سودانايل:
2025-03-18@12:58:14 GMT

السودان.. درب الآلام و أهوال أقلاها الحرب العبثية

تاريخ النشر: 23rd, August 2024 GMT

طاهر عمر

النخب السودانية في أغلب محاولاتها اليائسة من أجل خلق مشروع نهضوي لاحقة للأحداث و سائرة كما السائر في نومه لذلك جاءت كل مشاريع نهضتها مشاريع مجهضة لأنها تفتقر لأهم بعدين و هما الفلسفة السياسية و الفلسفة الإقتصادية و دورهما في خلق نظرية للتاريخ و فلسفة نقدية للتاريخ و هذا يحتاج لجهد فكري هائل و مراقبة للعالم من حولنا في كيفية فهمه لظاهرة المجتمع البشري و كيف وصل لفكرة مفهوم الدولة الحديثة و كيفية ممارسة السلطة و ليست المحاصصة في تقسيم السلطة كما هو حاصل في السودان و ما ترتب عن ذلك في القرن الأخير و نتيجته الحرب العبثية الجارية الآن بين جيش الكيزان و صنيعته الدعم السريع.


لتوضيح مسألة أن النخب السودانية لاحقة للأحداث أقصد أنها لم تأخذ زمام المبادرة في إستشراف لمستقبل مفهوم الدولة و مفهوم ممارسة السلطة في المجتمع الحديث و أقصد بزمام المبادرة فهم الفلسفة النقدية للتاريخ و هذا هو دور عباقرة الرجال من فلاسفة و سياسيين و إقتصاديين لهم قدرة على فهم و إدراك كيف تتحول المجتمعات.
مثلا بعد سته عقود من قيام الثورة الصناعية عام 1776 كانت هناك تحولات هائلة أدت الى التفكير في فكرة الضمان الإجتماعي لأن الثورة الصناعية أفرزت نوع جديد من المشاكل الإجتماعية في حالات حوادث العمل أي أن يفقد عامل يده في حادث و في حالة المرض و في حالة وصل لسن المعاش و هذا ما أنتبه له توكفيل في كتابه الديمقراطية الأمريكية و كيف إستطاعت أن تحقق أمريكا ديمقراطية عجزت أوروبا أن تبلغ ما حققته أمريكا فيما يتعلق بقيم الجمهورية و هذا ما جعل توكفيل معجب بالديمقراطية الأمريكية.
توكفيل بإعجابه بالديمقراطية الأمريكية لم يكن لاحق لأحداث فرنسا بل كان ينظر للمستقبل البعيد لذلك اهتدى لفكرة الديمقراطية الامريكية و عليه قدم نقد للكاثوليكية الفرنسية و الكاثوليك و قال يستحيل أن تصل الكاثوليكية الى مرحلة ترسيخ ديمقراطية في فرنسا لأن توكفيل كان يعرف بأن الديمقراطية الأمريكية لم تكن نظم حكم فحسب بل فلسفة لفكر ليبرالي يقوم على أساس المساواة بين أفراد المجتمع و قد أصبحت بديلا للفكر الديني لذلك كان توكفيل في نقده للكاثوليكية و الكاثوليك في فرنسا نقد يرتكز فيه على ما رأه من نجاح للديمقراطية الامريكية في إبعادها للفكر الديني و فصلها بين الدين و الدولة نتيجة لتشبع السياسيين الامريكيين بفلسفة جون لوك أب الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الإقتصادي و هو فكر غائب من أفق النخب السودانية.
و عليه يصبح الدين شأن فردي و يصير أفق الرجاء للفرد فيما يتعلق بعلاقته بربه أماعلاقة الفرد و صراعه مع مجتمعه فتحكمه معادلة الحرية و العدالة و في ظل المساواة الراسخة في نظم الحكم الليبرالي متى ما ظهرت إختلالات سياسية و إختناقات إقتصادية ظهرت الشخصيات التاريخية لكي تعيد توازن المجتمع و توازن الإقتصاد الى نقاط توازنه.
و هنا وجب التوضيح لفلسفة جون لوك فيما يتعلق بفصل الدين عن الدولة كان يقول لو كان هناك مطلق واحد يجب الايمان به سيكون فكرة فصل الدين عن الدولة لأنه لا يمكن لأي كان أن يتحدث عن التسامح و هو منطلق من خطاب ديني- أي دين و عليه تكون مسألة فصل الدين عن الدولة قاعدة تأسيس لفكرة المساواة بين أفراد المجتمع و هذا هو البعد الغائب عن أفق النخب السودانية و هي عاجزة عن مواجهة التحدي و ليس لها أي تصور لكي تنتصر على نفسها و تتخطى تبعيتها للامام في حزب الأمة و الختم في حزب محمد عثمان الميرغني و أستاذ الحزب الشيوعي.
و الأغرب من كل ذلك إعتقاد النخب السودانية بأنها تستطيع أن تأتي بنظام ديمقراطي بأحزاب الطائفية أي حزب الأمة و حزب الختم و حزب المرشد أي الكيزان و هنا نتذكر بأن توكفيل قبل قرنيين من الزمان قال بأن الكاثوليكية و الكاثوليك لا يمكنهم ترسيخ فكرة الديمقراطية بفكرهم الديني و عليه يمكننا أن نقول في هذه النقطة بالذات و هي أن كاثوليك السودان الآن و هم الكيزان و أتباع حزب الأمة و أتباع الختم يفصلهم من حاضر الفكر الحديث قرنيين من الزمان أي أنهم في زمن توكفيل حينما إنتقد الكاثوليكية و الكاثوليك و نادى بأن يصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني و عليه نسأل متى تقتنع النخب السودانية بأن الديمقراطية بديلا للفكر الديني؟ و لا يمكن تحقيق الديمقراطية بأي فكر ديني مهما زعم الزاعمون و أن الفكر الديني في ظله لا يمكن تأسيس دولة حديثة و لا تحقيق تنمية و لم تفارق البشرية الجهل و الفقر و المرض إلا عندما فارقت وحل الفكر الديني و أيقنت بأن لا ظل يظل ظاهرة المجتمع البشري غير ظلال مجد العقلانية و إبداع العقل البشري و محاولتهما لإعادة خلق تجربة الإنسانية وفقا لقدرات العقل البشري و بعيدا عن شطحات رجال الدين.
و هذا ما توصل له ولي العهد السعودي في مشروع 2030 و قد أبعد رجال الدين المزعجين من المشهد و قال أن معهم و بهم لا يمكن تحقيق أهداف دولة حديثة و لا يمكن تحقيق تنمية و إزدهار مادي. على العموم و حتى لو فشل مشروع ولي العهد السعودي إلا أنه قد خلق لنفسه موعد مع التاريخ و موعد مع الحضارات و ما قاله محمد بن سلمان ولي عهد السعودية عن رجال الدين المزعجين يذكّر بما قاله توكفيل في إبعاده للكاثوليك و الكاثوليكية فمتى يستيقظ المثقف التقليدي السوداني و يكون على مستوى ولي عهد السعودية؟ و يستطيع أن يبعد رجال الدين المزعجيين لأن فكرهم لا يسمح لأفكار الحداثة أن تسود و لا في ظله يمكن تحقيق تنمية و إزدهار مادي.
و هنا وجب أن نرجع لفكرة ألا تكون لاحق للأحداث كما رأينا مسيرة توكفيل لم يكن لاحق لأحداث فرنسا بل فيلسوف و مؤرخ و عالم اجتماع و إقتصادي طرح فكر يفتح لأفاق جديدة في فرنسا و بعد قرنيين من الزمان ما زالت فرنسا توصف بأنها توكفيلية و إختفى طموح الكاثوليك و فكرة تحقيق ديمقراطية عبر فكرهم الطائفي و مثلما إنتصر فكر توكفيل على الكاثوليك بعد عقود ربما يثمر فكر ولي العهد السعودي بجلب أفكار الحداثة و خلق تنمية و تأسيس دولة حديثة و لو بعد عقود من إبعاده لرجال الدين المزعجيين و طبعا ينتظر السعودية إصلاح سياسي يتواكب مع إزدهارها المادي و إدخال أفكار الحداثة بعد إبعاد رجال الدين المزعجين و فكرهم.
مثلما فعل توكفيل و أعلن إعجابه بالديمقراطية في أمريكا و لم يك لاحق لأحداث فرنسا بل كان مستشرف لمستقبلها و هذا ما نريده أن يكون أفق النخب السودانية فيما يتعلق بشوقها للديمقراطية و لهذا لا يتحقق ما لم تنعتق النخب السودانية من تبعية المرشد الكيزاني و الامام و الختم لأن الديمقراطية هي بديل للفكر الديني الذي لا يحقق مساواة بين أفراد المجتمع على الإطلاق.
و هذا هو سبب فشل النخب السودانية على مدى سبعة عقود أي منذ الإستقلال و الى اللحظة لم يخرج السودان من إختلالاته السياسة و إختناقاته الإقتصادية و لن يخرج ما مادام الفكر اللاهوتي مسيطر على عقل المثقف السوداني و يجعله خانعا تابعا للامام و المرشد و الختم و الإستاذ الشيوعي الذي ما زال غير مدرك بأن الليبرالية التقليدية التي يحاولها ماركس قد أعقبتها ليبرالية حديثة و أن فلسفة التاريخ الحديثة قد وضعت ماركس في الأغلال و لم تعد الماركسية غير ثمرة مرة للفلسفة المثالية الالمانية و قد بلغت منتهاها في الهيغلية و الماركسية بفضل أفكار ماكس فيبر في إرتكازه على أفكار النيوكانطية.
و مثلما نجح كانط في جسر الفلسفة المثالية الالمانية و التجريبية الإنجليزية بفضل إضطلاعه على فلسفة ديفيد هيوم و أفكار أدم إسمث في نظرية المشاعر الإخلاقية و قد إستيقظ من سباته الدوغمائي العميق فقد فشل ماركس في أن يجسر البون بين الفلسفة المثالية الالمانية و التجريبية الإنجليزية عندما فشل في مقاربة نظرية القيمة لديفيد ريكاردو فمتى يستيقظ المثقف التقليدي السوداني من ثباته الدوغمائي العميق؟
و عليه مثلما لم يك توكفيل لاحق لأحداث فرنسا بل مستشرف لمستقبلها كذلك قبل قرن أي منذ عام 1930 لم يكن ريموند أرون لاحق لأحداث فرنسا و هي تحت سيطرة الفكر الماركسي و بالتالي كما أعجب توكفيل بالديمقراطية الأمريكية كذلك ريموند أرون أعجب بفلسفة ماكس فيبر و هي مرتكزة على أفكار النيوكانطية حيث لم يعد فيها للميتافيزيقيا أن تصبح حقول فلسفة و بالتالي تحدث ماكس فيبر بأن الدين كان سحر للعالم و قد زال و لم يعد يلعب أي دور بنيوي لا في السياسة و لا في الإقتصاد و لا في الإجتماع و بالتالي لم تعد الفلسفة المثالية الألمانية مفيدة في تقديم ثمرتي الهيغلية و الماركسية و ليس ذلك فحسب بل أن الفلسفة المثالية منذ إفلاطون و مرورا بالفكر المدرسي المسيحي و الى المثالية الالمانية لم تعد ذات جدوى.
و بعدها يصبح الإنسان محكوم بأن يعيد خلق عالمه وفقا لقدرة عقله البشري و أن مسيرته تراجيدية و مأساوية بلا قصد و لا معنى و لا يعالجها غير القرار و الإختيار و كيفية إدراك الشرط الإنساني و هنا تكمن أهمية السياسي و الإقتصادي في تجسيد فكرة الشرط الإنساني و من قبل قرن من الزمن لمع نجم السياسي في قدرته على إختيار الشرط الإنساني و أفل نجم المؤرخ التقليدي و كذلك لمع نجم الإقتصادي في إمكانية تجسيد الشرط الإنساني عبر النظريات الإقتصادية و أفل نجم القانوني. و لهذا نجد اليوم أن القانوني السوداني و المؤرخ التقليدي السوداني أصعف حلقتين في سلسلة النخب السودانية الفاشلة.
و حتى يكتمل نصاب الديمقراطية في السودان لكي تكون بديلة للفكر الديني ستمر على مسرح الأحداث في السودان أهوال أقلاها الحرب العبثية التي تدور الآن بين جيش الكيزان و صنيعته الدعم السريع و سيحترق بنيران الأهوال التي ستمر كل واهم بنصر لجيش الكيزان أو واهم بأن صنيعة الكيزان الدعم السريع كأداة موت ستكون يوما نصيرة لمسيرة الحرية. فاقد الشئ لا يعطيه لأن أتباع الدعم السريع نتاج ثقافة الأسرة الجذعية التي لا تنتج غير نظام سلطة الأب و ميراث التسلط أما جيش الكيزان تحت قيادة العدميين تربية الكيزان أعداء الإشراق و الوضوح و بالتالي لن ينتصروا للحياة أبدا.

taheromer86@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدیمقراطیة الأمریکیة النخب السودانیة الدعم السریع فیما یتعلق یمکن تحقیق رجال الدین هذا ما لا یمکن

إقرأ أيضاً:

وحدة السودان

بسم الله الرحمن الرحيم
السودان بعد أن ألحت عليه الخطوب، وألحفت عليه الكوارث، هل يستطيع أن يحتفظ بقوميته؟، يحتفظ بوحدته وشعوره، وبمثله العليا وعقله، هل تستطيع أقاليمه، ومدنه، وقراه، بعد هذه الأحداث العظيمة التي هزتها، أن تنخرط في غير عنف ولا اكراه، بعد أن تضع الحرب أوزارها، في نفس الوحدة التي كانت عليها؟، وحدة التفكير، والشعور، والآلام، والأمال، هل ستظل محتفظة بهذا كله؟ أم تنقسم ولاياته وتستقل بعضها عن بعض؟
الشيء الذي استطيع أن أجزم به وأنا مطمئن، أن شعب السودان على اختلاف شرائحه، وسحنه، وطوائفه، ليس بحاجة إلى فطنة أو ذكاء، حتى يحكم على الأشياء حكماً صحيحاً أو مقارباً، فالشعب الذي نفذت بصيرته، وأصبح عقله قادراً على أن يفهم الساسة حينما يتحدثون، حتماً سيبتغي إلى الوحدة وسائلها، وسيسلك إليها سبلها، وسيكون مهيأً دائماً لأن ينهض بواجباتها، لأنه مستيقن بقلبه، وعقله، أن أبغض شيء إليه، وأنآه عنه، هو الفرقة والتشرذم.
السودانيون المقيم منهم أو الظاعن، المطمئن أو القلق، الموسر أو المعسر، سيجدون في أنفسهم هذه المشاعر الفياضة التي لا ينكرها إلا المكابرون، مشاعر الألفة والتضامن التي تملك القلوب، وتسيطر على الضمائر، سنرى مهد العصبية سيهجر أو كاد يهجر، وسيعود الناس إلى سجيتهم القديمة، يعودون إلى سماحة طبعهم، ونبل أخلاقهم، وستخضع تلك القبائل النافرة التي أشعلت أوار الحرب إلى ما يبتغيه الأغلبية، وسيخوضون مع هذه الأغلبية فيما يخوضون فيه، وستفرض عليهم بنود الوحدة التي يأنفون منها حتى يأخذوا بحظ منها، وسيكون التعليم هو سبيل هذا الأخذ، حينها تتحقق الصلة بينهم وبين الوحدة دون إكراه، أو ارغام، أو عنف، نعم هذا ما سيتحقق، كل هذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الوحدة كامنة بعقل السواد الأعظم من هذا الشعب وبشعوره ووجدانه ومتربعة في حناياه.
لقد صاغت الحرب عقولنا، ولعل من مأثرها أننا لن نتردد ولن نتلكأ في أن تجري الأمور على هذا النحو بيننا وبين من أشعلوا نائرتها، سنظل على هذه الخصومة المتصلة، والحرب التي لا تأصرها آصرة، حتى تثوب تلك القوى إلى رشدها، ولن نتركها تمضي هائمة حتى ندبر لها حبالاً وثيقة حول أعناقها، نفعل ذلك حتى تبقى الصلة متينة بيننا وبين ماضينا التليد، الذي لا يجوز التفريط فيه، فنحن أمة لا تعنو إلى قهر، أو تطمئن إلى غضاضة، و"محل الرهيفة تنقد" كما يقول المثل السوداني.
د.الطيب النقر

nagar_88@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • في ندوة بالقاهرة: مجمل الخسائر السودانية 127 مليار دولار ومصر الأولى بإعادة الإعمار
  • من الكيزان تعلم الجميع الكذب وتشويه الحقائق
  • وحدة السودان
  • بالمنطق .. صلاح الدين عووضه..أيام الحرب!!…
  • “عافية”.. خطوة من القنصلية السودانية في أسوان لتخفيف معاناة المهجرين
  • كيكل: نحن جزء لا يتجزأ من القوات المسلحة السودانية، وعلى أهبة الاستعداد لترتيبات الدمج والتسريح
  • هل تلعب تركيا مع الطرفين في الحرب الأهلية السودانية ؟
  • مناوي يقول إنه ناقش مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي أوضاع الحرب السودانية
  • بالمنطق.. صلاح الدين عووضه : عجائب!!…
  • وزير التربية: دعم النخب والكفاءات في مجال الرياضيات