أفقر الفقراء في مصر.. صورة مقلقة ترسمها الأرقام
تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT
خلال الشهر الماضي، أصدر رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي قرارا بتحديد الفئات المستفيدة من معاش "تكافل وكرامة" تنفيذا لقرار كان الرئيس عبد الفتاح السيسي أصدره أوائل مارس/آذار 2023 يقضي بزيادة قيمة هذا المعاش المخصص لأفقر فقراء البلاد بنسبة 25%.
وطبقا للقرار المنشور في الجريدة الرسمية، بلغ معاش الأسرة المستفيدة من برنامج "تكافل" 406 جنيهات شهريا، وبلغ معاش المطلقة أو الأرملة أو زوجة السجين 437 جنيها، ومعاش المعاق أو المُسنّ الذين يستفيدون من برنامج "كرامة" نحو 562 جنيها شهريا.
الملحوظة التي يستحيل إغفالها هي أن تلك المعاشات الشهرية لا تفي بالاحتياجات الأساسية من الغذاء، لا سيما مع الارتفاع الكبير لأسعار السلع الغذائية بسبب التضخم؛ فطبقا لآخر نشرة أسعار رسمية صدرت في يونيو/حزيران الماضي فقد تخطى سعر الكيلو من الجبن الأبيض 100 جنيه، والعدس 45 جنيها، والفول الجاف 37 جنيها، والأرز والعسل الأسود 30 جنيها، والسكر 25 جنيها، والدقيق 20 جنيها، واقترب سعر البيضة الواحدة من 4 جنيهات؛ وجميع ما سبق سلع أساسية في قائمة استهلاك الأسر المصرية.
ونحن في هذا المقال نستعرض جوانب عدة للقصور في النسب المعلنة للفقراء، وفي البرامج المقدمة لإعالتهم، بصورة تضعنا أمام واقع مثير للقلق والألم لملايين من المواطنين لا يحصلون على احتياجاتهم الشهرية الأساسية من الطعام، فضلا عن احتياجاتهم الأخرى من مسكن وملابس وتدفئة، وكلها عوامل ترجح زيادة حدة البؤس والجريمة والانحراف ما لم تكن هناك سياسات أكثر جدية للتعامل مع الوضع.
عودة للتاريخولفهم واقع نظام الضمان الاجتماعي في مصر -والمخصص لإعالة الفقراء وأفقر الفقراء- ربما يحسن بنا العودة للتاريخ؛ ففي عام 1950 أصدر ملك مصر فاروق الأول معاش الضمان الاجتماعي المخصص لفئة "أفقر الفقراء"، وواصل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم مصر بعد قيام الجمهورية رفع قيمة ذلك المعاش تماشيا مع تغيرات الأسعار، ولم يتوقف هذا النهج بعد خلع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عام 2013، فقد واصله المجلس العسكري برئاسة المشير حسين طنطاوي ثم الرئيس المنتخب محمد مرسي، والرئيس المؤقت عدلي منصور.
وحده الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي غيّر هذه السنة المتبعة، واستحدث نظاما جديدا للمعاشات يرتبط باسمه منذ عام 2015 بتمويل من البنك الدولي، وأطلق عليه اسم "تكافل وكرامة"، ويضم هذا النظام الجديد برنامجين: الأول هو "تكافل" ويخصص للأسر الفقيرة التي ترعى أبناء في سن التعليم، والثاني هو "كرامة" ويخصص للمسنين والمعاقين غير القادرين على العمل.
وبالتدريج، بدأ نقل المستحقين لمعاش "الضمان الاجتماعي" (التاريخي) إلى معاش "تكافل وكرامة"، حتى وصل عدد المسجلين في قوائم النظام الجديد في منتصف الشهر الماضي أكثر من مليونين و636 ألف شخص يستفيدون من برنامج "تكافل"، وهناك مليون و740 ألفا يستفيدون من برنامج "كرامة"، في حين لا يزال 300 ألف شخص مسجلين على نظام معاش "الضمان الاجتماعي".
نسبة الفقر الرسمية المعلنة خضعت لضغوط "سيادية" لتحسينها قبل إعلانها عام 2019، وبرامج المعاش وفق تلك النسبة "المحسنة" لا تغطي إلا 46% من الفقراء، وهي لا تكفي طعام شخص واحد في الأسرة
3 أنظمة لمعاشات الفقراءوهكذا، توجد حاليا 3 أنظمة لمعاشات "أفقر الفقراء" في مصر تتبع وزارة التضامن الاجتماعي، وهي تختلف عن نظام المعاشات التابع لهيئة التأمينات الاجتماعية والمخصصة للمتقاعدين من الموظفين وأسرهم وورثتهم؛ فالأخير قيمته أكبر، ويخضع لزيادة سنوية تدور حول 15%، أما المعاشات المخصصة لـ"أفقر الفقراء" فتظل سنوات من دون زيادة قيمتها.
أولا: "تكافل"بدأ عام 2015، وكان يقدم للأسرة 325 جنيها شهريا، واستمرت هذه القيمة ثابتة طوال السنوات الثماني التالية، حتى زادت هذا العام بنسبة 25% لتصل إلى 406 جنيهات، وذلك استجابة لقرار رئيس الجمهورية، ولكن مؤشر الأسعار ارتفع في الفترة ذاتها نحو 227%.
كان النظام يقدم منحا للأبناء في عمر التعليم تبدأ من 60 جنيها للتلميذ في المرحلة الابتدائية و80 لطلاب المرحلة الإعدادية (المتوسطة) و100 جنيه للطالب في المرحلة الثانوية، بحد أقصى 3 أبناء للأسرة (أيها أكبر).
وجاءت الزيادات الأخيرة لتزيد عدد المراحل الدراسية للأبناء، لتبدأ من 75 جنيها للطفل تحت سن السادسة و100 لطالب المرحلة الابتدائية، و125 لطالب المرحلة الإعدادية، و175 لطالب الثانوية، و200 لطالب المرحلة الجامعية، لكن الحد الأقصى للاستفادة من هذا البرنامج تراجع إلى شخصين كحد أقصى اتساقا مع مبادرة وزارة التضامن الاجتماعي للحد من الزيادة السكانية التي تحمل شعار "اثنين كفاية".
وبهذا فإن القيمة الإجمالية الشهرية لهذا المعاش (بعد إضافة المنح الدراسية للأبناء في التعليم) تتراوح بين 556 جنيها (لأسر لديها طفلان في عمر الحضانة)، و706 جنيهات كحد أقصى لأسر بها طالبان في المرحلتين الإعدادية والثانوية.
مخصص للأفراد من كبار السن فوق 65 عاما والمعاقين، وبدأ عام 2015 بقيمة 350 جنيها، ثم زاد إلى 450 جنيها، ثم ارتفع الشهر الماضي إلى 562 جنيها، وأضيف إليه في التعديلات الأخيرة مستحقون جدد تم نقلهم من نظام معاش الضمان الاجتماعي، وهم: الأرملة والمطلقة والمهجورة والمنفصلة عن زوجها وزوجة السجين، ويحصلن على 437 جنيها شهريا، ومثلهن يتيم الأبوين -حتى سن 26 سنة- بشرط قيده بالتعليم.
ثالثا: "معاش الضمان الاجتماعي"شهد زيادات متتالية بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وحتى عام 2014، لكن لم يزد في أحسن حالاته على 323 جنيها للأسرة المكونة من فرد واحد (كالأرملة)، و360 جنيها للأسرة من فردين (كأم وابن)، و413 جنيها للأسرة من ثلاثة أفراد، و450 جنيه للأسرة من 4 أفراد فأكثر.
هذه المبالغ سترتفع بعد تنفيذ قرار الزيادة بنسبة 25% لتصبح 404 جنيهات للأسرة المكونة من فرد واحد، و450 جنيها للفردين، و516 جنيها للأسرة من 3 أفراد، و563 جنيها للأسرة المكونة من 4 أفراد فأكثر، ولكن القرار الرسمي بتلك الزيادات لم يصدر بعد.
المفاجأة التي نحن أمامها هي أن كل تلك المعاشات تقل (حتى بعد الزيادة الأخيرة) عن الحد الرسمي البالغ 857 جنيها للفرد، كما أن بعض المعاشات الفردية تقل عن الحد الرسمي للفقر المدقع البالغ 550 جنيها للفرد!
وتشير قاعدة بيانات جهاز الإحصاء الحكومي إلى أن حدّ الفقر القومي يجب أن يغطي الاحتياجات الأساسية للفرد من طعام وشراب وملابس وسكن ومواصلات وتعليم وصحة، بينما يكفل حدّ الفقر المدقع الاحتياجات الأساسية من الطعام فحسب.
المقارنة بين التعريف الرسمي السابق وبين القيم التي حددتها الحكومة لتلبية تلك الاحتياجات الأساسية تضعنا أمام معضلة تدفع كثيرين للتندر، لأنها لا تصمد أمام أبسط عملية حسابية.
فـ"ساندوتش الفول" -وهو تقليديا أرخص قائمة الطعام- لا يقل سعره حاليا عن 6 جنيهات، فإذا كان الفرد يحتاج إلى اثنين منه في كل وجبة، فالتكلفة الشهرية ستصل إلى 1080 جنيها شهريا، ولو استعاض عن "الساندويتشات" الستة يوميا بـ3 أطباق من الكشري (بسعر 10 جنيهات للطبق) فإن احتياجه الشهري سيكون 900 جنيه!
السياسة وأعداد الفقراءنحن أمام مفارقة أخيرة لا تقل في الأهمية عما سبق؛ فنسبة الفقر الرسمية المعلنة هي 29.7%، ولكن كثيرين لا يعرفون أن هذه النسبة تعبر عن الفترة من النصف الثاني من 2019 وحتى نهاية فبراير/شباط 2020، قبل ظهور فيروس كورونا بتداعياته السلبية التي أدخلت كثيرا من الأسر المصرية إلى دائرة الفقر.
هناك كذلك ملحوظة وثقتها إحدى الصحف الاقتصادية نقلا عن أستاذة جامعية شاركت في مسح الفقر الأخير، إذ قالت إنه عند تأهبهم لإعلان نتائج المسح اعترض مندوب لإحدى (الجهات السيادية) على نسبة الفقر التي كشف عنها التقرير، وطلب تحسينها حتى لا تسيء للإنجازات الحكومية؛ فعدلت النسبة، لكنه اعترض مجددا حتى انتهت الحال إلى النسبة المعلنة (29.7%).
وإذا أخذنا في الاعتبار ما تلا ظهور فيروس كورونا من موجة غلاء عالمي، ضاعفتها الحرب الروسية الأوكرانية التي أعقبت انتهاء خطر الفيروس، وما تواكب مع ذلك من تراجع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، وأثر كل ذلك على الارتفاع المذهل لأسعار السلع في البلاد خلال العامين الماضي والحالي، فإننا نستطيع التأكيد بثقة أن نسبة الفقر المعلنة رسميا لم تعد تعبر عن الواقع، كما أن حد الفقر المعلن رسميا (857 جنيها) ليس صالحا للاستخدام حاليا.
ومع ذلك، فإذا قارنّا الأرقام الرسمية بنفسها، فإننا أمام واقع مؤسف؛ فالمستفيدون من معاشات "تكافل وكرامة" حتى منتصف 2021 بلغوا إجمالا نحو 14 مليون شخص، في حين يبلغ عدد الفقراء -وفق النسبة الرسمية المُحسنة- نحو 30.3 مليون شخص، أي أن المعاشات لا تغطي إلا نحو 46% من فقراء البلاد المسجلين (آنذاك).
وهي تغطية لا تخرجهم من الفقر، ولا تحقق لهم الكفاية بحدها الأدنى، بما قد يدفع بعضهم إلى التسول أو الجريمة أو الانحراف الأخلاقي لاستكمال احتياجاته الأساسية من الطعام، فضلا عن احتياجاته الأخرى لتدبير نفقات إيجار المسكن وفواتير مياه الشرب والغاز الطبيعي والكهرباء، وكلها ارتفعت أسعارها.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الضمان الاجتماعی تکافل وکرامة الأساسیة من من برنامج
إقرأ أيضاً:
الحرب في السودان: سياسات توطين الجوع وتوريث الفقر
بروفيسور حسن بشير محمد نور
في الاسبوع الاخير من شهر ديسمبر 2024، أصدرت منظمة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) تقريرًا يشير (إلى انتشار المجاعة في خمس مناطق على الأقل في السودان، مع توقع توسعها إلى خمس مناطق أخرى بين ديسمبر 2024 ومايو 2025. أفاد التقرير بأن حوالي 24.6 مليون شخص، أي نصف سكان السودان، يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة، مما يعكس تعمقًا غير مسبوق لأزمة الغذاء والتغذية في البلاد). هذا العدد من السكان يقع ضمن تصنيفات متعددة لمستويات سؤ التغذية والجوع وصولا الي المجاعة التامة، حسب المعايير الدولية للاحتياجات الغذائية التي تبقي الانسان علي قيد الحياة، او التي تمكنه من تناول كميات الغذاء الضروري لممارسة حياته الطبيعية ونشاطه الاقتصادي.
وللعلم ومزيد من التوضيح لما هو واضح، فان منظمة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي هي (IPC (Integrated Food Security Phase Classification) هي الية او أداة أو نظام عالمي يُستخدم لتصنيف وتحليل مستوى انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية في مناطق معينة، تم وضعه من قبل منظمات دولية متخصصة في الامن الغذائي وبالتحديد منظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الغذاء العالمي (WFP) وعدة جهات أخرى، بهدف توفير تقييم موحّد ومشترك لحالة الأمن الغذائي. يهدف ذلك النظام الي توحيد المعايير والتصنيف لانعدام الامن الغذائي وسؤ التغذية، مساعدة الحكومات والمنظمات الإنسانية في اتخاذ قرارات موثوقة حول الاستجابات للأزمات الغذائية ودعم التخطيط طويل الأمد لتحسين الأمن الغذائي وتقليل مخاطر الكوارث.
اذن ما هي مصلحة هذا النظام العالمي المتخصص الذي لم يتم تصميمه للسودان في التجني علي هذه الدولة او تلك؟ فهو نظام عالمي ممول دوليا ويحق للشعب السوداني الاستفادة منه بحكم عضوية بلده في الامم المتحدة وبالتالي الاستفادة من التخصيص الدولي في تلك المجالات موضوع الاختصاص؟ في هذه الحالة فان انسحاب حكومة الامر الواقع من ذلك النظام ورفض تصنيفه المتخصص المتقن ينطبق عليه المثل السوداني القائل: ((جو (جاءوا) اساعدوه في دفن ابوه دس المحافير)، الا انه من الواضح ان المواطن ليس أب ولا أم لهؤلأ الناس وليس اخا او اختا او ابنة او ابنا لهم، وانما مجرد متاع للاستخدام وموضوع للجباية والحصول علي الامتيازات والحوافز. المجاعة في السودان تري بالعين المجردة، في اكل الناس للحشرات واوراق الاشجار وفي الهزال والموت، فالجوع (الكافر)، لا يحتاج حتي لتقارير دولية او مسوحات فهو ينتشر الان بشكل فاضح.
مع ذلك فان تاريخ الجوع والمجاعات في السودان ليس جديدا، وانما الجديد هو ما اضافته الحرب من كوارث. فبالرغم من الموارد الزراعية الهائلة التي يمتلكها السودان، بما في ذلك الأراضي الخصبة والمياه الوفيرة من النيل والانهار والأمطار الموسمية والمياه الجوفية، التي توفر وسائل ري متعددة طول العام، إلا أن البلاد تعاني من تاريخ طويل من الجوع والمجاعات. هذه بالطبع مفارقة تعكس الاخقاقات الهيكلية في السياسات الاقتصادية والزراعية التي لم تُوجَّه لدعم التنمية الريفية أو محاربة الفقر.
شهد السودان مجاعات متكررة منذ عهد الثورة المهدية، خاصة تحت حكم الخليفة عبد الله التعايشي وهو ما عرف بمجاعة سنة ستة، في نهاية القرن التاسع عشر قبل دخول المستعمر الانجليزي للسودان في العام 1898م، وللمفارقة ان العهد الاستعماري رغم استغلاله الاستعماري كان ارحم من حيث المجاعات ومستويات الجوع لادارته المنضبطة ولعدم وجود الفساد علي المستوي الشخصي للحكام والاداريين، كما هو شائع اليوم، وهي مفارقة تستحق التأمل. خلال القرن العشرين كانت أبرز مجاعة هي التي حدثت في 1984/1985 في عهد ديكتاتورية نميري والناتجة عن الجفاف وانعدام خطط استجابة حكومية فعالة. وقد ساهمت الصراعات الأهلية والتوترات السياسية في تعميق الأزمة، حيث تركّزت الجهود الحكومية في سياسات تنموية حضرية ممركزة دون إعطاء الأولوية للريف، حيث يعمل معظم السكان في الزراعة والرعي خاصة في القطاع المطري التقليدي.
مع اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تفاقمت الأزمة الغذائية بشكل كارثي، وتأثرت المناطق الزراعية الكبيرة، لا سيما في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، بشكل مباشر بسبب توقف الإنتاج الزراعي في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، وارتفاع تكاليف الإنتاج وانعدام التمويل الزراعي في مناطق سيطرة الجيش. وتشمل العوامل الرئيسية:
- تعطيل الإنتاج الزراعي الذي شمل الأضرار ودمار البنية التحتية الزراعية ونهب المعدات وتدمير وسائل الري، كما حدث في مشروع الجزيرة مما جعل العودة للإنتاج أمرا صعبا او غير مجدي.
- ارتفاع تكاليف الإنتاج، اذ أدت الحرب إلى نقص حاد في مدخلات الزراعة مثل البذور والأسمدة والوقود، وارتفاع أسعارها بسبب تعطل الإمدادات.
- عزل المناطق المحتاجة للاغتثة نتيجة لمنع أطراف الحرب المنظمات الإنسانية من الوصول للمناطق الأكثر احتياجًا بما فيها بعض معسكرات اللاجئين، مما زاد من معاناة السكان.
اضافة لما اوردته منظمة التصنيف المرحلي المتكامل IPC)) فان مؤشر الجوع العالمي (Global Hunger Index)، يضع السودان في المرحلة الحمراء باحتلاله مراكز متأخرة جدا تجعله ضمن الدول ذات الوضع "الحرج للغاية". كما تُظهر الإحصاءات الصادرة عن جهات وطنية ودولية متعددة منها نقابات ومنظمات مجتمع مدني، الي أن نسبة كبيرة من السكان تعاني من نقص التغذية، مع ارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال بسبب سوء التغذية الحاد، مما يؤكد ان التصنيف ليس احادي الجانب وليس عملا متحيزا، ولماذا يتحيز من يريد تقديم الغذاء بشكل مكشوف وعبر نظام دولي؟.
نصل الي ان المنظمات الدولية مثل برنامج الغذاء العالمي ومنظمات الأمم المتحدة الأخرى تسعي الي تقديم المساعدات الطارئة، لكنها تواجه تحديات لوجستية وأمنية كبيرة. تقتصر هذه المساعدات غالبًا على مناطق محدودة، مما يترك ملايين السكان دون دعم كافٍ، لذلك كان القبول بتصنيف الية ( IPC) من الممكن ان يوسع الاستجابة للحاجات الانسانية للغذاء والحد من المجاعة واثارها الكارثية التي تنعكس علي حياة الناس بشكل مباشر.
للخروج من أزمة المجاعة، يحتاج السودان إلى:
- وقف الحرب لأن استمرارها يؤدي إلى تعطيل كل الجهود الزراعية والإنسانية، وبما ان هذا غير وارد في وقت قريب فيجب:
- تعزيز الدعم الدولي، وهو ما يتطلب ان يعمل المجتمع الدولي علي مزيد من الضغط على أطراف الصراع لفتح ممرات آمنة للمساعدات والاستجابة للجهود الدولية في التصدي للمجاعة.
- تمكين المجتمعات الريفية: عبر تقديم تمويل ميسر ومدخلات إنتاج ودعم تقني، لان هناك اموال طائلة تذهب الي جيوب الموظفين و(مسؤولي) الحكم، اضافة طبعا لتمويل الحرب.
- وضع سياسة زراعية بعد الحرب، اذ يجب تبني سياسات زراعية تركز على دعم صغار المزارعين، وإعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية، علي ان يكون هذا اولوية لاي حكومة تأتي بعد الحرب.
- ادارة الموارد وتوجه السياسات الاقتصادية الكلية نحو التنمية والاستخدام الامثل للموارد الزراعية في تصنيع القيم المضافة بالتوازي مع الامن الغذائي وانتاج الوقود الحيوي.
يشيرتاريخ الساسات الاقتصادية في السودان، الكلية والجزئية، الي انها عبارة عن سياسات قصيرة النظر تعمل علي توطين الجوع وتوريث الفقر جيلا بعد جيل وقد اضافت الحرب الحالية تبعات جديدة من سوء الادارة والاستغلال.
إذا استمرت هذه الحرب وحالات الانكار والهروب الي الأمام فلا يوجد أي افق لأستثمار الموارد الهائلة للسودان بفعالية، وبالتالي فإن البلاد ستواجه مصيرا اسود من المجاعات ومستويات كبري من الفقر واستمرار توريثه، ومع ذلك تتوفر الإمكانيات الحقيقية للتخلص من شبح المجاعة وتحقيق الأمن الغذائي وتحقيق التنمية لاي حكم مستقبلي رشيد. وتبقى جميع تلك الإمكانيات رهينة بمشروع وطني وبالإرادة السياسية التي توقف الحرب وتحقق الاستقرار المنشود للتعافي الاقتصادي والاجتماعي للبلاد والتخلص من الارث الطويل من سياسات التجويع وتوطين الفقر.
mnhassanb8@gmail.com