي والديني والسياسي والمالي اعتبارًا لكل فضاء طبيعته وأدواره، وأن كل الفضاءات تتكامل في خدمة المصلحة الوطنية كل من مجاله وضمن حدوده بعيدًا عن التوظيف والتمترس. العلاقة بالخارج وخاصة الدول والدوائر المشبوهة لخدمة أجندات ضد المصالح العليا لتونس. علاقات الأحزاب السياسية لا تكون إلا مع أحزاب سياسية ديمقراطية، أو مع هيئات مدنية دولية تعمل في مجالات تستفيد منها تونس دون تدخل في قراراتها أو تكييف لها. الإعلام المنحاز الفاقد لقواعد المهنية والحرفية المخترق بالمال السياسي من الداخل والخارج والذي تسرّب له أشخاص لا علاقة لهم بالعمل الإعلامي والصحفي المهني انتدبوا لتلويث المشهد الإعلامي وتعفين السياسي وترذيل العملية السياسية والسياسيين ونشر التفاهة وضرب الذائقة العامة.

ربّما تشتدّ قبضة السلطة على البلاد والعباد فيضيق مجال الحقوق والحريات أكثر مما هو ضيّق الآن إذا ما بقيت المعارضة حبيسة أقفاص الماضي وتحت أثقاله. لن تخرج المعارضة والبلاد من ضيق الاستبداد إلى سعة الحرية والديمقراطية إلا بإحداث نقلة نوعية وعميقة في الثقافة السياسية تقوم على ما ذكرنا أعلاه من نقاط.

إعلان

ومثلما أن التاريخ والذاكرة لن يسقطا ما قام به الانقلاب ولا يزال من كوارث تأخرت بتونس عقودًا إلى الوراء وصادرت مستقبلها، فإن التاريخ والذاكرة لن يعفيا أيضًا وربما بدرجة أكبر المعارضة من مسؤوليتها في التفويت في الثورة والانتقال الديمقراطي والوصول بالبلاد إلى الانقلاب، ومن مسؤوليتها أيضًا في إعادة تأهيل نفسها كما يجب لتقوم بما يلزم لإنقاذ تونس ووضعها من جديد على سكة الحرية والديمقراطية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • جيسوس يؤدي العرضة احتفالًا بيوم التأسيس .. فيديو
  • العمل على قدم وساق في استاد الأهلي..لقطات من التأسيس
  • رسائل تهنئة يوم التأسيس السعودي 2025
  • 5 خواطر عن يوم التأسيس السعودي
  • وزراء قيس سعيد!
  • زلزال بقوة 4.1 درجة يضرب وسط تونس
  • أبيات شعر عن يوم التأسيس السعودي 2025
  • تونس تُعيد مئات الأطنان من البطاطس إلى تركيا
  • وليد اللافي: الفوضى مرحلة ضرورية من مراحل إعادة التأسيس
  • ماذا تفعل المعارضة في تونس؟