لقى البحر وآثاره.. تروي تاريخ الإمارات
تاريخ النشر: 22nd, August 2024 GMT
محمد عبدالسميع
أخبار ذات صلةلم يكن الماء (البحر) مجرّد سطحٍ يتمشّى حوله الناس ويلعب على شواطئه الأطفال، أو يتخيّل على جوانبه المحبون روعة اللقاء ومشاهد الرومانسية والمقطوعات الجميلة من الشعر، أو تستعاد أمامه القصص والحكايات حول غدرهِ ومدّهِ وجزرهِ وهدوئه، ونواخذته، وما إلى ذلك، بل هو أرضٌ كاملة مليئة بالكنوز والآثار والمرويات والأساطير، وفيه ما يعيد البوصلة والزمن إلى آلاف السنين، حيث تعاقبت الحضارات وتركت في قيعان البحار ما يدلّ عليها ويشير إلى مرورها وسُكناها يوماً ما على يابسةٍ تجرأ عليها الماء أو كانت عامرةً بجانب بحرٍ انحسر عنه الماء.
في الحكايات والقصص والأساطير، كان يأخذنا الراوي أو القاص إلى القيعان والأعماق، فنعيش الطقس الجميل المغلف بكائنات أخرى تشاطرنا الماء واليابسة، لكننا معنيون اليوم بقراءة موضوعية لما يكتشفه المنقّبون عن الآثار والعلامات الدالة، لنؤكد تشاركية الإنسان وحضوره وأطيافه وهجراته.
كيف يفكّر الآثاريّون بهذه اللقى والآثار والمسكوكات والمدافن والفخاريات والسفن والقطع التي عتّقها الزمن؟ هذا ما سنقرأه في هذه الفقرات، في دعوة إلى التكاتف والفرح بعالم الماضي، تماماً كما هو الفرح بالمستقبل الآتي الذي نعوّل عليه.
في كلّ بلد هناك مراكز بحوث وآثار، ورحلات مصممة تضع الناس والزائرين بصيغة الحضارة المتعاقبة كجزء من السياحة وتلاقي الثقافات. وفي كلّ دول العالم، هناك كتب ومكتشفات وحياة بحثية لا تقف عند حد، حياة تجلب لنا ما يغيّر وجه هذه الأرض بعد كل اكتشاف جديد، وهناك مؤلفات ومكان ضاجّ بالإبداع البشري وفرحة بمنجز البحر في فترات ركب فيها الإنسان هذا البحر وأنشد في عرضه للحنين والشوق.
ومن الموضوعي والطبيعي الذي يدل على إخلاص الدول لنماذجها التراثية الأثرية، أنها تعمد إلى الحفاظ على المسميات وتأطيرها وتأكيد حضورها لدى الأجيال، وإذا ما اتخذنا دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً في ذلك، فإننا سنجد أنّ الأمثلة على ذلك كثيرة، ويمكن أن نتخيّر منها ما يدلّ على هذه الأصالة والعراقة، والتجاور الجغرافي بناءً على هذه المكتشفات في كلّ فترة تنقيب، وسوف «تُعرض الاكتشافات الحديثة التي عُثر عليها في «أم النار»، وغيرها من المواقع الأثرية الهامة في جميع أنحاء الإمارات، في متحف زايد الوطني المقرّر افتتاحه في المنطقة الثقافية في جزيرة السعديات بأبوظبي. وسيحتفل متحف زايد الوطني بالتاريخ القديم والمعاصر للإمارات، الذي يسلط الضوء على إرث الوالد المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيّب الله ثراه»».
حضارة أم النار
في الإمارات هناك «أم النار»، على سبيل المثال، وهناك «جلفار/ رأس الخيمة»، ومليحة، وغيرها العديد من الأمثلة، وسنجد أن حضاراتٍ تسمّت باسم «أمّ النار»، والتي تقول المصادر البحثية عنها إنها حضارة وُجدت في العصر البرونزي في الإمارات وشمال سلطنة عمان من 2600 قبل الميلاد إلى 2000 قبل الميلاد، حيث جاءت التسمية من جزيرة أم النار ضمن إمارة أبوظبي، كما تسبق حضارة أم النار حضارة أخرى تسمى حضارة «حفيت»، بل وتلي حضارة أم النار حضارة «وادي سوق»، ويقع الموقع في منطقة مليحة بإمارة الشارقة.
اكتُشفت حضارة أم النار سنة 1959، وقد أظهرت آثارها ثقافة السكان الأوائل للإمارات العربية المتحدة ونمط معيشتهم، حيث عمل السكان آنذاك في الصيد وصهر النحاس ومارسوا التجارة خارج حدود الجزيرة، ليصلوا إلى بلاد الرافدين ووادي السِّند، كما تمكّن سكان الجزيرة الأوائل من إقامة مستوطنات متعددة نسبيّاً، هذا إضافةً إلى مدافن لافتة ذات أشكال وجدران مزخرفة بنقوش حيوانات المها والثيران والثعابين والجمال، كما كانت أدوات الزينة والعقود والفخاريات وصنارات وشباك الصيد وأدوات الغطاسين تدلّ على اعتماد سكان الجزيرة الأوائل على البحر كمصدر للرزق وللغذاء، وتقول الدراسات إنّ «الأطوم» كحيوان مائي، وهو عجل البحر، كان من المكونات الأساسية في نظامهم الغذائي، إلى جانب استعمال جلده وزيته، وتدلّ على كثرته في ذلك عظامه الوافرة ضمن المواد العضوية في هذا الموقع.
وتؤكد الدراسات أيضاً أنّ جزيرة أم النار تشير إلى الحضارة التي سادت الخليج العربي وجنوباً شرق الجزيرة العربية قبل 4000 سنة خلت، كما أنّ التحاليل التي أجريت على عظام بعض الطيور التي كانت تعيش في المنطقة، مثل طائر «الزقة» لا نجده اليوم سوى في مستنقعات دجلة والفرات، كما يعرض مركز مليحة للآثار أقدم الاكتشافات الأثرية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي مجموعة فايا-1 التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، والتي تؤرخ إلى الاستيطان البشري في المنطقة، إلى 130.000 حتى 120.000 قبل الميلاد، حيث ربطت بحركة أول البشر المعاصرين أنثروبولوجيّاً من أفريقيا ليسكنوا العالم. ومن المواقع المهمة في دولة الإمارات العربية المتحدة موقع «الدور» أم القيوين، حيث كشفت الحفريات عن أدلة على سكن الإنسان في فترة العبيد والعصر الحجري والعصر البرونزي والحديدي وفترة ما قبل الإسلام، تدلّ على ذلك المقابر الوافرة والتي تصل إلى 500 مقبرة، إضافةً إلى مقتنيات جنائزية وأوعية شرب وأسلحة وفخار ومجوهرات، حيث يعتقد بوجود 20.000 مقبرة في الموقع، إضافة إلى مقبرة جبل بحيص، والمدافن الواضحة، كما أنّ مليحة تمثل مستوطنة بشرية تعود إلى 7000 عام، أمّا فترة «حفيت»، والتي تسمّى على اسم مقابر خلية النحل التي اكتشفت أول مرة حول منطقة جبل حفيت في العين، فتحدد فترة الاستيطان البشري المبكر للعصر البرونزي في الإمارات العربية المتحدة وعمان في الفترة من 3200 إلى 2600 قبل الميلاد، وتوفر واحة العين على وجه الخصوص دليلاً على البناء وإدارة المياه التي مكنت من التطوير المبكر للزراعة لمدة 5000 عام حتى هذا اليوم. وتظهر الاكتشافات الفخارية في مواقع فترة «حفيت» روابط تجارية مع بلاد ما بين النهرين المتاخمة لفترة عصر «جمدة نصر» 3100 إلى 2900 قبل الميلاد. وتشير البحوث إلى أنّ هناك أدلة على الروابط التجارية مع بلاد ما بين النهرين وجدت أيضاً في فترات أم النار ووادي سوق من تاريخ الإمارات.
ومن الأمثلة على ذلك أنّ جزيرة «الأكعاب» في الإمارات كانت خلال الألف الخامس قبل الميلاد، أي حوالي أكثر من 6500 سنة مضت، معسكراً للصيادين بواسطة مساكن دائرية، وكانت مهنة الصيد هي النشاط الرئيسي لسكان الأكعاب.
أقدم مذبح شعائري
تشير الدراسات إلى أنّ بعثات التنقيب، وبالتعاون مع دائرة السياحة والآثار بأم القيوين، اكتشفت أقدم مذبح شعائري في شبه الجزيرة العربية 3500 إلى 3200 قبل الميلاد، استخدم لذبح حيوان بقر «الأطوم»، وهو من الثديّات البحرية التي تعيش على طول ساحل المحيط الهندي وغرب المحيط الهادي، واليوم هو موجود في الخليج العربي، ومحميٌّ من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث اعتبرت عظامه دالة على ذلك. واكتشفت في الموقع كذلك العديد من اللقى الأثرية التي تتنوع بين الأصداف والقشريات وصنّارات الصيد والسكاكين والمثاقب والأحجار والصوان، وفي عام 2002 تم العثور على لؤلؤة غير مثقوبة تعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد، وهي في حالة جيدة ولا تزال متلألئة. وفي عام 2008 عثر على 17 لؤلؤة غالبيتها ذهبية اللون، بالإضافة إلى اللون الأبيض، وتتميز ببريقها الجميل.
نقطة محورية
إنّ جزيرة في الإمارات عمرها أكثر من 6500 عام، دلتنا عليها اكتشافات أثرية جديدة في أبوظبي أثبتت وجود مبان عمرها أكثر من 8500 سنة، إذ أعادت أبوظبي تاريخ المنطقة لفترة أقدم بنحو 500 عام، حيث تشير الأدلة الجديدة إلى أن جزر أبوظبي كانت نقطة محورية للابتكار والاستيطان البشري خلال العصر الحجري الحديث. وقد عثر خبراء الآثار من دائرة الثقافة والسياحة- أبوظبي على مجموعة بنى أثرية غيّرت المعتقدات بشأن أقدم تاريخ معروف للإمارة ودولة الإمارات العربية المتحدة والمنطقة بأكملها. ويعود تاريخ هذه المكتشفات إلى أكثر من 8500 عام، مما يشكل دليلاً على أنّ هذه المنطقة أقدم بنحو 500 عام عما كان يعتقد في السابق.
وقد عثر على تلك الاكتشافات في جزيرة غاغا غرب مدينة أبوظبي. لقد كان يعتقد سابقاً أنّ طول طرق التجارة البحرية حفز الناس على الاستيطان في المنطقة والتي تطورت خلال العصر الحجري الحديث، لكنّ الاكتشافات الأخيرة تثبت أنّ مستوطنات العصر الحجري كانت موجودة قبل بدء الحركة التجارية.
والأهمية هنا هي في التوثيق الدقيق للتاريخ والمساعدة على فهم أسلافنا وتاريخ استقرارهم وبناء منازلهم قبل 8500 عام، والمهم أنّ هذه الاكتشافات تضيء على الروابط الثقافية المتينة بين الشعب الإماراتي والبحر، في حين ما زالت أبوظبي تحتضن كنوزاً كثيرة لاكتشافها.
كما أن «جلفار» - رأس الخيمة - اشتهرت أيضاً بحضورها الكبير في التاريخ في فترة حضارة أم النار ووجود المقابر، ووجود الأدوات الدالة البرونزية ورؤوس الرماح وأنصال الخناجر، حيث يوجد هناك دليل بأنّ التجارة ما بين النهرين والمنطقة جعلت من رأس الخيمة مركزاً تجارياً مهماً.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الإمارات تاريخ الإمارات الشعر التراث دولة الإمارات العربیة المتحدة العصر الحجری فی الإمارات قبل المیلاد فی المنطقة على ذلک أکثر من
إقرأ أيضاً:
«زينب» تروي قصة الألم: واجهت صراعا وجوديا مع السرطان والحصار في غزة
فى زاوية صغيرة من أحد أحياء غزة، تقف خيمة متهالكة شاهدة على قصة صمود امرأة تواجه ما يفوق طاقة البشر، تحت سقفها البسيط تعيش زينب جمال خليل طلبة، تحارب السرطان بكل ما أوتيت من قوة، وسط واقع لا يرحم فى غزة، التى أرهقها الحصار وقسوة الحروب المتكرّرة، وأصبحت ليست مجرد مدينة تعيش صراعاً سياسياً، بل هى موطن لقصص إنسانية تقطر وجعاً وإصراراً.
«زينب»، واحدة من تلك الحكايات المؤلمة والمُلهمة، تختصر فى تفاصيلها مرارة الألم وعظمة الصمود، لتُثبت أن الإرادة قادرة على تحدى المستحيل حتى فى أحلك الظروف.
«كان العلاج متوافراً، لكن بصعوبة شديدة»، بهذه الكلمات بدأت «زينب» تروى رحلتها مع المرض، لم تكن معركتها فقط مع السرطان الذى أنهك جسدها، بل أيضاً مع واقع يفرض نقصاً حاداً فى الموارد الطبية والغذائية، وتقول بحسرة لـ«الوطن» «كنت أعانى من نزول المناعة، لأن احتياجاتى الأساسية من الغذاء لم تكن متوافرة، وجسدى كان أضعف من أن يتحمّل العلاج الكيماوى أو أى مضاعفات».
لكن ما زاد الأمر سوءاً، كما تروى، هو تلك اللحظات القاسية التى شعرت فيها بأن الموت يقترب منها، وبنبرة يملؤها الألم تقول: «أُصبت بضيق تنفس واختناق بسبب الورم الذى يضغط على الغدة الدرقية، حتى إننى أصبحت عاجزة تماماً عن الخروج من المنزل أو حتى طلب المساعدة، لأن جنود الاحتلال كانوا يحاصرون المنزل من كل جانب». وتتابع حديثها بمرارة وهى تستعيد تلك اللحظات العصيبة: «كانت تلك الفترة هى الأصعب فى حياتى، شعرت بالعجز والخوف يتسربان إلى أعماقى، كنت وحيدة وسط حصار لا يرحم، يمنع عنى حتى أبسط حقوقى فى العلاج، كل دقيقة مرت كانت كأنها دهر من الألم والتوتر.
ورغم كل ما مرت به من ألم ومعاناة، لم تفقد «زينب» الأمل، فهى مثل كثير من الغزاويين الذين يُبهرون العالم بصمودهم وإصرارهم على الحياة، بعد صراع طويل مع المرض والحصار، تمكنت من الحصول على العلاج الهرمونى عبر مؤسسة الإغاثة الطبية فى غزة، كان ذلك بمثابة شعاع صغير من الضوء وسط الظلام الحالك، لكنها كانت تدرك فى أعماقها أن هذا العلاج ليس كافياً للتغلب على المرض.
وتصف «زينب» الواقع باختصار: «إنه عبارة عن ألم وصبر، حيث يتحول الحصول على أبسط حقوقهم كالعلاج إلى معركة شاقة تبدو مستحيلة فى كثير من الأحيان، ولكن فى الوقت الحالى باتت المساعدات والأدوية معهم بالفعل، مما سيُسهم فى مساعدة المرضى وتخفيف آلامهم».