تختبر قضية الجوع في السودان، توجهات العقل المدبر المنقسمة بين توصيف ما يجري في البلاد حاليا كنقص في الغذاء نتيجة للحرب المندلعة منذ منتصف نيسان / أبريل من العام الماضي، وبين شبح مجاعة يخيم على ربوع البلاد التي طالما وصفت بأنها "سلة غذاء العالم" لجهة ما تحوزه من موارد زراعية هائلة تمتد في السهول والوديان ومحاذاة نهر النيل، وولاية الجزيرة التي تعد أكبر مشروع إنتاج غذائي في الإقليم.



ويبدو الإرباك واضحا بالنسبة للعقل السياسي الوطني في التعامل مع الصيحات القادمة من المنظمات الدولية وتوصيف الدول الكبرى لحالة الوضع الإنساني في السودان ما بعد اندلاع الحرب، فقد اعتبر مفوض العون الإنساني السوداني ما يجري الآن هو "نقص للغذاء نتيجة الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع المتمردة"، واستهدافها الممنهج لمخازن الحبوب، ومنع المزارعين من الذهاب إلى الحقول في عدة مناطق حاكمة لمسألة الأمن الغذائي، بينما يذهب آخرون إلى أن بواعث المفهوم الغربي للجوع في السودان تؤكده الوقائع، ولكنه أيضا يتعلق بمخطط قديم للفكر التنموي الاستعماري يمهد لإعادة التدخل، وهو أيضا إرث مرتبط بما بعد الكلونيالية، وبالتالي ليس أمرا وليد الحرب فقط، ولكنه تفاقم بحدة نتيجة عجز النخب السودانية في التعامل مع إرث الاستعمار، والفشل في صياغة سياسات وطنية مستقلة تعنى بتأمين قوت السودانيين.

ومن بين أبرز الروايات ذات العمق الفكري حول موضوع الجوع في السودان، كتاب "زراعة الجوع في السودان" للمؤلف والباحث المرموق تيسير محمد أحمد، الذي تبنى منظور الاقتصاد السياسي لفهم عمليات الديناميات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية ضمن الشكل الوطني السوداني، وتتبع جذور تخلف القطر وأسبابه الحالية التي تسحق السودانيين وتهدد الغالبية بالبؤس والحرمان.

الموقف الصحيح يتمثل في الاعتراف بالمجاعة ومطالبة كل اللاعبين في الداخل والخارج والمنظمات الدولية بفصل القضايا الإنسانية عن أي تأثير سياسي، وأن يتم إجبار طرفي الحرب بالسماح بمرور الإغاثة، وأن لا يستغل أي طرف محارب هذه الإغاثة لصالحهويعتقد المؤلف أن الدولة السودانية خدمت مصالح الفئات المسيطرة ولكنها لم تستطيع في نفس الوقت تطوير التنمية الوطنية، وبشكل خاص القطاع الزراعي الذي يمثل عصب الاقتصاد الاجتماعي في البلاد، ويشبه أوضاع الزراعة بالمسرح الرئيسسي الذي افتتحت فيه دراما تأخر السودان، ويعتقد الكاتب أن تذبذب التغييرات في السياسيات والاستراتيجيات التنموية نتيجة للصراع بين القوى الاجتماعية، وأن حدود تحقق هذه التغييرات في الواقع العملي يعكس النفوذ السياسي للفئات الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجيات هي تعبير عن الانحيازات السياسية والمصالح الاقتصادية لعلاقات الملكية وتركيب القوى القائم، وليس متصلا بالتغييرات الإدارية والوازارية.

في سياق آخر، ينظر كتاب الباحث علي محمد عثمان العراقي "مقاربات في فلسفة التنمية.. تأسيس نموذج وطني بالتركيز على حالة السودان"، إلى تأثر أولويات الفكر التنموي السوداني بسياقات تشكل النظريات الاقتصادية في مرحلة الاستعمار وما بعدها، معتبرا ما يحدث في بلاده من تخلف تنموي، يستبطن في الاساس محمولات فكرية وتوجهات ونسق معرف متكامل هو "برادايم الاستعمار".

ويعتقد عراقي، أن السودان ليس استثناء عن الدول النامية التي ظلت رهينة للقوى الكلونيالية خلال فترة الاستعمار وما بعدها، فتأسست الاقتصاديات على حاجات المركز الامبريالي وترك للمستعمرات إنتاج المواد الأولية وبدلا من ان تقوم الدول الناميك بفك حلقة الارتباط بعد الاستقلال ظلت وفية للبرادايم الاستعماري.

وبالنسبة لمسؤول الأمن الغذائي في السودان الدكتور عمار بشير، فإن الجوع صناعة استعمارية بامتياز وإن الترويج لهذه المسألة يحقق هدف ما، ويرى في محادثة مع "عربي21" أن غياب الرؤية الوطنية المتكاملة في تحقق هذا الزعم، إذ ينظر العقل الوطني إلى مسألة الجوع من ناحية زراعية فقط بينما الأمن الغذائي يشمل عناصر أخرى رئيسية مثل العناصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والصحية.

ويشير إلى قصور في الرؤية الوطنية ما يشجع في استمرار الصناعة الاستعمارية، كما أن مؤسسات الدولة لا تتعامل بمسؤولية كاملة مع هذه القضية في جانب تطوير آليات الأمن الغذائي، ويضيف: "لا يمكن تصديق أن يجوع السودان بامكاناته الهائلة".

ويفهم من هذه المقاربات أن قضية الجوع في السودان مفهوم استعماري، ولكنها أيضا نتيجة غياب رؤية وطنية للتنمية، ما جعل البلاد سهولا من الجفاف والتصحر والحروب وآثارها على الوضع الإنساني.

بالنسبة لمحلل السياسات الاقتصادية معتصم الأقرع، فمنذ اندلاع الحرب لا يوجد عقل تنموي أو اقتصادي، وأن تفاصيل الحرب تستهلك صانعي السياسة والموارد ولا توجد سياسة اقتصادية تستحق الذكر، وأن مشكلة إدارة الاقتصاد بصورة عامة مرتبطة بما قبل الحرب وانعكست على القطاع الزراعي ومستوى الدخل وازدياد مستويات الفقر التي صاحبها تدني الأمن الغذائي، مبينا أن رفع الدعم عن الوقود والكهرباء تسبب في تدني ربحية المزارعين وحماسهم للإنتاج، إضافة لمشاكل الزاعة العامة وتقلباتها المتصلة بالمناخ والآفات وقضايا التمويل وأسعار الفائدة العالية.

ويضيف: "قبل الفترة الاتقالية عانى الاقتصاد من ضمن القطاعات الأخرى، وزادت مع رفع الدعم غير المدروس وارتفاع تكاليف الإنتاج والأسمدة وتدني قيمة الجنيه السوداني والتحرير الجزافي الذي تم".

ويقول الأقرع لـ "عربي21": إن الحقائق المجردة تؤشر على أن شبح المجاعة قضية حقيقية وليست مختلقة، وحذرت منها المنظمات الأممية وهي قضية واضحة قبل الحرب وبعدها، إذ تظهر الوقائع درجة عالية من انعدام الأمن الغذائي خاصة في المناطق النائية، إضافة لمعدلات نمو سالبة وتراجع في الانتاج بكافة القطاعات بما في ذلك القطاع الزراعي، و"عندما يتراجع الاقتصاد تقل الدخول ويظهر العجز في القدرة على استيراد الغذاء"، بالاضافة إلى نقص المعونات التي كانت في أدنى مستوياتها خلال الفترة الانتقالية ما عدا مساعدات انسانية هنا وهناك.

ويرى الأقرع أن الجوع بالفعل دخل المدن، وأن للمسألة أبعاد اقتصادية وسياسية، وأن استغلال هذه المأساة واردة من قبل قوة سياسية داخلية وخارجية، لتمرير أجندتها وبشكل خاص مع احتدام الصراع السياسي والعسكري.

ويضيف: الموقف الصحيح يتمثل في الاعتراف بالمجاعة ومطالبة كل اللاعبين في الداخل والخارج والمنظمات الدولية بفصل القضايا الإنسانية عن أي تأثير سياسي، وأن يتم إجبار طرفي الحرب بالسماح بمرور الإغاثة، وأن لا يستغل أي طرف محارب هذه الإغاثة لصالحه.

من جانبه، يقول الأستاذ الجامعي الدكتور فيصل عوض حسن، إن السودان حالة (استثنائية) بكل ما تحمله الكلمة من معاني، وكما يُقال بالدَّارِجة (نحن في وادي والعالم في وادي آخر)، وسبب ذلك داخلي محض، وليس استعمارا أو غيره، فهو بالدرجة الأولى لمن حكموا بلادنا، حيث عملوا يعملون لـ(خنق) البلاد وإغراقها في الأزمات المُـتلاحقة (عمداً)، وكأن بينهم (ثأرات) مستحقة ضدنا.

السودان بحاجة إلى ما يسميه بـ"الأخلاق" بكافة قيمها كـ(الصدق/التجرد، الرحمة، عفة اليد واللسان، عزة النَفس.. إلخ القيم الأخلاقية)، فضلاً عن انتهاج مبادئ الإدارة العلمية المجردة وتحديداً التخصصية والاستراتيجيات وخطط العمل التنفيذية المدروسة بعناية، حتى نصل إلى ما نصبوا إليه.وفي هذا الصدد يتحدث حسن لـ"عربي21"، عن امتلاك السودان لموارد طبيعية عديدة كالمساحات الشاسعة الصالحة لمُختلف المحاصيل (حقلية وبستانية)، وتنوع مناخي كبير ومصادر مياه مختلفة (سطحية وجوفية وأمطار)، فضلاً عن الموارد البشريَّة المشهودة بكفاءتها الأكاديميَّة والمِهَنية عالمياً وإقليمياً، مع ثروة حيوانِيَّة ضخمة من الماشية والمُجترَّات الصغيرة (ماعز/أغنام) والإبل. وهناك الموقع الجغرافي المتميز للسودان، وربطه بين شمال وشرق ووسط وغرب وجنوب أفريقيا، وبين المشرق العربي بإطلالته على البحر الأحمر.

ويضيف قائلا: "هذه الموارد في مجملها لا تحمينا فقط من الجوع بل تتيح لنا تغذية العالم أجمع، الذي وصف بلادنا بـ(سلة الغذاء)، إلا أن واقعنا محزن وخجل، بسبب سوء إدارة وتسيير هذه الموارد والإمكانيات، خاصة غياب التخطيط، وهذه مسؤوليتها المباشرة يتحملها حكام السّودان على منذ الاستقلال وحتى الآن، وبعدهم النخب المتعلمة الذين تضاءلت إسهاماتهم في تنمية ونهضة البلاد في كافة الأصعدة".

ويعتقد حسين أن الزراعة لن تقضي على الجوع فقط، وإنما يمكن أن تكون أحد مرتكزات النهضة السودانية، بشرط الانتباه لبعض المتغيرات وتأثيراتها على (كفاءة/إنتاجية) هذا القطاع، فمعطيات القطاع الزراعي لم تعد كالسابق، ولابد من بناء (استراتيجياتنا) لهذا القطاع وفقاً لمواردنا (الحقيقية/الفعلية). وكمثال، فقد تناقصت المساحات الصالحة للزراعة، بسبب التصحر أو البوار أو التلوث، فضلاً عن اختلال حصصنا المائِية، تبعاً لقيام سد النهضة التي سيؤثر على حصة السودان المائية من النيل الأزرق أو احتمالية مطالبات دول حوض النيل لتغيير اتفاقيات المياه عموماً، لا سيما عقب انفصال دولة الجنوب، وهذه في مجملها ستؤثر على (كمية) المياه المتاحة للسّودان عموماً، ولاستخدامات الزراعة والتركيبة المحصولية خصوصاً.

ويرى حسين أن السودان بحاجة إلى ما يسميه بـ"الأخلاق" بكافة قيمها كـ(الصدق/التجرد، الرحمة، عفة اليد واللسان، عزة النَفس.. إلخ القيم الأخلاقية)، فضلاً عن انتهاج مبادئ الإدارة العلمية المجردة وتحديداً التخصصية والاستراتيجيات وخطط العمل التنفيذية المدروسة بعناية، حتى نصل إلى ما نصبوا إليه.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تقارير السودان مجاعة السودان مجتمع مجاعة أسباب تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجوع فی السودان القطاع الزراعی الأمن الغذائی إلى ما

إقرأ أيضاً:

السودان الجديد وصورة دوران قري (1-2)

ملخص
(لم تكن دولة جنوب السودان التي تحكمها حركة سياسية، وُلد مبدأ السودان الجديد في رؤاها وممارستها، عند توقع جماعة نيروبي. فانقدحت فيها في الثامن من مارس (آذار) الجاري شرارة الحرب بين رئيس الجمهورية سلفا كير ونائبه رياك مشار حتى قال معلق إن "جنوب السودان عاد لصراع القوى المستهتر الذي انقض ظهر البلد في الماضي". وأنذر المعلق باندلاع الحرب الأهلية الرابعة منذ استقلال أحدث دول العالم).
قدمت المنظمات السودانية التي اجتمعت في نيروبي في منتصف فبراير الماضي لإنشاء حكومة بديلة لـ"حكومة بورتسودان"، نفسها على أنها التجسيد التاريخي للسودان الجديد الذي هو رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان، العقيد جون قرنق، لدى قيامها عام 1983. وما لبثوا إلا قليلاً حتى أخرجت دولة جنوب السودان، مصنع فكرة هذا السودان الأول، أثقالها وقال العالم مالها. وظلل خطاب السودان الجديد اجتماع نيروبي في مثل قولهم "وجوب مخاطبة جذور أزمة السودان" و"التزام التنوع التاريخي والمعاصر" الراجعة للعقيد جون قرنق (توفي في 30 يوليو عام 2005) قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان. وصدح الحضور بشعار مبتكر وهو "سودان قديم يتحطم وسودان جديد يتقدم".
ولم تكُن دولة جنوب السودان، التي تحكمها حركة سياسية وُلِد مبدأ السودان الجديد في رؤاها وممارستها، عند توقع جماعة نيروبي. فانقدحت فيها في الثامن من مارس الجاري شرارة الحرب بين رئيس الجمهورية سلفا كير ونائبه رياك مشار حتى قال معلق إن "جنوب السودان عاد لصراع القوى المستهتر الذي انقض ظهر البلد في الماضي"، وأنذر المعلق باندلاع الحرب الأهلية الرابعة منذ استقلال أحدث دول العالم لأنه لا سلفا كير ولا مشار، ممن بينهما ما صنع الحداد، من سيأتي بالأمر إلى بر آمن. ووجهت الأمم المتحدة موظفيها بمغادرة البلد إلا من القائمين بأحوال الحرج والطوارئ لأن "تدهوراً منذراً قد يمسح بالأرض سنوات من التقدم المحرز بعسر شديد في جنوب السودان". وكان الجيش الأبيض، المنسوب لشعب النوير، الجماعة الأغزر عدداً ومنهم مشار بعد شعب الدينكا الذين منهم سلفا كير، استولى على حامية الناصر في ولاية أعالي النيل. فحاصرت الحكومة بيت مشار في جوبا وآخرين من جماعته بمن فيهم نائب رئيس هيئة أركان الجيش جبرائيل ديوب. وخشي الناس أن تؤدي تلك المواجهات إلى دورة جديدة من الحرب الأهلية التي بدأت عام 2013 لأربع سنوات وحصدت 400 ألف ضحية.
واندلعت تلك الحرب على خطوط إثنية، دينكا ونوير، بعد اتهام سلفا كير لمشار بالتدبير للانقلاب عليه وأخذ مقاليد الحكم. وهرب مشار من جوبا وكاد أنصاره أن يستولوا على جوبا لولا تدخل قوات أوغندية خاصة كما فعلت منذ أيام دعماً لسلفا كير بحسب تصريح قيادة الجيش الأوغندي. وكانت قوى إقليمية وغربية حملت الزعيمين للصلح باتفاق سياسي عام 2018 تضمن عقد انتخابات عامة ظلت تؤجل وآخر موعد مضروب لها هو عام 2026. ولم يتقدم الطرفان في تنفيذ الاتفاق وخرق كل منهما وقف إطلاق النار مرات، وكانت أكبر عقبات تنفيذ الاتفاق دمج جيشي الرئيس ونائبه. وهذا سودان جديد يتحطم.
دوريان قري
بدا من فرح اجتماع نيروبي بـ"السودان الجديد"، وهو على ما رأينا منه مطبقاً (أو منسياً) في جنوب السودان كمثل علاقة دوريان قري وصورته في الرواية المشهورة للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد. فاختار دوريان قري لصورته أن تأخذ عنه وطء اطراد العمر ووخطه بالتجاعيد وخطاياه في حين يبقى هو شاباً نضراً عظيم الحلاوة. وبالمثل اختار الهامش ومناصروه أن يبقوا على وسامتهم السودانية الجديدة كما في مؤتمر نيروبي بينما تشيخ صورة السودان الجديد في جنوب السودان وتذبل.
فليس من بين من تصارخوا للسودان الجديد في نيروبي من لم يكن ضحية له بصورة أو أخرى. وأشهر ضحاياه هو عبدالعزيز الحلو قائد "الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال" التي كانت جزءاً عضوياً في الحركة الشعبية الجنوبية قبل انفصال جنوب السودان عام 2011. فلم يمنح اتفاق السلام الشامل الذي عقد بين حكومة السودان والحركة الشعبية (2005) مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق، مناطق نفوذ الحلو، ما انعقد لجنوب السودان وهو ألا يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية وحق تقرير المصير. وكانت حجة الحكومة أن المنطقتين واقعتان في حدود شمال السودان منذ استقلاله عام 1956 ويجري عليهما ما يجري عليه. ولما جعلت الحكومة استفتاء المنطقتين عن مصائرهما خطاً أحمر تكون به المفاوضات أو لا تكون، تنازل قرنق متحرجاً. ووجدت الدبلوماسية النرويجية التي شاركت في مفاوضات السلام السودانية ودونت مجرياتها في كتابها "شن السلام في السودان" هيلدا جونسون أن قرنق كان في حال حرج لخذلانه رفاق السلاح. فاقترحت عليه منح المنطقتين ما عرف لاحقاً بـ"المشورة الشعبية" التي قالت إنها مستمدة من تجربة تيمور الشرقية مع إندونيسيا. وبمقتضاها لا يسقط عن المنطقتين حق الانفصال فحسب، بل تطبق الشريعة الإسلامية فيهما كذلك. وتعويضاً لهما عن الفقد ستكون لمجالس المنطقتين النيابية الشورى في مدى التزام الحكومة ما اتفقت عليه حيالهما في اتفاق السلام الشامل. ومن حق تلك المجالس أن تقرر، على ضوء جردها لما تحقق من ذلك الالتزام، إن كانت سعيدة بسجل الحكومة في الخصوص أو أن تعطل اتفاق السلام معها، وتطلب الاستفتاء المؤدي إلى الانفصال. وتركوا كل ذلك لزمانه ومكانه تحت الحكومة الانتقالية التي سيكون للحركة الشعبية فيها حظ كبير. وفسدت خطة "المشورة الشعبية" واندلعت الحرب بين الحركة الشعبية والحكومة مجدداً. وهذا قبح في السودان الجديد تنكر فيه لمقاتلي النوبة الذين لم يدخروا وسعاً في حرب الحكومة كتفاً لكتف مع الجنوبيين.
حق تقرير المصير وسياسة الإقصاء
ولم يحسن السودان الجديد، لا ل"حزب الأمة"، ولا "الاتحادي الديمقراطي" ولا "مؤتمر البجا" التي وقّع عنها في "تأسيس" (في مؤتمر نيروبي) من طعن آخرون في شرعية تمثيلهم لهذه الجماعات التي كانت اجتمعت عام 1991 مع "الحركة الشعبية" في التجمع الوطني الديمقراطي المعارض لـ"دولة الإنقاذ". وبلغ من حلفها معه أن تبنى "التجمع" حق تقرير المصير بصور مختلفة للجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق. ولكن ما جاء وقت التفاوض بين الحركة والحكومة عام 2002، الذي انتهى إلى اتفاق السلام الشامل عام 2005، حتى اقتصر التفاوض عليهما من دون التجمع حتى يتفقا على شيء في مسألتهما ثم يعقد مؤتمر دستوري ينظر في مسألة حلفاء الحركة. ولم يتفق ذلك التدبير للتجمع وساءه استبعاده من مفاوضات هو في صميمها. وسمى الكاتب والوزير منصور خالد تململ "التجمع" لإقصائه من المفاوضات "غيرة سياسية". فالقضية في مفاوضات الحكومة والحركة هي الحرب والسلام، والتجمع ليس جزءاً منها (الاتحاد الظبيانية 7 أغسطس 2002).
ونواصل

ibrahima@missouri.edu  

مقالات مشابهة

  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (2)
  • ورقة للمؤتمر الوطني تطرح رؤية لما بعد الحرب في السودان
  • رئيس الوزراء: الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة هي حرب على الإنسانية
  • وحدة السودان
  • السودان يقاوم الجوع والاغتصاب والتدمير الممنهج.. مأساة شعب تحاصره المطامع
  • تجربة درع السودان وتجارب كل التشكيلات العسكرية التي ساهمت (..)
  • ارتفاع أسعار المنتجات الأميركية بسبب الحرب التجارية التي أطلقها ترمب
  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (1)
  • اختفاء 2000 شخص فى السودان منذ بدء الحرب
  • السودان الجديد وصورة دوران قري (1-2)