سواليف:
2025-05-01@00:06:43 GMT

تأملات قرآنية

تاريخ النشر: 22nd, August 2024 GMT

#تأملات_قرآنية

د. #هاشم_غرايبه

يقول تعالى في الآية 28 من سورة فاطر: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”.
لغويا فأن اتصال (ما) مع التوكيد (إن) تفيد الحصر، وذلك ليكون المعنى بأن العلماء هم الأجدر بخشية الله، والتي يسبقها حتما معرفته والإيمان به، وليفيد ذلك بأن الله يحض على طلب العلم ويعلي من شأن العلماء، لكن المعنى الأعمق هو أن غير المؤمن هو جاهل، بغض النظر عن تحصيله الأكاديمي، فالغباء والذكاء ليس معيارهما حجم المعلومات المحصلة بالتعلم، بل بكيفية استخدام العقل وأدواته المنطقية.


من هنا نفهم لماذا قال تعالى عن المكذبين والمشركين: “الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ”، فلأنهم غارقون في الجهل والتخلف المعرفي، فمن غير المؤمل إيمانهم.
لذلك فقد خاطب القرآن العقل البشري في ما لا يقل عن ثلثه، وبآيات خصصها لاستفزاز العقل ودفعه الى التفكر في ما يراه من حوله وفي نفسه.
ورغم التخلف العلمي الذي كان ضاربا استاره على العقول في زمن الدعوة، فقد استخدم القرآن أسلوبا باهر البلاغة لا يمكن للبشر محاكاته، وذلك في ايراد المعلومة العلمية بحيث لا تتصادم مع العقل المتخلف آنذاك، فيمكنه فهمها حسب درجة فهمه، عندما كان متخلفا، وعندما يتقدم في العلم، ومن غير مجافاة الصحة العلمية.
بالطبع ولضحالة المعارف البشرية زمن التنزيل، لذلك جاءت المعلومة العلمية المتضمنة لكيفية خلق الإنسان عامة غير مفصلة، وهذه إحدى ميزات كتاب الله، فعندما يورد المعلومة الباهرة للعقل، تجدها بصياغة عمومية لكنها تحمل إشارات تحث العقل على البحث فيها لأجل التعمق في فهمها، لذلك نجدها على طبقات، كلما تقدم الانسان في العلم فهم إعجازها للعقل أكثر، لكن من غير تناقض مع المعلومة التي كان العقل الجاهل بالكاد استوعبها.
ففي إحدى المحاججات العقلية يقول تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى .أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ . ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ .فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ . أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ” [القيامة:36-40]،
يبدأ الله تعالى بتساؤل استنكاري موجه الى عقول من ينكرون البعث والحساب بدعوى عدم معقوليته، ولذلك أتبعها تعالى بما هو معقول لديهم وهو كيفية خلق الإنسان، لأجل أن يتفكر هذا المكذب في ذلك والذي يجري يوميا بهذه الصورة المعجزة، ويخلص الى الاستنتاج المنطقي: فالذي صمم وقدر ورعى بدء تكون الإنسان من خلية واحدة، الى أن اصبح بهذا الكمال الفائق من حيث أداء الأعضاء المتعددة لمهامها العديدة المتباينة أليس بقادر على أن يعيد هذا الخلق بصورة أخرى؟.
ومع تقدم العلم، أصبحنا نفهم كثيرا من دقائق جسم الإنسان، ولو أخذنا مثالا يسير الفهم لغير المتعمقين، وهو أداء الجهاز الهضمي كأحد هذه المهام مثالا، سنجد أنه يدخله يوميا مواد متنوعة ومختلفة فينتقي منها ما يحتاجه الجسم ويطرح خارجا ما لا يفيده، فلا يخطئ مرة واحدة في الانتقاء، ولا يعجز يوما عن حسن الأداء، فتنبني من هذه المادة الواحدة الممتصة من الأمعاء كل خلايا الجسم مهما تعدد تركيبها وتباينت مهامها، فمنها ذاتها تتكون خلية جلدية وظيفتها الحماية والحس، الى خلية عظمية جد مختلفة، وظيفتها الدعم والتحمل، الى خلية عضلية وظيفتها الحركة، وخلية عصبية آمرة بالحركة وناقلة للحس ..وهكذا الى آخر أنواع الخلايا.
ليس هذا فقط، بل لو تلف بعض هذه الخلايا بحادث أو مرض، سنجد أنه يتم تعويضها بنسيج من نوع الخلايا المفقودة ذاتها، وبالقدر المطلوب بلا زيادة ولا نقصان، فلا يمكن أن نجد شخصا جرح وجهه فالتأم جرحه بخلايا عظمية مثلا، بل كل الطبقات عادت كما كانت مهما كان التهتك كبيرا، فمكان الوريد المقطوع وريدا ولم تحدث حالة أنه نبت شريان أو العكس، كما أن العصب اتصل بالعصب المقطوع ذاته ولم يحدث في مرة أنه اتصل بعصب آخر..وهكذا في كل حالات فقدان جميع الأنسجة الأخرى.
وهكذا نرى كيف أن العقل المحدود المعارف زمن التنزيل، أبهره ولادة انسان شبيه بوالديه تماما، وقبل أن يتوصل الى فهم طبيعة تكون (الزيجوت)، فالأجدر ان ينبهر أكثر عندما يتقدم معرفة بالتفصيلات الدقيقة لذلك، ومن الغباء الاعتقاد أن ذلك مجرد صدفة.

مقالات ذات صلة يتحسب الأردن لهذه الأسباب 2024/08/22

المصدر: سواليف

إقرأ أيضاً:

مفتي الجمهورية: المدرسة الماتريديّة نشأت في بيئة ثقافيّة خصبة

أكد الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم،  أن المدرسة الماتريديّة نشأت في بيئة ثقافيّة خصبة، شهدت تداخلًا وتفاعلًا بين اتجاهات فكريّة متباينة، وأن هذا المناخ كان حافزًا لظهور منهج عقلانيّ متماسك تميّز به الماتريديون، موضحًا أن المدرسة الماتريديّة قد طوّرت أدوات معرفيّة رصينة قامت على التأمل العقليّ والاستدلال المنطقيّ، حيث نظر أئمّتها إلى العقل بحسبانه وسيلة لا غنى عنها لمعرفة الله تعالى، بل واعتبروا النظر العقليّ واجبًا أوليًا على كل مكلّف، مؤكدين أن صحّة الخبر والحسّ لا تثبت إلا من خلال صدق العقل ذاته، وأنه تميّز برؤية عقلانيّة عميقة الجذور لا تكتفي بتلقّي النصوص، بل تبني المعرفة من خلال أدوات يمكن التحقق من صدقها ضمن المشترك الإنسانيّ العام، منوهًا إلى أن الماتريديّة أرست موقفًا معرفيًا متينًا يتكئ على ثلاث دعائم هي: العقل السليم، والحواس الظاهرة، والخبر الصادق، معتبرًا أن كل علم حقيقي لا بد أن يصدر عنها، وبالتالي فقد أسهم هذا الموقف المعرفي الماتريدي في بلورة رؤية تتسم بالموضوعيّة والانضباط، حيث ظل العقل فيها هو الأداة الأهم لفحص مصادر المعرفة الأخرى، مع وعي تام بحدود العقل نفسه، وحاجته إلى النقل في قضايا الغيب وما لا يُدرك بالتجربة.

 

جاء ذلك خلال كلمته بالمؤتمر العلمي الدولي «الماتريدية مدرسة التسامح والوسطية والمعرفة»، الذي تنظمه لجنة الشؤون الدينية بجمهورية أوزباكستان، في الفترة من 29 إلى 30 أبريل الجاري، في مدينة سمرقند بجمهورية أوزباكستان

وأشار مفتي الجمهورية، إلى أن  الإمام الماتريديّ –رضي الله عنه– امتاز بمجموعة من الشمائل التّي جعلته يحتل مكانةً فريدةً في تراثنا العظيم، فلقد كان رحمه الله متحررًا من التعصب المذهبيّ، منصرفًا إلى البحث عن الحقيقة بتجرد، دون انقياد أو تقليد أعمى لآراء السابقين، كما امتاز  بنزعته الشموليّة في النظر والتحليل، حيث أظهر قدرةً فائقةً على الربط بين الجزئيات والكليات، وجمع الفروع تحت أصولها الكبرى، وهي قدرة تجلّت في تفسيره، وبرزت بوضوح في كتابه "التوحيد" ومن السمات اللافتة كذلك اهتمامه البالغ بالمضمون والمعنى، والتركيز على الجوهر والمقصد في تفسير النصوص، واللجوء إلى النكات البيانيّة أو اللفظيّة، إذا خدمت المعنى وأبرزت مغزاه، مؤكدًا بذلك أنّ الفكر لا قيمة له ما لم يرتبط بالعمل والتطبيق، ولذلك لم يكن تأثير المدرسة الماتريديّة حبيس بلاد ما وراء النهر فحسب، بل إن الأزهر الشريف بجامعه وجامعته  كان ولا زال يدرّس في أروقته العتيقة كتابي «العقيدة النسفيّة وتفسير أبي البركات النّسفيّ»، وكلاهما مدونات أصيلة في المذهب الماتريديّ.

وأوضح المفتي، أن المذهب الماتريدي، لم يكن يومًا مجرد منظومة فكريّة نظريّة، بل مثل امتدادًا عميقًا للروح الإنسانيّة في الإسلام، حيث نظر علماؤه إلى القيم الإنسانيّة كأصول عقديّة وأخلاقيّة يجب أن تغرس في الوعي والسلوك معًا، وقد تجلى هذا في حرص الإمام الماتريديّ في تفسيره لقول الله تعالى ﴿خلقكم مّن نّفس واحدة}، على تأكيد أنّ الأصل البشريّ واحد، وأنّ جميع الناس إخوة، مما ينفي أي مبرر للتفاخر بالأحساب والأنساب، وتكتمل هذه الرؤية في نقده العميق لظاهرة الكبر، التّي يراها وليدة الجهل بحقيقة النفس، حيث يقول رحمه الله "من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج - لم يتكبر على مثله "وبهذا يرسّخ المذهب الماتريديّ مفهوم التواضع لا كفضيلة أخلاقيّة فحسب، بل كمعرفة وجوديّة نابعة من وعي الإنسان بضعفه وحاجته، ويعكس بذلك تفاعلًا حيًّا بين العقيدة والأخلاق، حيث تصبح المساواة والتواضع والعدل قيمًا متجذّرةً في رؤية الإنسان لذاته والآخر، مبينًا أن الوسطيّة-التّي نحن بصدد دراستها في هذا المؤتمر المهم- لا تعني أبدًا الوسط بين الهدى والضلال، وإنّما تعني الاعتدال في الفكر، والصدق في الاعتقاد، والتوازن في السلوك، والعدل في الحكم والشهادة، إنّها موقف أهل السنّة والجماعة الأصيل الذي يجمع بين «الروح والمادة»، وبين «العقل والنقل»، وبين «الحقوق والواجبات»، قال تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا﴾ [البقرة: 143]، قال الإمام الماتريديّ «وسطًا يعني عدولًا» في كل شيء؛ فالعدل هو الأوثق للشهادة على الخلق، والأجدر لقبوله.

 

واختتم المفتي حديثه بأن المدرسة الماتريديّة لم تقف عند حدود التسامح العقديّ، بل تجاوزته إلى التفاعل مع الفلاسفة والمتكلمين بنقد موضوعيّ هادئ، كما يظهر في أعمال النسفيّ وغيره، ممن جمعوا بين الإخلاص للأصول والانفتاح العقليّ، وبهذا كلّه تعدّ المدرسة الماتريديّة أنموذجًا أصيلًا في التعايش والتسامح، ومصدر إلهام فكريّ وأخلاقيّ يصلح للاهتداء به في عصرنا الراهن.

وقد أعرب  مفتي الجمهورية في ختام كلمته عن خالص شكره وتقديره للجنة المنظمة للمؤتمر وسعادته بالمشاركة في هذا الجمع العلمي المبارك، الذي حضره جمعٌ كبير من العلماء والباحثين من مختلف دول العالم، من بينهم فضيلة دكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومفتي الديار المصرية الأسبق، والدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف وجمع كبير من العلماء.

مقالات مشابهة

  • الطريق المنسي في العمل الإسلامي
  • المراجعات الفكرية الثاقبة.. زكي نجيب محمود مثالًا
  • أدعية قرآنية لجلب الرزق.. احرص عليها يوميا في قيام الليل
  • سجناء المُطالبات المالية
  • شيخ العقل يحذر من مخططات لزعزعة الوحدة الوطنية في سوريا
  • مفتي الجمهورية: المدرسة الماتريديّة نشأت في بيئة ثقافيّة خصبة
  • من ضمنها ذي القعدة.. أهم 4 أعمال صالحة في الأشهر الحُرم
  • علي جمعة: التفكر في ذات الله تعالى منهي عنه
  • ما فضائل شهر ذي القعدة؟.. إشارة من الله و3 فرص للنجاة
  • العراق بين عقلية الحكم وحكم العقل