النموذج غير الأنسب لإدارة الدولة اجتماعيا في أوروبا
تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT
من المستغرب الذي لن نجد له أي مسوغ في أوروبا عامة، وبعض الدول الاسكندنافية كالسويد والدنمارك على وجه الخصوص، أن استهداف ثاني أكبر دين في العالم بتعداد «2» مليار مسلم، يتطور بصورة غير عقلانية، بدأ بالمساس بالنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وتدرج إلى التطاول على القيم الإسلامية، ومضايقة المسلمين، ويقف الآن عند حرق نسخ من المصحف الشريف.
وهنا نوجه لهذه العواصم التساؤلين التاليين:
الأول: ماذا بعد جرائم استعراضات حرق المصحف الشريف؟ نترقب بقلق كبير ما سيحدث بعد هذه الاستعراضات التي تتفرج عليها الشرطة، بل وتحميها بعد تجدد حرق نسخ من المصحف الشريف في الدنمارك مؤخرا، فلا تزال البيئات نفسها قائمة التي تستعدي عقيدة الشعوب المسلمة، وتمس جوهر إيمانها، وحتى بعدما قررت السويد مؤخرا اتخاذ إجراءات تشريعية لوضع حد لهذه الاستعراضات، ذكرت أن ذلك قد يتطلب بضع سنوات، وطوال هذه السنوات القلق سيظل قائما من تصعيد الاستعراضات.
ربما تكون خطوة السويد تكتيكا لامتصاص الغضب والمقاطعات، ولو كانت جادة ومعها أوروبا، لسارعوا إلى استصدار تشريعات مستعجلة توقف جرائم هذه الاستعراضات، وهي فعلا تبدو في هذا التوصيف الأخير اسما على مسمى، فعمليات الحرق تصور، وتنقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي بحراسة الشرطة، مما يكون لها تداعيات سيكولوجية على كل مسلم في العالم.
الثاني: كيف تحول النظام العلماني إلى هذه الراديكالية المتدرجة في العنف ضد الآخر؟ ومن ثم هل المطلوب من الآخر أن يظل متسامحا؟ وإلى متى؟
أبسط ما ينبغي التفكير فيه يدور حول ما ستنتجه هذه الراديكالية من راديكاليات عالمية جديدة على اعتبار الانتشار الجغرافي للمسلمين، وستكون أقوى، وهي في سياقات ردة الفعل على جرائم الفعل طبيعية من حيث إنتاجها -نوعا وكما- وهي من الحتميات في حالة الاستمرارية؛ لأن الاستهداف هنا لا يمس المصالح والمنافع المادية، حتى يمكن للعقل أن يوازن بين حجم الضرر لردود الأفعال على الفعل، وإنما تمس العقيدة التي تأطرت عليها ذهنيات الشعوب، وشكلت عواطفها ومشاعرها، وكذلك قناعاتها العقلية للوجود ولما بعد الوجود، الأغلبية المسلمة هي الآن في طور الاستنكار القلبي، وهو أضعف الإيمان، ولسنا ندري ماذا يتفاعل تحت السطح.
وينبغي أن نحمل الأنظمة الغربية ما قد تنتجه العلمانية الراديكالية بنسخها اليمينية المتطرفة من راديكاليات أيديولوجية وفكرية واسعة النطاق في العالم، فالكرة الآن في ملعبها، والبوصلة قد تحولت إليها، فعوضا أن تطالب الدول العربية والإسلامية بتشريعات ومواقف سياسية لصناعة التعايش وتعميم التسامح، تصبح الآن هي المطالبة بذلك وبإلحاح، فالفعل يولد صيرورة ردة الفعل حسب ماهية الفعل، ومناطق استهدافاته المادية والروحية، والاستهداف هنا -نكرر- يطال مناطق الواجدان والذهنيات، والمسلمات المقدسة، وبالتالي علينا التحذير من أسوأ الاحتمالات.
والأسوأ سيتلاقى مع مجموعة تداعيات كبرى ناجمة عن تحولات مصيرية تلقى بظلالها السلبية العميقة، بعضها على معيشة الشعوب، والأخرى تستفز قيمها ومنظومة الأخلاقية كمحاولة الغرب نشر أفكار مثل الإلحاد والنسوية والمثلية.. إلخ وهى جميعها تصنع سيكولوجيات محتقنة ومنفعلة، يمكن لأي شرارة كاستمرارية حرق المصحف الشريف أن تشعلها فجأة.. إلخ، وهنا نخاطب العقول لكبح جماح الراديكالية اليمينية المتطرفة التي تنتشر في أوروبا بجنون الحرية الفردية دون إعمال العقل بأن هذا الجنون قد ينتج جنونا ممتدا وعابرا للحدود السياسية لدول العالم، وسيكون الغرب أكبر المتضررين لمصالحه وتوجهاته المعاصرة في وقت تطرق موسكو وبكين أبواب الدول العربية والإسلامية بسياسة احترام الخصوصيات وعدم التدخل في شؤون الدول في حقبة تفتح باريس ولندن أبوابا جديدة بالمنطقة، وبالذات الخليجية لسد الفراغات التي تتركها واشنطن خلفها في توجهاتها نحو آسيا والمحيط الهادي وأوكرانيا.
على الفاعلين السياسيين والمفكرين في الغرب مهما كانت اتجاهاتهم الفكرية أن يتّعظوا بتاريخ نظرائهم في ممارسة الراديكالية التي تقصي فكر وإيديولوجية الآخر، وكيف صنعوا العداوات بين شعوب العالم، تسيل من خلالها الدماء البريئة حتى الآن، بعضهم رحلوا بثقل هذه السيئات، وآخرون رحلوا بعد أن كفروا بأفكارهم كالإلحاد، لكن بعد ماذا؟ بعد أن أسسوا جيوشا فكرية في نصف العالم تحارب النصف الآخر.
وقد قمنا بعملية بحثية عن نماذج يمينية متطرفة، أعلنت العداء للإسلام، وأصلته في ذهنيات الملايين بالعالم، لكنها قبل وفاتها أسلمت، فوجدنا في مقدمتهم الفيلسوف البريطاني «أنطوني جيرارد نيوتن فلو» أهم منظري الإلحاد طوال «50» عاما، وقد ألّف 30 كتابا عن الإلحاد، وتقول المصادر إنه قبل وفاته بثلاث سنوات دخل الإسلام، وألّف كتابا بعنوان «هناك إله» كفر أنطوني بالإلحاد بعد أن انكشفت له الحقائق، لكن هذا المصير لم يتعظ منه الملايين الذين لا يزالون يدافعون عن الإلحاد، وأدخلوا أنفسهم -كما تقول المصادر- في شكوك رغم وجود كتابه «هناك إله» يقطع الشك بالقين.
وهناك أيضا الكثير من المتطرفين اليمينين أسهموا في صناعة العداوة، لكنهم مؤخرا أدركوا الحقيقة، والقائمة البحثية هنا طويلة، وسنذكر منها، اليميني المتطرف الألماني آرث واغنر الذي كان عضوا بحزب «ألمانيا البديلة» المعادية للإسلام واللاجئين ولديها مقاعد في البرلمان الألماني، لكن في عام 2018 أعلن واغنر إسلامه واستقال من الحزب، وربما الأغرب من ذلك - وفق المصدر الذي نقلنا عنه - أن يعتنق أرنوا فان دورن، عضو حزب الحرية الهولندي الذي يرأسه المتطرف جيرت ويلدرز المعادي للإسلام في عام 2012 الإسلام بعد عام واحد من استقالته من ذلك الحزب، ويتوجه للحج بعد ذلك، وفي عام 2014 اعتنق ماكسنس باتي، عضو الجبهة الوطنية وهي حزب فرنسي من أقصى اليمين، الإسلام، وهناك أمثلة عديدة لإعتناق الإسلام من قبل من كانوا محسوبين على اليمين المتطرف.
وهنا نتساءل، هل يمكن أن نرجع الآن حالة العداء القوية ضد الإسلام من قبل اليمين المتطرف إلى دخول قادة هذا اليمين الإسلام؟ لذلك فالحفاظ على وجودهم الفكري يحتم تحويل الإسلام إلى عدو، بل وعداء وجودي، هذه نتيجة يمكن استخلاصها من سياقات هذا التحليل، لكن، ومهما كانت، فإنه على الأنظمة الأوروبية أن تحمي حق التعايش والتسامح بقوة التشريع وتطبيقه عاجلا، لأنها لو تركت الأفراد والجماعات تعبث به -أي الحق- فلن يكون حصريا على بلدانها فقط، وإنما سيكون معولما.
وعليهم العلم أن سياستهم الاجتماعية تصنع حالة عداء مستحكمة مع كل المسلمين لحقبة الخمسين سنة مقبلة، وسترتد عليهم، فأوروبا وبالذات لندن وباريس تؤسس الآن مصالح جديدة وعميقة في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية في الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في الخليج لسد الفراغ الأمريكي الذي حول بوصلته لآسيا والمحيط الهادي وأوكرانيا، وهل تعتقد بسياستها الاجتماعية الراهنة أنها ستتمكن من تأمين مصالحها القديمة/ الجديدة؟ وعليها كذلك أخذ العبرة بتداعيات سياساتها في القارة الإفريقية، وهنا تظهر بكين وموسكو من بين البدائل المستدامة لدول المنطقة وشعوبها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المصحف الشریف
إقرأ أيضاً:
عسكرة أوروبا: العالم يعود إلى أجواء الحرب الباردة مع روسيا
لمن يسأل عن دوافع وأسباب اندلاع الصراعات أو الحروب، باردة أو ساخنة، بين الغرب بقيادة أميركية، وبين قوى أخرى، عليه أن يتذكّر تحذير الرئيس الأميركي السابق، الجنرال دوايت أيزنهاور (1952-1960)، قائد قوات الحلفاء بالحرب العالمية الثانية، في خطابه الوداعي.
حذّر أيزنهاور من تمدد نفوذ المجمّع الصناعي العسكري، الذي يجني أرباحًا هائلة من عقود التسليح والبحث والتطوير والتدريب، مع وزارة الدفاع بأميركا وغيرها، تمكنه بأريحية من اختراق الحياة السياسية وتمويل وشراء السياسيين والمسؤولين عن سياسات الدفاع والصراع وإقرار موازناتها، والرقابة على العقود العسكرية، وما يتصل بها. بل ويجنِّد جنرالات ومسؤولين سابقين بعد تركهم الخدمة لمكافأتهم على تعاونهم أثناء توليهم مناصب رسمية.
إشعال الحرائق وإطفاؤهامنذ انهيار السوفيات وانتهاء الحرب الباردة، جرت مياه وأحداث كثيرة تحت جسور الأنهار والأزمان، لكن عقلية الصراع المهيمنة على واشنطن، أي البيت الأبيض، والكونغرس، والدولة العميقة، ولوبيات المصالح، ومراكز تفكير وتنظير وقدح ذهني يمولها المجمّع الصناعي العسكري، وصحافة، وشبكات إعلام وفضائيات، أدمنت إشعال الصراعات والتربّح من الحروب والدمار، ودور مشعِل الحرائق والإطفائي معًا.
إعلانوفي حين خلص الغرب الأوروبي، منذ نهاية الحربين العالميتين إلى عدمية حروب العصر الصناعي وعبثيتها ودمارها الشامل وعدم جدواها في حلّ الصراعات الكبرى؛ استمرّ الهوس الأميركي والإسرائيلي بالحروب والإبادة.
يلفت الكولونيل الأميركي السابق وأستاذ العلاقات الدولية المخضرم بجامعة بوسطن، أندرو باسيفيتش، إلى أن السلام بين أميركا أو إسرائيل وبين أي "عدو" حقيقي أو متوهَّم يقوم حصرًا على علاقة دونية مستمرة.
كما يظهر تاريخ وحاضر علاقات أميركا باليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وروسيا بعد الحرب الباردة، مما سبّب استياء وعداء روسيا وعودتها إلى العسكرة والتشدد وسباق التسلح وإقامة الأسوار الحديدية وإستراتيجية الردع النووي بينها وبين الغرب.
وواجهت روسيا عدوانية الغرب وثوراته "الملونة" بالجمهوريات السوفياتية السابقة وتمدد الناتو نحو حدودها بعملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، مما يعتبره المفكر الروسي، ألكسندر دوغين، معجزة بوتين!
لقد استقر في وعي أو لاوعي واشنطن وعقليتها الصراعية أن نهوض أي أمة من الأمم، خارج نطاق السيطرة الأميركية، يمثل تهديدًا أكيدًا للولايات المتحدة.
نقطة تحول تاريخيعندما اجتمع قادة أوروبا في بروكسل مؤخرًا (فبراير/ شباط 2025) لمناقشة مآلات حرب أوكرانيا ومستقبل الأمن الأوروبي، وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذه اللحظة بـ"نقطة تحول تاريخي". يتفق قادة الغرب على أن هذه لحظة تاريخية تستدعي اتخاذ إجراء حاسم، لكن طبيعته تعتمد على تفسيرهم لطبيعتها.
يتساءل الباحثان ميديا بنجامين، ونيكولاس ديفيز، مؤلفا كتاب "الحرب في أوكرانيا: نحو فهم صراع لا معنى له"، هل نشهد الآن بداية حرب باردة جديدة بين أميركا وحلف الناتو، وبين روسيا، أم إننا نشهد نهايتها؟ هل ستبقى روسيا والغرب أعداءً ألداء بالمستقبل المنظور، مع ستار حديدي جديد يفصلهما عبر ما كان يُعرف سابقًا بقلب أوكرانيا، أم يمكن للولايات المتحدة وروسيا حل الخلافات والعداء الذي أدى إلى هذه الحرب أصلًا، بما يضمن لأوكرانيا سلامًا مستقرًا ودائمًا؟
إعلانيرى قادة أوروبيون هذه اللحظة بداية صراع طويل مع روسيا، أشبه ببداية الحرب الباردة عام 1946، عندما حذّر ونستون تشرشل من "هبوط ستار حديدي" على أوروبا.
قنفذ فولاذيفي الثاني من مارس/ آذار، وفي صدى لتشرشل، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن على أوروبا أن تُحوّل أوكرانيا إلى "قنفذ فولاذي". وصرح الرئيس زيلينسكي بأنه يريد 200 ألف جندي أوروبي على خط وقف إطلاق النار النهائي بين روسيا وأوكرانيا؛ لضمان أي اتفاق سلام، ويصرّ على أن الولايات المتحدة يجب أن تُقدّم "شبكة أمان"، أي التزامًا بإرسال قوات أميركية للقتال بأوكرانيا لدى اندلاع الحرب مجددًا.
أكدت روسيا مرارًا وتكرارًا أنها لن توافق على تمركز قوات الناتو بأوكرانيا تحت أي غطاء. فقد قال وزير الخارجية سيرغي لافروف في 18 فبراير/ شباط: "أوضحنا اليوم أن ظهور قوات مسلحة من دول الناتو نفسها، لكن تحت راية زائفة، أو راية الاتحاد الأوروبي، أو رايات وطنية، لا يغير شيئًا في هذا الصدد". وأضاف: "بالطبع، هذا أمر غير مقبول بالنسبة لنا".
لكن بريطانيا تُصرّ على حملة لتجنيد "تحالف الراغبين"، وهو المصطلح الذي صاغته أميركا وبريطانيا لدول أقنعتاها بدعم الغزو غير الشرعي للعراق عام 2003.
في تلك الحالة، لم تشارك سوى أستراليا والدانمارك وبولندا بأدوار صغيرة في غزو العراق، بينما أصرَّت كوستاريكا علنًا على إزالة اسمها من القائمة، ووُصف المصطلح بشكل واسع بأنه "تحالف الفواتير"؛ لأن واشنطن جنّدت دولًا عديدة للانضمام إليها على وعد بمساعدات خارجية مربحة.
بعيدًا عن بداية حرب باردة جديدة، يرى الرئيس ترامب وقادة آخرون أن هذه اللحظة أقرب إلى نهاية الحرب الباردة الأولى، عندما التقى الرئيس الأميركي رونالد ريغان والزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في ريكيافيك بآيسلندا عام 1986، وشرعا في رأب صدع أحدثته أربعة عقود من العداء والحرب الباردة.
إعلان صدمة أوروباومثل ترامب وبوتين اليوم، لم يُتوقّع أن يكون ريغان وغورباتشوف صانعَي سلام. فقد ارتقى غورباتشوف في الحزب الشيوعي السوفياتي ليصبح أمينه العام ورئيس وزرائه في مارس/ آذار 1985، في خضم حرب السوفيات بأفغانستان، ولم يبدأ سحب القوات السوفياتية منها إلا عام 1988.
بدوره، أشرف ريغان على تسلح غير مسبوق خلال الحرب الباردة، وإبادة جماعية بدعم أميركي وحروب سرية وبالوكالة في أميركا الوسطى. ومع ذلك، يُذكر غورباتشوف وريغان الآن كصانعَي سلام.
ورغم اعتبار الديمقراطيين ترامب أداةً بيد بوتين، كان ترامب مسؤولًا عن تصعيد الحرب الباردة مع روسيا بولايته الأولى. فبعد استغلال البنتاغون نزوةَ الحرب السخيفة على الإرهاب، وحصد تريليونات الدولارات، أعلن ترامب ووزير دفاعه، الجنرال ماتيس، العودة للتدافع الإستراتيجي مع روسيا والصين كأداةٍ جديدةٍ للبنتاغون في إستراتيجية الدفاع الوطني عام 2018. كما رفع ترامب قيودًا فرضها الرئيس أوباما على إرسال أسلحة هجومية لأوكرانيا.
أدّى انقلاب ترامب المُذهل في السياسة الأميركية إلى صدمةٍ كبيرةٍ لحلفائه الأوروبيين، وعكس الأدوار التي لعبها كلٌ منهم لأجيال. فقد لعبت فرنسا وألمانيا طويلًا دور الدبلوماسية وصنع السلام في التحالف الغربي، بينما أصيبت الولايات المتحدة وبريطانيا بحمى حرب مزمنة أثبتت مقاومتها لسلسلة طويلة من الهزائم العسكرية والآثار الكارثية على كل دولة وقعت فريسة لحروبهما.
كل شيء تقرر في واشنطن!في عام 2003، قاد وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان معارضة غزو العراق بمجلس الأمن الدولي. وأصدرت فرنسا وألمانيا وروسيا بيانًا مشتركًا أكدت فيه أنها "لن تسمح بتمرير قرار يجيز استخدام القوة. وستتحمل روسيا وفرنسا، كعضوين دائمين بمجلس الأمن الدولي، مسؤولياتهما في هذا الشأن".
في مؤتمر صحفي عُقد في باريس آنذاك مع المستشار الألماني غيرهارد شرودر، قال الرئيس الفرنسي جاك شيراك: "يجب بذل كل جهد ممكن لتجنب الحرب.. بالنسبة لنا، الحرب تعني الفشل دائمًا".
إعلانفي عام 2022، وبعد غزو روسيا لأوكرانيا، رفضت الولايات المتحدة وبريطانيا وعرقلتا مفاوضات السلام، وفضلتا حربًا طويلة الأمد، بينما استمرت دعوة فرنسا وألمانيا وإيطاليا لمفاوضات جديدة، رغم انسجامها تدريجيًا مع سياسة الحرب الطويلة الأميركية.
شارك المستشار الألماني (السابق) شرودر في مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا بتركيا في مارس/ آذار وأبريل/ نيسان 2022، وسافر إلى موسكو بطلب من أوكرانيا للقاء بوتين. وفي مقابلة مع صحيفة "برلينر تسايتونغ" عام 2023، أكد شرودر أن محادثات السلام فشلت فقط "لأن كل شيء تقرر في واشنطن".
ومع استمرار بايدن في عرقلة أي مفاوضات جديدة عام 2023، سأل أحد المحاورين شرودر: "هل بإمكانك استئناف خطتك للسلام؟"
أجاب شرودر: "نعم، والوحيدتان القادرتان على المبادرة لهذا فرنسا وألمانيا… ماكرون وشولتس هما الوحيدان القادران على التحدث مع بوتين. لقد فعلتُ أنا وشيراك الشيء نفسه في حرب العراق. لماذا لا يجتمع دعم أوكرانيا مع عرض إجراء محادثات مع روسيا؟ إن تسليم شحنات الأسلحة ليس حلًا أبديًا. لكن لا أحد يريد التحدث. الجميع في الخنادق. كم من الناس يجب أن يموتوا؟"
منذ عام 2022، روّج الرئيس ماكرون وفريق النساء الحديديات "شبيهات تاتشر": رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين؛ ووزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك (التي تستعد لمغادرة منصبها)؛ ورئيسة وزراء إستونيا السابقة كايا كالاس والآن مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، لعسكرة أوروبية جديدة، بتحريض المجمع الصناعي العسكري بأوروبا وأميركا من وراء الكواليس.
يتساءل الباحثان بنجامين وديفيز: هل محا مرور الزمن ورحيل جيل الحرب العالمية الثانية وتشويه التاريخ، الذاكرة التاريخية لحربين عالميتين من قارة دمرتها الحرب قبل 80 عامًا فقط؟ أين جيل الدبلوماسيين الفرنسيين والألمان القادم والسائر على خطى دوفيلبان وشرودر اليوم؟
إعلانكيف يُعقَل أن إرسال الدبابات الألمانية للقتال بأوكرانيا، والآن في روسيا نفسها، لا يُذكّر الروس بغزوات ألمانية سابقة ويعزز دعمهم للحرب؟ ألن تُسهم حتمًا دعوة أوروبا لمواجهة روسيا وانتقال أوروبا من "دولة الرفاهية إلى دولة الحرب" في تعزيز صعود اليمين المتطرف الأوروبي؟
وهل يُدرك دعاة العسكرة الأوروبيون الجدد هذه اللحظة التاريخية بشكل صحيح؟ أم ينضمون لموجة حرب باردة كارثية قد تفضي، كما حذّر بايدن وترامب، لحرب عالمية ثالثة؟
عالم متعدد الأقطابعندما التقى فريق السياسة الخارجية الأميركي بنظرائهم الروس بالرياض في 18 فبراير/ شباط، كان إنهاء الحرب في أوكرانيا هو المرحلة الثانية من خطة ثلاثية المراحل اتفقوا عليها: المرحلة الأولى استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة الأميركية الروسية، والمرحلة الثالثة معالجة سلسلة مشكلات أخرى في العلاقات الأميركية الروسية.
يُثير ترتيب هذه المراحل الثلاث الاهتمام، لأنه، كما أشار وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، يعني أن المفاوضات بشأن أوكرانيا ستكون الاختبار الأول لاستعادة العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا.
إذا نجحت مفاوضات السلام في أوكرانيا، فقد تؤدّي لمزيد من المفاوضات حول استعادة معاهدات الحد من التسلح، ونزع السلاح النووي، وحل مشكلات عالمية أخرى استحال حلها في عالم غارق في حرب باردة أشبه بزومبي لا يفنى، ولا تسمح المصالح القوية بزوالها.
كان تغيرًا إيجابيًا ومفاجئًا قولُ الوزير روبيو: إن عالم ما بعد الحرب الباردة أحادي القطبية كان حالة شاذة، وأن علينا الآن التكيف مع واقع عالم متعدد الأقطاب.
لكن إذا كان ترامب ومستشاروه المتشددون يسعون فقط لاستعادة العلاقات الأميركية الروسية كجزء من مخطط لعزل الصين، يعاكس مخطط كيسنجر لاستمالة الصين ضد السوفيات، فذلك سيُديم الأزمة الجيوسياسية الأميركية المُنهكة بدل حلّها.
إعلانأمام أميركا وأوروبا فرصة جديدة لانفصال تام عن صراع قوة جيوسياسي ثلاثي بين أميركا وروسيا والصين، أعاق العالم منذ سبعينيات القرن الماضي، ولإيجاد أدوار وأولويات جديدة لبلادهم في عالم ناشئ متعدد الأقطاب بهذا القرن.
يُؤمل أن يُدرك ترامب وقادة أوروبا مفترق الطرق الذي يقفون عنده، والفرصة التي يُتيحها لهم التاريخ لاختيار طريق السلام. على فرنسا وألمانيا، بخاصة، أن تتذكرا حكمة دومينيك دوفيلبان وجاك شيراك وغيرهارد شرودر بمواجهة الخطط الأميركية والبريطانية للعدوان على العراق عام 2003.
فهل نشهد بدء نهاية حالة الحرب الدائمة والحرب الباردة التي سيطرت على العالم أكثر من قرن؟!
سيتيح إنهاؤها منح أولوية للتقدم والتعاون المطلوبين بشدة لحل معضلات حرجة أخرى يواجهها العالم أجمع بالقرن الحالي. وكما قال الجنرال ميلي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 عندما دعا لمفاوضات بين أوكرانيا وروسيا، يجب علينا "اغتنام الفرصة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline