امام وخطيب المسجد الحرام يوصي المسلمين بالصبر الجميل عند الشدائد والمحن
تاريخ النشر: 23rd, August 2024 GMT
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور فيصل غزاوي المسلمين بتقوى الله عز وجل.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم في المسجد الحرام: “لقد حثنا الباري جل ثناؤه على التفكرِ والتأملِ في أنفسنا فقال:؟وَفِي أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبصِرُون? أي: وفي أنفُسِكم آياتٌ وعبرٌ دالةٌ على وحدانيةِ خالقكم، وكَمالِ قُدرتِه ورَحمتِه وحِكمتِه، وغَيرِ ذلك مِن صِفاتِ كَمالِه، أفلا تبصرون لتعتبروا؟! ومن تلك الدلائلِ أنَّ اللهَ سبحانه خلقَ في النفس الإنسانية: الضحكَ والبكاءَ، فيُضْحِكُ الإنسانَ ويُبْكِيه، وكلُّ ذلك مما ركبه الله في طبعِ الإنسانِ وفطرته، قال تعالى في محكم التنزيل:؟وَأَنَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى? فاللهُ تبارك وتعالى خَلَقَ فِي عِبَادِهِ الضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ، وهو مقدرٌ ما يكونُ به الضحك، ومقدرٌ ما يكونُ به البكاء، وأتى بالأمرين، وهما متقابلان؛ ليُعلم بذلك أن الله سبحانه على كل شيءٍ قدير، وهو القادر على خلق الضدين كما أنَّ الآيةَ الكريمةَ تدلُّ على أن كل ما يَعملُه العبدُ بقضاء الله وإرادتِه وخَلْقِه، حتى الضحكَ والبكاءَ.
وأضاف يقول: “وأنه تعالى قد أحاطَ بأحوالِ الإنسان، وهو المتصرفُ فيه.
وأفادَ الضميرُ؟هُوَ? في قوله؟وَأَنَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى? أنه لا يخلق أسباب الضحك والبكاء إلا الله تعالى وحده، فيُجري على قلب هذا ما يُضحكه وعلى قلب هذا ما يُبكيه، ولا يَعْلَمُ أحَدٌ قَبْلَ وقْتِ الضَّحِكِ أوِ البُكاءِ، أنَّهُ يَضْحَكُ أوْ يَبْكِي، ولا أنَّهُ سيَأْتِيهِ ما يُفرحهُ أوْ يُحْزِنُهُ، جاء في الصحيحين أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دعا فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ في شَكْوَاهُ الذي قُبِضَ فِيهَا، فَسَارَّهَا بشيءٍ فَبَكَتْ، ثُمَّ دَعَاهَا فَسَارَّهَا فَضَحِكَتْ، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم سَأَلَتْ عائشةُ فاطمةَ عن ذلكَ، فَقَالَتْ: “سَارَّنِي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخْبَرَنِي: أنَّه يُقْبَضُ في وجَعِهِ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فأخْبَرَنِي، أنِّي أوَّلُ أهْلِ بَيْتِهِ أتْبَعُهُ، فَضَحِكْتُ”.
وشدد الشيخ فيصل غزاوي على أنَّ هديَ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم هو خيرُ الهدي، وهو الهديُ الأمثلُ في كل الأحوالِ البشرية؛ وقد مرَّ صلى الله عليه وسلم بأحوال كثيرة متقابلة، ومنها الضحكُ والبكاء، وقد بيّن العلماءُ هديَه في ذلك، فأما ضَحِكُه عليه الصلاة والسلام فقد قال ابن القيم رحمه الله: “وكان جُلّ ضحكه التبسم، بل كله التبسم، فكان نهايةُ ضحكه أن تبدوَ نواجذه.
وكان يَضحكُ مما يُضْحَكُ منه، وهو مما يُتعجب من مثله، ويُستغرب وقوعُه ويُستندر”.
وأشار إلى أن مما يُراعى في الضحك ألا يُّحدِّث المرء بالكذب لإضحاك غيرِه كما جاء التحذير عن ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: “ويلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بالحدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ القوْمَ فيَكَذِبُ، ويلٌ لَهُ ويلٌ لَهُ”، وألا يُكثر من الضحك؛ فمن توجيهاته صلى الله عليه وسلم قولُه: “وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ”.
كما ينبغي أن يُعلم أنَّ مِنَ الضحك ما هو مذموم وصاحبُه ملوم؛ فلا يَضحك المرء عند سماع المنكر أو رؤيته، ولا يفرح أو يَضحك شماتةً بأخيه المسلم ولا يُعيره بما ابتلاه الله به من فقر أو مرض أو عاهة في جسده، ولا يفرح بزلة أخيه ولا بخطئه ولا بنقص في دينه من الفسق والمعاصي، بل ينصح له ويدعو له بالتوفيق والهداية، ولا يأمن على نفسه الفتنة بل يسأل الله الثبات على دينه، كما على المرء ألا يظهر الفرح بما نزل بإخوانه المسلمين من بلاء وكرب أو أصابهم من محنة وشدة، بل يؤلمه ويحزنه ما هم فيه فيدعو لهم بالفرج والنجاة وصلاح الحال ويسأل الله أن يعافيَه ولا يبتليه بمثل تلك الابتلاءات.
وحذر الشيخ فيصل غزاوي من الضحك القبيح المذموم وهو أن يضحك المرء سخريةً واستهزاءً بالله أو آياته أو رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الاستهزاء بشيء من ذلك أو الضحك كفر بالله تعالى، وقد أخبرنا الله تعالى أن الكفار في الدنيا كانوا يضحكون من المؤمنين استهزاءً بهم وسُخريةً فقال سبحانه:؟إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ? لكن ذلك الجرم سينقلب عليهم في الآخرة قال تعالى:؟فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ?.
وقال: “وأما بكاء النبي صلى الله عليه وسلم، فيصفه ابن القيم رحمه الله بقوله: “كان من جِنس ضحكه لم يكن بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تَهمُلا، ويُسْمَعُ لصدره أزيزٌ، وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحبٌ للخوف والخشية”.
وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام أن للبكاء دواع مختلفة فمن ذلك الحزن والوجع والفزع والسرور والفرح والشكر وغيرُ ذلك لافتاً إلى أن أفضل البكاء ما كان خشوعاً وخشية لله تعالى، وهو دأب الصالحين وأولياء الله قال الله تعالى في صفة من أنعم عليهم؟إِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِمْ ءَايَ?تُ؟لرَّحْمَ?نِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا? وقال صلى الله عليه وسلم :”عينان لا تمسهما النار، عين باتت تحرس في سبيل الله وعين بكت من خشية الله”، ومن السبعة الذين يظلهم الله تعالى يوم القيامة “رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ”.
والعظماء قد سمت نفوسهم وقويت عزائمهم وهممهم فكان بكاؤهم لمقاصد سامية وغايات نبيلة، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تصف حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة مِن اللَّيالي يُصَلِّي فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حِجرَه، ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه، ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ، فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمَّا رآه يبكي قال: يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: “أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها؟إِنَّ فِي خَل?قِ؟لسَّمَـ?وَ???تِ وَ?ل?أَر?ضِ وَ?خ?تِلَـ?فِ؟لَّلي?لِ وَ?لنَّهَارِ لَآيَـ?ت? لِّأُو?لِي؟ل?أَل?بَـ?بِ؟”.
ولَمَّا بَكَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي مَرَضِهِ قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: “أَمَا إِنِّي لا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنِّي أَبْكِي لِبُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي.
اقرأ أيضاًالمجتمع“وزارة الاتصالات” و “برنامج تنمية القدرات البشرية” تطلقان “برنامج الجاهزية للمستقبل الرقمي”
أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ مُهْبِطٍ عَلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ، فَلا أَدْرِي إِلَى أيِّهما يُسلك بي”، وعَنِ الزُّهْرِيِّ رحمه الله قَالَ: “دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ”، وعن عطاءِ الخَفَّافِ رحمه الله قال: “ما لقيت سفيان الثوري إلا باكيًا”، فقلت: “ما شأنك”؟ فقال: “أخاف أن أكون في الكتاب شقيًّا”.
ولما حضَرَتْ عامرَ بنَ عبدِ القيسِ الوفاةُ بكى فقيل له ما يُبكيك قال: “ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا ولكن أبكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر وعلى قيام الليل في الشتاء” وقال جعفر بن سليمان رحمه الله: “دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: “والله إن كان ينبغي للمسلم اليوم لما يرى من التهاون في الناس بأمر الله أن يزيده ذاك جداً واجتهاداً، ثم بكى”.
وأبان الشيخ فيصل غزاوي أن مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ أَنْ يُحْسِنَ الْعَبْدُ الظَّنَّ بِاللهِ وَيَثِقَ بِأَقْدَارِهِ، وَأَنْ يَأْمَلَ فِي رَحْمَتهِ وَأَلْطَافِهِ، وكلما قوي طمعُ العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضَرُورَتِه قَوِيت عبوديتُه له، وحُرِّيَّتُه مِمَّا سِواه.
ولفت النظر إلى أن من الأحوال التي تتجلى فيها لدى العبد حقيقةُ عبوديته لربه ودلائلُ صدق إيمانه ما يبتليه الله به من المصائب والابتلاءات قال ابن القيم رحمه الله: ” فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتل العبد ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء، كما له عليه عبودية في السراء، وإن له عليه عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق إنما يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره”،.
وأوصى فضيلته المسلمين بالصبر الجميل عند الشدائد والمحن، وأن يحذروا التسخط والجزع والاعتراض على أقدار الله، ولا يكونوا ممن إذا أصابتهم مصيبة يئسوا وفقدوا الأمل وقعدوا عن العمل وأصبحوا لا هم لهم إلا ما شغل بالهم، وغيّر حالهم، مع أنهم لو تفكروا ونظروا إلى الدنيا بعين البصيرة وأنها بُلغة فانية، ومُتعة زائلة لم يفرحوا فيها بموجود ولم يحزنوا لمفقود، وليعتبروا بحال أولي النهى والبصائر في الدين، الذين حققوا العبودية لرب العالمين وبادروا آجالهم بأعمالهم، وابتاعوا ما يبقى لهم بما يزول عنهم.
قال الحسن البصري رحمه الله: “أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا لاَ يَفْرَحُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا أَتَوْهُ وَلاَ يَأْسُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَاتَهُمْ.
” وقال ” الموحد العابد لربه في شرف وكرامة، قد علق قلبه بالله واستكان له، وإن فاته من دنياه ما يَطيب لمبتغي الحياة، إلا أنه في عزة ورفعة في دينه ودنياه،.
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية صلى الله علیه وسلم المسجد الحرام الله تعالى فیصل غزاوی رحمه الله
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: صححوا البدايات تصلح معكم النهايات
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إنه قد انتهى ربيع الآخر، وقد كان مشايخنا -رحمهم الله- يحتفلون بمولد النبي المصطفى والحبيب المجتبى ﷺ في الربيعين، ونريد أن نستفيد من ميلاد المصطفى ﷺ ، وهو الذي أرسله ربه رحمةً للعالمين وهدىً للمتقين وإمامًا للمرسلين وخاتمًا للنبيين ﷺ ، وأن يكون لنا عبرة وعظة، نعيش حياته في حياتنا، ونعيش هَدْيه في أنفسنا.
وأضاف جمعة، فى منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، أن أهل الله الذين أحبوا الله فذكروه كثيرا، وأحبوا رسوله فاتبعوا هَدْيه وقاموا بسنته: "تصحيح البدايات تصحيح للنهايات"، وإذا ما تأملنا مشكلاتنا فإننا نراها قد كثرت علينا وأحاطت بنا من كل جانب، وإذا أردنا أن نغير من أنفسنا فيجب علينا أن نبدأ البدايات الصحيحة، وأن نجعل البداية من الآن ... هذه اللحظة .. وفي كل لحظة.
يستهين كثير من الناس بما ألِفناه من شرع الله تعالى؛ من كثرة تكراره في حياتنا، أو التزامنا به دون أن نعرف الحكمة منه، أو أننا قد استهنا به لأننا قد حوَّلناه من عبادةٍ إلى عادة .. فتفلِتُ منا البدايات فتضيع منا النهايات، والله - سبحانه وتعالى - يأبى ذلك ورسوله والمؤمنون.
صححوا البدايات، فيجب علينا أن نُصحح الوضوء ، وكثير من الناس يتعجب ما بال الوضوء وما بال مشكلاتنا التي نعيش فيها ليل نهار! ونُجيبه بكل بساطة: تصحيح البدايات تصحيح للنهايات؛ فالتفت إلى ذلك المعنى الكريم والنبي ﷺ يقول: (ابدأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ يَلِيكَ) ، (كلُّكم راعٍ، وَكلكم مَسؤولٌ عن رَعيَّتِهِ) ، (وابدأْ بِمَنْ تَعولُ).
صححوا البدايات؛ ولذلك نرى السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها- وكانت من كبار العلماء المتصدرين- يرجع إليها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه- وهو إمام مجتهد متبوع- فلما انتقل الشافعي قالت وهي تمدحه غاية المدح: "رحم الله الشافعي كان يُحسن الوضوء" ظن بعض القاصرين أنها تتعالى بعلمها عليه وحاشاها؛ فهي من العِترة الطاهرة .. وهي من العلماء العاملين .. وهي من الأتقياء الأصفياء الذين شهد لها الناس وألقى الله حبها في قلوبهم .. حاشاها أن تتعالى على إمام الأمة ومجتهدها، ولكنها كانت تشير إلى هذا المعنى : "كان رحمه الله تعالى يُحسن الوضوء"؛ وإذا كان يُحسن الوضوء فإنه تقبل صلاته فيصح عمله، فيرقى عند الله فيُقْبَلُ دعاؤه، فيخلص لله فيقبل إخلاصه ؛ وحينئذٍ رأينا كيف كان الإمام الشافعي بعد مماته نبراسًا للأمة.
صححوا البدايات فأحسنوا الوضوء؛ فإن إحسان الوضوء إنما هو من إحسان العمل، وإذا تعوَّد الإنسان إحسان العمل وعرف معانيه فإنه لن يتهرب ولن يتراخى في عمله ووظيفته، والنبي ﷺ كان يُعلمنا شيئًا يعرفه العالم والجاهل، الحضري والبدوي، وإذ به ينظم حياته كلها؛ والوضوء أمره سهل يسير كشأن الشريعة كلها، لم يفرضه الله حرجًا على المؤمنين ولا عَنَتًا عليهم، وإنما فرضه من أجل أن يطهرنا في الظاهر كما أمرنا أن نُطهر أنفسنا في الباطن؛ فنهانا - سبحانه وتعالى - عن الفحشاء والمنكر. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، (اغسلوا وجوهكم) أمر حتم لابد منه في الوضوء ولا تصح الصلاة إلا بالوضوء ولا يصح الوضوء إلا بغسل الوجه، ولكن فيه إشارة : أن تُقابل الناس بوجهٍ طلق ، بوجهٍ نظيف ، بوجهٍ لا يُخفي حقدًا ولا حسدًا ولا غلاًّ ولا قصورًا ولا تقصيرًا، والنبي ﷺ في مراقي العمل الصالح يقول: (وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ) ، ويقول: (تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ). انظر إلى المعاني.
بداية الصلاة غسل الوجه {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} أي: واغسلوا أرجلكم { إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } أي: فافهموا بدايتكم الصحيحة، وصححوا البدايات؛ فالأمر ليس أمر تطهر ظاهري، ولذلك جعل البدل من الماء التراب- الذي هو ضد الماء- أو من الصعيد الطيب- على ما اختلف فيه الفقهاء في تفسيرها لغةً- أي: كل ما صعد على الأرض من طيبٍ كما يقول الإمام مالك .
إذن {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.