بريطانيا وإيران: تشكُّل الخليج العربي الحديث.. قراءة في كتاب (2 من 2)
تاريخ النشر: 23rd, August 2024 GMT
الكتاب: بريطانيا وإيران: تشكُّل الخليج العربي الحديث
الكاتبة: ولاء إبراهيم حسن حامد.
الناشر: مركز أركان للدراسات والنشر، الكويت، 2022م
الصفحات: 242 صفحة
تشكل الخليج العربي الحديث:
ظلّت منطقة الخليج العربي تحظى بأهمية كبيرة لدى الحكومة البريطانية، معتمدة على مجموعة من القواعد العسكرية؛ منها قاعدة الجفير في البحرين، والقاعدة الجوية في مسقط، فضلًا عن قوة كشافة عُمان، التي كانت تحت قيادة بريطانيا ومسلّحة من قِبلها، وعلى الرغم من النفوذ البريطاني الواسع في المحيط الهندي والخليج العربي، فإن مكانة بريطانيا بدأت تتراجع في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لا سيما بعد إعلان استقلال الهند عام 1947، الذي فقدت على إثره الكثير من ممتلكاتها، وتضاءلت مسئولياتها الدفاعية فيما وراء البحار.
الأسباب التي دفعت بريطانيا للانسحاب من الخليج العربي :
1 ـ باستقلال الهند عام 1947، لم يعد الخليج مهمًّا لبريطانيا كطريق لمستعمراتها الكبرى للهند، وهو السبب الرئيس الذي لأجله سيطرت بريطانيا على منطقة الخليج العربي.
2 ـ تراجع الاقتصاد البريطاني، لا سيما بعد انخفاض قيمة العملة منذ نوفمبر 1967، وهو الأمر الذي أجبر حكومة العمال على إنقاذ اقتصادها عن طريق اتخاذ تدابير شديدة لتخفيض المصروفات، بما في ذلك إخلاء جميع القوات البريطانية من شرق آسيا، والخليج العربي..
3 ـ ميل الحكومة البريطانية لإرضاء الرأي العام الداخلي المعارض لالتزامات بريطانيا في الخارج، لا سيما فيما يتعلق بتحمل بريطانيا عبء الدفاع عن المصالح النفطية، التي لم تكن آنذاك مقتصرة على بريطانيا فحسب، بل كانت تهمُّ دولًا أخرى؛ كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان.
4 ـ تطور الأسلحة العسكرية لا سيما بعد ظهور القوة النووية وحاملات الطائرات؛ وهو ما جعل التواجد البريطاني التقليدي في المنطقة لا قيمة له.
تقول الكاتبة:" ظل أمر الفراغ الذي يُحدثه الانسحاب البريطاني الشغل الشاغل لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية، وحاولت بريطانيا ترتيب أوضاع الخليج العربي؛ لضمان الاستقرار بعد الانسحاب البريطاني، تأكيدًا لمقولة ونستون تشرشل: "إذا حكمت بريطانيا بلدًا مائة عام، فإن سياستها ستحكم البلد بعد انسحابها منه مائتي عام أخرى".، طرحت الولايات المتحدة من أجل الحفاظ على مصالحها في منطقة الخليج العربي؛ مبدأ نيكسون عام 1969، ولكن دون تدخل أمريكي مباشر، عبر الاعتماد على حلفاء أقوياء كإيران، والمملكة العربية السعودية؛ للقيام بمسئولية حفظ الأمن.
الثورة الإسلامية واحدة من أهم الأحداث التي جرت في الربع الأخير من القرن العشرين؛ فقد أشار السفير البريطاني في طهران، أنتوني بارسونز، إلى أن الثورة الإيرانية أحدثت زلزالًا سياسيًّا مشابهًا للزلزالين الذين صاحبا الثورتين العظيمتين في التاريخ الأوروبي الحديث: الفرنسية 1789، والروسية عام 1917.شهد عام 1973 حدوث أزمة الطاقة العالمية، وتأثيرها المباشر في سياسة الدول وعلاقاتها الخارجية. وفي هذه المرحلة، أصبحت إيران بلدًا مهمًّا في السياسة العالمية؛ لما تحتويه من ثروات نفطية هائلة، إضافة إلى استكمالها بناء قواتها العسكرية والأمنية بمساعدة الدول الأوروبية، ومن ثم تطلعت إلى سياسة خارجية مختلفة، تؤمّن مصالح إيران القومية، وتلبّي طموحات الشاه محمد رضا الشخصية، وذلك بعدما اعترفت غالبية دول العالم بوقوفه في وجه التحديات الداخلية والخارجية، إذ هيأت الأحداث الدولية لإيران مجالًا آخر للتحرك الخارجي، وأبرزها أحداث عام 1973.
تقول الكاتبة عن القروض التي قدمتها إيران لبريطانيا "أسهمت القروض الإيرانية التي قدمتها للبنوك البريطانية في مساعدة بريطانيا على تجاوز أزمتها المالية في 1968: 1972؛ فقد أخذت المصارف البريطانية تعمل بالأموال الإيرانية منذ بداية السبعينيات، فضلًا عن تقديم إيران الأموال للمصارف الأمريكية، ومشاركتها في تأييد الرؤساء الأمريكان في الدعايات والحملات الانتخابية، وهذا الأمر شجع بريطانيا على تأييد سياسة الشاه الخارجية".
اقترضت بريطانيا من بنك ملي الإيراني قروضًا لبريطانيا تقدر بقيمة 200 مليون دولار لبلدية لندن العاجزة عن توفير الخدمات، كما قدم البنك نفسه قرضًا لشركة جرومان الأمريكية لصناعة الطائرات بقيمة 75 مليون دولار، أي أن الوظيفة الأكثر أهمية التي تقوم بها المصارف الإيرانية هي الدور التسليفي الذي حل محل مصارف البلدان الصناعية الأخرى، واستطاعت إيران -من خلال القروض- توريد الأسلحة والطائرات الحديثة، واستمرت في سياسة تقديم القروض لبريطانيا. وخلال عام 1975 قدمت طهران 2.5 مليار دولار كقروض طويلة الأمد، أو استيفاء جزء منها على شكل أسلحة ومعدات عسكرية وتشييد المصانع الحديثة.
كثّفت بريطانيا والدول الأوروبية مبيعاتها من الأسلحة المتطورة والمواد الأساسية لإيران، رغبة منها في سحب عائدات النفط الإيرانية من خلال توريد الأسلحة لإيران، وهذا التوجه الغربي أسهم في تلاقي مصالح إيران وسياسة بريطانيا، على الرغم من انتقاد دول أوروبا سياسة إيران الخارجية تجاه أزمة النفط، حيث اضطرت بريطانيا إلى تأييد سياسة الشاه الخارجية حفاظًا على مصالحها الاقتصادية، ولم تُبد أي عمل نحو موقف الشاه وإصراره في زيادة الأسعار.
إن الخطوة التي دفعت إيران لمد خيوط التعاون مع الاتحاد السوفييتي هي ضمان تقبُّلها إستراتيجية إيران لإنشاء مفاعل نووي بدون معارضة، علماً أن اتفاق انشاء برنامج إيران النووي كان عام 1957م، وفي زيارته الأخيرة للاتحاد السوفيتي، طلب رئيس وزراء إيران من السوفيت الإسهام في إنشاء المفاعل النووي الذي تنوي إيران بناءه داخل أراضيها، وبالرغم من أن إيران تعلم بأن رفض الاتحاد السوفيتي لتلك التوجهات سيكون حاضرًا لمثل هذه الطلبات، فإنها جزء من المناورة الخارجية لإيران، وإن رفض السوفيت يشجع إيران على المضي قدمًا تجاه بريطانيا والدول الرأسمالية.
جاء التغير الذي طرأ على السياسة الأمريكية تجاه إيران، ودخولها شريكًا في البرنامج النووي الإيراني؛ نتيجة الضعف الذي أصاب الجانب البريطاني في الجانب السياسي؛ لذا كان من الضروري تعويض الدور البريطاني، الذي أخذ يعوّل على الجانب الاقتصادي. وكانت الولايات المتحدة تدرك أنها إذا رفضت التعاون مع إيران فسوف تلجأ الأخيرة إلى منافسيها في المنطقة، وأبرزهم الاتحاد السوفيتي، الذي كان سينتهز الفرصة ليعطي لإيران ما تريده..
ربط الاتحاد السوفييتي التعاون العسكري والنووي مع إيران بابتعاد سياستها الخارجية عن بريطانيا والدول الرأسمالية، مع السيطرة على الشركات النفطية والأمنية في إيران؛ إذ كان الاتحاد السوفيتي يضغط على إيران لتأميم النفط على غرار ما قام به العراق تجاه الشركات البريطانية، وقد جاء هذا الطلب السوفيتي بعد رفض إيران تجديد الاتفاقية النفطية الموقعة عام 1954 مع الكونسوريتوم، إذ اعتبر السوفييت الرفض الإيراني خطوة إيجابية في تحييد سياسة إيران الخارجية عن بريطانيا وأوروبا، وتغيرًا واضحًا في طريق الاستقلال السياسي.
رأت الكاتبة أن سياسة إيران الخارجية خلال الفترة 1975: 1977، متشابكة وواسعة في المنطقة والعالم الخارجي؛ إذ بدأت بتشجيع الدول العربية على الابتعاد عن الدعم الغربي، والاعتماد على إيران وقدرتها العسكرية. وقد ازداد ارتباط إيران بالغرب، والأكثر من هذا أخذت إيران تنفتح على إسرائيل أكثر من السابق حتى اعلان الثورة الإيرانية 1979م.
أحدثت الثورة الإسلامية في إيران العديد من المتغيرات في السياسة الإيرانية، التي ألقت بظلالها على طبيعة الروابط بين إيران وبريطانيا. فبعد أن انتهت الحاجة إلى وجود الخبراء والفنيين العسكريين البريطانيين، الذين كانوا يعملون في وزارة الدفاع الإيرانية في أثناء العهد البهلوي، عاد هؤلاء إلى بلادهم في الخامس من مارس 1979، وقد دق هذا الحدث توترًا في العلاقات العسكرية، التي كانت قائمة بين بريطانيا وإيران، وهو الأمر الذي دفع حزب المحافظين إلى الإعلان بأن الوضع في الشرق الأوسط أصبح خطيرًا للغاية، وأن الاتحاد السوفيتي سيكون هو المستفيد الأكبر من جراء انسحاب إيران من التزاماتها الدفاعية مع الغرب، ولا سيما في منطقة الخليج العربي، في وقت لم تكن إيران قد أعلنت انسحابها رسميًّا من اتفاقيات الدفاع المشترك، التي كانت قد عقدتها مع الدول الغربية، بيْد أن توجهات القادة الإيرانيين دفعت بعض الساسة البريطانيين إلى الاعتقاد بأن الخطوات المستقبلية للحكومة الإيرانية ستكون بذلك الاتجاه..
يبدو أن تخوف بعض المسؤولين البريطانيين من انسحاب إيران من منظومة الدفاع الغربية كان في محله؛ ففي الخامس من أبريل 1979، أعلنت حكومة إيران انسحابها رسميًّا من الحلف المركزي، وهو الأمر الذي دفع الحكومة البريطانية منتصف الشهر نفسه إلى إرسال وفد من وزارة الدفاع البريطانية؛ للتباحث مع نظرائهم الإيرانيين حول مسألة الديون البريطانية المتعلقة بصفقات الأسلحة، التي عقدها النظام الإيراني السابق، والتي بلغت قيمتها قرابة 85 مليون جنيه إسترليني. وعقب انتهاء المحادثات التي جرت بين الطرفين، سلّم الوفد البريطاني المفاوض حال عودته إلى بلاده الحكومة البريطانية تقريرًا مفصلًا عن المفاوضات، واصفًا إياها بأنها "جرت في جو ودّي وبناء، وأن وزارة الدفاع الإيرانية أعربت عن عزمها على دفع جميع الأموال المستحقة".
تبين بوضوح أنه ليس لبريطانيا حليف دائم، وإنما مصالح دائمة؛ فحليفها وشريكها السياسي رضا شاه كانت هي المسئولة عن وصوله إلى الحكم؛ بعد أن وجدت أن مصالحها آنذاك تتطلب وجود حكومة قوية قادرة على المحافظة عليها.لقد أسهم التقارب بين الاتحاد السوفييتي وإيران آنذاك في المتغيرات التي حدثت في سياسة بريطانيا تجاه إيران؛ إذ شعرت تاتشر بمدى خطورة ذلك على مصالح الغرب في المنطقة، ولا سيما بعد المحادثة التي أجرتها في السادس والعشرين من يونيو 1979 مع رئيس الوزراء السوفيتي أليكسي كوسيجين، الذي أكد من خلالها أن نقص الطاقة لم يعد عاملًا مفيدًا للتوسع الاقتصادي السوفيتي، وأن سبب ذلك يعود بالدرجة الأساس إلى الاعتماد على الغاز الإيراني، الذي يدفع ثمنه من المشاريع الصناعية السوفيتية في إيران.
أوضحت الكاتبة في ختام تتبع العلاقات البريطانية-الإيرانية خلال الفترة ما بين 1951: 1979، الآتي:
1 ـ قامت العلاقات بين بريطانيا وإيران، على أسس غير متكافئة؛ فبريطانيا كانت هي الإمبراطورية ذات السيادة وصاحبة النفوذ الكبير في الشرق الأوسط والخليج العربي، أما إيران فقد كانت لها أهمية كبيرة من وجهة النظر البريطانية؛ لوقوعها على أحد الطرق المؤدية إلى الهند، المستعمرة البريطانية الأكثر أهمية.
2 ـ تبين بوضوح أنه ليس لبريطانيا حليف دائم، وإنما مصالح دائمة؛ فحليفها وشريكها السياسي رضا شاه كانت هي المسئولة عن وصوله إلى الحكم؛ بعد أن وجدت أن مصالحها آنذاك تتطلب وجود حكومة قوية قادرة على المحافظة عليها.
3 ـ سارت العلاقات بين بريطانيا وإيران، في عهد محمد رضا شاه، بشكل جيد، حتى قيام الحكومة الإيرانية برئاسة مصدق بتأميم النفط عام 1951، الذي كان مسيطَرًا عليه من قِبل شركة النفط الأنجلو-إيرانية؛ وهو ما تسبب في تصدع كبير في العلاقات بين البلدين.
4 ـ اتسمت العلاقات البريطانية الإيرانية بعد سقوط مصدق بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وانشغال الجانبين بالمباحثات النفطية، إذ كانت بريطانيا قد تأثرت بسبب تأميم شركاتها، بيْد أنها تمكنت من العودة مرة أخرى إلى استثمار النفط الإيراني ضمن اتحاد الكونسورتيوم، الذي كانت قد ضمنت لنفسها النسبة الأكبر فيه كما أوضحنا.
5 ـ أوضحت الدراسة أن المساعدة العسكرية كان لها دور كبير في توجيه دفة العلاقات بين نظام محمد رضا شاه وبريطانيا؛ فبينما كان الشاه يسعى لتقوية جيشه وأنظمته الدفاعية؛ لقمع المعارضة، وتحقيق أطماعه التوسعية على حساب دول الخليج، معوِّلًا على المساعدة البريطانية والأمريكية في هذا الخصوص؛ كانت بريطانيا والولايات المتحدة تعُد إيران للقيام بدور الحارس للمصالح الغربية في الخليج العربي، وتقابلت المصلحتان.
6 ـ ثبت من خلال الدراسة أن الثورة الإسلامية واحدة من أهم الأحداث التي جرت في الربع الأخير من القرن العشرين؛ فقد أشار السفير البريطاني في طهران، أنتوني بارسونز، إلى أن الثورة الإيرانية أحدثت زلزالًا سياسيًّا مشابهًا للزلزالين الذين صاحبا الثورتين العظيمتين في التاريخ الأوروبي الحديث: الفرنسية 1789، والروسية عام 1917.
إقرأ أيضا: بريطانيا وإيران: تشكُّل الخليج العربي الحديث.. قراءة في كتاب (1 من 2)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الكويت الكويت كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة منطقة الخلیج العربی الحکومة البریطانیة الاتحاد السوفیتی بریطانیا وإیران البریطانیة ا العلاقات بین فی المنطقة من خلال
إقرأ أيضاً:
كيف وثّق كتاب المغاربة والقدس تاريخ المغاربة وتضحياتهم في بيت المقدس؟
يقدم كتاب "المغاربة والقدس: جوانب من العلاقات التاريخية" -للباحث المغربي في التاريخ الإسلامي بوشتى بوكزول- قراءة توثيقية وتحليلية في عمق العلاقة التي جمعت المغاربة بمدينة القدس، انطلاقا من وعي بأن هذه الصلة ليست عرَضية بل هي ثمرة تداخل العقيدة والتاريخ والموقف.
ولا يعد الكتاب بحثا أكاديميا فحسب، بل صرخة ضد محاولات النسيان، وتذكيرا بأن المغاربة ظلوا عبر التاريخ مرابطين في أكناف بيت المقدس، يجاورون المسجد الأقصى، ويساهمون في رعايته والذود عنه.
ويرى الكاتب أن "الكتابة هي بداية كل فعل" وأن مقاومة الانهزام تبدأ بالوعي، وبالعودة إلى الذاكرة التي تسكنها شواهد الوقف، ورسائل السلاطين، ومواقف العلماء، وحضور المغاربة في قلب المدينة المقدسة.
ويستشرف واقع مدينة القدس في ظل ما تشهده يوميا من محاولات تهويد مستمرة، واقتحامات متكررة للمسجد الأقصى، واندفاع متزايد نحو التطبيع، وسط صمت عربي رسمي وتخاذل عالمي.
كما يكتسي هذا الكتاب أهميته، بعدما تجاوزت الغطرسة الصهيونية كل الحدود ساعية الى إبادة شعب بكامله واحتلال أراضيه، فهو يصل الماضي بالحاضر، ويجدد التذكير بأن القدس جوهر الصراع، ومفتاح السيادة، مؤكدا أن عروبة وإسلامية القدس حقيقة تاريخية وحضارية ودينية لا تقبل الطمس أو التزوير.
يقع الكتاب في 3 فصول، اعتمد فيها المؤلف على منهجين هما:
المنهج التاريخي: أعاد بواسطته بناء صورة الوجود المغربي في القدس من خلال تتبع الوثائق والوقائع، خاصة كتب الرحلات التي وصف فيها الرحالة المغاربة حضورهم العلمي والروحي في المدينة، إلى جانب وثائق الوقف التي سجلها قضاة المحكمة الشرعية بالقدس، والتي تشهد على استقرار المغاربة هناك، ومشاركتهم في الحياة اليومية والدينية.
المنهج الوصفي التحليلي: رصد به ملامح الحضور المغربي من خلال الوقف والمجاورة والجهاد، والبحث في الأثر الاجتماعي والديني الذي خلفته هذه العلاقة، سواء في القدس أو في الوعي الجمعي المغربي، إذ ما تزال القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في المسيرات الشعبية والمواقف السياسية المناهضة للتطبيع.
وخصص الفصل الأول لسبر الجوانب العامة لمدينة القدس باعتبارها "مسرح الأحداث" فقدم قراءة في تاريخ المدينة، وجغرافيتها، ومكانتها الإستراتيجية، وبنيتها الديموغرافية، ثم توقف عند مركزيتها الدينية في الإسلام.
وتناول الفصل الثاني تجليات العلاقة التاريخية بين المغاربة والقدس، من خلال روابط التعبد والمجاورة، والرحلة في طلب العلم، والانخراط في الجهاد، كما تطرق إلى لحظة استنجاد القائد صلاح الدين الأيوبي بالسلطان يعقوب المنصور الموحدي، مبرزا دلالتها السياسية والدينية.
إعلانوبين الفصل الثالث كيف ساهمت أوقاف المغاربة في دعم الحياة الدينية والاجتماعية داخل المدينة، واستقرار المذهب المالكي بها، وتثبيت الحضور المغربي الرمزي والمادي، كما أبرز تعلق ملوك المغرب بالقدس، وما نجم عنه من مبادرات لحمايتها.
القدس ليست مدينة داخل وطن يدعى فلسطين، بل فلسطين تستوعب رمزيا داخل القدس
بواسطة مؤلف الكتاب بوشتى بوكزول
القدس هوية حضاريةيرسم الكاتب معالم مكانة القدس في الوجدان الفلسطيني والعربي والإسلامي، بوصفها القلب النابض لفلسطين، ومصدر انتمائها الحضاري والروحي، لا مجرد نقطة على الخريطة.
فالقدس ليست "مدينة داخل وطن يدعى فلسطين، بل فلسطين تستوعب رمزيا داخل القدس" لما تمثله من عمق ديني وتاريخي وإستراتيجي.
ويتجلى هذا البعد في خصوصيتها التاريخية منذ الحقبة الكنعانية، حيث تعاقبت عليها حضارات متعددة، وبرزت فيها أسماء مثل يبوس، أورساليم، إيلياء، وكلها تؤكد جذورها العربية.
ووفق إجماع المؤرخين، تأسست القدس على يد اليبوسيين، وهم قوم ساميون من الجزيرة العربية، هاجروا واستوطنوا المنطقة في الألف الثالثة قبل الميلاد، وشيدوا مدينة محصنة، وقد بقيت المدينة كنعانية الأصل رغم محاولات التهويد في مراحل لاحقة.
ويؤكد الكاتب، مستحضرا نصوص التوراة وأبحاث الآثار، أن الادعاء الصهيوني بيهودية هذه المدينة لا يستند إلى معطى تاريخي واحد، إذ لم يعثر على آثار يهودية تثبت وجود الهيكل المزعوم، بل إن بعض النصوص التوراتية ذاتها تصف القدس بأنها مدينة غريبة عن اليهود، كما أن وجودهم بها كان هامشيا، ومؤقتا، وغالبا ما طردوا منها من قبل الإمبراطوريات المتعاقبة.
ومن هنا، فإن القدس لا تمثل فقط موقعا ذا أهمية سياسية، بل هي وعاء حضاري وسر من أسرار الانتماء العربي والإسلامي، يختصر فيه التاريخ والجغرافيا والدين والوجدان.
القدس موقع إستراتيجييفتح الموقع الجغرافي للقدس آفاقا واسعة لفهم بعدها الإستراتيجي الذي جعل منها محط أنظار القوى الكبرى عبر التاريخ، حيث تقع في ملتقى قارات العالم القديم، وتتحكم في محاور الربط بين المشرق والمغرب، وبين بلاد الشام ووادي النيل.
وهذا التموضع، وسط السلسلة الجبلية الفلسطينية، وفي قلب الأرض المقدسة، أكسبها خصوصية مزدوجة، والانفتاح والانغلاق في آن واحد، مما جعلها عرضة لأكثر من 16 عملية تدمير واحتلال.
ويؤكد الكاتب أن من يمتلك قرار القدس يتحكم في مفاصل الخريطة السياسية للمنطقة، لما تمثله من عقدة مواصلات، ومنطقة تماس بين حضارات متصارعة.
وهذا ما جعل المشروع الصهيوني يتخذ من القدس مركزا للهيمنة الإستراتيجية، بتخطيط استعماري يستبدل الاستعمار التقليدي باستيطان اليهود.
فالقدس هي الفاصل والواصل بين جناحي الوطن العربي والإسلامي، واستعادتها تعني إعادة اللحمة الجغرافية والتاريخية بين أجزائه. ومن هنا، يكتسب الصراع حول المدينة طابعا وجوديا، إذ إن تحرير القدس يعني إسقاط الأساطير المؤسِّسة للدولة الصهيونية، ويفتح الباب لتفكيك حضورها العسكري والاستعماري، ليس فقط في فلسطين بل في عموم الإقليم، خصوصا مع ارتباط ذلك بالتحكم في ممرات إستراتيجية كقناة السويس والبحر الأحمر.
إعلانومن هذا المنطلق، تصبح المطالبة الدائمة بالقدس وعروبتها إحدى أدوات المواجهة الفعالة، ومصدرا لتقويض شرعية الاحتلال، وزعزعة أسسه الأيديولوجية والسياسية، لأن بقاء القدس تحت السيطرة الصهيونية يعني استمرار التشظي العربي، بينما يمثل تحريرها بوابة لوحدة وتحرر شاملين.
الشيخ محمد بن عبد السلام بن المهدي المزكلدي، عالم ومجاهد ولد في شمال المغرب وهاجر إلى فلسطين وسكن مدينة القدس في عشرينات القرن العشرين.
استقر الشيخ في القدس وكان بيته في حارة المغاربة بجوار حائط البراق، وكانت المدينة في تلك الفترة خاضعة للانتداب البريطاني.
شارك الشيخ في ثورة… pic.twitter.com/3zDegy4fit
— الجزيرة نت | قدس (@Aljazeeraquds) November 5, 2024
روابط التعبد والمجاورة والنصرةيؤكد الكاتب أن علاقة المغاربة بالقدس الشريف تجسدت في روابط التعبد والمجاورة والنصرة. فمنذ اعتناقهم الإسلام، توجهت قلوبهم إلى المسجد الأقصى باعتباره ثالث الحرمين، فصار مقصدهم بعد الحج، ومهوى أفئدتهم، وزادهم في رحلة الشوق، حيث كانوا يمرون بالشام والقدس عند عودتهم من الحجاز، ليُصلوا في المسجد الأقصى ويزوروا حائط البراق.
ويشير الكاتب إلى أن آلاف المغاربة استقرّوا في القدس، وتزوجوا، وبنوا بيوتا، وأسسوا مدارس وزوايا، وشكلوا حيا مستقلا أصبح يسمى "حارة المغاربة" التي احتلت قلب المدينة المقدسة.
ويؤكد أن هذه المجاورة لم تكن مجرد إقامة، بل أصبحت رباطا واعيا بهدف تحصيل الأجر والثواب من جهة، وحماية المدينة المقدسة من الأطماع من جهة ثانية.
وقد حملهم هذا الارتباط التعبدي على نقل أنماطهم العمرانية والثقافية، فحافظوا على المذهب المالكي، وتحدثوا بلهجات مغربية، واحتضنهم المكان حتى صارت لهجاتهم وأزياؤهم مقدسية في الظاهر، مغربية في الجوهر. وبهذا، لم يكن الحضور المغربي عاطفيا فقط، بل أضحى امتدادا حضاريا متجذرا في هوية المدينة.
كما شكل الجهاد الرابطَ القوي بين أهل المغرب والقدس الشريف، إذ تميز المغاربة عبر التاريخ بصلابتهم وشجاعتهم في الدفاع عن الإسلام ونصرة بيت المقدس. ولقد شاركوا في مقاومة الحملات الصليبية، حيث استنجد القائد صلاح الدين الأيوبي بالسلطان المغربي يعقوب المنصور الموحدي طالبا المدد بالأساطيل والقوات لدعم الجهاد في الشام، فكان لذلك الأثر الكبير في استعادة القدس وحماية المقدسات.
يسلط الكاتب الضوء على بعدٍ آخر من العلاقة بين المغاربة والقدس يتمثل في الرحلة في طلب العلم، والتي كانت من أبرز ملامح حضور المغاربة في المشرق. فالقدس إلى جانب دورها التعبدي، كانت منارة للعلم تستقطب العلماء والطلبة من كل الآفاق، وكان للمغاربة فيها نصيب وافر.
ويرصد الكاتب عشرات الأسماء من الرحالة والعلماء المغاربة الذين شدوا الرحال إلى بيت المقدس، ومنهم ابن بطوطة، وابن جبير، وابن العربي، والشريف الإدريسي، والقاضي عياض وغيرهم. ولم يمر هؤلاء فقط، بل درسوا، ودوّنوا، وتفاعلوا مع علماء القدس، وتركوا بصمات علمية خالدة. فابن العربي التقى هناك أبا بكر الطرطوشي، وجلس إلى علماء المسجد الأقصى، وذكر مشاهداته الدقيقة لصخرة المعراج. أما الإدريسي فشبه مسجد الأقصى بمسجد قرطبة من حيث الاتساع والعظمة.
ولا يقتصر الأمر على العلم فقط، بل إن هذه الرحلات كانت جسرا ثقافيا ومعرفيا نقل من خلاله المغاربة أوصاف القدس وأسوارها وأبوابها إلى المغرب، ليعيشها الناس هناك بالحرف والصورة. وقد أنتج هذا التفاعل تراثا أدبيا وعلميا غنيا، جمع بين الحس المعرفي والوجداني، فصار وصف القدس منقوشا في الذاكرة المغربية، حتى لمن لم يزرها.
إعلانوتتجلى أهمية هذا البعد العلمي في كونه أداة توثيق ومقاومة للتهويد، فشهادات العلماء المغاربة تحفظ معالم المدينة قبل الاحتلال، وتفند الروايات الصهيونية، وتؤكد أن للقدس بعدا علميا وروحيا لا يفهم إلا في سياقها الإسلامي والعربي، وهو ما حرص عليه المغاربة جيلا بعد جيل.
يشكل وقف حارة المغاربة التعبير الأوضح عن التحام المغاربة بالقدس، وقد تحولت هذه الحارة من حي سكني إلى رمز للهوية والرسوخ المغربي في قلب المسجد الأقصى.
ويشير الكاتب إلى أن هذا الوقف لا يُفهم إلا في سياق وعي المغاربة العميق بقيمة الرباط، ورغبتهم في الإقامة الدائمة على مقربة من أولى القبلتين.
ويستعرض المؤلف المراحل التي مرت بها الحارة، بدءا من استقرار المغاربة بعد تحرير القدس من الصليبيين على يد صلاح الدين الذي خصص لهم الحارة مكافأة على مشاركتهم في الجهاد.
ويؤكد أن هذه الحارة لم تكن فقط فضاء سكنيا، بل ضمت مدارس وزوايا ومساجد ومرافق حياتية تم تأسيسها بوقف مغربي خالص.
ويبين الكاتب أن حارة المغاربة كانت تقع بجوار حائط البراق، في الجزء الجنوبي الغربي من المسجد الأقصى، وأن باب المغاربة سمي بهذا الاسم نسبة إلى موقع الحي، مما يعكس رسوخ الحضور المغربي مكانيا ووظيفيا وروحيا.
ولكن الكارثة الكبرى، كما يسرد المؤلف، وقعت بعد احتلال القدس عام 1967، حين أقدمت قوات الاحتلال الصهيوني على تدمير الحارة بالكامل وتسويتها بالأرض، في محاولة لطمس الوجود المغربي، وفتح ساحة أمام حائط البراق.
وهكذا، فإن حارة المغاربة تمثل اليوم ذاكرة جريحة، تعيد طرح سؤال السيادة، وتحمّل الأجيال المغربية مسؤولية استعادة الحق المعماري والحضاري، وفضح محاولات التهويد عبر المسارات القانونية والتوثيق التاريخي.
يقع جامع المغاربة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد الأقصى المبارك، وسمي بهذا الاسم نسبة للمغرب العربي.
ولم يعد الجامع يستخدم اليوم للصلاة، وحُولت إحدى قاعاته إلى مقر للمتحف الإسلامي وتعرض فيه مقتنيات تاريخية متنوعة.
للمزيد: https://t.co/HQfYpp5IgU pic.twitter.com/OgGME2Ia32
— الجزيرة نت | قدس (@Aljazeeraquds) March 14, 2024
الوقف المغربي جهاد وتملك مشروعيرى الكاتب أن الوقف المغربي في القدس كان بمثابة مؤسسة حضارية ورافعة إستراتيجية تعكس وعي المغاربة بأهمية القدس، وتجسد امتدادهم في النسيج العمراني والاجتماعي للمدينة. ويؤكد أن هذه الأوقاف تنوعت بين مساكن، وحوانيت، ومدارس، وزوايا، وأراضٍ زراعية، خُصصت كلها لخدمة المجاورين والزائرين من المغاربة.
وقد لعبت هذه الأوقاف دورا أساسيا في تأمين الإقامة المجانية للمغاربة الوافدين إلى القدس، ووفرت لهم بيئة علمية وروحية مستقرة، مما شجع على استدامة حضورهم، بل وأسس لوجود سكاني دائم. كما أن هذه الأوقاف، حسب الوثائق العثمانية، كانت محررة بصيغ قانونية واضحة، مما يمكّن من إثبات الحق المغربي فيها حتى اليوم، رغم محاولات الاحتلال مصادرتها.
ويبرز الكاتب دور العلماء المغاربة، مثل عبد الهادي التازي، في جمع الوثائق الوقفية وتحقيقها ونشرها، لتصبح حجة في وجه الاحتلال. ويؤكد أن هذه الأوقاف كانت أيضا وسيلة للرباط والمقاومة، إذ ساهمت في تمويل الرباط العلمي والجهادي، وأنتجت توازنا ديموغرافيا لصالح المسلمين في المدينة.
وخلال ذلك يبرز تعلق الملوك المغاربة بالقدس قديما وحديثا، مبرزا الدور المهم لوكالة بيت مال القدس الشريف في دعم القدس والمقدسيين.
ويختم المؤلف هذه الفكرة بتأكيد أن أوقاف المغاربة قضية سيادة وهوية وحقوق تاريخية، وأن الدفاع عنها اليوم هو دفاع عن الرواية الأصلية للقدس، ضد مخطط صهيوني يسعى إلى محو الذاكرة وإحلال الزيف محل الحقيقة.
معلومات عن الكتاب العنوان: المغاربة والقدس.. جوانب من العلاقات التاريخية تأليف: بوشتى بوكزول دار النشر: طوب برس تاريخ النشر: 2015 اللغة: العربية الطبعة: الأولى الحجم: متوسط عدد الصفحات: 168