المجتمع والثورة الليبية من خلال فتاوى دار الإفتاء الليبية
تاريخ النشر: 22nd, August 2024 GMT
نشرت دار الإفتاء الليبية الفتاوى التي صدرت عنها خلال عشر سنوات، منذ بداية الثورة الليبية سنة 2011م، في عشر مجلدات، وهي ثروة فقهية وتوثيقية للمجتمع الليبي في غاية الأهمية، وقد دار نقاش كبير بين أهل التاريخ حول: هل تعد كتب الفتاوى والنوازل وثائق ومراجع للتاريخ أم لا؟ ورفض البعض اعتمادها كوثائق تاريخية، لأن بعض الأسئلة والأجوبة أحيانا تكون افتراضية، ورأيي: أنها تصلح كوثائق تاريخية، وكأحد مصادر التاريخ، وذلك في الشق الحقيقي منها، المعبر عن الحالات التي تنطلق من أسئلة مجتمعية، ولو كانت تحمل سؤالا شخصيا.
وفتاوى دار الإفتاء الليبية، ندر أن تجد فيها سؤالا افتراضيا، بل كلها أسئلة من الواقع الليبي المعيش، حيث ينعم الناس بقدر من حرية التعبير، وحرية السؤال، وينعم المفتي بقدر كبير من حرية الجواب، ولذا تكون مثل هذه الفتاوى معبرة بقدر كبير عن المجتمع الليبي في مرحلة من مراحله المعاصرة.
فاشتلمت الفتاوى على عدد غير قليل يتعلق بمجريات الثورة الليبية، وما تلاها من أحداث، سواء من الثوار، وما يتعلق بهم من فتاوى، من حيث حراكهم السياسي، أو من حيث حقوقهم المالية والسياسية في ليبيا ما بعد الثورة، أو ما يتعلق بالمسؤولين عن هذه السنوات العشر، من مسؤولين سياسيين وتنفيذيين، وقد كانت الفتاوى تطلب من المواطنين والمسؤولين، والجهات الحكومية والشعبية على حد سواء، وهو ما يمثل كنزا تاريخيا ومجتمعيا ودينيا عن هذه المرحلة المهمة في التاريخ الليبي المعاصر.
فتاوى تعبر عن ليبيا بعد الحرية
من أبرز ما يلمسه قارئ فتاوى دار الإفتاء الليبية، أن كثيرا من الفتاوى والأسئلة تدل على مساحة كبيرة وهائلة من الحرية يعيشها المواطن، حيث إن الأسئلة في كثير منها يتعلق بمناحي الحياة في ليبيا، ولذا لا تجد فتاوى تتعلق بالخروج على الحاكم، وهل التظاهر يعد خروجا عليه أم لا؟ لأنه لم يعد هناك حاكم يمنع التظاهر، ولا يتهم من يقوم به بالخروج عليه، أو على ولي الأمر، كما كان يشيع شيوخ السلطة، وأتباع الفكر المدخلي في ربوع الوطن العربي، فقد فرضت الثورة واقعا آخر، وأسئلة أخرى، كانت نتاج خروج الشعب الليبي مطالبا بحريته.
فتاوى دار الإفتاء الليبية، ندر أن تجد فيها سؤالا افتراضيا، بل كلها أسئلة من الواقع الليبي المعيش، حيث ينعم الناس بقدر من حرية التعبير، وحرية السؤال، وينعم المفتي بقدر كبير من حرية الجواب، ولذا تكون مثل هذه الفتاوى معبرة بقدر كبير عن المجتمع الليبي في مرحلة من مراحله المعاصرة.ستجد أسئلة متعلقة بالدولة بعد الثورة، والدولة الليبية وكيف تبنى، وعن علاقاتها بالأنظمة المختلفة، وكيفية التعامل مع أتباع النظام القديم، وإلى أي درجة يعد الشخص محسوبا على النظام، أو مجرما بحق الشعب، أو موظفا يؤدي عمله بمهنية بعيدا عن الفساد، أو أن يكون أداة للظلم؟ والعلاقة مع المنظمات الدولية كالصليب الأحمر، وغيرها من المنظمات، وقد كانت الفتاوى مشددة في العلاقة مع المنظمات الغربية، نظرا لتاريخها معها، ولما بدر منها معهم، ولذا كانت إجابات المفتين مبنية على ما ترسخ لديهم من مواقف، وما ثبت عندهم من معلومات، أصبحت ذات حساسية شديدة لدى المواطن الليبي، مما جعل الفتوى تدور في هذا الفلك، من باب الحرص على مصلحة الوطن والمواطن.
مركزية الدين والقبيلة في المجتمع الليبي
أبرزت الفتاوى مدى تجذر الدين في المجتمع الليبي بكل شرائحه الاجتماعية، فمستوى الأسئلة التي تسأل، وتنوع موضوعاتها، من أسئلة متعلقة بالعبادة وقد استغرقت عشرة بالمائة من الفتاوى، بينما بقية مجلداتها كانت عن مجالات الأسرة والحياة بكل مستجداتها، ومدى حرص الليبيين على معرفة رأي الشرع فيما يقدمون عليه، وبخاصة فيما يستجد من قضايا متعلقة بالتطور العلمي في الطب والحياة بوجه عام.
فبالرغم من حضور البعد القبلي بقوة في ليبيا، كما يتضح ذلك من خلال الأسئلة، ومع ذلك لا يصطدم في مجمله مع الدين، بل ينزل على حكمه فيما يتعلق ببعض القضايا القبلية المهمة، من ذلك سؤال تقدم به مواطن ليبي النسب، وقد هرب به أبوه منذ سنوات طويلة خارج ليبيا، وولد خارجها في دولة مجاورة، ونسب بحكم الظروف لنسب آخر غير قبيلة أبيه، ولما تحسنت ظروف ليبيا وأراد العودة لها بعد الثورة، وجد كل جيل أبيه قد رحل، ولكن قبيلته واثقة من نسبته إليهم، لكن لا شهود ولا أوراق على ذلك، فعرض عليهم أن يجروا اختبار البصمة الوراثية (DNA)، فقبلت القبيلة بذلك، شريطة أن يأتي بفتوى تجيز لهم الأخذ بالتحليل، وأفتتهم دار الإفتاء بجواز ذلك.
وهو أيضا ما يراعيه الإفتاء فيما يتعلق بعادات وأعراف القبائل، فيما لا يتعارض مع الشرع، وما يحقق الأمن المجتمعي، ومن ذلك فتواهم في قاتل أراد أهله التصالح مع أهل القتيل، فاشترط أهل القتيل أن يرحل القاتل وأهله عن مدينتهم، ولا يعودون إليها، مقابل عفوهم عنه، وبذلك يسقط القصاص عن القاتل، وقبل أهل القاتل بذلك، ثم تراجعوا بعد فترة، فكانت الفتوى بلزوم الاتفاق المزمع، وعدم التراجع فيه، وإلا يسقط العفو عن القاتل.
أسئلة تعبر عن أزمة هوية
يلمح القارئ للفتاوى أسئلة عديدة تعبر بوضوح عن شعور بأزمة بدأت تنتاب المجتمع الليبي، تتلعق بالهوية الإسلامية، فيما يتعلق بأسماء الأطفال، فتجد ما يقرب من أربعين سؤالا كلها متعلقة بهل يجوز شرعا التسمي بكذا، وتغيير أسماء إلى أسماء أخرى، منها أسماء غير عربية، أو أسماء تراثية تعبر عن ثقافة معينة، وذلك سواء كانت الأسماء متعلقة بذكور أو إناث، وربما وجد البعض أنها مجرد أسئلة عادية، لكن بالنظر لنسبة الأسئلة، مقارنة بكتب فتاوى الدول العربية الأخرى، لن تجد هذه النسبة، فلدينا مثلا: فتاوى دار الإفتاء المصرية، وقد صدرت في (54) مجلدا، وغيرها فتاوى دول أخرى، لا تجد فيها هذا العدد من الأسئلة حول أسماء معينة، ومدى جواز التسمي بها، وهل يجوز تغيير بعضها إلى أسماء أخرى أم لا؟
تلك نماذج قليلة جدا، استطعت من خلالها النظر على بعض ملامح المجتمع الليبي من خلال استفتاءاته، والموضوع مطروح لتناول أوسع من أهل الاختصاص، وهو جدير بذلك، والمادة سهلة متوفرة، يمكن من خلالها رصد وتحليل شرائح المجتمع من خلال الفتاوى، وكذلك الإسهام فيما يطلق عليه: علم اجتماع الفتوى، وإذا كنا نفتقد في بعض مراحل تاريخنا المعاصر التوثيق، فإن مثل هذه الفتاوى المطبوعة والمتوفرة، تعد حقلا خصبا للبحث الديني والاجتماعي والسياسي في وقت واحد لكل أهل اختصاص ومجال.
[email protected]
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفتاوى ليبيا رأي ليبيا رأي فتاوى إصدار مقالات مقالات مقالات من هنا وهناك سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المجتمع اللیبی بقدر کبیر ما یتعلق من خلال من حریة
إقرأ أيضاً:
قراءة تحليلية فيما ورد في الدستور الإنتقالي لجمهورية السودان 2025
الحلقة (الثانية)
إن أهم ما ورد في الباب الأول لدستور السودان الانتقالي في مادته السابعة الفقرة الثانية تحت عنوان المبادئ فوق الدستورية والدستور حيث تم تعريف هذه المبادئ ب ( هي مجموعة المبادئ والقواعد والقيم الأساسية الدائمة والملزمة والمحصنة التي يمنع إلغائها أو تعديلها أو مخالفتها بأي إجراء أيا كان وتشمل العلمانية والديمقراطية التعددية الخ ... )
ما يهمنا هنا ذكر العلمانية صراحة كأول مرة ينص عليها في دستور من دساتير السودان منذ الاستقلال ، فالتساءل المطروح لماذا نص الدستور الإنتقالي على مبدأ العلمانية ؟
نحن نعلم أن السبب الرئيسي في إنفصال جنوب السودان هو إصرار حزب المؤتمر الوطني الحاكم في تطبيق الشريعة الإسلامية ليس من أجل الدين ولكن رغبة في الإنفراد بحكم شمال السودان ( راجع ما ورد على لسان غازي صلاح الدين في تسريبات ويكيليكس ) فكان إصرارهم تطبيق الشريعة في عموم السودان رغم التباين الديني والتعدد الثقافي الذي يزخر به البلاد فجاء الخيار في نصوص اتفاقية السلام الشامل ( نيفاشا ) بين تطبيق الشريعة أو حق تقرير المصير لجنوب السودان ، فأختار شعب الجنوب الإنفصال لما رأؤوه إستحالة التعايش في دولة لا تساوي بين مواطنيها في الشأن العام .
إن موافقة المجموعات السياسية والعسكرية التي وقعت على دستور السودان الانتقالي 2025 على مبدأ العلمانية كأحد المبادئ فوق الدستورية المحصنة من الٱلغاء ، كانوا حريصين بأن لا يضحوا بأي شبر من أرض الوطن بسبب دغمسات أهل الهوس الديني كما وصفها الرئس المعزول عمر البشير والذي قال ( أن ما تم تطبيقه شريعة مدغمسة ) ، أضف إلي ذلك الممارسات الكارثية بإسم الاسلام أثناء حكم المؤتمر الوطني طيلة الثلاثين عاما وفق إعترافات الٱسلاميين أنفسهم والتي لا تمت إلي صحيح الإسلام بصلة .
السؤال الثاني ما هو الضرر من تطبيق مبدأ العلمانية في السودان المتنوع والمتعدد ليشارك كل طوائف وشعوب السودان في إدارة شؤون البلاد بمساواة ومواطنة كاملة دون فرض أي طرف أيديولوجيته على طرف آخر مختلف دينيا وثقافيا وهذا الطرف له الحق الاصيل في تراب هذا الوطن ؟ وما الفائدة من التقسيم والتضحية بوحدة البلاد ومواردها من أجل إرضاء مجموعة مهووسة تم تجربتها ثلاثون عاما عجافا وأسقطهم الشعب بكلمة واحدة .
إنه لعين العقل أن أختار عقلاء السياسة السودانيين في نيروبي وحدة البلاد وازالوا كل مسببات التقسيم مستقبلا .
أما كلمتنا في العلمانية كمبدأ وهي كلمة ومن وحي الممارسات الدولية فلها مفاهيم ومعاني متعددة ومرنة وهناك اختلافات كبيرة بين الدول في تطبيق العلمانية فمنها المتطرفة ومنها المرنة وهناك نماذج متعددة فعلمانية فرنسا تختلف عن الولايات المتحدة وكذلك بريطانيا وعلمانية نيجيريا تختلف عن نموذج السنغال ذات الأغلبية المسلمة أضف إلي ذلك علمانية تركية وماليزيا واندونيسيا ، فهناك براح في الاختيار بما يتلائم وظروفنا التاريخية والثقافية ، وبالتالي ليس الأمر جامدا يتعارض مع عقائد وقيم السودانيين إذا أحسنوا الاختيار .
خاتمة :
إن تضمين مبدأ العلمانية كإحدى المبادئ فوق الدستورية في دستور السودان الانتقالي 2025 يعكس تحولًا جوهريًا في الفكر السياسي السوداني، ويؤكد رغبة الموقعين على هذا الدستور في بناء دولة تقوم على أسس المواطنة والمساواة، بعيدًا عن الإقصاء والتمييز الديني أو الثقافي. فالتجارب السابقة أثبتت أن استخدام الدين كأداة للحكم أدى إلى تقسيم البلاد وإقصاء فئات واسعة من المجتمع، وهو ما يسعى هذا الدستور لتجاوزه .
إن اعتماد العلمانية لا يعني استيراد نموذج واحد جامد ، بل يمكن تكييفها بما يتناسب مع الواقع السوداني المتعدد ثقافيًا ودينيًا ، كما أثبتت تجارب دول أخرى ذات أغلبية مسلمة . فالهدف الأسمى يظل تحقيق وحدة السودان واستقراره ، وضمان مشاركة جميع مكوناته في إدارة شؤونه دون تمييز. وبذلك ، فإن خيار العلمانية لا يجب أن يُنظر إليه كتهديد ، بل كوسيلة لحماية التنوع وضمان مستقبل أكثر عدلًا وانسجامًا للبلاد .
مها طبيق
18/مارس/2025
hafchee@gmail.com