بين الزلزال الكبير الذي ضرب تركيا وسوريا، وثورات الربيع العربي، يرصد الروائي والمسرحي هزاع البراري في روايته الصادرة أخيرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر الانكسارات والتشوهات التي أصابت إنسان المنطقة.

وتتجول الشخصيات في حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي منه، والجنوبي بشكل أساسي، ليمتد مسرح الرواية على رقعة واسعة من شواطئ البحر الأبيض، وتقع هذه الشخصيات تحت نتائج تحولات جذرية وانكسارات غائرة في الذات الفردية والجمعية، مستجيبة بذلك لحالة التشظي الكبرى التي عانت منها المنطقة، من ويلات حروب محلية وإقليمية لا تتوقف.

الرواية تنتصر للحالة الإنسانية أو المجتمعية بعيدا عن السياسة وتعقيداتها ومنعطفاتها الكثيرة، فيكون الفرد أو المجتمع هو البطل الحقيقي، وصاحب الحضور الطاغي في الرواية. كما أن التاريخ الشخصي لعدد من هذه الشخصيات يستدعي مفاصل مهمة من تاريخ المنطقة منذ نكبة 1948 ونكسة 1967 وأحداثا من الحرب اللبنانية منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، فالشخصيات والأحداث تتحرك عموديا أو أفقيا وتؤشر بارتجاف نحو المستقبل القريب، هي التحولات الكبرى التي ألقت بظلالها على البحر الأبيض، فبدل أن يستفحل فيه البياض، بدأ يكتسي باللون الأسود، وكأنه خزان عملاق للفحم المذاب.

وفضلا عن كتابته الروائية، أنجز البراري عديدا من النصوص المسرحية وحاز على جائزة عويدات اللبنانية لأفضل رواية في الوطن العربي لعام 2001. وجائزة محمد تيمور المصرية لأفضل نص مسرحي عربي 2004. وجائزة أفضل تأليف مسرحي عن مسرحية "ميشع يبقى حيا" في الأردن لعام 2001. كما حصد عديدا من الجوائز الأخرى.

وللبراري من الروايات "الجبل الخالد" (مجموعة قصصية: "حواء مرة أخرى" و"الغربان" و"الممسوس")، و"العُصاة" (نصوص مسرحية)، و"قلادة الدم" (مسرحية)، و"تراب الغريب" (رواية)، و"أعالي الخوف" (رواية)، و"تجاعيد الفراغ" (نصوص).

الكاتب والروائي الأردني هزاع البراري تناول في روايته الأخيرة الانكسارات والتشوهات التي أصابت إنسان المنطقة (مواقع التواصل)

عن روايته الجديدة ومجمل عمله الإبداعي، التقت الجزيرة نت الروائي هزاع البراري وكان معه اللقاء التالي:

بين السياسي والإنساني روايتك الجديدة تأتي ضمن سلسلة روايات الربيع العربي، بين البعد السياسي -الذي تنأى عنه- والبعد الإنساني موضوع روايتك، كيف تقيم الخط الفاصل بين ما هو إنساني وسياسي؟

لا يمكن فصل الفاعل السياسي عن الأبعاد الإنسانية الناتجة عنه، بل إن شراسة هذا الفاعل وضراوته تتبدى في اتساع مساحات العطب والتشوه التي تظهر على الإنسان أو الضحية، وهي نواتج تترك آثار مخالبها على البشر والحجر والزمن والجغرافيا، وبعيدا عن ملامح وسمات وبواعث الفاعل السياسي وامتداداته وتفرعاته، فإن المحقق الجيد يستطيع من خلال دراسة واقع الضحية الاستدلال على الفاعل وأدواته، ومدى قدرته على إحداث جروح غائرة، ونتوءات نفسية وفكرية، ومن ثم تغيير مصائر أفراد أو مجموعات البشرية، بل والمساهمة في تغيير الجغرافيا السياسية أيضا.

تأتي "البحر الأسود المتوسط" بوصفها حالة بحث وتقصي في كل هذه التشوهات وحالات الانكسار الخاصة والفردية، التي تقرأ اجتماعيا وإنسانيا

لذا تأتي "البحر الأسود المتوسط" بوصفها حالة بحث وتقصي في كل هذه التشوهات وحالات الانكسار الخاصة والفردية، التي تقرأ اجتماعيا وإنسانيا، مما يدفع القارئ لاتخاذ موقف ما من كل ذلك، وأن يرى من خلال الأحداث الإنسانية اليومية، ومن خلال تتابع مصائر هؤلاء الناس في شرق البحر الأبيض وجنوبه مدى الخراب المتراكم منذ عقود طويلة وحتى يومنا هذا، بالتالي هي رواية أدبية بالأساس، وليست بحثا تاريخيا، أو توثيقا علميا بحتا وإن كان هذان العاملان يظهران في خلفية الأحداث.

خيال يمتح من الواقع لجأت إلى الواقع لتقاربه روائيا، إلى أي حد يبدو الواقع "المؤلم" محاصرا للمخيلة التي يحتاجها العمل الروائي؟

الرواية مخيال في الأساس، وهذا الخيال يمتح من الواقع المثقل بالتحولات والتناقضات والانكسارات، ولكن وإذا لم يلبس الخيال المحض بملامح الواقع المعاش والقريب، ستبقى الرواية تهيم في الفراغ، لا تلامس الناس ولا ترش بعض الملح على جراحهم.

ولعل موهبة الكاتب تتجلى هنا، أن يجعل من الرواية ميدانا خصبا للخيال المبني على واقع وملامح وتفاصيل الناس العاديين، وألا ينساق للتوثيق الذي يكون أقرب إلى اليوميات أو التقارير الإخبارية، هو أي الكاتب يوظف كل هذه المعطيات في بناء مخيلته، لكن عليه في الوقت نفسه ألا يبني شخصيات من فضاء خارجي، ولا تصير أحداثه أقرب إلى الخيال العلمي، على الناس أن تجد ملامحها في هذه الكتابة، فتؤثر فيها وتتأثر بها.

أنا روائي أباعد بين أعمالي الروائية، فالرواية بالنسبة لي ليست مجرد فكرة وأحداث وبنية، بل يجب أن تعبّر عن تجربة حياتية وفكرية وإنسانية جديدة، جديدة ليس بمعنى انسلاخها عما سبقها، بل أن تكون الرواية معبرة عن حالة نضج إنسانية جديدة، رؤية مغايرة للواقع والحياة والوجود

بين روايتك الأولى وروايتك "البحر الأسود المتوسط"، وإذا جاز لك أن تراها بعين الناقد، ما الذي اختلف فيك بوصفك روائيا وكاتبا وفي تقنياتك الروائية؟

أنا روائي أباعد بين أعمالي الروائية، فالرواية بالنسبة لي ليست مجرد فكرة وأحداث وبنية، بل يجب أن تعبّر عن تجربة حياتية وفكرية وإنسانية جديدة، جديدة ليس بمعنى انسلاخها عما سبقها، بل أن تكون الرواية معبرة عن حالة نضج إنسانية جديدة، رؤية مغايرة للواقع والحياة والوجود.

لذا أنا في "البحر الأسود المتوسط" أعبّر عما أنا عليه الآن من كل هذه التحولات والرؤى والأسئلة الحارة الناتجة عنها، وهذا ينعكس على بنية الرواية، وطريقة معالجة الأحداث والشخصيات، والتعامل مع الزمان والمكان، هنا كل شيء له معطى مختلف، وهذا من مهمة الناقد المتابع الذي يستطيع رصد هذه التحولات الفنية والفكرية، وأن يؤشر على مدى تحققها بالكفاءة المرجوة من عدمها.

الكتابة فعل شمولي تجمع إليك الكتابة المسرحي و التلفزيونية والقصة القصيرة في تجربتك الإبداعية، هل الكتابة متعددة الأجناس تساهم في تشتيت الهوية أم في ترسيخها؟

أنا دائما أقول إن الكتابة عندي هي فعل شمولي، بمعنى أن عماد الكتابة في القصة والرواية والمسرح والدراما التلفزيونية هو الاختلاف في التقنيات و"التكنيك" وفهم أدوات كل جنس -الخصوصية الفنية لكل كتابة- حتى لا تكون الكتابة العابرة للأجناس هي عملية خلط مؤذية، لكن المنبع واحد، وأدوات التعبير وهي الكلمة هي السمة الواضحة، وأنا لا أرى أن التميز هو في التعدد، بل في القيمة الفنية والفكرية في النص المكتوب، وأنا أجد أن الهوية تترسخ في الرواية والمسرح بشكل أساسي، وأنا أراكم في هذين الجنسين بشكل واضح، أما الكتابات الأخرى فهي إطلالات تكون حين تفرض نفسها كفكرة وبنية تستعدي جنسها الإبداعي معها، وهناك أمثلة ناجحة في الكتابة ضمن أجناس متعددة سواء عربيا أو عالميا، ولم تؤثر على رسوخ الهوية.

وأي مجالات الكتابة أقرب إليك؟

الرواية هي المجال الأقرب، خاصة عندما تستولي علي كتفكير وتخطيط وكتابة، لكن المسرح عالم ساحر لا يمكن لشخص يعرف طلاوة سحره إلا من جربه وفتن به، لذا فأنا أحلق إبداعيا بجناحين: الرواية والمسرح، وقد أفاد نصي المسرحي من خبرتي الروائية، ووظفت بعض تقنيات المسرح في بناء المشهد الروائي.

 في تجربتك الكتابية، كيف تصف نفسك وهل تعيش حالة إغواء الكتابة بوصفك كاتبا غزير الإنتاج؟

ربما مرد غزارة الإنتاج أنني أكتب في أكثر من جنس أدبي واحد، وأنا أعتقد أنني من خلال تجربتي تجاوزت حالة الإغواء إلى حالة حوارية داخلية ومكابدة فكرية ونفسية ذاتية، ولكنها تلك الذات التي تشربت ذوات حالية وسابقة ولاحقة، فصارت الكتابة أقرب إلى مواجهة غير مأمونة العواقب بوجه الأسئلة الكبرى، والفراغ المرعبة التي تحيط بنا وكأنها ثقوب سوداء، لا نهاية لها.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات البحر الأسود المتوسط البحر الأبیض من خلال کل هذه

إقرأ أيضاً:

صدر حديثًا.. "البوكر العربية وزمن الرواية" للكاتب شوقى عبد الحميد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

صدر حديثًا كتاب "البوكر العربية وزمن الرواية" للكاتب والناقد الكبير شوقي عبد الحميد؛ محاولًا الإجابة على ما أثير من تساؤلات حول جائزة البوكر فى نسختها العربية منذ أن انطلقت الجائزة في أبوظبي في أبريل 2007، وبعد سبعة عشر دورة، وبعد أن أحدثت دوامات كثيرة حول الرواية العربية، وحفزت كتاب الرواية للتجويد، فتزايدت أعداد الروايات المقدمة لها فى كل عام عن سابقه، وثارت الأقاويل حول الرواية الفائزة فى كل عام. فمن رافض لها، لأغراض فى نفسه، ومن يرى أن الجائزة وصلت لغير مستحقيها.. ومن يرى أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان.                    

وفي مقدمة كتابه، يقول الناقد شوقي عبد الحميد: "كما ثارت التساؤلات حول الأسس التى عليها يتم منح الرواية الجائزة، لتتداخل الأراء كذلك. ومن خلال كل تلك التساؤلات، ومن بين كل تلك الدوائر. رأينا أن نقدم قراءة لنموذج من كل بلد من الروايات الفائزة، بحثا عن السمات المشتركة بينها، إذ ربما وصلنا إلى فلسفة منح الجائزة، لتكون مرشدا لكل من يطمح فى الوصول إلى تلك الجائزة، التى تتيح لصاحبها الزخم القرائى، عبر الدول العربية قاطبة، فضلا عن ترجمة العمل إلى اللغات الأخرى. أى انها لا تتوقف فقط عند الجائزة المالية والمقدرة بعشرة آلاف دولار للروايات الست التى تصل إلى القائمة القصيرة، ثم خمسون ألف دولار للفائز بالجائزة. ولكنها تحمل الشهرة والنقد والدراسة فى كل محيط العالم العربى.

وتابع: "انطلقت الجائزة في أبوظبي في أبريل 2007، بناء على فكرة باقتراح لتأسيس جائزة مشابهة لجائزة "بوكر" العالمية. وصرح جوناثان تايلور رئيس مجلس أمناء الجائزة قائلا: أعتقد أن هذه الجائزة ستكافئ الكُتاب العرب المتميزين كما ستحقق لهم التقدير ورفع مستوى الإقبال على قراءة أعمالهم. حيث يقوم مجلس الأمناء سنويًا بتعيين لجنة تحكيم تتألف من خمسة أشخاص وهم نقّاد وروائيون وأكاديميون من العالم العربي وخارجه. 

 

واستطرد: ومن المتابعة يمكن إدراك أنه ما من إعلان عن الفائزين بإحدى المسابقات، إلا ويصحبها العديد من الاعتراضات. وعلى الرغم من أن الكثير من هذه الاعتراضات، تنبع من أغراض محددة، إلا أن الرؤية المتأملة لبعض هذه الجوائز، الخارجة عن إطار المحلية، يمكن فهم رؤيتها والإقتناع بها، حين النظرة المحايدة. 

مقالات مشابهة

  • مايا مرسي تتحدث عن تمكين الشباب والمرأة في بودكاست "بداية جديدة"
  • أسطول البحر الأسود الروسي يحصل على زوارق مسيرة ودرونات انتحارية من جيل جديد
  • تقرير حقوقي يرصد 13 ألف انتهاك في محافظة البيضاء خلال 10 سنوات
  • صدر حديثًا.. "البوكر العربية وزمن الرواية" للكاتب شوقى عبد الحميد
  • سلوى عثمان في بودكاست "بداية جديدة": مشروع "أكفل طفل" يمنح الفتيات فرصة الشعور بالأمومة
  • البرلمان العربي ينوه بالإسهامات التي حققتها المرأة العربية على كافة الأصعدة
  • مواهب نادى الكتابة الإبداعية تفتتح ليالى رمضان بالمركز الثقافي بطنطا
  • حالة الطقس المتوقعة اليوم السبت
  • الرواية السودانية- رحلة تطور وتنوع في الأدب العربي والأفريقي
  • «الأرصاد» تكشف حالة الطقس اليوم الجمعة 7 مارس 2025