سودانايل:
2025-01-22@11:51:05 GMT

السودان.. درب الآلام و أهوال أقلاها الحرب العبثية

تاريخ النشر: 23rd, August 2024 GMT

طاهر عمر

النخب السودانية في أغلب محاولاتها اليائسة من أجل خلق مشروع نهضوي لاحقة للأحداث و سائرة كما السائر في نومه لذلك جاءت كل مشاريع نهضتها مشاريع مجهضة لأنها تفتقر لأهم بعدين و هما الفلسفة السياسية و الفلسفة الإقتصادية و دورهما في خلق نظرية للتاريخ و فلسفة نقدية للتاريخ و هذا يحتاج لجهد فكري هائل و مراقبة للعالم من حولنا في كيفية فهمه لظاهرة المجتمع البشري و كيف وصل لفكرة مفهوم الدولة الحديثة و كيفية ممارسة السلطة و ليست المحاصصة في تقسيم السلطة كما هو حاصل في السودان و ما ترتب عن ذلك في القرن الأخير و نتيجته الحرب العبثية الجارية الآن بين جيش الكيزان و صنيعته الدعم السريع.


لتوضيح مسألة أن النخب السودانية لاحقة للأحداث أقصد أنها لم تأخذ زمام المبادرة في إستشراف لمستقبل مفهوم الدولة و مفهوم ممارسة السلطة في المجتمع الحديث و أقصد بزمام المبادرة فهم الفلسفة النقدية للتاريخ و هذا هو دور عباقرة الرجال من فلاسفة و سياسيين و إقتصاديين لهم قدرة على فهم و إدراك كيف تتحول المجتمعات.
مثلا بعد سته عقود من قيام الثورة الصناعية عام 1776 كانت هناك تحولات هائلة أدت الى التفكير في فكرة الضمان الإجتماعي لأن الثورة الصناعية أفرزت نوع جديد من المشاكل الإجتماعية في حالات حوادث العمل أي أن يفقد عامل يده في حادث و في حالة المرض و في حالة وصل لسن المعاش و هذا ما أنتبه له توكفيل في كتابه الديمقراطية الأمريكية و كيف إستطاعت أن تحقق أمريكا ديمقراطية عجزت أوروبا أن تبلغ ما حققته أمريكا فيما يتعلق بقيم الجمهورية و هذا ما جعل توكفيل معجب بالديمقراطية الأمريكية.
توكفيل بإعجابه بالديمقراطية الأمريكية لم يكن لاحق لأحداث فرنسا بل كان ينظر للمستقبل البعيد لذلك اهتدى لفكرة الديمقراطية الامريكية و عليه قدم نقد للكاثوليكية الفرنسية و الكاثوليك و قال يستحيل أن تصل الكاثوليكية الى مرحلة ترسيخ ديمقراطية في فرنسا لأن توكفيل كان يعرف بأن الديمقراطية الأمريكية لم تكن نظم حكم فحسب بل فلسفة لفكر ليبرالي يقوم على أساس المساواة بين أفراد المجتمع و قد أصبحت بديلا للفكر الديني لذلك كان توكفيل في نقده للكاثوليكية و الكاثوليك في فرنسا نقد يرتكز فيه على ما رأه من نجاح للديمقراطية الامريكية في إبعادها للفكر الديني و فصلها بين الدين و الدولة نتيجة لتشبع السياسيين الامريكيين بفلسفة جون لوك أب الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي و هو فكر غائب من أفق النخب السودانية.
و عليه يصبح الدين شأن فردي و يصير أفق الرجاء للفرد فيما يتعلق بعلاقته بربه أماعلاقة الفرد و صراعه مع مجتمعه فتحكمه معادلة الحرية و العدالة و في ظل المساواة الراسخة في نظم الحكم الليبرالي متى ما ظهرت إختلالات سياسية و إختناقات إقتصادية ظهرت الشخصيات التاريخية لكي تعيد توازن المجتمع و توازن الإقتصاد الى نقاط توازنه.
و هنا وجب التوضيح لفلسفة جون لوك فيما يتعلق بفصل الدين عن الدولة كان يقول لو كان هناك مطلق واحد يجب الايمان به سيكون فكرة فصل الدين عن الدولة لأنه لا يمكن لأي كان أن يتحدث عن التسامح و هو منطلق من خطاب ديني- أي دين و عليه تكون مسألة فصل الدين عن الدولة قاعدة تأسيس لفكرة المساواة بين أفراد المجتمع و هذا هو البعد الغائب عن أفق النخب السودانية و هي عاجزة عن مواجهة التحدي و ليس لها أي تصور لكي تنتصر على نفسها و تتخطى تبعيتها للامام في حزب الأمة و الختم في حزب محمد عثمان الميرغني و أستاذ الحزب الشيوعي.
و الأغرب من كل ذلك إعتقاد النخب السودانية بأنها تستطيع أن تأتي بنظام ديمقراطي بأحزاب الطائفية أي حزب الأمة و حزب الختم و حزب المرشد أي الكيزان و هنا نتذكر بأن توكفيل قبل قرنيين من الزمان قال بأن الكاثوليكية و الكاثوليك لا يمكنهم ترسيخ فكرة الديمقراطية بفكرهم الديني و عليه يمكننا أن نقول في هذه النقطة بالذات و هي أن كاثوليك السودان الآن و هم الكيزان و أتباع حزب الأمة و أتباع الختم يفصلهم من حاضر الفكر الحديث قرنيين من الزمان أي أنهم في زمن توكفيل حينما إنتقد الكاثوليكية و الكاثوليك و نادى بأن يصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني و عليه نسأل متى تقتنع النخب السودانية بأن الديمقراطية بديلا للفكر الديني؟ و لا يمكن تحقيق الديمقراطية بأي فكر ديني مهما زعم الزاعمون و أن الفكر الديني في ظله لا يمكن تأسيس دولة حديثة و لا تحقيق تنمية و لم تفارق البشرية الجهل و الفقر و المرض إلا عندما فارقت وحل الفكر الديني و أيقنت بأن لا ظل يظل ظاهرة المجتمع البشري غير ظلال مجد العقلانية و إبداع العقل البشري و محاولتهما لإعادة خلق تجربة الإنسانية وفقا لقدرات العقل البشري و بعيدا عن شطحات رجال الدين.
و هذا ما توصل له ولي العهد السعودي في مشروع 2030 و قد أبعد رجال الدين المزعجين من المشهد و قال أن معهم و بهم لا يمكن تحقيق أهداف دولة حديثة و لا يمكن تحقيق تنمية و إزدهار مادي. على العموم و حتى لو فشل مشروع ولي العهد السعودي إلا أنه قد خلق لنفسه موعد مع التاريخ و موعد مع الحضارات و ما قاله محمد بن سلمان ولي عهد السعودية عن رجال الدين المزعجين يذكّر بما قاله توكفيل في إبعاده للكاثوليك و الكاثوليكية فمتى يستيقظ المثقف التقليدي السوداني و يكون على مستوى ولي عهد السعودية؟ و يستطيع أن يبعد رجال الدين المزعجيين لأن فكرهم لا يسمح لأفكار الحداثة أن تسود و لا في ظله يمكن تحقيق تنمية و إزدهار مادي.
و هنا وجب أن نرجع لفكرة ألا تكون لاحق للأحداث كما رأينا مسيرة توكفيل لم يكن لاحق لأحداث فرنسا بل فيلسوف و مؤرخ و عالم اجتماع و إقتصادي طرح فكر يفتح لأفاق جديدة في فرنسا و بعد قرنيين من الزمان ما زالت فرنسا توصف بأنها توكفيلية و إختفى طموح الكاثوليك و فكرة تحقيق ديمقراطية عبر فكرهم الطائفي و مثلما إنتصر فكر توكفيل على الكاثوليك بعد عقود ربما يثمر فكر ولي العهد السعودي بجلب أفكار الحداثة و خلق تنمية و تأسيس دولة حديثة و لو بعد عقود من إبعاده لرجال الدين المزعجيين و طبعا ينتظر السعودية إصلاح سياسي يتواكب مع إزدهارها المادي و إدخال أفكار الحداثة بعد إبعاد رجال الدين المزعجين و فكرهم.
مثلما فعل توكفيل و أعلن إعجابه بالديمقراطية في أمريكا و لم يك لاحق لأحداث فرنسا بل كان مستشرف لمستقبلها و هذا ما نريده أن يكون أفق النخب السودانية فيما يتعلق بشوقها للديمقراطية و لهذا لا يتحقق ما لم تنعتق النخب السودانية من تبعية المرشد الكيزاني و الامام و الختم لأن الديمقراطية هي بديل للفكر الديني الذي لا يحقق مساواة بين أفراد المجتمع على الإطلاق.
و هذا هو سبب فشل النخب السودانية على مدى سبعة عقود أي منذ الإستقلال و الى اللحظة لم يخرج السودان من إختلالاته السياسة و إختناقاته الإقتصادية و لن يخرج ما مادام الفكر اللاهوتي مسيطر على عقل المثقف السوداني و يجعله خانعا تابعا للامام و المرشد و الختم و الإستاذ الشيوعي الذي ما زال غير مدرك بأن الليبرالية التقليدية التي يحاولها ماركس قد أعقبتها ليبرالية حديثة و أن فلسفة التاريخ الحديثة قد وضعت ماركس في الأغلال و لم تعد الماركسية غير ثمرة مرة للفلسفة المثالية الالمانية و قد بلغت منتهاها في الهيغلية و الماركسية بفضل أفكار ماكس فيبر في إرتكازه على أفكار النيوكانطية.
و مثلما نجح كانط في جسر الفلسفة المثالية الالمانية و التجريبية الإنجليزية بفضل إضطلاعه على فلسفة ديفيد هيوم و أفكار أدم إسمث في نظرية المشاعر الإخلاقية و قد إستيقظ من سباته الدوغمائي العميق فقد فشل ماركس في أن يجسر البون بين الفلسفة المثالية الالمانية و التجريبية الإنجليزية عندما فشل في مقاربة نظرية القيمة لديفيد ريكاردو فمتى يستيقظ المثقف التقليدي السوداني من ثباته الدوغمائي العميق؟
و عليه مثلما لم يك توكفيل لاحق لأحداث فرنسا بل مستشرف لمستقبلها كذلك قبل قرن أي منذ عام 1930 لم يكن ريموند أرون لاحق لأحداث فرنسا و هي تحت سيطرة الفكر الماركسي و بالتالي كما أعجب توكفيل بالديمقراطية الأمريكية كذلك ريموند أرون أعجب بفلسفة ماكس فيبر و هي مرتكزة على أفكار النيوكانطية حيث لم يعد فيها للميتافيزيقيا أن تصبح حقول فلسفة و بالتالي تحدث ماكس فيبر بأن الدين كان سحر للعالم و قد زال و لم يعد يلعب أي دور بنيوي لا في السياسة و لا في الإقتصاد و لا في الإجتماع و بالتالي لم تعد الفلسفة المثالية الألمانية مفيدة في تقديم ثمرتي الهيغلية و الماركسية و ليس ذلك فحسب بل أن الفلسفة المثالية منذ إفلاطون و مرورا بالفكر المدرسي المسيحي و الى المثالية الالمانية لم تعد ذات جدوى.
و بعدها يصبح الإنسان محكوم بأن يعيد خلق عالمه وفقا لقدرة عقله البشري و أن مسيرته تراجيدية و مأساوية بلا قصد و لا معنى و لا يعالجها غير القرار و الإختيار و كيفية إدراك الشرط الإنساني و هنا تكمن أهمية السياسي و الإقتصادي في تجسيد فكرة الشرط الإنساني و من قبل قرن من الزمن لمع نجم السياسي في قدرته على إختيار الشرط الإنساني و أفل نجم المؤرخ التقليدي و كذلك لمع نجم الإقتصادي في إمكانية تجسيد الشرط الإنساني عبر النظريات الإقتصادية و أفل نجم القانوني. و لهذا نجد اليوم أن القانوني السوداني و المؤرخ التقليدي السوداني أصعف حلقتين في سلسلة النخب السودانية الفاشلة.
و حتى يكتمل نصاب الديمقراطية في السودان لكي تكون بديلة للفكر الديني ستمر على مسرح الأحداث في السودان أهوال أقلاها الحرب العبثية التي تدور الآن بين جيش الكيزان و صنيعته الدعم السريع و سيحترق بنيران الأهوال التي ستمر كل واهم بنصر لجيش الكيزان أو واهم بأن صنيعة الكيزان الدعم السريع كأداة موت ستكون يوما نصيرة لمسيرة الحرية. فاقد الشئ لا يعطيه لأن أتباع الدعم السريع نتاج ثقافة الأسرة الجذعية التي لا تنتج غير نظام سلطة الأب و ميراث التسلط أما جيش الكيزان تحت قيادة العدميين تربية الكيزان أعداء الإشراق و الوضوح و بالتالي لن ينتصروا للحياة أبدا.

taheromer86@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدیمقراطیة الأمریکیة النخب السودانیة الدعم السریع فیما یتعلق یمکن تحقیق رجال الدین هذا ما لا یمکن

إقرأ أيضاً:

الحرب السودانية وتداعياتها الإنسانية

منتدى الإعلام السوداني: غرفة التحرير المشتركة

إعداد وتحرير: سودانايل

مقدمة

الخرطوم 20 يناير 2025 – منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023، عرف السودان في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه الحديث. ووفقًا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، تجاوز عدد القتلى المدنيين 24,000 شخص حتى الآن، مع نزوح أكثر من 5.7 ملايين شخص داخليًا وخارجيًا (الأمم المتحدة – نوفمبر 2024). ولم يقتصر عدد الضحايا على القتل الناتج عن تبادل النيران العشوائية، بل تصاعدت الانتهاكات في الآونة الأخيرة لتشمل القتل العمد، واستهداف الأفراد على أساس قبلي وهوياتي، وهو ما يزيد تعقيد النزاع وتأجيجه.

انتهاكات جسيمة تستهدف الهوية

تشير تقارير حقوقية، منها ما صدر عن منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى أن عمليات القتل العمد بحق المدنيين والأسرى تستند غالبًا إلى خلفياتهم الإثنية أو القبلية، مما يُنذر بتفاقم الانقسامات العرقية وتعميق جراح المجتمع السوداني. وذكرت منظمة العفو الدولية أن عددًا كبيرًا من حوادث القتل موثقة على أنها جرائم حرب، حيث تُرتكب دون أي مراعاة للقوانين الدولية الإنسانية (العفو الدولية – ديسمبر 2024).

أبعاد الكارثة الإنسانية

يتجاوز النزاع القتل المباشر ليشمل تداعيات إنسانية كارثية. ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، يعاني أكثر من 20 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي في السودان، مع تحذيرات من مجاعة واسعة النطاق إذا استمرت الحرب دون تدخل دولي فاعل (برنامج الأغذية العالمي – نوفمبر 2024). وفي الوقت نفسه، وثق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) حالات اغتصاب وعنف جنسي متزايدة، مع تسجيل أكثر من 200 حالة مؤكدة في المناطق المتأثرة بالنزاع منذ بداية الصراع.

انتهاكات الدعم السريع واستهداف المدنيين على أسس عرقية وقبلية

على الجانب الآخر من النزاع، ارتكبت قوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، اتسمت بالقتل الممنهج والاستهداف المباشر على أسس عرقية وقبلية وجنسية. ووفقًا لتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، بما في ذلك هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، فإن قوات الدعم السريع استهدفت بشكل منهجي مجموعات سكانية تنتمي إلى قبائل محددة، حيث تم توثيق عمليات قتل واغتصاب ونهب في المناطق التي تسيطر عليها هذه القوات (العفو الدولية، نوفمبر 2024؛ هيومن رايتس ووتش، ديسمبر 2024).

استهداف النساء والفتيات

تشير تقارير صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات قد أصبح سلاحًا حربياً تستخدمه قوات الدعم السريع لترهيب المجتمعات المحلية وإجبارها على النزوح. وتم توثيق أكثر من 200 حالة اغتصاب في المناطق التي سيطرت عليها القوات، مع

توثيق شهادات مباشرة من الناجيات تؤكد أن هذه الجرائم كانت موجهة ضد فئات عرقية معينة. (UNFPA، ديسمبر 2024)

استهداف القرى والأحياء السكنية

في المناطق الريفية تحديدًا، قامت قوات الدعم السريع بحملات عنف شديدة استهدفت القرى التابعة لقبائل معينة، حيث تم تدمير المنازل ونهب الممتلكات وقتل المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال. وفي بعض الحالات، تم إجبار الناجين على النزوح تحت تهديد السلاح، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية وارتفاع أعداد النازحين داخليًا إلى أكثر من 5.7 ملايين شخص (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية OCHA، نوفمبر 2024)

انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ود مدني بعد دخول الجيش السوداني:

في أعقاب دخول الجيش السوداني إلى مدينة ود مدني بولاية الجزيرة الأسبوع الماضي، تواترت تقارير عن ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بحق المدنيين. وأفادت منظمة العفو الدولية باندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في ود مدني، مما أثار مخاوف جديدة على سلامة المدنيين (العفو الدولية، ديسمبر 2024).

من جانبه، أعرب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، عن قلقه البالغ إزاء التقارير المتعددة التي تفيد بوقوع تجاوزات واسعة النطاق وارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ود مدني خلال الأيام الأخيرة من القتال. وأشار إلى أن الحالة الإنسانية في ولاية الجزيرة، التي تستضيف ما يقرب من نصف مليون نازح داخليًا، “رهيبة ومروّعة” (مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ديسمبر 2024).

في هذا السياق، ندد الجيش السوداني بما وصفه بـ “التجاوزات الفردية” التي حدثت في بعض مناطق ولاية الجزيرة عقب استعادة مدينة ود مدني، مؤكدًا التزامه بالقانون الدولي الإنساني وحرصه على محاسبة كل من يثبت تورطه في أي تجاوزات (الجزيرة نت، يناير 2025).

هذه التطورات تسلط الضوء على التحديات المستمرة التي تواجه المدنيين في مناطق النزاع، وتؤكد الحاجة الملحة لحماية حقوق الإنسان وضمان المساءلة عن أي انتهاكات تُرتكب.

أدوار الكتائب والمليشيات المرتبطة بحزب المؤتمر الوطني المنحل

تشير التقارير الميدانية إلى أن العديد من هذه الانتهاكات تُرتكب على يد كتائب ومليشيات مسلحة، في الغالب ذات توجهات إسلامية، أو تدّعي تبنيها لقيم الإسلام، مع انتمائها إلى قيادات الحزب الحاكم المحلول، حزب المؤتمر الوطني. من بين هذه الكتائب، تبرز كتائب البراء المعروفة، التي تنشط في مناطق النزاع، وتتحمل مسؤولية انتهاكات جسيمة ضد المدنيين. تعمل هذه الكتائب غالبًا تحت مظلة دعم بعض قادة الجيش السوداني، أو على الأقل تحت مرأى ومسمع من القيادات العسكرية دون اتخاذ إجراءات واضحة لردعها أو محاسبتها. وقد أعربت منظمات حقوقية دولية عن قلقها من أن هذه الكتائب، والتي تسهم في تأجيج النزاع عبر ممارساتها التي تنتهك حقوق الإنسان، وتفاقم الانقسامات العرقية والسياسية في البلاد (العفو الدولية، ديسمبر 2024؛ هيومن رايتس ووتش، نوفمبر 2024).

توثيق الانتهاكات عبر وسائل التواصل الاجتماعي

في سياق توثيق هذه الجرائم، نشر عشرات الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر بوضوح انتهاكات جسيمة تُنسب إلى كتائب البراء وغيرها من المليشيات المشابهة. تُظهر هذه الفيديوهات عمليات قتل متعمد وتعذيب للمدنيين ونهب للممتلكات في المناطق التي شهدت نزاعًا مسلحًا. وقد أثارت هذه المقاطع موجة من الإدانات الدولية والمحلية، حيث تمثل دليلًا مباشرًا على الانتهاكات التي تُرتكب بجرأة وعلانية. ورغم ذلك، لا تزال هذه الجرائم تُرتكب دون محاسبة جدية أو تدخل دولي فاعل لوقف هذه الممارسات التي تهدد الأمن والاستقرار في السودان.

القتل العرقي وتداعياته على السودان

تقوم هذه الجرائم على أساس القتل العرقي والممنهج، مما يشير إلى نقل الحرب إلى مربعات جهوية وعرقية وإثنية خطيرة. وما حدث مؤخرًا في ولاية الجزيرة يمثل دليلًا موثقًا لهذه الانتهاكات، حيث تعرضت مجموعات معينة للاستهداف على أسس إثنية واضحة. هذا التصعيد يهدد بنقل البلاد إلى مرحلة الحرب العرقية، وهي مرحلة قد تطول نتيجة التعدد القبلي الكبير والتنوع الثقافي في السودان.

في ظل هذه الظروف، فإن عدم تدخل السلطات بشكل حاسم يُعد إشارة ضمنية إلى مباركة هذه الجرائم، خاصة في ظل الصمت أو التأييد غير المباشر من رئاسة الدولة ممثلة في مجلس السيادة الانتقالي. هذا الوضع يضع السودان أمام سيناريوهات خطيرة، حيث تتعمق الانقسامات العرقية، وتُزرع بذور حروب أهلية طويلة الأمد، ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة لوقف الانتهاكات ومعالجة جذور الصراع.

مسؤولية القيادات وتفاقم الانقسامات

تعتمد قوات الدعم السريع في عملياتها على قيادات ميدانية تنتمي إلى شبكات قبلية متداخلة، ما يجعل من الصعب فصل الممارسات الفردية عن التوجهات العامة التي تُنفذ بتوجيه أو بغطاء ضمني من القيادة العليا. وقد أدت هذه الانتهاكات إلى زيادة الانقسامات العرقية وتأجيج الصراعات داخل المجتمعات المحلية، مما يُنذر بتفكك النسيج الاجتماعي في السودان.

تداعيات مستمرة لخطر الحرب الممتدة

إن استمرار هذه الممارسات من قبل قوات الدعم السريع، إلى جانب الانتهاكات الموثقة التي ترتكبها القوات المسلحة السودانية والمليشيات المتحالفة معها، يعمّق الانقسامات العرقية والقبلية في البلاد. ومع غياب أي مساءلة دولية أو محلية جادة، تتزايد المخاوف من أن تتحول هذه الحرب إلى صراعات طويلة الأمد على أسس عرقية، مما يجعل التوصل إلى أي حل سياسي شامل أكثر تعقيدًا.

تصاعد الضغوط الدولية: عقوبات أمريكية تطال حميدتي والبرهان

في تطور لافت، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على قائد قوات الدعم السريع السودانية، محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، في 7 يناير 2025، متهمة إياه بارتكاب جرائم إبادة جماعية خلال الصراع المسلح مع الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، ما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف من السودانيين (فرانس 24، 7 يناير 2025).

وفي 16 يناير 2025، أعلنت الحكومة السودانية رفضها للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على القائد العام للجيش، عبد الفتاح البرهان، معتبرة إياها استخفافًا بالشعب السوداني (سودان تربيون، 16 يناير 2025).

هذه الإجراءات تعكس تصاعد الضغوط الدولية على القيادات العسكرية السودانية؛ بسبب الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في البلاد.

دور الإعلام في مواجهة الحرب ومخاطر الانزلاق العرقي

في خضم الأزمة السودانية المتفاقمة، يلعب الإعلام دورًا محوريًا في توجيه الرأي العام نحو نبذ خطاب الكراهية ومواجهة الانتهاكات التي ترتكبها الأطراف المتنازعة. تقع على عاتق الإعلاميين والصحفيين مسؤولية كبيرة في تسليط الضوء على هذه الجرائم، وتحديدًا الانتهاكات ذات الطابع العرقي أو القبلي، والتي قد تؤدي إلى تقسيم المجتمع السوداني وإشعال فتيل حرب لا تبقي ولا تذر.

مناشدات للإعلاميين والنشطاء

يجب على الإعلاميين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الناشطين المؤثرين الذين يمتلكون أعدادًا كبيرة من المتابعين، الالتزام بخطاب يدعو إلى التهدئة وتجنب تأجيج الصراعات القبلية. هؤلاء الناشطون، بمنصاتهم الواسعة الانتشار، لديهم القدرة على تغيير مسار الخطاب العام من التحريض إلى تعزيز قيم التعايش السلمي ونبذ العنف.

دور الصحفيين ووسائل الإعلام

من جهة أخرى، يجب على الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، سواء عبر الصحف الإلكترونية أو القنوات الإعلامية التقليدية، الإقليمية منها، والدولية التطرق إلى هذه الانتهاكات بموضوعية ومصداقية. على الإعلام أن يكشف الحقيقة، ويوثق الجرائم التي تُرتكب، مع التركيز على الأبعاد الإنسانية لهذه الكارثة. يجب أن يكون الإعلام صوتًا للضحايا، وأداة للضغط على الأطراف المتنازعة والمجتمع الدولي للعمل على وقف هذه الحرب.

حماية النسيج الاجتماعي

الإعلام مسؤول أيضًا عن التذكير بأهمية حماية النسيج الاجتماعي للسودان، وضرورة عدم السماح بتحويل النزاع إلى صراع قائم على العرق أو الجنس أو القبيلة. عليه أن يواجه محاولات بعض الأطراف التي تسعى لتأجيج الفتنة القبلية لتحقيق مكاسب قصيرة المدى على حساب وحدة السودان ومستقبله.

هذا الدور الإعلامي الحساس يجعل من الصحفيين والإعلاميين شركاء أساسيين في مجابهة هذه الحرب اللعينة، ومنعها من التدهور إلى صراعات قبلية طويلة الأمد، قد تستنزف السودان لعقود قادمة.

الخاتمة

في ظل هذه الأزمات المتفاقمة، يتطلب الوضع في السودان تحركًا جماعيًا من كافة الأطراف، بدءًا من القيادات السياسية والعسكرية إلى المجتمع المدني والإعلام. لا يمكن للسودان أن يتحمل استمرار هذا النزاع الذي يهدد مستقبل أجياله، ويُدمر نسيجه الاجتماعي. إن الحل الوحيد يكمن في وقف فوري لإطلاق النار، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، والالتزام بتسوية سياسية شاملة تضمن تحقيق العدالة وحماية حقوق الإنسان.

على الإعلام، كسلطة رابعة، أن يستمر في نقل الحقيقة بموضوعية وشجاعة، وأن يكون صوتًا للضحايا ومنبرًا للمصالحة الوطنية. فلا يمكن تحقيق السلام دون مواجهة حقيقية للجرائم والتحديات، ودون خطاب إعلامي يوحد السودانيين بدلًا من تقسيمهم.

فهرس المراجع:

العفو الدولية: تقرير حول انتهاكات حقوق الإنسان في السودان، ديسمبر 2024

هيومن رايتس ووتش: تقارير موثقة عن الانتهاكات الجسيمة من قبل الأطراف المتنازعة، نوفمبر وديسمبر 2024

مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA): تقارير حول أعداد الضحايا والنازحين، 2024

صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA): تقرير عن العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في مناطق النزاع، ديسمبر 2024

منتدى الإعلام السوداني

ينشر هذا التقرير بالتزامن في منصات المؤسسات والمنظمات الإعلامية والصحفية الأعضاء بمنتدى الإعلام السوداني

الوسومالجرائم والانتهاكات حرب الجيش والدعم السريع منتدى الإعلام السوداني

مقالات مشابهة

  • الخارجية السودانية: المليشيا بعد أن عجزت عن مواجهة الجيش والقوات المساندة له لجأت إلى استهداف محطات الكهرباء والمياه
  • ما هو أثر العقوبات الأمريكية على الحرب السودانية؟
  • حرمة الدماء بين النصوص السماوية وواقع السودان المؤلم: جيش السودان الموجّه ومليشيات الكيزان نموذجًا
  • الحرب السودانية وتداعياتها الإنسانية
  • بيعت في مناطق حدودية وجنوب السودان”.. اتهامات لسلطات جوبا بإهمال مناشدات ضبط الآثار السودانية المسروقة
  • الحرب السودانية وتداعياتها الإنسانية !
  • “بيعت في مناطق حدودية وجنوب السودان”.. اتهامات لسلطات جوبا بإهمال مناشدات ضبط الآثار السودانية المسروقة
  • بهذه الحرب اللعينة العبثية المنسية فقدنا الكثير
  • توجيه اتهامات لحفتر بدعم المعارضة السودانية وسط تزايد النفوذ الإقليمي في ليبيا
  • النيابة العامة السودانية: حمدوك لا يزال مطلوبًا للعدالة