قرية فلسطينية تقع شمال شرق القدس، تعرف بنبضها المقاوم للاحتلال. يقال إنها سميت على نبي الله عيسى لمروره منها، أو على الملك الأيوبي المعظم عيسى، الذي قيل إنه هو من بناها.
عرّفها الكاتب والمؤرخ الفلسطيني عارف العارف قبل عام 1967 بأنها "القرية المنسية"، بينما عرّفها الاحتلال الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة بأنها "غزة الصغرى" لشدة المواجهات الدائرة فيها.
فقد برزت قرية العيساوية بكونها أولى القرى المقدسية استجابة للتطورات السياسية على الساحة الفلسطينية، وشبانها أول من يتصدى للدفاع عن المسجد الأقصى، وفي الحروب على غزة تجدهم أول من يتظاهر.
وإذا تجولت في أحياء القرية وحاراتها ترى أعلام الفصائل الفلسطينية ترفرف، وعلى جدرانها تجد صور الأسرى والشهداء وعبارات تمجد المقاومة وفلسطين.
الموقع والمساحةتقع قرية العيساوية شمال شرق مدينة القدس المحتلة، وتحدها من الشرق أراضي الكعابنة وقرية العيزرية، ومن الشمال قريتا عناتا وشعفاط، ومستوطنة التلة الفرنسية، ومن الغرب حيّا الشيخ جراح ووادي الجوز والجامعة العبرية ومستشفى هداسا، وقريتا الطور والزعيم من الجنوب.
وتبعد قرية العيساوية عن القدس القديمة 3 كيلومترات، وترتفع 731 مترا فوق سطح البحر، وتبلغ مساحتها الأصلية 10 آلاف و417 دونما (الدونم يعادل ألف متر مربع).
سبب التسمية
يروى أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى الملك المعظم عيسى، ابن أخي القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي بنى وعمّر في القدس الكثير، وهناك رواية أخرى تقول إن النبي عيسى عليه السلام جلس واجتمع مع أصحابه تحت شجرة الخروب المعمرة في القرية.
أصل سكانهايعود أصل سكان قرية العيساوية إلى أكراد العراق وسوريا وبعض قبائل الجزيرة العربية، وتعود نشأتها إلى أكثر من 900 عام.
عوائل القريةعائلات قرية العيساوية تنقسم إلى 11 حمولة رئيسية أبرزها: عائلة درويش وعائلة عليان وعائلة أبو الحمص وعائلة مصطفى حمدان وعائلة داري وعائلة أبو ريالة وعائلة درباس وعائلة عوض وعائلة محيسن وعائلة عبيد.
التعداد السكانيفي عام 1931 بلغ عدد سكان قرية العيساوية 558 نسمة، بحسب مصطفى مراد الدباغ، وفي إحصاءات عام 1961 وصل عددهم إلى 1163 نسمة.
وقدر سكان القرية عام 2023 بنحو 24 ألف نسمة، وهم مزيج من سكان القرية الأصليين والوافدين إليها.
المؤسسات الصحية
تتوفر في قرية العيساوية بعض المراكز الصحية، التي تتبع لشركات تأمين إسرائيلية، مثل مكابي وكلاليت ومؤحيدت ولؤميت.
وتوجد فيها عيادتان خاصتان للأسنان وصيدلية، ويعد مستشفى هداسا ومستشفى المطلع والمقاصد أقرب المستشفيات للقرية إذا لم تتوفر الخدمات في مراكزها الصحية.
الأماكن الدينية والأثريةيوجد في قرية العيساوية القليل من الأماكن والمناطق الأثرية، منها: البلدة القديمة التي توجد فيها معصرة للزيتون وشجرة خروب معمّرة يزيد عمرها عن ألف سنة.
كما توجد في القرية 5 مساجد هي: مسجد أحد ومسجد الصابرين ومسجد التوبة ومسجد الشهداء ومسجد الأربعين، الذي يعد أول مسجد بني في القرية ويقع في وسطها.
وتقول الروايات إن المسجد سمي مسجد الأربعين لأن عدد سكان القرية عند بنائه كان 40 شخصا فقط، ومضت فترة ما أن يولد فيها طفل حتى يموت أحد البالغين.
وتوجد أيضا مئذنة مسجد الأربعين الذهبية اللون، وهي أطول مئذنة ترتفع في سماء مدينة القدس المحتلة، إذ يصل طولها إلى 72 مترا، وتم بناؤها بجهود وتبرعات أهالي قرية العيساوية، وقد شاركت النسوة بذهبهن وحليهن وممتلكاتهن الشخصية، كما شارك طلبة مدارس القرية بحصالاتهم ومصروفهم اليومي، في حين شارك رجال القرية وأصحاب رؤوس الأموال فيها بدفع مبالغ من أموالهم الشخصية، ومنهم من اشترى بعض مواد البناء.
وجاءت فكرة تدشين أطول مئذنة في قرية العيساوية ردا على قرار حكومة الاحتلال بمنع الأذان، إذ أقرت اللجنة الوزارية الخاصة بالتشريعات مشروع قانون يمنع رفع الأذان عبر مكبرات الصوت في مساجد القدس والمناطق القريبة من المستوطنات، وداخل الخط الأخضر، وذلك تمهيدا لعرضه على الكنيست لمناقشته والمصادقة عليه.
توجد في قرية العيساوية مدرسة واحدة خاصة، وهي مدرسة أحد، يدرس الطلاب فيها إلى الصف العاشر، وتديرها وزارة التعليم العالي الفلسطينية، إضافة إلى مدرسة تربية خاصة وهي مدرسة الأمل.
وتوجد مدارس أخرى تتبع إدارتها لبلدية الاحتلال، أبرزها مدرستا العيساوية الابتدائية والإعدادية للذكور، ومدارس العيساوية الابتدائية والإعدادية والثانوية للبنات.
ويواجه قطاع التعليم في قرية العيساوية عدة مشاكل وعقبات منها الكثافة الصفية، إذ تبلغ 24 طالبا وطالبة في كل صف دراسي، وقلة الحضانات ورياض الأطفال، وقلة المواصلات للمدارس، وضعف المستوى التأسيسي للطلاب لعدم اهتمام وزارة التعليم الإسرائيلية بهذا المستوى مثلما تفعل مع سائر مدارس القدس.
قطاع الزراعة في العيساويةتبلغ مساحة قرية العيساوية 10 آلاف و417 دونما، منها 390 دونما من الأراضي القابلة للزراعة، و708 دونمات تعد أراضي سكنية.
وكحال قرى القدس اعتمد سكان القرية على الزراعة مصدرا أساسيا للمعيشة، وتحديدا المزروعات البعلية والمروية المكشوفة في القرية.
ويعد قطاع الزراعة من أهم القطاعات المتضررة بسبب الاحتلال الإسرائيلي، فقد صودرت كافة الأراضي الزراعية، ولم يبق منها غير عدد قليل من الأراضي الصغيرة جدا والمحدودة، كما تهدم جرافات الاحتلال البراكسات الزراعية عقب بنائها بشكل فوري لمنع التجذر والبقاء في الأرض.
وانحسرت الأراضي بفعل المنطقة العمرانية، والتي تحتل 8% من المساحة الكلية للقرية، وتخضع المنطقة لسيطرة بلدية الاحتلال حسب تقسيم القدس عام 1967م للضفة الغربية والقدس الشرقية.
وتبلغ مساحة الأراضي الخاضعة لبلدية القدس 6828 دونما، وهي المنطقة التي يتمركز فيها سكان القرية، الذين يحملون الهويات المقدسية.
وتمتد أراضي قرية العيساوية إلى الجهة الشرقية خارج حدود بلدية القدس، وتشكل 72% من المساحة الكلية للقرية.
وقد صنفتها إسرائيل ضمن مناطق (ج)، التي تقع تحت السيطرة الأمنية والإدارية للاحتلال، ويمنع البناء الفلسطيني فيها أو الاستفادة منها بأي شكل من الأشكال إلا بتصريح من الإدارة المدنية الإسرائيلية.
ويسكن فيها بعض من التجمعات البدوية التي تتوزع بشكل متفرق على امتداد أراضي قرية العيساوية.
التاريخ النضالي لقرية العيساويةموقع العيساوية وضعها في قلب دائرة الصراع الطويل على القدس مع الحركة الصهيونية، فهي على اشتباك دائم مع الاحتلال، وخلال سنوات الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) نشأ في القرية فصيل بقيادة المناضل أحمد علي العيساوي، استهدف قوافل شركة البوتاس الإنجليزية في طريقها من البحر الميت نحو ميناء حيفا، خلال مرورها بالمحور الشرقي من القدس، وذلك بمشاركة قرى العيزرية والطور وصور باهر.
وكانت تدريبات الثوار الفلسطينيين على استعمال الأسلحة تتم شرقي أراضي قرية العيساوية.
وخلال عامي 1937 و1938 قتل المناضلان صبحي أبو غربية وداود العلمي -تحت إشراف عبد القادر ادكيدك- اثنين من حراس الجامعة العبرية واستوليا على سلاحهما.
تحتل أبنية الجامعة العبرية ومستشفى هداسا في القدس موقعا إستراتيجيا على قمة جبل المشارف، المشرف على مدينة القدس وقرية العيساوية، واستخدمت القوات الإسرائيلية أبنية المؤسستين لأغراض عسكرية، كصنع المتفجرات وتخزين الأسلحة، كما استخدمتها قاعدة عسكرية تنطلق منها الهجمات الليلية على ضواحي القدس والقرى المجاورة ومنها العيساوية.
وفي منتصف عام 1948م هُجّر أهالي قرية العيساوية من أراضيهم، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا استجابة لنداء عدد من شخصيات القرية، ومنهم المناضل أحمد العيساوي.
أظهر أهالي القرية بعودتهم السريعة حضورا بشريا كافيا أمام أعين مراقبي الهدنة من الأمم المتحدة فحفظوا بذلك قريتهم من إدراجها في قائمة قرى القدس المهجرة.
وبعد عودة السكان إلى القرية أصبح واقعهم معقدا ما بين الأردن والاحتلال الإسرائيلي في الفترة الممتدة بين 1948 و1967، إذ بقيت العيساوية إداريا تحت حكم الأردن مع إشراف من قوات الأمم المتحدة، بينما لم يفرض الاحتلال سيادته عليها.
وفي 1967م، العام الذي تم فيه احتلال القرية، استخدم الجيش الإسرائيلي مباني الجامعة للهجوم على العيساوية وضم أراضيها إلى حدود بلدية الاحتلال في القدس.
ومكث سكان العيساوية بضع ليال في منطقة مغارات الضبعة على أطراف القرية الممتدة إلى الخان الأحمر إلى أن أرسل مخاتيرها رسالة بضرورة العودة إليها.
مصادرة أراضي القرية لصالح الاستيطان
صادرت إسرائيل ما مساحته 1212 دونما من أجل إقامة 4 مستوطنات إسرائيلية على أراضي قرية العيساوية وفي محيطها، وهي مستوطنة الجامعة العبرية ومستوطنة جفعات شابيرا الواقعتان غرب القرية، ومستوطنتا معاليه أدوميم وميشور أدوميم شرق القرية. ويقطن هذه المستوطنات نحو 50 ألف مستوطن إسرائيلي.
وصادرت إسرائيل المزيد من أراضي القرية لشق طرق التفافية إسرائيلية، كان منها الطريق الالتفافي رقم 1، والطريق الالتفافي رقم 437، لربط المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضيها وفي مدينة القدس.
وأقامت إسرائيل قاعدتين عسكريتين على أراض مصادرة وملاصقة للقرية من الجهة الجنوبية، بالقرب من مستوطنة الجامعة العبرية، وأخرى على امتداد أراضي القرية في الجهة الشرقية، بالقرب من مستوطنة ميشور أدوميم، وتقدر مساحتها بحوالي 616 دونما.
وقد أقامت سلطات الاحتلال هذه القواعد العسكرية بدعوى حماية المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضي القرية والمجاورة لها.
وكان لبناء جدار الفصل الإسرائيلي أثر سلبي على قرية العيساوية، فقد قسم أراضيها إلى قسمين، وعزل المنطقة العمرانية في القرية داخل حدود بلدية القدس عن باقي الأراضي الفلسطينية، وعن امتداد أراضيها في الجهة الشرقية وكذلك عن البلدات المجاورة مثل عناتا والزعيم، اللتين تربطها معهما علاقة تاريخية.
المخطط الاستيطاني "إي1"
تعتبر مستوطنة معاليه أدوميم من أخطر التجمعات الاستيطانية الموجودة في الضفة الغربية، إذ حظيت باهتمام خاص من قبل اللجنة القائمة على مسار الجدار في الحكومة الإسرائيلية، وذلك لخصوصية الموقع وقربه مع الجزء الشرقي من مدينة القدس.
ويهدف مخطط "إي1" إلى بناء تجمع استيطاني جديد تابع لمستوطنة معاليه أدوميم، يربطها بالمستوطنات الإسرائيلية القائمة في مدينة القدس، إضافة إلى أنه سيخلق حزاما عمرانيا إسرائيليا جديدا يعيق عملية التواصل الجغرافي الطبيعي بين شمال وجنوب الضفة الغربية.
ومع استكمال مراحل مخطط "إي1″، سيتم إغلاق الحزام الاستيطاني الإسرائيلي الدائري المحيط بالمدينة المقدسة، أما بلدة العيساوية فسيتم خنقها من الجهة الشرقية، وستفقد 35% من مساحتها إذا اكتمل المخطط، وبذلك تتوزع المساحة غير المستخدمة للبناء في البلدة والتي تقع غالبيتها في الأراضي المفتوحة للبلدة ما بين المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية ومخطط "إي1" من الجهة الشرقية.
ويتبقى للبلدة فقط المنطقة العمرانية التي ستكون محاصرة من الشمال والشرق أيضا بجدار الفصل وبالمستوطنات الإسرائيلية من الشرق والغرب والجنوب، مما سيقضي على مستقبل القرية وسيجعلها في معزل صغير مغلق من كافة الاتجاهات.
إضافة إلى ذلك تخطط بلدية الاحتلال لإنشاء حديقة قومية على ما يقارب 450 دونما من أراضي القرية، الواصلة بين الطور والعيساوية، أو ما يسمى منحدرات جبل المشارف، وتعتبر هذه الحديقة الحلقة الأكبر ضمن سياسة مصادرة الأراضي، والتي بدأت عام 1967 لفصل الأحياء الفلسطينية عن بعضها، وبالمقابل وصل المستوطنات ببعضها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات المستوطنات الإسرائیلیة الجامعة العبریة بلدیة الاحتلال الجهة الشرقیة أراضی القریة سکان القریة مدینة القدس فی القریة
إقرأ أيضاً:
جمعة على رصيف الانتظار.. حين يُحاصر الاحتلال الإيمان بالحديد والأسلاك
في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة 18 أبريل 2025، كانت مريم نفيعات، السيدة الخمسينية القادمة من بلدة يعبد جنوب جنين، قد حزمت صلاتها في قلبها ومشت صوب القدس. حملت معها أملاً صغيرًا بالوصول إلى المسجد الأقصى، كما اعتادت منذ نحو عام، حين علقت روحها هناك، ثم غادرت دون أن تدخل.
سارت مريم في دروبٍ تعرفها قدمًا قدم. تخطت الحواجز الطارئة والدائمة، تسللت بأملها من بين نظرات الجنود. لم تكن هذه أول مرة تتوجه فيها نحو المدينة المقدسة. لكنها كانت أكثرها مشقة، إذ تزايدت القيود الإسرائيلية على دخول الفلسطينيين من الضفة الغربية للقدس منذ أشهر.
كانت الخطوة الأولى مشوبة بالقلق، فقد انتشرت إشاعات عن منع التصاريح حتى لمن يملكونها، لكنّها تمسكت بالأمل. في الطريق إلى الحاجز، تناهت إلى أذنها قصص نساء عادوا باكين، ورجال مُنعوا لأسباب غير مفهومة. قالت مريم إنها منذ بداية العام الحالي، وهي تحاول كل أسبوع أن تعبر، وغالبًا ما يُرفض طلبها أو تُمنع في اللحظة الأخيرة.
الانتظار المُرّ
وصلت حاجز قلنديا في ساعات صباح اليوم، وهناك اصطفت مع عشرات النساء والرجال من كبار السن. بعضهم جلس على الأرصفة، وبعضهم وقف في صمت، وكلهم ينتظرون أن ينظر جندي إسرائيلي في وجوههم ويقرر إن كانوا يستحقون المرور أو لا.
كان المشهد صعبًا: امرأة مسنّة تغالب دموعها، شاب يحاول إقناع الجنود، طفل يسأل والده لماذا لا نذهب إلى المسجد الأقصى. شعور عام بالإهانة، كأن كل فلسطيني يجب أن يثبت أنه ليس خطرًا، وأن صلاته لا تهدد أمن الاحتلال.
في هذا المشهد، يصبح الانتظار طقسًا بحد ذاته، طقسٌ يعتاد فيه الفلسطيني على فكرة أن الأرض التي وُلد فيها، تُقاس له بالأمتار، وأن الوصول إلى مكان عبادته يحتاج معجزة.
تصاريح لا تفتح الأبواب
«معي تصريح رسمي»، قالت مريم: «أرسلوا لي الموافقة عبر التطبيق الخاص بالدخول للقدس. لكن الجندي قال لي: ارجعي، مش راح تدخلي، وإذا رجعتي راح نطخك». لم يكن تصريح الدخول ضمانًا لعبور الحاجز، بل مجرد ورقة غير مُعترف بها حين تُصدر إسرائيل قرارًا عشوائيًا بالمنع.
المنظومة الرقمية، التي تبدو حديثة ومرتبة، لا تعكس الواقع الفوضوي على الأرض. فحتى بعد الموافقة الرسمية، كثيرًا ما يتم منع الناس من دون تفسير. بعضهم يُطلب منه العودة فجأة، والبعض الآخر يُترك في الانتظار حتى ييأس.
وتقول منظمات حقوقية إن النظام الإلكتروني ليس إلا أداة إضافية للسيطرة، تسمح للاحتلال بتتبع كل حركة، وتُضفي شرعية مزعومة على قرارات تعسفية.
جمعة الأبواب المغلقة
المشهد عند حاجز قلنديا لم يكن مشهد انتظار عابر، بل أشبه بوقوف على حافة اليأس. نساء يبكين، أطفال يسألون، وشباب يتجادلون مع الجنود قبل أن ينسحبوا محبطين. بدا وكأن المدينة المقدسة باتت حلمًا مؤجلاً، حتى على أولئك الذين اعتادوا زيارتها قبل كل صلاة.
يقول عبدالرؤوف بدارنة أحد الشبان المتواجدين على الحاجز: «منذ بداية هذا العام، لم أستطع دخول القدس إلى المسجد الأقصى إلا مرة واحدة. كل جمعة نأتي ونُمنع». الحضور أمام الحواجز بات أيضًا شكلًا من أشكال المقاومة، كأن الجسد الفلسطيني نفسه أصبح أداة احتجاج.
أما كبار السن، فبعضهم قال إنه يصلي عند الحاجز، وهناك، على الإسفلت وتحت أعين الجنود، تُقام صلاة خارج المكان المقدس، لكنها لا تقل عنه روحًا وصدقًا.
أحلام تُنهى على الحواجز
عبد الرحمن شديد، رجل في بداية الستينات من عمره، من قرية بيتا جنوب نابلس، كان ينتظر الدخول منذ الفجر. لم يكن يحمل تصريحًا، لكنه جاء على أمل أن يسمح له العمر والمظهر بالدخول.
«هم يعرفون أننا لسنا خطرًا عليهم. نحن فقط نريد أن نصلي. المسجد أقرب من قرانا، لكنهم يجعلونه أبعد من البحر». وجهه الذي تغزوه التجاعيد لم يشفع له أمام جنود مدججين بالسلاح.
يحكي عبد الرحمن أنه كان يأتي إلى القدس كل أسبوع قبل عام 2023، لكن في الآونة الأخيرة، أصبحت الرحلة محفوفة بالمخاطر. وقال لـ«عُمان»: «اليوم أنا هنا فقط لأجرب حظي، وإن لم أدخل، فأنا على الأقل حاولت».
بجانب طابور الانتظار، كانت البسطات تنتشر بتواضع. شاب في منتصف العشرينات اسمه حمزة دويكات، يبيع الكعك والمشروبات الساخنة.
«معظم الناس بترجع. لكننا نبقى هنا، لأن بعضهم يحتاج أن يأكل شيئًا قبل الرجوع»، قال حمزة وهو يعد النقود الورقية القليلة بين يديه. وجوده هنا، كما يصفه، ليس فقط لكسب لقمة العيش، بل تعبير عن تمسكه بالقدس.
أوضح أن الحاجز بات سوقًا أيضًا، وأنه يرى نفس الوجوه أسبوعًا بعد أسبوع: «حتى في الحزن، هناك شيء من التواصل. نُسلّم على بعض، نواسينا، ونحاول أن نمنح الناس لحظة دفء وسط هذا البرود العسكري الإسرائيلي».
من يدخل ومن يُمنع؟
بحسب تقديرات دائرة الأوقاف الإسلامية، فإن نحو 30 ألف مصلٍ تمكنوا من دخول المسجد الأقصى وأداء صلاة الجمعة هذا الأسبوع. غالبيتهم من سكان القدس أو من أراضي 48، بينما حُرم آلاف آخرون من أبناء الضفة الغربية من الوصول، بسبب تشديدات الاحتلال.
ينتقد مدير عام دائر الأوقاف الإسلامية بالقدس، هذا «التمييز واضح»، قائلًا في تصريح لـ«عُمان»: «من يحمل هوية مقدسية يدخل بسهولة نسبيًا، أما من جاء من الخليل أو نابلس، فغالبًا يُعاد أدراجه، بغض النظر عن وضعه القانوني أو سلوكه الشخصي».
تكنولوجيا السيطرة
التصاريح تصدر عبر تطبيقات إلكترونية أنشأتها إسرائيل ضمن منظومة «منسق أعمال الحكومة». يتقدم المواطنون بالطلب، وغالبًا لا يأتيهم رد، أو يصلهم رفض لأسباب غير مفسّرة. وأحيانًا يصل الرد بالموافقة، ثم يُمنعون عند الحاجز دون مبرر، ما يجعل الفلسطينيين عالقين بين وعد التكنولوجيا وواقع الاحتلال.
بعض المحامين الفلسطينيين وصفوا هذه الإجراءات بأنها «شَرعنة للحرمان»، إذ يتم رفض الطلبات دون أي مسوغ قانوني أو أمني. وتحوّلت التكنولوجيا إلى غطاء يستخدمه الاحتلال لتبرير سياساته.
ورغم الجدران، ورغم البنادق، لا تزال مريم نفيعات تنوي العودة كل جمعة. تقول إنها تشعر أن القدس تناديها، وإن الطريق إليها يستحق كل عناء، «حتى لو منّعوني ألف مرة، رح أرجع ألف مرة. القدس مش بس مكان، هي قلبي اللي عم بدقّ».
أمثال مريم كُثر، يصرّون على المجيء رغم كل شيء، يكتبون بأقدامهم صلاةً لا يمكن منعها. لأن للقدس في القلب مقامًا، لا تقدر عليه بنادق الاحتلال ولا حواجزه الإلكترونية.