لماذا مفهوم الهوية أكثر بروزا في العالم؟
تاريخ النشر: 9th, August 2023 GMT
مفهوم الهوية في عالمنا المعاصر، من المفاهيم التي تتعدد تفسيراتها بين المدارس الاجتماعية والفكرية والسياسية والنفسية، وفي كل الثقافات الإنسانية، مثله مثل مفاهيم الحرية، والخير والشر، والعدالة والمساواة، سواء في التعريف اللغوي في العربية، أو في الغربي الثقافي أيضا، فهناك مفاهيم ومصطلحات، تلاقي الكثير من التفسيرات والتحويرات، وأحيانا حتى في الاختفاء تماما من التداول، بالقياس إلى مفهوم الهوية مثل مفهوم العلمانية، والحداثة، وما بعد الحداثة، والتاريخانية، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي تتعدد تفسيراتها، وهذه مسائل طبيعية تجد لها مسوغات لكونها تخضع لإيديولوجيات فكرية، من أصحابها، فالحرية مثلا في النظام الرأسمالي تعني حرية السوق المطلقة دون تقييد، (دعه يعمل دعه يمر)، لكن عندما جاءت الفلسفات الليبرالية وأصبحت أكثر تأثيرا في الغرب الرأسمالي، وبدأت الانتقادات للرأسمالية المتوحشة، جاءت المطالبات بحرية التعبير وحرية الأحزاب وحرية الصحافة، فتوسع مفهوم الحرية، وأصبح شاملا في مجالات كثيرة.
والهوية في الثقافة العربية، تنسب إلى ضمير الغائب (هو)، أو نحن أو هم كمجموع، ثم أضيفت لها كل مقومات الأمة وتاريخها وتراثها.. إلخ. أما الهوية وفق النظرة الغربية فلسفيا ـ كما يشير د. حسن حنفي ـ أنها :«تُثبت الآخر قبل أن تُثبت الأنا. لأن يشتق لفظ «الهوية» من ضمير المتكلم الفرد «الأنا» إلا بمعنى الأنانية في مقابل الغيرية. أما لفظ «الإنية» فمشتق من «إن»، حرف توكيد ونصب، ومعناه أن يتأكد وجود الشيء وماهيته من خلال التعريف». ومع ذلك أصبح مفهوم الهوية أكثر توسعا من هذا التفسير، ولا يتسع المقام لسرده، فأثر هذا المفهوم في حياة الثقافات والحضارات والأديان، أكبر بكثير من هذه التعريفات، فقد تشتمل الهوية على العادات والتقاليد والسمات والأعراف، والكثير من المفاهيم التي تتعلق بالانتماء الفكري والثقافي، سواء للفرد أو للمجموع في أية أمة من الأمم، لكن الهوية قد تكون ساكنة في محيطها الاجتماعي، لكنها عند الأزمات والتوترات والأخطار الداهمة على الوجود الفكري أو الثقافي، قد تستنهض الهمم للدفاع هن الوجود الهوياتي أو التحذير من المساس بها، أو الاعتداء على الذات الفكرية أو اللغوية أو الثقافية، أو غيرها مما يتعلق بنذر أو خطر داهم أو متوقع بحسب التقديرات والحسابات.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، سواء من كتابات الحركة الإصلاحية، وما صاحبها من كتابات أخرى في تلك الانطلاقة السياسية أو الفكرية، خاصة الكتاب والمؤلفين الذين كانوا الأكثر بروزا في الكتابة والتأليف في ذلك العصر، فلم نجد أية إشارة إلى مفهوم الهوية كمصطلح ظاهر ومقاربته مع المفاهيم المستجدة بعد ذلك في تلكم الظروف، فقد كان الشغل الشاغل لهؤلاء في ذلك، هو الوحدة الوطنية والحديث عن مواجهة الاستعمار ونهوض الأمة، بعد الاحتكاك مع الغرب وتقدمه ونهضته، والفجوة الكبيرة بيننا وبينه، والحديث عن محاولته محو الشخصية الوطنية كمقاربة لبعض مظاهر الاستعمار في بداية تحركه الفكري والتربوي والثقافي، فلم نقرأ لعباس محمود العقاد، أو طه حسين، أو الأمير شكيب أرسلان، أو محمد رشيد رضا، أو عبد العزيز الثعالبي، أو سليمان الباروني، أو غيرهم ممن كانت لهم مؤلفات وكتابات بارزة، وهي منشورة، وعُرفت في الآفاق العربية بصورة واسعة، أقول لم نجد من هؤلاء من تحدث عن مفهوم الهوية وأهميتها للأمة في ظل الاجتياح الغربي للبلاد العربية، وفي القرن الثاني من القرن العشرين، بدأ الحديث عن الهوية، وكتابات من بعض المفكرين العرب، والحديث عن خطر الاختراق الثقافي والفكري، مثل كتابات مالك بن نبي، ومحمد عابد الجابري، وأنور الجندي، وعلي شريعتي، وحسن حنفي، وغيرهم من الكتاب والباحثين الذين أشاروا إلى تأثير الاختراق الفكري على الهوية عموما، وهذا الاهتمام كان بسبب ما ظهر من تأثير الاستعمار في العديد من البلاد العربية في محاولة إقصاء اللغة العربية وإحلال لغة المستعمر في هذه الدول العربية التي استعمرها، وتشجيع اللهجات المحلية، باعتبار اللهجات لا تأثر لها لغة على اللغة الأجنبية وانتشارها، وغيرها من الأساليب التي اتبعها الاستعمار في فترة وجوده البغيض، من هنا بدأ الحديث عن الخطر على الهوية، ممثلة في اللغة والثقافة والقيم والدين، ومن المفكرين العرب الذين اهتموا بمخاطر الاستعمار ودوافعه في استئصال مقومات هوية الأمة، المفكر الجزائري مالك بن نبي، في العديد من مؤلفاته التي كتبها ونبه عليها، وخاصة كتبه مثل «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»، وكتاب «في مهب المعركة» وكتاب «القضايا الكبرى»، وهذه الكتابات من هؤلاء كانت بمثابة دق ناقوس الخطر، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وقد تحققت بعض مثالب الاستعمار وأساليبه في الاحتراق الفكري، خاصة في اللغة والتعليم والثقافة، وربطها بالعلم والتقدم والنهضة، من أجل تمرير فكره وثقافته وتفتيت الكثير مما يقف في وجهه.
وأتذكر أنني حضرت عام 2008 مؤتمرا في الجمهورية الجزائرية لمنتدى الفكر العربي الذي يرأسه الأمير الحسن بن طلال، وأقيم في فندق الصنوبر المعروف الذي يقع في وسط العاصمة الجزائرية، وفي الصباح كالعادة بعد الإفطار، سألت عن صحف الصباح بركن الجرائد القريبة من قاعة الاستقبال، فلم أجد إلا الجرائد الجزائرية باللغة الفرنسية، فسألت: هل يمكن أن أحصل على جرائد عربية؟ فقالت لي إحدى الأخوات الجزائريات العاملات في الفندق: آسفين عزيزي.. لا توجد هنا في الفندق صحف عربية، فقط عندنا صحافة جزائرية باللغة الفرنسية! فتألمت كثيرا: لماذا هذا يحصل في بلد المليون شهيد؟ وبعد خطة التعريب التي وضعها الرئيس الراحل هواري بومدين لسنوات حكمه. ولذلك من أهم استهداف الهوية الذاتية لأي شعب من الشعوب، هو أن تستهدف لغته في المقام الأول، لأنها أهم عناصر الهوية وأداة تعبير مكنونها الوطني والقومي، فإذا أقصيت اللغة، فستتبعها بقية العناصر الجامعة لهُوية الأمة وربما وجودها المادي والروحي، وقد عبر عن هذا الهدف المفكر المغربي د.عبد الكريم غلاب، عندما طرح قضية الهوية في كتابه «أزمة المفاهيم وانحراف التفكير»، فيقول د.غلاب:«في العصور الحديثة قام الاستعمار بالدور الكبير لتحييد الهوية العربية، تارة بالاحتلال المباشر، وإلغاء الهوية الشرعية ممثلة في الوطن واللغة والقومية، وكاد يصل إلى الدين كوضعية الجزائر قبل الاستقلال، وتارة بإجلاء الشعب وإحلال شعب آخر بهويته الدينية والقومية واللغوية والدولية كوضعية فلسطين، وتارة بإلحاق الوطن، وإحلال اللغة الأجنبية محل اللغة العربية، ومحاولة تغيير الدين عن طريق التمسيح، وتغيير التوجه الفكري والحضاري عن طريق غزو فكر جديد وحضارة جديدة يمسخان الفكر الوطني والحضارة الوطنية». فالهوية مسألة تتعلق بقضية أساسية، وهو تعزيز قيم الأمة عند الخطر والمسخ والذوبان من الآخر الذي له من الإمكانيات التي يحاول من خلالها النيل من الهُوية.
والغرب نفسه يتحدث أيضا عن الهوية، وهذه تأتي نتيجة تراجعات في هويته، وفي المقابل فإن الثقافات تتمسك بهويتها وتعززها عند الخطر، وذكر هذا البروفيسور «صامويل هنتنغتون» في كتابه الشهير «صدام الحضارات»،عن أهمية تعزيز القيم الغربية ومنها مسألة الهوية: ولذلك نجد أن قضية الصراع والصدام في الرؤية الغربية، بديهية من أجل تهميش هوية الآخر وإضعافه، وأشار هنتنغتون في هذا الكتاب إلى رواية «ديبون» «البحيرة الميتة»، التي تتحدث عن مسألة تعزيز الهوية لمواجهة الآخر والتي يقول فيها:«لا يمكن أن يكون هناك أصدقاء حقيقيون دون أعداء حقيقيين. إن لم نكره ما ليس نحن، فلن يمكننا أن نحب ما هو نحن. تلك هي الحقائق القديمة التي نعيد اكتشافها بألم بعد قرن أو أكثر من النفاق العاطفي، والذين ينكرونها إنما ينكرون أسرتهم وتراثهم وحق الميلاد.. إنهم ينكرون ذواتهم نفسها ولن يعفى عنهم ببساطة». وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، تحدث الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، بما يستنفر الهوية الأمريكية تجاه الآخرين:« من ليس معنا، فهو ضدنا» وهي تساوي «من نحن ومن أنتم»؟. إذن قضية الهوية واستخدامها في الأزمات معروفة، فالهوية تعكس وضعا نفسيا داخليا، ويتم استرجاع الذات ماضيه وحاضره وعقيدته، واستجماع قواه لخطر ما يراه متوقعا، ويستلزم مواجهته.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مديرة معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة تحصل على جائزة التألق في اللغة الصينية
حصلت الدكتورة رحاب محمود رئيس قسم اللغة الصينية ومدير معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة، على جائزة التألق في مجال اللغة الصينية ضمن 40 شخصية علي مستوي العالم ممن لهم تأثير كبير في تعليم اللغة والثقافة الصينية.
جاء ذلك خلال مشاركتها في فعاليات المؤتمر العالمي للغة الصينية 2024 الذي انعقد في العاصمة الصينية بكين في الفترة من من 15 إلي 18 نوفمبر الجارى تحت شعار" الترابط والتكامل والابتكار" واستضافته وزارة التربية والتعليم في الصين، بحضور نحو 2000 مشارك ونخبة من المسئولين الحكوميين والدبلوماسيين والخبراء والمدراء من أكثر من 160 دولة حول العالم.
والقت الدكتورة رحاب محمود محاضرة في المنتدي الدولي الخاص بتطوير وبناء نظام التعليم الصيني الذي انعقد في إطار فعاليات المؤتمر، تناولت فيها تطور تعليم اللغة الصينية في مصر وجامعة القاهرة.
نبذة عن مدير معهد كونفوشيوسيشار إلى أن الدكتورة رحاب محمود رئيس قسم اللغة الصينية ومدير معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة حصلت من قبل على جائزة أفضل مدير في معاهد كونفوشيوس حول العالم مرتين.
كما حصلت مدير معهد كونفوشيوس على الجائزة التذكارية لافضل مدراء معاهد كونفوشيوس فى 2021 لدورها فى نشر وتعليم اللغة الصينية وهى الوحيدة التى حصلت على هذه الجائزة فى مصر والدول العربية وشمال أفريقيا.
كما حصل معهد كونفوشيوس بجامعة القاهرة تحت إدارتها على جائزة أحسن معهد على مستوى العالم عام ٢٠١٦، وأفضل مركز تحديد مستوى اللغة الصينية مرتين الأولى عام ٢٠١٧، والثانية عام ٢٠٢٠.
والقي نائب الرئيس الصيني، هان تشنغ، كلمة في مراسم افتتاح المؤتمر، أكد خلالها علي أن الصين ستواصل دعم الدول الأخرى بشكل كامل في تنفيذ برامج تعليم اللغة الصينية، مشيراً إلي أن تقديم الدعم لتعليم اللغة الصينية على المستوى الدولي مسؤولية أساسية لا يمكن التخلي عنها. كما أكد نائب الرئيس الصيني في كلمته الافتتاحية، أن التطور المزدهر لتعليم اللغة الصينية في جميع أنحاء العالم أسهم في بناء جسور للتواصل والتفاهم بين الشعب الصيني وشعوب العالم وأقام أيضا منصة واسعة لتعزيز التبادلات والتعلم المتبادل بين الحضارات المختلفة.