غزة- لنحو ربع قرن تعمل ضابط الإسعاف الأربعينية "مها وافي" في جهاز "الإسعاف والطوارئ" منذ التحاقها بجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني عام 2000، حيث عايشت منذ ذلك الحين أحداث "انتفاضة الأقصى" ومرت بحروب وكوارث، لكنها تعتبر الحرب الحالية "الأكثر قسوة ودموية".

أكثر من 10 شهور مضت والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لا تزال مستمرة في شهرها الـ11 توالياً منذ اندلاعها عقب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، لم تتوان مها (44 عاماً) عن دوامها اليومي، كانت خلاله مسعفة، وأم 4 ذكور وفتاة واحدة، ووجدت نفسها مسؤولة عنهم بمفردها بعد اعتقال زوجها مدير الإسعاف والطوارئ بوزارة الصحة للمنطقة الجنوبية بقطاع غزة أنيس الأسطل.

تعاني مها من تعرض زوجها الأسطل للاعتقال عند حاجز نتساريم العسكري منذ مطلع ديسمبر/كانون الأول 2023 (الجزيرة)

وتضع مها اعتقال زوجها "أنيس الدنيا" كأشد مصائبها بالحرب "فاعتقاله كسر ظهري" تقول هذه الزوجة الصابرة، وهي التي خسرت منزلها في مدينة خان يونس جنوب القطاع في غارة جوية إسرائيلية دمرته كلياً، ونزحت بأبنائها 10 مرات هرباً من حمم الصواريخ والقذائف.

نداء الواجب

يومياً ومع بزوغ أول خيوط النهار، تنطلق مها إلى عملها تتنازعها مشاعر الخشية على أبنائها والتزامها بعملها الإنساني، وتقول للجزيرة نت "كل صباح أنظر إلى أبنائي وأدرك حاجتهم لي، ولكنني أضبط مشاعري واستودعهم الله عز وجل وأنطلق إلى عملي.. أولادي بخير لكن هناك أطفالا جرحى وآخرين يئنون تحت ركام المنازل والمباني المدمرة وهم بحاجتي أكثر".

"لا يمكنني أن أتقاعس عن نجدة هؤلاء الضحايا، وكثير منهم أطفال ونساء" هذا ما تعلمته من زوجها أنيس، وتصفه بـ "القائد والصديق الأول، وكان يقدم عمله الإنساني على أي شيء آخر، ورغم أن منصبه الوظيفي كمدير يعفيه من العمل الميداني، إلا أنه يفضل أن يتقدم الصفوف، ويختار سيارة الإسعاف الأولى في مقدمة المواكب متحدياً المخاطر".

كان أنيس يرفع شعار "نداء الواجب" وينطلق بنفسه لمهام خطرة، وبحسب زوجته، فقد اعتقلته القوات الإسرائيلية عند حاجز نتساريم العسكري مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، بينما كان متوجهاً برفقة سيارات إسعاف بموجب تنسيق مسبق لإجلاء أطفال مرضى وجرحى من مستشفى كمال عدوان شمال القطاع.

اضطرت مها للنزوح بأبنائها 10 مرات منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 (الجزيرة)

ومنذ اعتقاله لا تعلم مها عن أنيس شيئاً، وما تسمعه من شهادات مؤلمة وصادمة عن أسرى غزة في سجون إسرائيل وما يتعرضون له يجعلها تعيش قلقاً دائماً على مصيره.

تقول مها إن "مواجهة الموت كل لحظة على جبهة النار يومياً في الميدان أهون مليون مرة من قلقي على أنيس" وفي الوقت نفسه تجد نفسها مضطرة للتخفيف عن أبنائها وبث الأمل في نفوسهم بقرب تحرر أبيهم من السجن وعودته إلى حضن أسرته "وهو عمود البيت ومصدر سعادتنا ورغم أجواء الحرب المرعبة أجلس مع أبنائي ونستحضر ذكرياتنا الجميلة مع أنيس".

جبهات نضالية

لم تمض سوى ساعات قليلة على اعتقال أنيس حتى وجدت مها نفسها مضطرة للنزوح إثر إنذارات عسكرية إسرائيلية مهدت لعملية برية في مدينة خان يونس بدأتها في 5 ديسمبر 2023 واستمرت حتى 6 ابريل/نيسان الماضي.

ذاقت هذه المرأة صنوفاً من ويلات الحرب: شهداء من الأقارب والأحبة، اعتقال زوجها، تدمير منزلها المكون من طبقتين. وعاشت مع أبنائها في خيمة، صيفاً وشتاء، وتقول "الحياة في الخيمة قطعة من جهنم، عذاب مع البرد ومياه الأمطار، وعذاب مع حرارة الصيف وانتشار الحشرات والأمراض".

وفي هذه الخيمة تترك مها أبناءها الخمسة وتشعر "وكأن قلبي يخلع من ضلوعي" وتقضي نهارها في عملها الميداني تتنقل بين استهداف وآخر، لا تكتفي بإجلاء الجرحى وإنما تخفف عنهم نفسياً، وتعود إلى أبنائها "مشحونة بضغوط هائلة" بحسب وصفها، غير أنها تتعالى على تعبها وتخلع معطفها الأبيض وتبدأ مهامها كأم في إعداد الطعام على نار الحطب في ظل أزمة غاز غذائية حادة.

مها وافي تحدثت عن معوقات كثيرة تعترض عملها ضمن طواقم الإسعاف بسبب الحرب والحصار (الجزيرة)

تمر ساعات عملها ثقيلة تتنازعها الكثير من المشاعر الإنسانية الممزوجة بقلق لا يفارقها منذ اعتقال زوجها "هذا الرداء لا يحميني وقد سبقني زملاء شهداء وقد تزينت معاطفهم البيضاء بدمائهم، فماذا لو استشهدت أو اعتقلت، من لأبنائي؟" تتساءل المسعفة الفلسطينية.

وما تعايشه مها من مجازر وجرائم إسرائيلية يومية تجعل "الدنيا تصغر في عيني، فما من شيء في هذه الدنيا أهم من حياة الإنسان". وتتساءل "ما قيمة المال؟ ولماذا الخلافات الشخصية والأسرية والعائلية؟ ولماذا الغش وارتفاع الأسعار؟.. ما قيمة كل ذلك وحياتك مهددة وكل تفقدها في كل لحظة مع استمرار هذه الحرب المجنونة؟".

حرب مجنونة

"هذه حرب مجنونة وبلا أخلاق" تقول مها وهي تتحدث عن الظروف التي تواجه عمل طواقم الإسعاف والطوارئ في الميدان، وقد كانت أعداد من العاملين في هذه الطواقم ضحايا للقتل أو الجرح أو الاعتقال، وهي ذاتها تعمل وتدرك أنها ليست في مأمن.

وتكابد مها وزملاءها في هذه الطواقم معاناة شديدة نتيجة الكثير من المعوقات الناجمة عن تداعيات الحرب والحصار، من حيث نقص المعدات الطبية، والدمار الهائل الذي تسببت به آليات إسرائيل وصواريخها في الشوارع وتعوق حركة سيارات الإسعاف.

ورغم كل ذلك تنطلق مها مع رفاقها في سيارة الإسعاف، يسابقون الريح، وتقول "كل دقيقة فيها حياة إنسان".

ضابط الإسعاف مها وافي تحاصرها المخاطر وفي وضع نفسي صعب إثر اعتقال زوجها ودمار منزلها (الجزيرة)

ومن بين مشاهد مؤلمة كثيرة لا تكاد تفارقها صورة طفل رضيع في الثانية من عمره يصرخ من شدة الألم، وقد بترت أطرافه الأربعة بفعل صاروخ إسرائيلي أوقع مجزرة في بلدة عبسان شرق مدينة خان يونس، وكان ملقى بين أعداد من الجثث ربما من بينها جثتا والديه.

ووثق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استشهاد 885 من الطواقم الطبية، وجرح المئات، علاوة على اعتقال 310 من الكوادر الصحية، من بينهم أطباء وممرضون ومسعفون وإداريون.

وقال مدير عام المكتب إسماعيل الثوابتة للجزيرة نت إن إسرائيل تعمدت بشكل ممنهج -خلال حرب الإبادة الجماعية- استهداف المرافق والمستشفيات والطواقم الصحية، وقد أخرج 34 مستشفى و80 مركزا صحيا عن الخدمة، واستهدف 162 مؤسسة صحية، و131 سيارة إسعاف.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات اعتقال زوجها فی هذه

إقرأ أيضاً:

أدلّة إعدام ميداني و300 طبيب معتقل.. الاحتلال الإسرائيلي حوّل غزة لمقبرة الكوادر الطبية

نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، افتتاحية، شجبت فيها استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي للمسعفين الفلسطينيين، في رفح، بالقول إنها: "جريمة حرب، في نزاع لم ينته بعد".

وأوضحت الصحيفة، في الافتتاحية التي ترجمتها "عربي21" أنّ: "الإفلات من العقاب في قتل الفلسطينيين لن يقود إلاّ لمزيد من المجازر ضد عمال الإنقاذ والخدمة الصحية".

وأضافت: "بعد 18 شهرا من المجازر، هناك مجال لأن تصدمك الأحداث في غزة. فقد قتل أكثر من 50,000  شخصا، وفقا للسلطات الصحية الفلسطينية. فيما يتضور المزيد من السكان جوعا، لأن إسرائيل قطعت المساعدات، وتشتد وتيرة الحرب مجددا، حيث يقتل أو يشوّه 100 طفل في اليوم، وذلك حسب تقارير الأمم المتحدة".

"مع ذلك، فإن قتل إسرائيل لـ 15 مسعفا وعامل إنقاذ فلسطيني أمر مهول جدا. ورغم وفاتهم في 23 آذار/ مارس، قد استغرق الأمر أياما حتى سمحت إسرائيل بالوصول للموقع، حسب الأمم المتحدة. وشوهد رجل آخر في الحجز الإسرائيلي" وفقا للافتتاحية نفسها.

وتقول الصحيفة إنّ: "هناك سببين تدعو للتعامل مع الحادث بأنه ليس مأساويا فقط بل جريمة حرب أيضا"، مبرزة: "الأول هو أن الأمم المتحدة تتحدث عن إطلاق النار على الرجال واحدا تلو الآخر".

ووفقا للمصدر ذاته، قال خبير في الطب الشرعي إنّ: "الأدلة الأولية تشير إلى أنهم أُعدموا، ليس من مسافة بعيدة، ونظرا لمواقع جروح الرصاص المحددة والمتعمدة". مردفا: "قال شاهدان إن بعض الجثث كانت مقيدة الأيدي أو الأرجل".


واسترسل: "أما السبب الثاني فهو أن العاملين في المجال الطبي يتمتعون أيضا بحماية خاصة" وذلك في إشارة إلى استمرار دولة الاحتلال الإسرائيلي في انتهاك القوانين الدولية وكافة المواثيق المرتبطة بحقوق الإنسان.

وأوضحت الصحيفة أنّ: "عربات الإسعاف كانت معلمة بشكل واضح، لكن الجيش الإسرائيلي قال إنها كانت تتقدم بطريقة تثير الشك؛ بدون أضواء أمامية أو إشارات. وهو زعم أنكره الناجي الوحيد من المجزرة. وزعم الجيش بدون تقديم أدلة، أن مسلحين من حماس والجهاد الإسلامي كانوا من بين القتلى".

وتابعت: "ممّا لا جدال فيه هو النمط الأوسع للهجمات على عمال الإنقاذ والصحة. فقد قُتل أكثر من 1,000 مسعفا في جميع أنحاء غزة، وفقا لتحقيق أجرته صحيفة: الغارديان".

ومضت بالقول: "دمّرت المستشفيات. وتقول منظمة الصحة العالمية إن حوالي 300 من الكوادر الطبية قد اعتقلوا. ووصف العديد منهم لاحقا التعذيب والضرب والتجويع والإذلال. وروى الأطباء الذين تطوّعوا في غزة اعتداء ممنهجا على مؤسسات الرعاية الصحية وشخصيات المجتمع المحترمة العاملة في هذا القطاع".

إلى ذلك، تعلق الصحيفة بالقول: "أي من هذا لن يثير قلق بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي. فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه بتهم ارتكاب جرائم حرب، ولكن أثناء زيارته للمجر يوم الخميس، أعلنت بودابست انسحابها من المحكمة".

وأردفت: "شجّع دونالد ترامب كل من يعتبر المحكمة الجنائية الدولية عدوا، كما ويتعامل مع  القانون بطريقة انتقائية. وتعلق أن خطة الرئيس الأمريكي "الاستيلاء" على غزة، بالاعتماد على التطهير العرقي للفلسطينيين، سهلت على وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، التصريح بأنه: سيستولي على مساحات واسعة".

واسترسلت: "وسّعت إسرائيل بالفعل المناطق العازلة بشكل كبير منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وكان من اللافت للنظر أن تحذير كاتس جاء في أسبوع قدم فيه نتنياهو شهادة مرة أخرى في محاكمته بالفساد".


"لا يزال البقاء السياسي لرئيس الوزراء مرتبطا بحرب لا نهاية لها، وبيأس عائلات الأسرى الإسرائيليين المتبقين، وكذلك الفلسطينيين. ويقول الجيش الإسرائيلي إنه يحقق في عمليات القتل التي وقعت في 23 آذار/ مارس، لكن لا بد من تحقيق مستقل" بحسب الصحيفة ذاتها.

وختمت بالقول: "وصف وزير الخارجية، ديفيد لامي، غزة، بأنها أخطر مكان على وجه الأرض للعاملين في المجال الإنساني، وقال بحق إنه يجب محاسبة المسؤولين".

واستطردت: "في عصر يزدهر فيه الإفلات من العقاب، سوف تتضاعف الجرائم. يجب على أولئك الذين يؤمنون بالعدالة أن يضاعفوا دعمهم للمؤسسات الدولية المحاصرة التي تسعى إلى دعمها".

مقالات مشابهة

  • درة تشارك صورة رومانسية مع زوجها: توجد الحياة حيث يوجد الحب
  • إسرائيل تدك غزة.. وسكان حي الشجاعية يستغيثون إنقاذهم
  • حادث مقتل المسعفين.. إسرائيل تجري تحقيق "كذب جنود الميدان"
  • 17952 شهيدًا و350 معتقلًا.. جرائم الاحتلال تتواصل ضد أطفال فلسطين
  • مقطع يوثق جريمة إعدام طواقم الإسعاف في رفح وينسف رواية الاحتلال (شاهد)
  • مقتل عمال الإغاثة.. فيديو يكشف تناقضا في الرواية الإسرائيلية
  • منذ بداية الحرب..أونروا: تشريد 1.9 مليون فلسطيني في غزة
  • الهلال الأحمر: فيديو "نيويورك تايمز" يدحض رواية إسرائيل
  • أدلّة إعدام ميداني و300 طبيب معتقل.. الاحتلال الإسرائيلي حوّل غزة لمقبرة الكوادر الطبية
  • صرخة نازحة بدارفور: نريد الأمان للعودة إلى ديارنا