الأفكار والفلسفات والآيديولوجيات كالموضة تتغير حسب المواسم والأذواق والأمزجة والأجواء. وكما أن هناك موضة تناسب الصيف وأخرى للشتاء وثالثة للربيع ورابعة للخريف، وكما نلبس أزياء للفرح وأخرى للحزن وثالثة للعمل ورابعة لأوقات الراحة، فإن هناك فلسفات وأفكاراً تختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف والأجواء والأمزجة.
ومن الآيديولوجيات الأشبه بالموضة الموسمية التي تزدهر وتنحسر يأتي الإلحاد موضة متكررة، تذهب وتعود، حسب المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي، موضة طقس ومزاج وكيف وجو وعاطفة، تماماً كالملابس والأزياء.
ورغم أن الإلحاد فكرة سخيفة، لا تقوى على الصمود إلا أن عوامل لا علاقة لها بالعقل والمنطق والدليل والبرهان تكمن وراءها، وهي في مجملها عوامل سياسية واجتماعية ونفسية وعاطفية ترتبط بالحالة المزاجية: الشخصية والمجتمعية، أكثر من ارتباطها بالعقل والمنطق والدليل.
إن عقيدة وجود إله لهذا الكون هي الأقرب للمنطق من الفكرة العدمية القائمة على نفي وجود الإله، وإن فكرة الإلحاد العدمية هي الأحرى بأن تتم المطالبة بإثباتها، لأن التفسير الديني للكون والحياة يظل هو الأقرب للمنطق والعقل من غيره من التفسيرات القائمة على أي تفكير ميثيولوجي النزعة أو وضعي النزوع.
ذلك أن الفكرة الميثولوجية بوجود آلهة أو أنصاف آلهة متعددة ما هي إلا محاولة لـ«أنسنة الإله» أو «تأليه الإنسان» بهدف جعل الإله مجرد جسر تعبر من خلاله رغبات البشر. كما أن القول بـ»الصدفة» هذا القول ليس أكثر من حيلة منطقية للهروب من فكرة وجود خالق، وهي الحيلة نفسها التي أنتجت فكرة أخرى أكثر سخفاً، تتجلى في أن الطبيعة شكلت نفسها، وأنها هي الخالق، وأن الإله كامن في المخلوقات، وهي وإن كانت فكرة فلسفية أو ربما شعرية جميلة ـ إلا أنها فكرة لا تخلو من خلط بين الفاعل والمفعول، أو بالتعبير الديني بين الخالق والمخلوق.
ومن أغرب التفسيرات لظاهرة الحياة والكون القول بالعدم: نحن أصلا غير موجودين، ولكننا في وضع أشبه بالأحلام، نحن فقط نحلم بأننا نعيش، وأن هناك أرضاً وسماء ونجوماً وكواكب ومخلوقات، لا وجود لشيء، وكل ما نرى هو محض خيال، لا وجود له، ولا لنا ولا للحياة كلها، ولا وجود للوجود ولا للإله، لا وجود لشيء، ولا معنى لشيء، والعدم هو المعنى وهو الوجود وهو الإله الجبار، وغير تلك من ثيمات يمكن أن تصلح لبناء نص شعري عدمي، لا آيديولوجيا منسجمة.
وإذا كان الموت ظاهرة بيولوجية يمكن تفسيرها، فإن ما بعد الموت عليه خلاف، بين من يقول بالحياة بعد الموت، ومن يقول بالذهاب للتراب والعدم وإلى لا شيء.
والواقع أن وجود حياة بعد الموت هو التصور الأقرب للعقل والمنطق، ذلك أننا نجد الحياة تخرج من الموت أمام أعيننا، كل يوم، ونلحظ ميلاد الأجنة من خلايا لا يمكن وصفها بالحياة، ونشاهد خروج الشجرة من البذرة، والنجوم من غبار نجوم منفجرة، ونشهد بشكل ملحوظ خروج الحياة من الموت، بشكل لا يمكن دحضه.
ثم إن فكرة وجود حياة بعد الموت هي فكرة تقوم على أساس الثواب والعقاب، إذ أن هذا الكون المنضبط بموازين لا تختل لحظة، ولا تسمح بالفوضى بين أجزائه لوهلة، هذا الكون يدل على وجود قانون وميزان، والقانون والميزان هما الفكرة الرئيسية وراء فكرة البعث والحياة بعد الموت.
صحيح أن أحداً لم يعد من موته ليخبرنا بما رأى وما كان بعد الموت، ولكن الصحيح ـ كذلك ـ أن فكرة المساءلة والجزاء الكامنة وراء فكرة البعث والحياة بعد الموت، هذه الفكرة تجعلنا لا نتقبل فكرة تركنا بلا قانون، بلا حساب، حيث يذهب القاتل والمقتول للمصير نفسه، دون حساب.
ثم إن اختصار الإنسان في جسده، واختصار الجسد في مجموعة من التفاعلات الكيميائية التي يقول بها من ينكرون الوجود الروحي، هذه الفكرة لا تستطيع تفسير خروج اللوحات الفنية والقصائد الشعرية والأفكار والفلسفات عن هذا الإنسان. إذ كيف يمكن جمع مجموعة من العناصر الكيميائية لإنتاج قصيدة للمتنبي؟! وكيف يمكن خروج لوحات ليوناردو دافينشي وبابلو بيكاسو وفان كوخ من مختبر كيميائي، وكيف خرجت تماثيل عصر النهضة وفلسفة الإغريق وحكمة الهند وأشعار العرب من مجموعة من العناصر الكيميائية، وضعت في قنينة اختبار؟! كم هو تسطيح للإنسان أن نضغطه في قوالب إكلينيكية، وأن نضع فنونه وآدابه وأشواقه وعواطفه في مختبرات كيميائية.
الإنسان ليس جسداً وحسب، وفنونه وآدابه وفلسفاته ليست منتجات كيميائية يمكن ضغطها في قنينات اختبار، أو إخضاعها لأدوات القياس المادية، لسبب بسيط وهو أنها منتجات مختلفة من شخص لآخر، رغم اكتنازنا – كأجساد – بالعناصر الكيميائية ذاتها.
ثم إن العاطفة ليست مادة، والشعر ليس نوعاً من المعادن أو الأحماض والأملاح، هذه ثيمات فوق الكيمياء، والذين ذهبوا لتسمية الحب كيمياء، إنما فعلوا ذلك لتقريب حالة الانصهار المجازي للعشاق، وذلك بتشبيهها بحالات الانصهار في المعامل والمختبرات، ولكننا لا يجب أن نسقط الحدود الفاصلة بين الحقائق والمجازات، فالحب في الأخير لا يخضع لقوانين الكيمياء ذات المعادلات الصارمة.
وإذا كان الإنسان غير الجسد، وفوق الكيمياء فإنه روح، وهذه الروح التي نجد آثارها في القصائد واللوحات والتماثيل والأفكار والعواطف والشعور، وفي الأحلام التي نخترق بها حواجز الزمان والمكان، هذه الروح لا يمكن حصرها في المعمل، ولا حشرها في الجسد الترابي، ولكنها مرتبطة بعالم آخر، نسافر إليه بين الحين والآخر، في قصائدنا وفنونا، في أحلامنا ورؤانا، وفي طموحاتنا الكبيرة، وأخيلتنا التي لا تحدها حدود.
وبما أن الإنسان روح فإن هذه الروح غير محكومة بقوانين المادة، وإذا مات صاحب الروح فإن المادة فيه هي التي تتحلل، لكن الروح تظل عصية على الموت والفناء، وهذا يعني إمكانية الحياة الروحية الميتافيزيقية بعد الموت المادي الفيزيائي، وهذه القضية وإن لم يقم عليها دليل مادي إلا أنها أقرب للفهم من فكرة الذهاب للعدم، مع فناء الجميع فيه، ظالمين ومظلومين، دون ثواب أو عقاب، وهو ما يتنافى مع الموازين والقوانين التي نراها كل يوم في انضباط حركة هذا الكون الكبير، تلك الحركة المنضبطة التي تؤكد وجود إله، وثواب وعقاب، ومنظومة أخلاقية، ومنظومة قانونية انبثقت أساساً عن وجود هذا الإله، حسب توصيف عمانويل كانت، رغم جميع المحاولات لفصل القيم الدينية عن المنظومتين الأخلاقية والقانونية.
أرسل لي شاب عشريني ـ مرة ـ يقول إنه يحسدني لأنني أعيش في الغرب الذي تحرر من فكرة الدين والله والشيطان وغيرها «الأفكار البالية» حسب تعبيره. وكانت المناقشات تدور بيننا، قبل أن اكتشف أن هذا الشاب يعاني من كبت عاطفي، وأنه يريد أن يتحرر من كل القيم، ويحرر غرائزه التي يرى أن فكرة وجود إله تحول دون تحريرها، وأننا في الشرق «قيدنا الرغبات الجنسية» وأن ذلك أدى إلى الكبت والقمع وتفشي الأمراض النفسية والاجتماعية، على عكس ما هو موجود، في الغرب، وغير تلك من التصورات الشرقية عن الغرب، وهو ما يعني أن كثيراً من أسباب موجة الإلحاد الحالية يرجع لحالات عاطفية ونفسية وغرائزية، لا علاقة لها بالعقل والمنطق، ولكن علاقتها أقوى بالأوضاع الاقتصادية والثقافية والسياسية والذهنية والنفسية التي يعيشها الناس.
كما أن بعض أسباب موجة الإلحاد يعود إلى رغبات بعض الأشخاص بالظهور والشهرة، وكما يوجد دعاة يوظفون الدين لصالحهم بالتحدث باسمه، فإن هناك دعاة آخرين يوظفون الدين لصالحهم، ولكن عبر الهجوم عليه والطعن فيه، والغرض لفت الأنظار والذيوع والانتشار.
أما ما عدا ذلك، فإن التفسير الديني للكون والحياة والميتافيزيقيا يظل أقرب للمنطق من التفسيرات المتضاربة التي تقدمها الفلسفات المختلفة لهذه للحياة وما بعدها، ذلك أن التفسيرات الأخرى لا تبعث إلا على مزيد من القلق والشك والحيرة الاضطراب.
بكل بساطة، أقرب التفسيرات الممكنة لظاهرة الكون هي أن نقول إن خالقاً خلقه، فكرة بسيطة، غير معقدة وسليمة وسلسة ومفهومة ومنطقية، ويدعمها ما لا يحصى من الأدلة المنطقية القائمة على قوانين السببية المعروفة.
إنه لأسهل لنا أن نقول إن خالقاً خلق هذا الكون، من أن نقول إن هذا الكون خلق نفسه، أو أن الصدفة أوجدته من العدم، أو أنه هو العدم نفسه، أو أنه من صنع الإنسان، وهذه القضية تلخصها آيات بديعة في القرآن الكريم، نصها: «أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟ أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون».
صدق الله العظيم.
نقلاً عن صفحة الكاتب بفيسبوك وصحيفة القدس العربي
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: اليمن كتابات محمد جميح بعد الموت هذا الکون لا وجود
إقرأ أيضاً:
وزير الأوقاف لـ«البوابة نبوز»: أجريت دراسة عن الإلحاد وأسبابه من عام 2012 حتى اليوم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، إن الحكم على الشيء بأنه أصبح ظاهرة يقتضي دراسات ميدانية دقيقة، لذا أتجاوز هذا التعبير إلى تعبير آخر من قبيل تعالي الأصوات المنادية بالإلحاد؛ وفي هذا الصدد أتخذ نهجًا استراتيجيًّا متكاملًا في التعامل مع الإلحاد، إدراكًا مني لأهمية التصدي لهذه القضية برؤية علمية مستنيرة، تعتمد على تحليل جذور المشكلة، وفهم أسبابها، ومن ثم وضع الحلول المناسبة التي تعالجها معالجة فكرية عميقة.
وأشار إلى أنه أجري دراسة للإلحاد وأسبابه من عام 2012 وحتى اليوم.
وأكد وزير الأوقاف -في حواره مع «البوابة نيوز»- للإلحاد أربعة أسباب رئيسية، أولها: قبح الخطاب الصادر عن تيارات التطرف، إذ أدى الخطاب الدموي العنيف الذي تروج له الجماعات المتشددة إلى نفور بعض الشباب من الدين برمّته، واعتقادهم بأن التدين يعني التشدد والعنف، وثانيها: التخلف الحضاري الذي تعاني منه بعض المجتمعات المسلمة، ما جعل بعض الشباب ينبهر بالنموذج الغربي، الذي يقوم في بعض أبعاده الفلسفية على إنكار الألوهية.
وثالثها: الأمية الدينية، لأن بعض الشباب يفتقر إلى الحد الأدنى من المعرفة الدينية الصحيحة، ما يجعلهم عرضة للشبهات والأفكار الإلحادية، وأخيرًا: الفضاء الإلكتروني المفتوح، إذ أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي ساحةً لنشر الأفكار الإلحادية، وترويج الشبهات، دون وجود ضوابط علمية تحكم هذا الطرح.
وتابع «الأزهري»، بناءً على هذه الدراسة، تم وضع استراتيجية متكاملة لمواجهة هذه الظاهرة، ترتكز على عدة محاور أساسية، ولًا: تقديم خطاب ديني عقلاني وعصري، يخاطب العقول بالحجة والبرهان، ويستخدم المنهج العقلي في عرض القضايا الإيمانية، خاصةً مع الشباب الذين لا يعترفون بالنصوص الدينية كمصدر للحجة، بل يبحثون عن أدلة عقلية ومنطقية لإثبات الإيمان.
ثانيًا: تفكيك شبهات الإلحاد عبر الأدلة العقلية والعلمية، فبعد البحث والتأمل، وجدتُ أن شبهات الملحدين تنحصر في ثلاثة مجالات علمية رئيسية، هي علم الكونيات (Cosmology)، الذي تُطرح من خلاله إشكاليات حول نشأة الكون، وعلم الأحياء (Biology)، خاصةً نظرية التطور التي يستند إليها البعض لإنكار الخلق الإلهي، وعلم الأعصاب (Neuroscience)، الذي يناقش الوعي والإدراك وعلاقتهما بالإيمان، ونسعى لإعداد محتوى علمي متخصص، يعرض هذه القضايا بموضوعية، ويرد عليها ردودًا رصينة، بأسلوب يتناسب مع العقلية المعاصرة، دون استخدام خطاب تقليدي يعتمد على التخويف أو الترهيب.
ثالثًا: تعزيز الثقافة الدينية بين الشباب في المدارس والجامعات، فالأمية الدينية هي أحد الأسباب الرئيسية للإلحاد، وقد عملتُ على نشر الوعي الديني الوسطي في المدارس والجامعات، عبر تنظيم ندوات ولقاءات مفتوحة مع الطلاب، تتناول القضايا الإيمانية بأسلوب حواري تفاعلي، بعيدًا عن الخطاب الوعظي التقليدي.
رابعًا: استخدام وسائل الإعلام والسوشيال ميديا في نشر الفكر الوسطي، نظرًا لأن الفضاء الإلكتروني أصبح ساحة رئيسية لنشر الأفكار الإلحادية، وقد عززنا الحضور الإعلامي للخطاب الديني المستنير، عبر إطلاق محتوى رقمي، وبرامج تلفزيونية، وصفحات تفاعلية على مواقع التواصل الاجتماعي، تقدم محتوى علميًّا موثوقًا، يرد على الشبهات بأسلوب منهجي رصين.