الوليد محمد الأمين

في المطارات، في صالات المغادرة وفي صالات الوصول، في صالات الترانزيت وفي محطات السفر البرية بين المدن وبين البلاد، تلمح السودانيين في رحلة تيههم التي لا يعلمون متى تنتهي. من سوء طالعهم أنها لن تنتهي، يتيهون في الأرض ألف عام أو يزيد، ولكنهم لا يعلمون. عالقون بين خطوط الطيران، عالقون بين بصات السفر، عالقون في المداخل والمخارج.

عالقون عند لوحات تبيين بوابات المغادرة والوصول وساعات السفر. بعضهم بالبدل الإفرنجية والفل سوت وبعضهم بالعراريق والعلى الله والسديري، بعضهم بالمراكيب وبعضهم بالسكيتشرز. كبيرات السن منهن بالتياب، الصغيرات بالاسكيرت والبلوزة غير المتناسبات في الغالب، وبعضهن بالبناطيل، وفي العيون العالقات انكسارهم وانكسارهن الأبدي. انكسار صقر الجديان وسط طيور الجوازات، وانكسارهم الأبدي في الفقر وفي الفاقة وفي بؤس ألوانهم وغربة ألسنتهم، بؤساء حتى في الرحيل وفي السفر. خارجين عبر مطارهم البئيس من حيث بلاد الفوضى والخرافات والرشوة والدجل المقيم والفخار الوطني الكئيب والتدين المصطنع. تدهشهم بعدها نظافة المدن ولمبات النيون وضخامة المطارات والصبيات السافرات إنما لا أحد يتلصص، حتى إذا استووا في نواحي غبيرة وفريج مرر وسوق واقف طفقوا يتحسرون على حال السودانيات اللواتي توشحن البناطلين، وعلى الشباب الذين ربوا شعورهم وركبوا على الأذن الأقراط، وكتبوا في الوسائط أن ذلك سبب حربنا والبلاء، أغبياء حتى في تدينهم الكاذب المخاتل. تعرفهم من على البعد من طريقة مشيتهم ومن وقفتهم، من وضع أيديهم على رأسهم حينا ووضعها على الخصر من الجهتين حينا آخر، تذكرت زميلا لنا أيام الثانوي كنا نسميه صلاح برنجي لإدمانه تلك الوقفة.
في داخل المدن في الخليج يتبادلون قصص التوطين وخساسة الشعوب العديدة وحكايات من ظفروا بالجوازات في الخليج، والحسرة على جيل الآباء الذين رفض بعضهم جوازات مدن الملح في ذلك الوقت المبكر من عمر البلاد. خرجوا من البلاد ولكنها لم تخرج منهم فصاروا عالقين في البلاد العالقة. في حكاياتهم الفخر بالأبناء الذين يدرسون في ليدز وفي وست منستر وفي قبرص وفي كوالالمبور وفي كانبرا وضواحي جورجيا. أولئك الذين هربوا من محرقة البلاد مؤخرا أو قبل سنوات، أما البقية من العالقين من الذين لا جوازات أجنبية لهم ولا سعوا لإعادة التوطين وما نظرت إليهم قرعة الأمريكان فليس لهم غير الحسرة والنواح. ربما احتملتهم السنابك في بحر المتوسط أو السيارات في درب الأربعين أو شارع الكفرة وما لم يخطر ببال مدار الجدي وخط الاستواء، فإن نجوا من كل ذلك انضموا لجحافل العالقين. في مدن البلاد التي تموت من البرد حيتانها يجلسون في محلات نقل البضائع وفي سيارات الأوبر، يكتبون على وسائل التواصل بلغة لا يفهمها أبناؤهم وبناتهم، لا يرون انقطاع سرتهم الأبدي عن بلاد السجم والرماد وأنهم صاروا غرباء في بلاد غريبة، يصرون على سماع حمد الريح وأحمد المصطفى وحنان بلوبلو والمحدثات من القونات، يحذروننا نحن العالقون في البلاد العالقة من مكر الكيزان وهم قد ظفروا بالجوازات الأجنبية. يعيشون على ذاكرة خربة خدعوا بها سلطات اللجوء ويصرخون في صفحات الميديا رافعين شعارات دولة المدينة مرة وحق الطبقة العاملة مرة أخرى، وفي طرف اللثة يصلحون من وضع التمباك.
عالقون في الأمنيات العالقة، في الكذبات الأممية الكبيرة من اللاءات الثلاثة وسلة الغذاء والأوهام النبيلة. يحلفون باسم شيخ الطريقة مكتنز أراضيهم وباسم الإمام خادعهم باسم الجدود الكذبة، وأنا ما بايعت بعد محمد رجلا (1). ولكنهم باعونا، كلهم باعونا، بحفنة من الأموال أو حفنة من الأهوال. ويا غافر السودان/ كُتار الغِلطو فينا/ شي تار ودم/ وشي سوء فهم/ وشي لأجلك عفينا (2)!
عالقون في رائحة الشوارع التي لن تعود، في نسيم الصباح عند باب الحنين. في الكتاحة والهبوب وفي مطر الفواصل والشاي باللبن/ براده لابس تاج/ ويلفت انتباهي / هل سكر زيادة/ أم سكر خفيف؟ (3) ينتظرون فجرا لن يجيء، لا يصدقون أنه لن يجيء، نحن الذين تغنينا في عصر من الزمان بتلك النبوءات كنا نظن ذلك ضربا من الشعر ومن الغناء:
مستني ريد / ما أظن يجي/ ويا الله هوي/ تعب اللسان من الشكية / وفي الحكي/ مسجون براي/ محشور براي/ وسط الشوارع وفي المدن (4)
ينتظرون نصرا لن يتحقق، وبلادا لن تكون ولن تتكون، وحنينا لن ينطفي. لقد جاءت فرصتنا التاريخية عدة مرات وانقضت. تلك أشياء لن تعود، والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء (5)، والغافل من ظن العالم يأبه بنا أو بأوهامنا البليدة. إنك لا تعبر النهر مرتين، وطعم القبلة الأولى لن يتكرر، وكذلك يحدث للبلاد. إنما نحن عالقون، عالقون ولا خيارات أمامنا. نخادع أنفسنا بأوهام البدايات الجديدة في بلاد جديدة بانتظار عودة البلاد وعودتنا، والحق أنه لا البلاد ستعود ولا نحن عائدون. والحقيقة أننا منذ زمان خارج هذا العالم فليس من مدخل لنا إليه بعد الآن. ربما بعد زمان سوف نصبح نسيا منسيا، سوف يحدث ذلك لا محالة، قريبا أو بعد زمن قد يطول. سينتهي الأمر بالبلاد إلى أرض منسية وشعوب تتقاتل بينها ولا يتذكرها أحد. مرة مرة سيتحدث واحدهم عن نجاحه في امتحان كذا وكذا وواحدهم عن افتتاحه لمطعم الكمونية والقراصة، وواحد منهم عن سفرته ودخوله لبلاد واق الواق، وهكذا وهكذا من نجاحات العالقين. مرة مرة سيذكروننا في الأخبار، سيقولون لك، أو ربما يكتفون بالكتابة على شريط الأخبار المتحرك، إن انفجارا قد وقع في ضاحية الجريف وإن كميناً قد نصب لجماعة النمر الأزرق عند تخوم الدويم، وسوف تصدر الكنداكات بيانا من محل إقامتهن بمدينة بازل في سويسرا، ويكتب لص المياه من مستقره بأميركا عن فساد لص التراب. إنما العالم مشغول بأشيائه وبالحكايات التي تهم الناس فيه. بإعلانات مقويات الجنس وبنكهة الكوكاكولا الجديدة وبحكايات المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات ولاعبي الكرة. برونالدو وجورجينا، وبالأمين جمال والحبيبة التي تركته، بأنجلينا جولي ونيكول كدمان وكرستينا اغيليرا، وبخطرفات إيلون ماسك ومنجزات الذكاء الاصطناعي ودخول البشرية عصرها الجديد. بينما إن أنت نظرت للعالقين في البلاد العالقة وجدتهم في ذات حالهم منذ سنوات. سنوات؟ منذ قرن ربما. عالقون في حكايات المغنية التي تقطن في الخليج ويحج إليها التجار لتسهيل دخول بضائعهم عبر ميناء بورتسودان لعلاقتها بالحاكمين القدماء الجدد، عالقون في بذاءة القونات والسياسيين ومثليي الجنس والعساكر اللصوص الفسدة. عالقون في الأمنيات العالقة: عالجني يا عابدين شرف/ سامحني يا استاد الهلال (6)، عالقون في الحنين البليد: ويا بلاد النيل/ يا بلاد الخير/لابد يوم باكر /يبقى أخير (7).
عالقون في الأسى والنحيب. عالقون في الذكريات، والذكريات في كل ليل/ تفتح حنينك بيت بكا (8).
لقد مضت البلاد إلى حتفها الأخير، تآمر عليها الجنجويد ومن باع من العساكر وساسة الغفلة والارتزاق، مضت البلاد ومضت الأناشيد التي صدقناها نحن المساكين أولاد الناس المساكين فجلسنا بانتظار بزوغ فجرها حتى وقعت واقعتنا، الأناشيد التي صاغها مساكين آخرون مثلنا، من متشكرين ومقدرين/يا معلمات يا معلمين (9) إلى أوعك تقطع صفقة شجرة/عشان ما يجينا جفاف وتصحر (10)، مضت البلاد إلى حتفها الأخير ولا تزال تمضي، البلاد التي خدعتنا بالشعارات من حرية سلام وعدالة ومن يا عنصري ومغرور ، إلى الضوء في آخر النفق ووعد السنابل التي استحالت جرادا قضى علينا نحن الذين صدقنا وعد النوار أول ما صدقنا. واعفيني من تلك البلاد الزهللة: ﺣﻨﻴﺖ إلى السودان/ ﻣﺴﻘﻂ ﻏﺮﺑﺘﻲ/ ﻭﺧﺎﺭﺏ ﻃﺒﻊ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺠﺎﺯ/ ﺃﻋﻔﻴﻨﻲ ﻣﻦ ﻫﺎﺩﻱ ﺍﻟﺒﻼﺩ ﺍﻟﺬﻫﻠﻠﻪ/ اﻋﻔﻲ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺪﻯ/ ﻭﺍﻟﺸﺎﺭﻉ ﺍﻟﺘﺤﺘﺎﻧﻲ ﻣﻦ ﺧﻤﺞ ﺍﻟﻨﺴﻴﻢ (2).
عالقون في البلاد العالقة، عالقون في الأمنيات العالقة، عالقون في الحكايات العاطلة، وآخر دعوانا أن على البلاد الفاتحة: الفاااااتحة.

1- عبد القادر الكتيابي
2- عاطف خيري
3- محجوب شريف، تجميعة من قصيدتين
4- هاشم صديق
5- الفيتوري
6- محمد محمد خير
7- عماد الدين إبراهيم
8- أزهري محمد علي
9- التجاني حاج موسى
10- عبد الحميد الشبلي

wmelamin@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

المدنيّون الذين تسعى بريطانيا لحمايتهم هم حمدوك وسلك وعبد الباري وعرمان والتعايشي

#شهادتي_لسجل_التاريخ
في تاريخهم ،.
سيكتبون أنّ روسيا وقفت ضد مساعي بريطانيا لحماية المدنيّين في السودان؛
في الحقيقة ..
المدنيّون الذين تسعى بريطانيا لحمايتهم هم حمدوك وسلك وعبد الباري وعرمان والتعايشي ورفاقهم من أولياء الميليشيا الإرهابيّة التي يلزم حماية المدنيّين منها؛
بينما تقف روسيا بجانب الجيش الشرعي الذي يوفّر الحماية للمدنيّين في مناطق سيطرته ويسعى في قتال الميليشيا لتوفيرها في كلّ البلاد؛
والحقيقة ..
أنّ الاعتداء على المدنيّين تمّ بالتنسيق مع الجهات الداخليّة التي تدّعي تمثيلهم والخارجيّة التي تحمل قلمهم تدّعي تبنّي قضيّتهم؛
هذا هو التاريخ الذي شهدناه؛
فكيف تثق بتاريخ لم تشهده؟!
#الدعم_السريع_منظمة_ارهابية
#الدعم_السريع_منظمة_إرهابية
#جنجويد_قحاتة
#حميدتي_انتهى

Abdalla Gafar

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • من هم القادة الذين صدرت بحقهم مذكرات اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية؟
  • هكذا تدعم إسرائيل اللصوص المسلّحين الذين يهاجمون شاحنات الأمم المتحدة في غزة
  • المدنيّون الذين تسعى بريطانيا لحمايتهم هم حمدوك وسلك وعبد الباري وعرمان والتعايشي
  • أمدرماني بين الجزيراب
  • ???? الذي تغير أن بريللو أكتشف كذب حمدوك وشلته الذين رسموا له المشهد على غير حقيقته
  • ماذا تعرف عن قيادات حماس الـ6 الذين فرضت عليهم الخزانة الأمريكية عقوبات؟
  • “بلاد الشام”.. تختتم فعالياتها في حديقة السويدي ضمن موسم الرياض 2024
  • “بلاد الشام”.. تختتم فعالياتها في حديقة السويدي ضمن موسم الرياض
  • عالقون يمنيون في غزة يناشدون القيادة السياسية اليمنية للإجلاء الفوري
  • الغارديان البريطانية تكشف : أعداد الأطفال الذين يموتون الآن في فلسطين أعلى من أي وقت مضى (تفاصيل)