تختبر قضية الجوع في السودان، توجهات العقل المدبر المنقسمة بين توصيف ما يجري في البلاد حاليا كنقص في الغذاء نتيجة للحرب المندلعة منذ منتصف نيسان / أبريل من العام الماضي، وبين شبح مجاعة يخيم على ربوع البلاد التي طالما وصفت بأنها "سلة غذاء العالم" لجهة ما تحوزه من موارد زراعية هائلة تمتد في السهول والوديان ومحاذاة نهر النيل، وولاية الجزيرة التي تعد أكبر مشروع إنتاج غذائي في الإقليم.



ويبدو الإرباك واضحا بالنسبة للعقل السياسي الوطني في التعامل مع الصيحات القادمة من المنظمات الدولية وتوصيف الدول الكبرى لحالة الوضع الإنساني في السودان ما بعد اندلاع الحرب، فقد اعتبر مفوض العون الإنساني السوداني ما يجري الآن هو "نقص للغذاء نتيجة الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع المتمردة"، واستهدافها الممنهج لمخازن الحبوب، ومنع المزارعين من الذهاب إلى الحقول في عدة مناطق حاكمة لمسألة الأمن الغذائي، بينما يذهب آخرون إلى أن بواعث المفهوم الغربي للجوع في السودان تؤكده الوقائع، ولكنه أيضا يتعلق بمخطط قديم للفكر التنموي الاستعماري يمهد لإعادة التدخل، وهو أيضا إرث مرتبط بما بعد الكلونيالية، وبالتالي ليس أمرا وليد الحرب فقط، ولكنه تفاقم بحدة نتيجة عجز النخب السودانية في التعامل مع إرث الاستعمار، والفشل في صياغة سياسات وطنية مستقلة تعنى بتأمين قوت السودانيين.

ومن بين أبرز الروايات ذات العمق الفكري حول موضوع الجوع في السودان، كتاب "زراعة الجوع في السودان" للمؤلف والباحث المرموق تيسير محمد أحمد، الذي تبنى منظور الاقتصاد السياسي لفهم عمليات الديناميات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية ضمن الشكل الوطني السوداني، وتتبع جذور تخلف القطر وأسبابه الحالية التي تسحق السودانيين وتهدد الغالبية بالبؤس والحرمان.

الموقف الصحيح يتمثل في الاعتراف بالمجاعة ومطالبة كل اللاعبين في الداخل والخارج والمنظمات الدولية بفصل القضايا الإنسانية عن أي تأثير سياسي، وأن يتم إجبار طرفي الحرب بالسماح بمرور الإغاثة، وأن لا يستغل أي طرف محارب هذه الإغاثة لصالحهويعتقد المؤلف أن الدولة السودانية خدمت مصالح الفئات المسيطرة ولكنها لم تستطيع في نفس الوقت تطوير التنمية الوطنية، وبشكل خاص القطاع الزراعي الذي يمثل عصب الاقتصاد الاجتماعي في البلاد، ويشبه أوضاع الزراعة بالمسرح الرئيسسي الذي افتتحت فيه دراما تأخر السودان، ويعتقد الكاتب أن تذبذب التغييرات في السياسيات والاستراتيجيات التنموية نتيجة للصراع بين القوى الاجتماعية، وأن حدود تحقق هذه التغييرات في الواقع العملي يعكس النفوذ السياسي للفئات الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجيات هي تعبير عن الانحيازات السياسية والمصالح الاقتصادية لعلاقات الملكية وتركيب القوى القائم، وليس متصلا بالتغييرات الإدارية والوازارية.

في سياق آخر، ينظر كتاب الباحث علي محمد عثمان العراقي "مقاربات في فلسفة التنمية.. تأسيس نموذج وطني بالتركيز على حالة السودان"، إلى تأثر أولويات الفكر التنموي السوداني بسياقات تشكل النظريات الاقتصادية في مرحلة الاستعمار وما بعدها، معتبرا ما يحدث في بلاده من تخلف تنموي، يستبطن في الاساس محمولات فكرية وتوجهات ونسق معرف متكامل هو "برادايم الاستعمار".

ويعتقد عراقي، أن السودان ليس استثناء عن الدول النامية التي ظلت رهينة للقوى الكلونيالية خلال فترة الاستعمار وما بعدها، فتأسست الاقتصاديات على حاجات المركز الامبريالي وترك للمستعمرات إنتاج المواد الأولية وبدلا من ان تقوم الدول الناميك بفك حلقة الارتباط بعد الاستقلال ظلت وفية للبرادايم الاستعماري.

وبالنسبة لمسؤول الأمن الغذائي في السودان الدكتور عمار بشير، فإن الجوع صناعة استعمارية بامتياز وإن الترويج لهذه المسألة يحقق هدف ما، ويرى في محادثة مع "عربي21" أن غياب الرؤية الوطنية المتكاملة في تحقق هذا الزعم، إذ ينظر العقل الوطني إلى مسألة الجوع من ناحية زراعية فقط بينما الأمن الغذائي يشمل عناصر أخرى رئيسية مثل العناصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والصحية.

ويشير إلى قصور في الرؤية الوطنية ما يشجع في استمرار الصناعة الاستعمارية، كما أن مؤسسات الدولة لا تتعامل بمسؤولية كاملة مع هذه القضية في جانب تطوير آليات الأمن الغذائي، ويضيف: "لا يمكن تصديق أن يجوع السودان بامكاناته الهائلة".

ويفهم من هذه المقاربات أن قضية الجوع في السودان مفهوم استعماري، ولكنها أيضا نتيجة غياب رؤية وطنية للتنمية، ما جعل البلاد سهولا من الجفاف والتصحر والحروب وآثارها على الوضع الإنساني.

بالنسبة لمحلل السياسات الاقتصادية معتصم الأقرع، فمنذ اندلاع الحرب لا يوجد عقل تنموي أو اقتصادي، وأن تفاصيل الحرب تستهلك صانعي السياسة والموارد ولا توجد سياسة اقتصادية تستحق الذكر، وأن مشكلة إدارة الاقتصاد بصورة عامة مرتبطة بما قبل الحرب وانعكست على القطاع الزراعي ومستوى الدخل وازدياد مستويات الفقر التي صاحبها تدني الأمن الغذائي، مبينا أن رفع الدعم عن الوقود والكهرباء تسبب في تدني ربحية المزارعين وحماسهم للإنتاج، إضافة لمشاكل الزاعة العامة وتقلباتها المتصلة بالمناخ والآفات وقضايا التمويل وأسعار الفائدة العالية.

ويضيف: "قبل الفترة الاتقالية عانى الاقتصاد من ضمن القطاعات الأخرى، وزادت مع رفع الدعم غير المدروس وارتفاع تكاليف الإنتاج والأسمدة وتدني قيمة الجنيه السوداني والتحرير الجزافي الذي تم".

ويقول الأقرع لـ "عربي21": إن الحقائق المجردة تؤشر على أن شبح المجاعة قضية حقيقية وليست مختلقة، وحذرت منها المنظمات الأممية وهي قضية واضحة قبل الحرب وبعدها، إذ تظهر الوقائع درجة عالية من انعدام الأمن الغذائي خاصة في المناطق النائية، إضافة لمعدلات نمو سالبة وتراجع في الانتاج بكافة القطاعات بما في ذلك القطاع الزراعي، و"عندما يتراجع الاقتصاد تقل الدخول ويظهر العجز في القدرة على استيراد الغذاء"، بالاضافة إلى نقص المعونات التي كانت في أدنى مستوياتها خلال الفترة الانتقالية ما عدا مساعدات انسانية هنا وهناك.

ويرى الأقرع أن الجوع بالفعل دخل المدن، وأن للمسألة أبعاد اقتصادية وسياسية، وأن استغلال هذه المأساة واردة من قبل قوة سياسية داخلية وخارجية، لتمرير أجندتها وبشكل خاص مع احتدام الصراع السياسي والعسكري.

ويضيف: الموقف الصحيح يتمثل في الاعتراف بالمجاعة ومطالبة كل اللاعبين في الداخل والخارج والمنظمات الدولية بفصل القضايا الإنسانية عن أي تأثير سياسي، وأن يتم إجبار طرفي الحرب بالسماح بمرور الإغاثة، وأن لا يستغل أي طرف محارب هذه الإغاثة لصالحه.

من جانبه، يقول الأستاذ الجامعي الدكتور فيصل عوض حسن، إن السودان حالة (استثنائية) بكل ما تحمله الكلمة من معاني، وكما يُقال بالدَّارِجة (نحن في وادي والعالم في وادي آخر)، وسبب ذلك داخلي محض، وليس استعمارا أو غيره، فهو بالدرجة الأولى لمن حكموا بلادنا، حيث عملوا يعملون لـ(خنق) البلاد وإغراقها في الأزمات المُـتلاحقة (عمداً)، وكأن بينهم (ثأرات) مستحقة ضدنا.

السودان بحاجة إلى ما يسميه بـ"الأخلاق" بكافة قيمها كـ(الصدق/التجرد، الرحمة، عفة اليد واللسان، عزة النَفس.. إلخ القيم الأخلاقية)، فضلاً عن انتهاج مبادئ الإدارة العلمية المجردة وتحديداً التخصصية والاستراتيجيات وخطط العمل التنفيذية المدروسة بعناية، حتى نصل إلى ما نصبوا إليه.وفي هذا الصدد يتحدث حسن لـ"عربي21"، عن امتلاك السودان لموارد طبيعية عديدة كالمساحات الشاسعة الصالحة لمُختلف المحاصيل (حقلية وبستانية)، وتنوع مناخي كبير ومصادر مياه مختلفة (سطحية وجوفية وأمطار)، فضلاً عن الموارد البشريَّة المشهودة بكفاءتها الأكاديميَّة والمِهَنية عالمياً وإقليمياً، مع ثروة حيوانِيَّة ضخمة من الماشية والمُجترَّات الصغيرة (ماعز/أغنام) والإبل. وهناك الموقع الجغرافي المتميز للسودان، وربطه بين شمال وشرق ووسط وغرب وجنوب أفريقيا، وبين المشرق العربي بإطلالته على البحر الأحمر.

ويضيف قائلا: "هذه الموارد في مجملها لا تحمينا فقط من الجوع بل تتيح لنا تغذية العالم أجمع، الذي وصف بلادنا بـ(سلة الغذاء)، إلا أن واقعنا محزن وخجل، بسبب سوء إدارة وتسيير هذه الموارد والإمكانيات، خاصة غياب التخطيط، وهذه مسؤوليتها المباشرة يتحملها حكام السّودان على منذ الاستقلال وحتى الآن، وبعدهم النخب المتعلمة الذين تضاءلت إسهاماتهم في تنمية ونهضة البلاد في كافة الأصعدة".

ويعتقد حسين أن الزراعة لن تقضي على الجوع فقط، وإنما يمكن أن تكون أحد مرتكزات النهضة السودانية، بشرط الانتباه لبعض المتغيرات وتأثيراتها على (كفاءة/إنتاجية) هذا القطاع، فمعطيات القطاع الزراعي لم تعد كالسابق، ولابد من بناء (استراتيجياتنا) لهذا القطاع وفقاً لمواردنا (الحقيقية/الفعلية). وكمثال، فقد تناقصت المساحات الصالحة للزراعة، بسبب التصحر أو البوار أو التلوث، فضلاً عن اختلال حصصنا المائِية، تبعاً لقيام سد النهضة التي سيؤثر على حصة السودان المائية من النيل الأزرق أو احتمالية مطالبات دول حوض النيل لتغيير اتفاقيات المياه عموماً، لا سيما عقب انفصال دولة الجنوب، وهذه في مجملها ستؤثر على (كمية) المياه المتاحة للسّودان عموماً، ولاستخدامات الزراعة والتركيبة المحصولية خصوصاً.

ويرى حسين أن السودان بحاجة إلى ما يسميه بـ"الأخلاق" بكافة قيمها كـ(الصدق/التجرد، الرحمة، عفة اليد واللسان، عزة النَفس.. إلخ القيم الأخلاقية)، فضلاً عن انتهاج مبادئ الإدارة العلمية المجردة وتحديداً التخصصية والاستراتيجيات وخطط العمل التنفيذية المدروسة بعناية، حتى نصل إلى ما نصبوا إليه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تقارير السودان مجاعة السودان مجتمع مجاعة أسباب تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجوع فی السودان القطاع الزراعی الأمن الغذائی إلى ما

إقرأ أيضاً:

مستقبل القبائل العربية بعد هزيمة الدعم السريع في السودان

بعد الانتصارات الساحقة للجيش السوداني على قوات الدعم السريع في ولايات السودان المختلفة وفي مناطق العمليات خلال الأيام الماضية، وبعدما تراءى للأعين انهيار التمرد وفشل مشروعه السياسي والعسكري، ووقوف الحرب على الحافة، تتمدد الآن حالة من القلق والخوف والهواجس، من تداعيات وآثار الحرب ونكالها على القبائل العربية التي تتواجد في الامتداد الجغرافي العريض من غرب السودان ما بين حدود نهر النيل شرقًا، حتى ساحل المحيط الأطلسي في غرب أفريقيا.

عُرف هذا الفضاء الجغرافي خلال القرون الماضية، التي شهدت الكشوف الجغرافية الأوروبية، ومن قبلها الرحالة العرب، بما اصطلح عليه الجغرافيون والمؤرخون حتى بداية العصر الحديث، وهو مسمى السودان الغربي والسودان الأوسط، الذي يشمل حاليًا دول أفريقيا جنوب الصحراء، وخاصة دول حوضي نهري النيجر والسنغال وبحيرة تشاد وما حولها، ما بات يعرف حديثًا بدول الساحل.

ولا يتجادل اثنان في أن حرب السودان زاد من تعقيدها إضرام الجهات الخارجية، النار في البيئة الاجتماعية شديدة التداخل والترابط، التي تتقاسمها تسع دول في المنطقة، ولم تكن هذه الجهات الخارجية تدرك خطورة الاختلال السياسي والاجتماعي الذي سيحدث، وأي عاصفة من الخبال تجتاح مع هذه الحرب مجتمعات ودول أفريقيا جنوب الصحراء.

إعلان

ظلت القبائل العربية في هذا الجزء العريض الطويل من القارة الأفريقية، تحمل همها التاريخي، وهي تعيش على هامش الحياة السياسية وبعيدة عن مركز السلطة كغيرها من القبائل الصحراوية، يراودها حلمها بسبب تفاعلات السياسة الجارية منذ ستينيات القرن الماضي.

تعاظم ذلك مع بروز قوات الدعم السريع في السودان، وظن بعض أبناء القبائل العربية في هذه المنطقة الشاسعة أنهم وجدوا ضالتهم فيها للسيطرة على الدولة السودانية ثم الانطلاق غربًا، وأدرك بعض العاقلين منهم أن الدعم السريع، مشروع سياسي عسكري طائش، خائب المسعى، مهيض الجناح، لا يمتلك مقومات البقاء.

لكن مع ذلك ساندته بعض الأصوات من النخب والقيادات القبلية، ونهضت هذه المجموعات يحركها التاريخ، وتدفعها بقوة عوامل الجغرافيا، مناصرة للتمرد في السودان، على مظنة أن مسار التاريخ سيتغير، دون أن يخضع ذلك لمعادلات حركة التاريخ الطبيعية.

بعض العاقلين من متعلمي القبائل العربية في غرب السودان؛ والسودانين: الغربي والأوسط، يعلمون أن مشروع الدعم السريع وحربها الحالية، لا يمت بصلة عضوية متطابقة بالكامل مع تطلعات القبائل عقب حصول بلدان المنطقة على الاستقلال، لكنه ربما أثار ثائرة العاطفة وأوقد نارًا في النفوس وفق المعطيات الظرفية لكل دولة في الإقليم.

وظلت هذه الأطياف المتنوعة من المثقفين والسياسيين والقيادات ذوي الأصول العربية يخطون خطوات جادة وحثيثة للتعبير عن دور يتناغم مع تفاعلاتهم السياسية في السياقات المتطورة في بلدانهم، من أجل المشاركة السياسية التي تليق بهم، وتحويل مجتمعاتهم الرعوية إلى مجتمعات مستقرة وآمنة، والمساهمة بجهد فاعل في بناء أوطانهم، وهم بلا شك كانوا جزءًا من الحركات التحررية وروّاد الاستقلال، وفي قلب حركة النضال المدني والعسكري خلال ستة عقود منصرمة في أقطارهم.

إعلان

وعلى ضوء التطورات الاجتماعية والسياسية، ومنتج التنمية الاجتماعية ومعدلاتها، نما حلم القبائل العربية في هذا الفضاء الواسع، لكنها لم تخطط لمشروع سياسي أو تسعى لصراع سلطوي مسلح، وهي موحدة أو متعاونة أو وهي منفردة، وذلك عدا تجارب الحركات المسلحة في تشاد منذ العام 1965، عندما ثار الشعب ضد حكم الرئيس فرانسوا تمبلباي وتم تكوين حركة فرولينا، وكان عرب تشاد في الواجهة ومن الآباء المؤسسين، ويومها سارعت القبائل العربية إلى الاندماج مع غيرها من القبائل، وعملت على تأسيس حركات وتنظيمات سياسية مسلحة، يسري عليها ما يصيب الجميع دون الاستفراد بمشروع أحادي العرق.

عندما صعد نجم الدعم السريع عقب مشاركتها في حرب اليمن وعاصفة الحزم، بالتحديد في 2017، وبدعم من دولة إقليمية، حدث أول لقاء سري لقيادتها مع الموساد الإسرائيلي، تم فيه رسم مخطط كانت فيه المصالح الإسرائيلية واضحة وتمت مخاطبة أطماع ومصالح وتطلعات قيادة الدعم السريع.

في ذات الوقت، كانت مجموعات من عرب تشاد وقليل منهم من جنوب ليبيا وبعض أبناء القبائل العربية في شمال غرب أفريقيا الوسطى، قد تم تجنيدهم لصالح الدعم السريع، وتم نقلهم للمشاركة في حرب اليمن، وقدر عددهم في ذلك الوقت حتى العام 2019، ما يقارب أحد عشر ألفًا من المجندين، وزاد العدد بنسبة تجاوزت 400% بعد ذهاب نظام الرئيس عمر البشير، ووجدت قيادة الدعم السريع الطريق ممهدًا والأموال متدفقة لتتم أكبر عملية تجنيد في القارة الأفريقية من أجل صناعة جيش موازٍ للجيش السوداني، وتكوين النسخة الأفرو-عربية من شركة فاغنر الروسية.

غداة انطلاقة الحرب كانت لدى الدعم السريع ما يزيد عن (120.000) جندي شاركوا في محاولة الانقلاب والسيطرة على الدولة وبدأت بهم الحرب، يمثل الأجانب منهم (45%)، وهم مرتزقة من تشاد، والنيجر، ومالي، وجنوب ليبيا، وأطراف من أفريقيا الوسطى، وشرق نيجيريا، والكاميرون، وبوركينا فاسو، وجنوب الجزائر، بالإضافة إلى مرتزقة من جنسيات أخرى، ويمثل العرب 70% من هذا الوجود الأجنبي داخل قوات الدعم السريع.

إعلان

ونظرًا لوجود القبائل المشتركة بين السودان، وتشاد، والنيجر، ونيجيريا، ومالي، وليبيا، وجنوب الجزائر، والسنغال، وموريتانيا، التحقت مجموعات منها مع أبناء عمومتهم بالسودان في قبائلهم المشتركة، وهي: (الرزيقات، والمسيرية، والحوازمة، والتعايشة، والحيماد، والبني هلبة، والهبانية، والسلامات، وأولاد راشد، وخزام، والبراريش، وأولاد سليمان، والمحاميد، والحسانية، والجعفريين)، بجانب قبائل أخرى غير عربية تعيش نفس الأوضاع السياسية والاجتماعية: (الطوارق، الفولاني، التبو، القرعان، الزغاوة، والبديات).

تجنيد أبناء القبائل العربية في غرب السودان وجواره الأفريقي لصالح الدعم السريع، تم لفئات الشباب من الأعمار بين (14 سنة – 45 سنة) كمقاتلين، وشاركت الفئات الأكبر سنًا في مهام دعائية وفي عمليات التجنيد والاستقطاب، ونشط في ذلك زعماء القبائل ورموزها وقادتها، وتم توظيف عدد هائل من الناشطين والمتعلمين لصالح الدعاية السوداء التي اعتمدتها الدعم السريع في حربها.

مع توريط الدعم السريع لقبائل عرب غرب السودان ودول الساحل في الحرب، واستخدام أساليب الترغيب والترهيب في إغراء القيادات والزعامات القبلية وتوظيفها في عمليات الاستنفار والتجنيد وجرجرة شباب القبائل للانضمام لمشروع الدعم السريع، انساق البعض وراء ذلك، وعبر كثير منهم عن مخاوفهم من الارتدادات العكسية لهذا المشروع، وكانت لديهم تحفظات واضحة على هذا المشروع، ومنهم الرئيس النيجري السابق محمد بازوم، والسيد محمد صالح النظيف وزير خارجية تشاد السابق، وعدد من القيادات في دول الإقليم الملتهب.

وليس من باب التهويل، أن تيارًا في منطقة الساحل ودوائر رسمية واستخبارية غربية، لم تزل تنظر إلى النتائج والمحصلة الإستراتيجية لحرب السودان، وأهمها التوازنات السياسية والسكانية في هذه البلدان، لا سيما تشاد، والنيجر المرتبطتين بالسودان، وليبيا وهي منطقة هادرة الثقافة العربية والإسلامية ومصدرة لهما إلى أفريقيا جنوب الصحراء.

إعلان

فإن كانت هناك مصلحة في استنزاف المورد البشري لعرب المنطقة وتقليل فاعليتهم بسبب الحرب المجنونة التي شنتها الدعم السريع في السودان واستقطبت لها جل العناصر المقاتلة في هذه الدول، فإن هذا المشروع الاستنزافي قد نجح.

في السودان وحده بلغت خسائر قبيلة الرزيقات التي ينتمي لها قادة الدعم السريع عشرات الألوف من الشباب قد تصل إلى 45 ألفًا في ولايات دارفور الخمس، بينما خسرت قبيلتا المسيرية والحوازمة وهما من أكبر قبائل كردفان ودارفور العربية ما يقارب العشرين ألفًا من شبابها، بينما خسرت قبائل البني هلبة والتعايشة والهبانية والفلاتة والسلامات والزيادية وقبائل أخرى بضعة آلاف في معارك الخرطوم وولاية الجزيرة ومعارك كردفان ودارفور وخاصة مدينة الفاشر.

وتقول حركات معارضة تشادية ينتمي جلها للعنصر العربي إن عددًا من قياداتها ورموزها وشبابها قد قتلوا في حرب السودان، عندما تدافعوا بالآلاف للالتحاق بقوات الدعم السريع، كذلك الحال لقبائل عربية في النيجر وجنوب ليبيا وأفريقيا الوسطى.

الصحيح دائمًا أن القبائل لا تتحمل جريرة ما قامت به مليشيا الدعم السريع، لكن مع ذلك تواجه هذه القبائل في السودان، أو دول السودانَين الغربي والأوسط، تهمًا قاسية بولوغ أبنائها في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، فضلًا عن عمليات النهب والسرقة لممتلكات السودانيين من سيارات وأموال ومصوغات ذهبية ومعدات وأثاث وأجهزة وأدوات مختلفة، وكل هذه المنهوبات تتواجد في أسواق غرب السودان ودول المنطقة المختلفة.

لكن الأثر الأبرز هو حالة العداء والضغائن والإحن التي تعتصر القلوب في داخل السودان، وعودة النعرات القبلية والرغبة في التشفي لدى شرائح مختلفة في المجتمع السوداني، وربما تكون هناك مخاوف وحذر بالغ لدى دول الساحل التي ترى في القبائل العربية خطرًا ماحقًا لا بد من لجمه، خاصة إذا امتلكت هذه القبائل السلاح والمال والدربة على القتال، وسرت فيها عدوى الدعم السريع، ورغبت في الاستيلاء على السلطة في بلدانها.

إعلان

في حالة السودان تحتاج القبائل العربية بغرب السودان بعد نهاية هذه الحرب أو قبلها، إلى الشروع في حوارات تصالحية عميقة مع قبائل السودان المختلفة، لكبح جماح ما يعتمل في النفوس من غل وغضب، وهي اليوم أحوج ما تكون لبناء الثقة من جديد، وأن تنفي عن نفسها ما جرى باسمها، وتتبرأ من جرائم الدعم السريع، وتنبذ الشعارات وخطاب الكراهية المتشح بالهمجية والغلو والتطرف، وتحركه سموم النظرة العرقية الضيقة والغبن الاجتماعي، ويستهدف قبائل بعينها في مناطق السودان المختلفة، ويدعو لتدمير وتخريب السودان وأعمدة بنائه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وتمزيق نسيجه القائم وتجربته التاريخية وتدمير البنية التحتية للدولة.

وواضح وفقًا لمجريات الحرب أنها ستنتهي بهزيمة قوات الدعم السريع، وخروج قيادتها من المشهد العام، ومطاردة قادتها ورموزها والمتعاونين معها. ينبغي مع نشوء حالة من التوجس والحساسية البالغة تجاه حواضنها الاجتماعية، أن تُطرح أفكار وخطوات تقود لمصالحة وطنية شاملة، وذلك إن توفر الرشد السياسي والاجتماعي لدى الجميع، لأن الأثمان المنتظرة لا بد باهظة وواجبة السداد، بحجم ما ارتُكب من جرم في حق السودانيين جميعًا.

لذلك كله، فإن مستقبل هذه القبائل على المحك، إذا انتهت الحرب دون رؤية متكاملة للدولة والمجتمع، فالفرص التي كانت متاحة للاندماج الاجتماعي وتذويب القبليات والعرقيات تلاشت نوعًا ما، وباتت بعيدة المنال، وتحصد الدعم السريع الهشيم لأنها لطخت سمعة هذه القبائل، ودمرت مستقبلها عندما حصدت حربها عشرات الآلاف من شبابها، وجعلتها في قفص الاتهام.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • هل يتحول تطبيق «ديب سيك» إلى سلاح استراتيجي في الحرب الاقتصادية بين أمريكا والصين؟
  • إسماعيل عبد المعين (3-10) الجوع والمسغبة والصولفيج..!
  • السودان؛ الحرب المشهودة
  • مستقبل القبائل العربية بعد هزيمة الدعم السريع في السودان
  • السودان.. حرب بلا معنى
  • دير البلح.. المدينة الهادئة التي استقبلت مليون نازح تعود لـالنوم باكرا
  • فلسطينيو الخارج: دعوة ترامب لتهجير أهل غزة نهج استعماري مرفوض
  • برلماني: ندعم «بوصلتنا الوطنية» ونرفض المخططات التي تتعرض لها منطقة الشرق الأوسط
  • دور التعايش السلمي في وأد الفتن
  • الحرب ومستقبل السياسة في السودان