امام وخطيب المسجد الحرام يوصي المسلمين بالصبر الجميل عند الشدائد والمحن
تاريخ النشر: 23rd, August 2024 GMT
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور فيصل غزاوي المسلمين بتقوى الله عز وجل.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم في المسجد الحرام: “لقد حثنا الباري جل ثناؤه على التفكرِ والتأملِ في أنفسنا فقال:؟وَفِي أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبصِرُون? أي: وفي أنفُسِكم آياتٌ وعبرٌ دالةٌ على وحدانيةِ خالقكم، وكَمالِ قُدرتِه ورَحمتِه وحِكمتِه، وغَيرِ ذلك مِن صِفاتِ كَمالِه، أفلا تبصرون لتعتبروا؟! ومن تلك الدلائلِ أنَّ اللهَ سبحانه خلقَ في النفس الإنسانية: الضحكَ والبكاءَ، فيُضْحِكُ الإنسانَ ويُبْكِيه، وكلُّ ذلك مما ركبه الله في طبعِ الإنسانِ وفطرته، قال تعالى في محكم التنزيل:؟وَأَنَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى? فاللهُ تبارك وتعالى خَلَقَ فِي عِبَادِهِ الضَّحِكَ وَالْبُكَاءَ، وهو مقدرٌ ما يكونُ به الضحك، ومقدرٌ ما يكونُ به البكاء، وأتى بالأمرين، وهما متقابلان؛ ليُعلم بذلك أن الله سبحانه على كل شيءٍ قدير، وهو القادر على خلق الضدين كما أنَّ الآيةَ الكريمةَ تدلُّ على أن كل ما يَعملُه العبدُ بقضاء الله وإرادتِه وخَلْقِه، حتى الضحكَ والبكاءَ.
وأضاف يقول: “وأنه تعالى قد أحاطَ بأحوالِ الإنسان، وهو المتصرفُ فيه.
وأفادَ الضميرُ؟هُوَ? في قوله؟وَأَنَّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى? أنه لا يخلق أسباب الضحك والبكاء إلا الله تعالى وحده، فيُجري على قلب هذا ما يُضحكه وعلى قلب هذا ما يُبكيه، ولا يَعْلَمُ أحَدٌ قَبْلَ وقْتِ الضَّحِكِ أوِ البُكاءِ، أنَّهُ يَضْحَكُ أوْ يَبْكِي، ولا أنَّهُ سيَأْتِيهِ ما يُفرحهُ أوْ يُحْزِنُهُ، جاء في الصحيحين أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دعا فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ في شَكْوَاهُ الذي قُبِضَ فِيهَا، فَسَارَّهَا بشيءٍ فَبَكَتْ، ثُمَّ دَعَاهَا فَسَارَّهَا فَضَحِكَتْ، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم سَأَلَتْ عائشةُ فاطمةَ عن ذلكَ، فَقَالَتْ: “سَارَّنِي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخْبَرَنِي: أنَّه يُقْبَضُ في وجَعِهِ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فأخْبَرَنِي، أنِّي أوَّلُ أهْلِ بَيْتِهِ أتْبَعُهُ، فَضَحِكْتُ”.
وشدد الشيخ فيصل غزاوي على أنَّ هديَ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم هو خيرُ الهدي، وهو الهديُ الأمثلُ في كل الأحوالِ البشرية؛ وقد مرَّ صلى الله عليه وسلم بأحوال كثيرة متقابلة، ومنها الضحكُ والبكاء، وقد بيّن العلماءُ هديَه في ذلك، فأما ضَحِكُه عليه الصلاة والسلام فقد قال ابن القيم رحمه الله: “وكان جُلّ ضحكه التبسم، بل كله التبسم، فكان نهايةُ ضحكه أن تبدوَ نواجذه.
وكان يَضحكُ مما يُضْحَكُ منه، وهو مما يُتعجب من مثله، ويُستغرب وقوعُه ويُستندر”.
وأشار إلى أن مما يُراعى في الضحك ألا يُّحدِّث المرء بالكذب لإضحاك غيرِه كما جاء التحذير عن ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: “ويلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بالحدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ القوْمَ فيَكَذِبُ، ويلٌ لَهُ ويلٌ لَهُ”، وألا يُكثر من الضحك؛ فمن توجيهاته صلى الله عليه وسلم قولُه: “وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ”.
كما ينبغي أن يُعلم أنَّ مِنَ الضحك ما هو مذموم وصاحبُه ملوم؛ فلا يَضحك المرء عند سماع المنكر أو رؤيته، ولا يفرح أو يَضحك شماتةً بأخيه المسلم ولا يُعيره بما ابتلاه الله به من فقر أو مرض أو عاهة في جسده، ولا يفرح بزلة أخيه ولا بخطئه ولا بنقص في دينه من الفسق والمعاصي، بل ينصح له ويدعو له بالتوفيق والهداية، ولا يأمن على نفسه الفتنة بل يسأل الله الثبات على دينه، كما على المرء ألا يظهر الفرح بما نزل بإخوانه المسلمين من بلاء وكرب أو أصابهم من محنة وشدة، بل يؤلمه ويحزنه ما هم فيه فيدعو لهم بالفرج والنجاة وصلاح الحال ويسأل الله أن يعافيَه ولا يبتليه بمثل تلك الابتلاءات.
وحذر الشيخ فيصل غزاوي من الضحك القبيح المذموم وهو أن يضحك المرء سخريةً واستهزاءً بالله أو آياته أو رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الاستهزاء بشيء من ذلك أو الضحك كفر بالله تعالى، وقد أخبرنا الله تعالى أن الكفار في الدنيا كانوا يضحكون من المؤمنين استهزاءً بهم وسُخريةً فقال سبحانه:؟إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ? لكن ذلك الجرم سينقلب عليهم في الآخرة قال تعالى:؟فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ?.
وقال: “وأما بكاء النبي صلى الله عليه وسلم، فيصفه ابن القيم رحمه الله بقوله: “كان من جِنس ضحكه لم يكن بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تَهمُلا، ويُسْمَعُ لصدره أزيزٌ، وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، مصاحبٌ للخوف والخشية”.
وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام أن للبكاء دواع مختلفة فمن ذلك الحزن والوجع والفزع والسرور والفرح والشكر وغيرُ ذلك لافتاً إلى أن أفضل البكاء ما كان خشوعاً وخشية لله تعالى، وهو دأب الصالحين وأولياء الله قال الله تعالى في صفة من أنعم عليهم؟إِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِمْ ءَايَ?تُ؟لرَّحْمَ?نِ خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا? وقال صلى الله عليه وسلم :”عينان لا تمسهما النار، عين باتت تحرس في سبيل الله وعين بكت من خشية الله”، ومن السبعة الذين يظلهم الله تعالى يوم القيامة “رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ”.
والعظماء قد سمت نفوسهم وقويت عزائمهم وهممهم فكان بكاؤهم لمقاصد سامية وغايات نبيلة، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تصف حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام ليلة مِن اللَّيالي يُصَلِّي فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حِجرَه، ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه، ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ، فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمَّا رآه يبكي قال: يا رسولَ اللهِ لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: “أفلا أكونُ عبدًا شكورًا لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها؟إِنَّ فِي خَل?قِ؟لسَّمَـ?وَ???تِ وَ?ل?أَر?ضِ وَ?خ?تِلَـ?فِ؟لَّلي?لِ وَ?لنَّهَارِ لَآيَـ?ت? لِّأُو?لِي؟ل?أَل?بَـ?بِ؟”.
ولَمَّا بَكَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي مَرَضِهِ قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: “أَمَا إِنِّي لا أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنِّي أَبْكِي لِبُعْدِ سَفَرِي وَقِلَّةِ زَادِي.
اقرأ أيضاًالمجتمع“وزارة الاتصالات” و “برنامج تنمية القدرات البشرية” تطلقان “برنامج الجاهزية للمستقبل الرقمي”
أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ مُهْبِطٍ عَلَى جَنَّةٍ وَنَارٍ، فَلا أَدْرِي إِلَى أيِّهما يُسلك بي”، وعَنِ الزُّهْرِيِّ رحمه الله قَالَ: “دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لاَ أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ”، وعن عطاءِ الخَفَّافِ رحمه الله قال: “ما لقيت سفيان الثوري إلا باكيًا”، فقلت: “ما شأنك”؟ فقال: “أخاف أن أكون في الكتاب شقيًّا”.
ولما حضَرَتْ عامرَ بنَ عبدِ القيسِ الوفاةُ بكى فقيل له ما يُبكيك قال: “ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا ولكن أبكي على ما يفوتني من ظمأ الهواجر وعلى قيام الليل في الشتاء” وقال جعفر بن سليمان رحمه الله: “دخلنا على أبي التياح نعوده، فقال: “والله إن كان ينبغي للمسلم اليوم لما يرى من التهاون في الناس بأمر الله أن يزيده ذاك جداً واجتهاداً، ثم بكى”.
وأبان الشيخ فيصل غزاوي أن مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ أَنْ يُحْسِنَ الْعَبْدُ الظَّنَّ بِاللهِ وَيَثِقَ بِأَقْدَارِهِ، وَأَنْ يَأْمَلَ فِي رَحْمَتهِ وَأَلْطَافِهِ، وكلما قوي طمعُ العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضَرُورَتِه قَوِيت عبوديتُه له، وحُرِّيَّتُه مِمَّا سِواه.
ولفت النظر إلى أن من الأحوال التي تتجلى فيها لدى العبد حقيقةُ عبوديته لربه ودلائلُ صدق إيمانه ما يبتليه الله به من المصائب والابتلاءات قال ابن القيم رحمه الله: ” فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتل العبد ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء، كما له عليه عبودية في السراء، وإن له عليه عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق إنما يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره”،.
وأوصى فضيلته المسلمين بالصبر الجميل عند الشدائد والمحن، وأن يحذروا التسخط والجزع والاعتراض على أقدار الله، ولا يكونوا ممن إذا أصابتهم مصيبة يئسوا وفقدوا الأمل وقعدوا عن العمل وأصبحوا لا هم لهم إلا ما شغل بالهم، وغيّر حالهم، مع أنهم لو تفكروا ونظروا إلى الدنيا بعين البصيرة وأنها بُلغة فانية، ومُتعة زائلة لم يفرحوا فيها بموجود ولم يحزنوا لمفقود، وليعتبروا بحال أولي النهى والبصائر في الدين، الذين حققوا العبودية لرب العالمين وبادروا آجالهم بأعمالهم، وابتاعوا ما يبقى لهم بما يزول عنهم.
قال الحسن البصري رحمه الله: “أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانُوا لاَ يَفْرَحُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا أَتَوْهُ وَلاَ يَأْسُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَاتَهُمْ.
” وقال ” الموحد العابد لربه في شرف وكرامة، قد علق قلبه بالله واستكان له، وإن فاته من دنياه ما يَطيب لمبتغي الحياة، إلا أنه في عزة ورفعة في دينه ودنياه،.
المصدر: صحيفة الجزيرة
كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية صلى الله علیه وسلم المسجد الحرام الله تعالى فیصل غزاوی رحمه الله
إقرأ أيضاً:
حكم قول بلى بعد قراءة أليس الله بأحكم الحاكمين.. الإفتاء ترد
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما حكم قول (بلى) بعد قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾؟حيث إنَّ هناك بعض الناس بعد الانتهاء من قراءة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] أو سماعه يقولون: (بلى)، سواء ذلك في الصلاة أو خارجها، فما حكم هذا القول؟".
لترد دار الإفتاء موضحة: أنه يستحب أن يقول الإنسان: (بلى) عند قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، سواء كان خارج الصلاة أم داخلها، إمامًا كان المصلي أو مأمومًا، والمعنى حينئذٍ أن هذا النفي باطل، وأن الله تعالى هو أحكم الحاكمين.
ما يفعل القارئ إذا مر بآية فيها عذاب أو رحمة أو تنزيه
التدبر والخشوع عند تلاوة القرآن الكريم من الأمور المستحبة شرعًا، ومن دلائل هذا التدبر أن القارئ إذا مرَّ بآيةٍ فيها عذاب استعاذ بالله وسأل العافية، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية تنزيه نزه، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [محمد: 24]، وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29]، وهذا ما فهمه العلماء من دلالة هاتين الآيتين.
قال الإمام القرطبي في " تفسيره" (15/ 192، ط. دار الكتب المصرية): [وفي هذا دليلٌ على وجوبِ معرفةِ معاني القرآن... ومن دلائل التدبر في الآيات أنه إذا مر بآية فيها عذاب استعاذ بالله وسأل العافية، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، وإذا مر بآية تنزيه نزه] اهـ.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ.." أخرجه الإمام مسلم.
قال الإمام النووي في" التبيان في آداب حملة القرآن" (ص: 91، ط. ابن حزم): [ويستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر ومن العذاب أو يقول: اللهم إني أسألك العافية أو أسألك المعافاة من كل مكروه، أو نحو ذلك، وإذا مر بآية تنزيه لله تعالى نزه فقال: سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أو جلت عظمة ربنا] اهـ.
بيان حكم قول القاريء أو المستمع "بلى" عند تلاوة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾
ما جاء في السؤال من حكم قول: (بلى) عند قراءة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] أو سماعه، فإن (بلَى) حرفُ جوابٍ يختصُّ بالنَّفْي لإِفادة إِبْطَالِه، ففيه ردٌّ للنفي، أو جواب لاستفهام مقترن بنفي، بخلاف (نعم) فتقال في الاستفهام المجرّد.
قال الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 146، ط. دار القلم): [بَلَى: ردٌّ للنفي؛ نحو قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ [البقرة: 80-81] ، أو جواب لاستفهام مقترن بنفي نحو: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]. و(نعم) يقال في الاستفهام المجرّد نحو: ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ﴾ [الأعراف: 44] ، ولا يقال هاهنا: بلى، فإذا قيل: ما عندي شيء، فقلت: بلى، فهو ردّ لكلامه، وإذا قلت: نعم، فإقرار منك] اهـ.
وعلى ذلك، فقول (بلى) بعد قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ يُفيد إبطال النفي فيه وإثبات أنه تعالى هو أحكم الحاكمين جلَّ جلاله.
أما حكم قول: (بلى) عند قراءة قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] أو سماعه، فيختلف باختلاف حال القائل؛ وذلك أنه إما أن يكون خارج الصلاة أو داخلها، ومن هو في الصلاة إما أن يكون إمامًا أو مُقتديًا أو منفردًا.
فإذا كان خارج الصلاة فمن السُّنَّة أن يقول ذلك؛ فعن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَانْتَهَى إِلَى ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]، فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: وَالْمُرْسَلَاتِ، فَبَلَغَ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات: 50]، فَلْيَقُلْ: آمَنَّا بِاللَّهِ" رواه أبو داود في "سننه".
فأفاد هذا الحديث أن قول (بلى) عند المرور بهذه الآية من المندوبات.
قال الإمام ابن رسلان الرملي في "شرح سنن أبي داود" (5/ 23، ط. دار الفلاح): [فيه أنه يستحب لكل من قرأ في الصلاة أو في غيرها أن يقول ذلك] اهـ.
وقال الإمام المناوي في "فيض القدير" (5/ 156، ط. المكتبة التجارية): [(وإذا قرأ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ قال: بلى)؛ لأنه قول بمنزلة السؤال فيحتاج إلى الجواب، ومن حق الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه، فيكون السامع كهيئة الغافل أو كمن لا يسمع إلا دعاء ونداء من الناعق به... فهذه هبة سنية، ومن ثم ندبوا لمن مر بآية رحمة أن يسأل الله الرحمة، أو عذاب أن يتعوذ من النار أو بذكر الجنة بأن يرغب إلى الله فيها، أو النار أن يستعيذ به منها] اهـ.
وأمَّا إذا كان في الصلاة، فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فقد ذهب الحنفية إلى أنه إذا كانت الصلاة جماعة فالإمام لا يقول شيئًا من ذلك سواء كانت صلاته فرضًا أم نفلًا، وكذا المقتدي فإنه يستمع وينصت ولا ينشغل بالدعاء، وإذا كان المصلي منفردًا فيباح له ذلك إذا كانت صلاته تطوعًا، وتكره في الفرض.
قال الإمام بدر الدين العيني في "البناية شرح الهداية" (2/ 321، ط. دار الكتب العلمية): وهو يتكلم عن حكم قول (بلى) بعد قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ وأمثالها: [أما حكم المقتدي فهو الذي ذكره، وهو أنه يستمع وينصت ولا ينشغل بالدعاء. م: (لأن الإنصات والاستماع فرض بالنص).. وأما حكم الإمام فإنه لا يفعل ذلك في التطوع ولا في الفرض؛ لأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة على القوم وإنه مكروه] اهـ.
وقال العلامة ابن مازه في "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" (1/ 378، ط. دار الكتب العلمية): [مسألة في المتفرد، والجواب فيها أنه إن كان في التطوع فهو حسن؛ لحديث حذيفة قال: «صليت مع رسول الله عليه السلام صلاة الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف وسأل الله تعالى الجنة، وما مرّ بآية فيها ذكر النار إلا وقف وتعوّذ بالله من النار، وما مر بآية فيها مَثَل إلا وقف عليها وتأمل وتفكر»، فإن كان في الفرض يكره؛ وذلك لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك، ولا عن الأئمة بعده، فكان محدثًا، وشر الأمور محدثاتها] اهـ.
وأما المالكية فنصوا على أنَّ قول: بلى عند سماع قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] وما أشبه ذلك مما لا حرج فيه، ولا يؤثر على صحة الصلاة، إمامًا كان أو مأمومًا.
قال الإمام الحطَّاب في "مواهب الجليل" (1/ 544، ط. دار الفكر) [قال في المسائل الملقوطة: إذا مر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة الإمام فلا بأس للمأموم أن يصلي عليه، وكذلك إذا مر ذكر الجنة والنار فلا بأس أن يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار، ويكون ذلك المرة بعد المرة، وكذلك قول المأموم عند قول الإمام: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] بلى إنه على كل شيء قدير وما أشبه ذلك، وسئل مالك فيمن سمع الإمام يقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] إلى آخرها فقال المأموم: كذلك الله، هل هذا كلام ينافي الصلاة؟ فقال: هذا ليس كلاما ينافي الصلاة أو ما هذا معناه من "مختصر الواضحة". انتهى] اﻫـ.
وقال الشيخ عليش المالكي في "منح الجليل شرح مختصر خليل" (1/ 267، ط.دار الفكر): [لا يكره قول الإمام عند قراءته ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]: بلى إنه على كل شيء قدير، وما أشبه ذلك. وقول المأموم عند قراءة الإمام ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾: الله كذلك، انتهى عبق. هذا يفيد أنه يستثنى من قوله وأثناء سورة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره، وسؤال الجنة والاستعاذة من النار عند ذكرهما، ونحو ذلك، وأن قول المأموم: بلى إنه أحكم أو قادر عند قراءة الإمام: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، أو الآية المتقدمة لا يبطل، انتهى] اهـ.
وأما الشافعية فقالوا: يستحب لكل من الإمام والمأموم قول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين عند سماع قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] وما أشبه ذلك.
قال الإمام الرملي في" نهاية المحتاج" (1/ 547-548، ط. دار الفكر): [ويسن للقارئ مصليا أم غيره أن يسأل الله الرحمة إذا مر بآية رحمة، ويستعيذ من العذاب إذا مر بآية عذاب، فإن مر بآية تسبيح سبح، أو بآية مثل تفكر، وإذا قرأ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] سن له أن يقول: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأ: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات: 50] يقول: آمنت بالله، وإذا قرأ: ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30] يقول: الله رب العالمين] اهـ.
وأما الحنابلة فإنهم يرون أنَّ المصلي لا يقول: بلى عند سماع هذه الآية بخصوصها؛ لأنَّ الخبر الوارد فيها عندهم فيه نظر.
قال العلامة المرداوي في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (2/ 110، ط. دار إحياء التراث): [وقال أحمد: إذا قرأ ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] في صلاة وغيرها قال: "سبحانك فبلى" في فرض ونفل، وقال ابن عقيل: لا يقوله فيها، وقال أيضا: لا يجيب المؤذن في نفل قال: وكذا إن قرأ في نفل ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] فقال: (بلى) لا يفعل] اهـ.
وقال الإمام البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 211، ط. عالم الكتب): [(و) لمصل (قول: سبحانك، فبلى إذا قرأ ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40] نصا، فرضا كانت أو نفلا؛ للخبر. وأما ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] ففي الخبر فيها نظر، ذكره في "الفروع"] اهـ.
فالحاصل أن قول: بلى عند قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8] خارج الصلاة سنة، والمختار للفتوى استحبابه داخل الصلاة أيضًا؛ لما فيه من دلائل التدبر والخشوع عند تلاوة القرآن الكريم، ولأنه من جملة الثناء على الله تعالى، وهو مشروع داخل الصلاة وخارجها.
الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنَّ (بلَى) حرفُ جوابٍ يختصُّ بالنَّفْي لإِفادة إِبْطَالِه، ففيه ردٌّ للنفي، أو جواب لاستفهام مقترن بنفي، بخلاف (نعم) فتقال في الاستفهام المجرّد، ويستحب أن يقول الإنسان: (بلى) عند قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين: 8]، سواء كان خارج الصلاة أم داخلها، إمامًا كان المصلي أو مأمومًا، والمعنى حينئذٍ أن هذا النفي باطل، وأن الله تعالى هو أحكم الحاكمين.