خلق الله الإنسان وأنزله على هذه الأرض، وطلب منه أن يقوم بعبادته، واستخلفه في هذه الأرض وأمره بعمارتها، وسخّر له كل موجوداتها، من ماء وهواء ونبات وحيوان وصخور ومعادن، وأمره بأن يستخرج خيراتها ويُحسن التعامل معها ويشكر ربه على النعم التي أوجدها له.

والمؤمن يوقن أن الرزق هو من عند الله الرزاق ذي القوة المتين، وهو اسم من أسمائه الحسنى، وهو مالك الملك، وأنه لو أعطى كل إنسان ما يريد لم ينقص من ملكه وهذا مصداق للحديث القدسي الطويل الذي ورد في صحيح البخاري عن طريق أبي ذر رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: يقول الله عز وجل: يا عبادي! إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.

يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئًا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا، فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

ولكن مع الإيمان العميق بأن الله هو الرزاق إلا أنه أمر الإنسان بالسعي والعمل وبذل الجهد لأجل تحصيل رزقه، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة" فبذل الأسباب، وبذل الوسع في تحصيل الرزق سنة من سنن هذه الحياة الدنيا.

وقد يقول قائل بما أن الله هو الرزاق وبيده مقاليد السماوات والأرض، وأنه بإمكانه أن يرزقنا وذلك لا ينقص من ملكه شيئًا، فلماذا لا يبسط لنا الرزق ويجعلنا نعيش في نعيم ورغد، بدلا من التعب والشقاء الذي يتمثل في الجهد الذي يبذله الإنسان لأجل تحصيل لقمة العيش التي تُعيله وتعيل عياله؟ إن هذا لا يتفق مع حكمة وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فعمران الأرض لا يكون بالراحة والدعة والنوم، بل يحصل بالجد والعمل والسعي، وإعمال الفكر والبدن، وتسخير كل ما آتانا الله من علم ومعرفة في خدمة البشرية، وجعل هذا الكوكب صالحًا للسكنى والعبادة.

وبما أن الله هو خالق الإنسان فهو أعلم بمقدار الرزق الذي يناسبه، فلو أن الله بسط الرزق للناس وجعلهم ينالون ما يشتهون وزيادة فإن ذلك سيجعلهم يطغون في الأرض، فقال الله تعالى في سورة الشورى: "وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ" فهو مطّلع على عوالم الغيوب، كما أنه عز وجل مكن لأقوام سابقين في الأرض وآتاهم من النعم والأرزاق، ولكنهم بغوا وتجبروا في الأرض وأعرضوا عن دعوة أنبيائهم، فكان مصيرهم الهلاك.

والله أوجدنا في هذه الأرض ليختبرنا ويبتلينا، وأكد على أن هذه الحياة هي حياة زائلة جُعلت للاختبار والابتلاء، وأنها ليست دار ثواب وعقاب، ولو أن الله بسط الرزق، لم يوجد هنالك ابتلاء بالنقص في الأرزاق والأقوات والله عز وجل يقول في سورة البقرة: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" فقد بيّن أنه إذا أصابهم الخوف والجوع والنقص في الأرزاق وصبروا، واحتسبوا وأرجعوا الأمر لله وأنه هو الذي أوجدهم وقرر عليهم هذا الأمر وأنهم راجعون إليه فأولئك عليهم رحمات من ربهم لاجتيازهم هذا الاختبار والابتلاء وهم الذين هداهم الله ولن يضيع أعمالهم.

وهنالك مفاتيح للرزق وأسباب ذكرها الله في كتابه العزيز وذكرها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وهي تمثل أمورا يعملها المسلم فتكون سببا في فتح أبواب الرزق عليه، من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، وأول تلك المفاتيح هو مفتاح الصدقة، فقد بيَّن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي جاء عن طريق أبي هريرة قَالَ: قالَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا".

وأمر الصدقة عظيم عند الله عز وجل وهو يخلف على من أنفق في سبيل الله عز وجل، فقد قال الله تعالى في سورة سبأ: "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" فتلمّس حاجات الناس والتعرّف على أحوالهم والاهتمام بمعايشهم وجبر خواطرهم يقرب إلى الله عز وجل.

ومن مفاتيح الرزق صلة الرحم، فمن يصل رحمه ويسعى في حوائجهم يمده الله عز وجل بأرزاقه، ويطيل عمره كما ورد في الحديث النبوي الشريف في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحبَّ أن يُبْسَط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه".

ومن مفاتيح الرزق أيضا كثرة قراءة القرآن وحفظه وتدبره، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، وحفظة القرآن يحدثون عن أنفسهم أنهم تنصب عليهم الأرزاق من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، وذلك لبركة القرآن. وكل أعمال الخير والبر هي مفاتيح لتعرض رحمات الله ونفحاته وأرزاقه.

وقد أورد القرطبي في تفسيره قصة الأصمعي العجيبة مع أحد الأعراب حول مسألة الرزق. يقول الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتلُ عليّ منه شيئا، فقرأت والذاريات ذروا إلى قوله: وفي السماء رزقكم فقال: يا أصمعي حسبك! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعنّي على توزيعها، ففرّقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: وفي السماء رزقكم وما توعدون فمقتُ نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلّم عليّ وأخذ بيدي وقال: اتلُ عليّ كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت والذاريات ذروا حتى وصلت إلى قوله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون، فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم يقول الله تبارك وتعالى: فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون، قال: فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الله عز وجل أن الله من حیث

إقرأ أيضاً:

طقوس وممارسات الاحتفال بمولد النبي عليه السلام

يُعتبر الاحتفال بمولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم من المناسبات الدينية العظيمة التي تُقام في العديد من البلدان الإسلامية. يهدف هذا الاحتفال إلى إحياء ذكرى ولادة النبي وتذكير المسلمين بأخلاقه وتعاليمه.

التاريخ

يُحتفل بمولد النبي في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول في التقويم الهجري. يختلف تاريخ الاحتفال بين الدول الإسلامية، حيث يختار بعض المسلمين الاحتفال في اليوم الثاني عشر، بينما يحتفل آخرون في اليوم السابع عشر من نفس الشهر.

أدعية مستحبة في يوم مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم يوم مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ميلاد النور الذي أضاء العالم الطقوس والممارسات

تتضمن احتفالات المولد عددًا من الطقوس والممارسات، منها:

إقامة المحاضرات والدروس: تُنظَّم محاضرات تتناول سيرة النبي وأخلاقه.توزيع الحلوى: يتم توزيع الحلوى والمأكولات كجزء من الاحتفال.الأناشيد والمدائح: يتجمع الناس لترديد الأناشيد والمدائح النبوية التي تُعبر عن حبهم للنبي.الاحتفالات الجماعية: تُقام فعاليات احتفالية في المساجد والساحات العامة، حيث يجتمع الناس للاحتفال.الأبعاد الاجتماعية والثقافية

يُعتبر الاحتفال بمولد النبي فرصة لتعزيز الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع. يجتمع الناس في جو من الفرح والمحبة، مما يسهم في تقوية الروابط الأسرية والاجتماعية.

خاتمة

إن الاحتفال بمولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو تجسيد لقيم المحبة والتسامح والرحمة التي دعا إليها النبي. يظل هذا الاحتفال محفورًا في قلوب المسلمين، ويشكل فرصة لتجديد العهد بتعاليمه وأخلاقه.

مقالات مشابهة

  • الأدعية المستحبة في المولد النبوي الشريف.. تزيد الرزق البركة
  • أحمد عمر هاشم: حظيت برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام
  • فضائل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • تفاصيل هجوم إسرائيل البري داخل سوريا.. والهدف "مصنع إيراني"
  • تفاصيل هجوم إسرائيل البري داخل سوريا
  • مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ميلاد الرحمة والإصلاح
  • طقوس وممارسات الاحتفال بمولد النبي عليه السلام
  • إسرائيل تنشر فيديو النفق الذي قُتل فيه الرهائن
  • مفاتيح النجاح في العمل
  • اليوم الوطني السعودي 94| أسعار تذاكر حفل عبادي الجوهر