أغسطس 22, 2024آخر تحديث: أغسطس 22, 2024

المستقلة/ تقرير استقصائي/- يعيش العراق اليوم في قبضة فساد متجذر، أشبه بغول متعدد الرؤوس، لا يتوقف عن النمو والتمدد، ممسكًا بخيرات البلاد ومعرقلًا مساعي التنمية والتقدم. رغم الجهود المبذولة لمكافحة هذه الآفة، إلا أن الفساد لا يزال يتفاقم، مما يثير تساؤلات ملحة حول من يتحمل مسؤولية استمرار هذا الوضع وأين يمكن العثور على الحلول الحقيقية.

رقابة حكومة السوداني: جهود مشكوك في فعاليتها

منذ أن تولى محمد شياع السوداني منصب رئيس الوزراء، كانت محاربة الفساد على رأس أولويات حكومته. السوداني جاء ليحمل لواء التغيير ويعِد بتحقيق ما لم تقدر عليه الحكومات السابقة، إلا أن العراق الذي يعاني من فساد متجذر، يتطلب أكثر من مجرد وعود وشعارات.

الحكومة الجديدة أصدرت العديد من التوجيهات، من بينها الدعوة إلى الاستجابة الفورية لإخبارات الفساد وتنفيذ القرارات القضائية خلال 24 ساعة، إلا أن هذه الجهود، رغم جديتها الظاهرية، لا تزال محط شك. السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يكفي إطلاق هذه المبادرات لإحداث تغيير جذري في بلد يُعد الفساد فيه جزءًا من بنية السلطة؟ السوداني قد يكون مُحقًا في حماسته لمحاربة الفساد، لكن هل يستطيع الصمود أمام تحديات الضغوط السياسية والتواطؤ الداخلي؟ الفساد في العراق ليس مجرد حالة فردية هنا أو هناك؛ إنه منظومة معقدة تستفيد منها أطراف متنفذة قادرة على إجهاض أي محاولة للإصلاح.

على الرغم من أن السوداني قد بدأ بتحريك المياه الراكدة عبر قرارات جريئة، يبقى نجاحه مرهونًا بقدرته على مواجهة حيتان الفساد التي تملك شبكات عميقة داخل مؤسسات الدولة. وفي ظل هذه التعقيدات، هل تستطيع حكومة السوداني أن تحقق وعودها أم أنها ستنضم إلى قائمة الحكومات التي أطلقت وعودًا كبيرة وفشلت في تحقيقها؟

رقابة مجلس النواب: أداء ضعيف وتأثير محدود

من المفترض أن يلعب مجلس النواب العراقي دورًا مركزيًا في مراقبة الحكومة ومحاسبة المسؤولين عن الفساد. ومع ذلك، فإن الواقع يعكس ضعفًا واضحًا في أداء المجلس، حيث تحول في كثير من الأحيان إلى جزء من المشكلة بدلاً من أن يكون جزءًا من الحل.

التحالفات السياسية التي تسيطر على المجلس غالبًا ما تكون حجر عثرة أمام تفعيل دوره الرقابي. يتجلى ذلك في تأخير الاستجوابات البرلمانية أو تعطيلها تحت ضغوط حزبية أو نتيجة لمساومات سياسية. هذا الضعف في الدور الرقابي يؤدي إلى تفاقم ظاهرة الفساد ويتيح للفاسدين فرصة الإفلات من المحاسبة. المجلس الذي كان يُفترض أن يكون الضامن لحماية حقوق الشعب ومراقبة أداء السلطة التنفيذية، أصبح أداة في يد التحالفات السياسية التي تفضل الحفاظ على مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة.

في هذا السياق، لا يمكن تجاهل تأثير المصالح الحزبية الضيقة التي تعيق عمل المجلس. هذه المصالح تحول دون تفعيل الرقابة البرلمانية بالشكل المطلوب، وتجعل من الصعب تمرير القوانين الضرورية لمكافحة الفساد. النتيجة هي بقاء ملفات الفساد عالقة، دون حل جذري، مما يضعف ثقة الشعب في مجلس النواب ويعزز مناخ الإفلات من العقاب.

الرقابة القضائية: ضعف في حسم القضايا الكبرى

القضاء في العراق يُعتبر آخر حصن منيع يجب أن يلجأ إليه المواطن في مواجهة الفساد، إلا أن هذا الحصن بات مخترقًا هو الآخر. ضعف النظام القضائي في التعامل مع قضايا الفساد الكبرى يعكس مشكلة أعمق تتعلق بالاستقلالية والضغوط السياسية التي تؤثر على سير العدالة.

الكثير من القضايا المتعلقة بالفساد تظل عالقة في دهاليز القضاء، حيث تتأخر المحاكمات وتتأجل الأحكام بسبب التدخلات السياسية أو الضغوط التي يمارسها المتنفذون. هذه الديناميكية لا تؤدي فقط إلى تعطيل سير العدالة، بل تعزز أيضًا ثقافة الإفلات من العقاب. الفاسدون في العراق يدركون جيدًا أن القضاء الذي ينبغي أن يكون رقيبًا صارمًا، يمكن استغلاله من خلال تعقيد الإجراءات القانونية أو استخدام العلاقات السياسية لتجنب المحاسبة.

في هذا المناخ، يصبح الفساد جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، ويشعر المواطنون بأن النظام القضائي عاجز عن حمايتهم أو الحفاظ على حقوقهم. بدون إصلاح حقيقي وشامل للنظام القضائي، سيظل الفساد يستشري بلا رادع، وسيظل القضاء العراقي يُنظر إليه على أنه جزء من المشكلة بدلاً من أن يكون جزءًا من الحل.

دور الإعلام والثقافة: بين التوعية والتضليل

الإعلام في أي مجتمع هو عين الرقيب وصوت المظلوم، ولكن في العراق، الإعلام غالبًا ما يكون جزءًا من شبكة المصالح التي تغذي الفساد بدلاً من أن تفضحه. الإعلام العراقي يمتلك القدرة على كشف الفساد وتسليط الضوء على الممارسات غير القانونية، إلا أن هذا الدور غالبًا ما يُقوض بسبب الارتباطات السياسية والاقتصادية التي تحد من استقلاليته.

وسائل الإعلام التي يُفترض أن تكون منبرًا للشفافية، كثيرًا ما تتحول إلى أدوات للتضليل. التلاعب بالمعلومات، والتحيز في التغطية، والاعتماد على مصادر تمويل مشبوهة، كلها عوامل تجعل الإعلام غير قادر على أداء دوره في مكافحة الفساد. بدلاً من أن يكون وسيلة لتوعية الجمهور وتحفيزهم على المساءلة، أصبح الإعلام جزءًا من المنظومة التي تحمي الفاسدين وتُغلق الأبواب أمام أي محاولة للإصلاح.

على الجانب الثقافي، يواجه العراق تحديات كبيرة في ترسيخ قيم النزاهة والمساءلة. الثقافة العامة في كثير من الأحيان تتسامح مع الفساد أو تعتبره جزءًا من “الواقعية السياسية”. الفنون والتعليم والإعلام المستقل كلها أدوات يجب أن تُستخدم لتعزيز ثقافة تحترم القانون وتدعم الشفافية. بدون تغيير جذري في المنظومة الثقافية والإعلامية، سيظل الفساد مستمرًا وسيبقى الشعب العراقي رهينة لنظام يفتقر إلى النزاهة.

الدور الأمريكي: تأثير مشبوه وتغاضٍ مقصود؟

لا يمكن تناول موضوع الفساد في العراق دون الإشارة إلى الدور الذي لعبته الولايات المتحدة منذ احتلالها للبلاد في عام 2003. السياسات الأمريكية في العراق، وخاصة فيما يتعلق بإعادة الإعمار وتوزيع العقود، أسهمت بشكل كبير في خلق بيئة خصبة للفساد.

العديد من عقود إعادة الإعمار التي مولتها الولايات المتحدة لم تكن مدروسة جيدًا، وتم تنفيذها بدون رقابة كافية، مما أدى إلى إهدار مليارات الدولارات. هذه الفوضى المالية لم تسهم فقط في تفشي الفساد، بل ساعدت أيضًا في بناء شبكات من الفاسدين الذين لا يزالون يحتفظون بنفوذهم داخل العراق.

وعلى الرغم من انسحاب القوات الأمريكية إلى حد كبير، إلا أن النفوذ الأمريكي لا يزال قويًا في العراق. هناك اتهامات بأن الولايات المتحدة تغض الطرف عن بعض ملفات الفساد من أجل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية. هذه السياسات، سواء كانت نتيجة لإهمال أو تصميم، ساهمت في تعميق أزمة الفساد في العراق، مما جعل من الصعب على أي حكومة عراقية تحقيق تقدم حقيقي في مكافحة هذه الظاهرة.

دور الأمم المتحدة: الرقابة الدولية وأثرها المحدود

الأمم المتحدة، التي يُفترض أن تكون جهة دولية محايدة تسهم في تعزيز الشفافية ودعم سيادة القانون، لم تكن بمنأى عن الانتقادات في العراق. بعض برامج المساعدات التي تديرها الأمم المتحدة واجهت اتهامات بالفساد أو سوء الإدارة، مما قلل من ثقة العراقيين في الدور الرقابي للأمم المتحدة.

الشفافية المحدودة في عمليات الأمم المتحدة، وغياب المساءلة الحقيقية للعاملين في هذه البرامج، أثار تساؤلات حول مدى فعالية الرقابة الدولية في مكافحة الفساد. إذا كانت المنظمات الدولية غير قادرة على تقديم نموذج يحتذى به في الشفافية والنزاهة، فكيف يمكن أن يتوقع من المؤسسات العراقية الفاسدة أن تحقق ذلك؟

الرقابة الشعبية والدينية: قوة كامنة تحتاج إلى تفعيل

الشعب العراقي يمتلك قوة كامنة تستطيع تغيير المعادلة، إلا أن هذه القوة غالبًا ما تكون مكممة أو غير مفعلة بالشكل المطلوب. الرقابة الشعبية، التي تُمارس من خلال الاحتجاجات والتظاهرات ومشاركة المجتمع المدني، تعتبر إحدى أهم الوسائل للضغط على الحكومة والمؤسسات لمكافحة الفساد.

في الوقت نفسه، تلعب المؤسسات الدينية دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام في العراق. ومع ذلك، بعض هذه المؤسسات قد توفر غطاءً أخلاقيًا أو شرعيًا للفاسدين، سواء عن قصد أو دون قصد. إذا ما تم تفعيل الدور الديني بالشكل الصحيح، يمكن أن يكون قوة دافعة نحو الإصلاح والتغيير.

الحلول المقترحة: إما إصلاح النظام أو تشكيل تحالف مناهض للفساد

مكافحة الفساد في العراق تتطلب اتخاذ خطوات جذرية وحاسمة، ولذا فإن الحلول المقترحة يمكن تقسيمها إلى مرحلتين:

إصلاح النظام من الداخل:

القادة السياسيون الحاليون مطالبون بتبني إصلاحات حقيقية، بعيدًا عن الشعارات الرنانة والتصريحات الفارغة. هذه الإصلاحات يجب أن تشمل تعزيز الشفافية والمساءلة في جميع مؤسسات الدولة، وضمان استقلالية القضاء ليكون قادرًا على حسم القضايا الكبرى المتعلقة بالفساد دون تدخلات سياسية. كذلك، تفعيل الرقابة البرلمانية والقضائية بشكل مستقل وفعّال يعتبر ضرورة حتمية لوقف نزيف الفساد.

التزام القائمين على العملية السياسية بالإصلاح ليس خيارًا، بل هو ضرورة للبقاء. إن استمرار الفساد سيؤدي في النهاية إلى انهيار النظام برمته، وبالتالي فإن المصلحة الوطنية تقتضي اتخاذ إجراءات جذرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

تشكيل تحالف سياسي مناهض للفساد:

إذا فشل القادة الحاليون في إصلاح النظام من الداخل، فإن البديل هو تشكيل تحالف سياسي مناهض للفساد. هذا التحالف يجب أن يضم قوى سياسية مستقلة ونزيهة قادرة على تقديم جيل جديد من السياسيين والإداريين الذين يلتزمون بمبادئ الشفافية والنزاهة.

التحالف الجديد يجب أن يكون لديه برنامج واضح يهدف إلى استعادة ثقة الشعب في المؤسسات الحكومية، والعمل بشكل وثيق مع منظمات المجتمع المدني لتوعية المواطنين وتحفيزهم على المشاركة الفعّالة في الرقابة على أداء الحكومة.

دعم التحالف دوليًا يعتبر أيضًا خطوة ضرورية لتعزيز موقفه وإجراء الإصلاحات الهيكلية المطلوبة للقضاء على الفساد. المجتمع الدولي، وخاصة الدول والمنظمات التي لها مصلحة في استقرار العراق، يجب أن تدرك أن دعم التحالف المناهض للفساد يصب في مصلحة الجميع، ويعزز من فرص بناء دولة مستقرة وشفافة.

خاتمة
في نهاية المطاف، تبقى معركة مكافحة الفساد في العراق معركة وجودية تتطلب تضافر جهود كل مكونات المجتمع. الإصلاح الحقيقي لن يتحقق إلا إذا كانت هناك إرادة سياسية قوية مدعومة بوعي شعبي مستنير. العراق بحاجة إلى نهضة حقيقية تبدأ من كسر دائرة الفساد، لتوفير مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

المصدر: وكالة الصحافة المستقلة

كلمات دلالية: الفساد فی العراق مکافحة الفساد الأمم المتحدة غالب ا ما جزء ا من أن یکون إلا أن یجب أن

إقرأ أيضاً:

أوهمهم بتوفير فرص عمل بالخارج.. سقوط مالك شركة متهم بالنصب في قبضة الداخلية

كشفت معلومات وتحريات الإدارة العامة لتصاريح العمل بقطاع الوثائق، في وزارة الداخلية، قيام مالك شركة لإلحاق العمالة بالخارج -بدون ترخيص- ومقرها القاهرة، بالنصب والاحتيال على المواطنين، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بإيهامهم بقدرته على تسفيرهم للعمل خارج البلاد والتحصل منهم على مبالغ مالية.

عقب استئذان النيابة العامة، وبالتنسيق مع قطاع الأمن العام، تم استهداف الشركة المُشار إليها وضبط مالكها، وعُثر بداخلها على مضبوطات عبارة عن «جوازات سفر خاصة بالمجني عليهم – دفتر استلام نقدية - عدد من الإعلانات الدعائية الخاصة بالشركة» وهاتف محمول يحوى دلائل تؤكد نشاطه الإجرامي.

جرى تحريز المضبوطات، وتحرير محضر بالواقعة، وإحالة المتهم إلى النيابة العامة لاتخاذ اللازم بشأنه.

مقالات مشابهة

  • المجلس العام الماروني: الإستقلالُ يكونُ بتحمُّل المسؤولية دفاعاً عن الوطن
  • «استدراج وتفاوض».. كيف سقط مستريح القاهرة الجديدة في قبضة الأمن؟
  • البطريرك ميناسيان: ندعو القوى السياسية إلى اختيار رئيس يكون رمزًا للوحدة
  • صحيفة إسرائيلية: الوصول لـ95٪ من اتفاق وقف النار والشيطان يكمن في التفاصيل
  • خليل الحية: نبحث في كافة الأبواب والطرق التي يمكن من خلالها وقف العدوان
  • أوهمهم بتوفير فرص عمل بالخارج.. سقوط مالك شركة متهم بالنصب في قبضة الداخلية
  • تفاصيل هجوم للحوثيين استهدف سفينة تركية.. ما حمولتها وأين كانت متجهة؟
  • وداعا للحقن! اللقاح القادم يمكن أن يكون رشة في الهواء
  • مدرب النشامى : التعادل أفضل من الخسارة.. والفاخوري لا يتحمل المسؤولية
  • أمريكا: الجيش الإسرائيلي يتحمل جزءا من اللوم على نهب المساعدات في غزة