مفكرون يناشدون «الرئيس» النظر فى القرار وإعادة الاعتبار لها
تاريخ النشر: 21st, August 2024 GMT
الفلسفة خطاب مناهض للعنف والإرهاب.. ومصر المحرك للتنوير والحرية
أثار قرار وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى بإلغاء مادة الفلسفة من الثانوية العامة (2024–2025) ردود أفعال واسعة خاصة بين الجمعيات والمعاهد التى تختص بالفلسفة عقب قرار وزير التربية والتعليم بإعادة هيكلة الثانوية العامة وتقليل عدد من المواد بالثانوية العامة، ليكون إجمالى المواد الملغية بالثانوية العامة ثلاث مواد وهى الفلسفة وعلم النفس والجيولوجيا وعلوم البيئة.
وعلق العديد من الخبراء التربويين والفلاسفة على قرار وزارة التربية والتعليم رافضين التقليل من شأن الفلسفة وتهميشها فى مراحل التدريس الثانوى، حتى صدر العديد من البيانات، فى مقدمتها بيان وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية بالمعهد العالمى للتجديد العربى، وناشد أعضاء المعهد والفلاسفة العرب الرئيس عبدالفتاح السيسى بتقييم المسألة وإعادة الاعتبار للفلسفة، وتفعيل دورها فى التعلم والتثقيف وبناء الشخصية المبدعة المنتجة.
وقالوا فى البيان الصادر عن المعهد العالمى للتجديد العربى: إن الواجب الفلسفى والأخلاقى يحتم علينا نحن الفلاسفة العرب أن نخاطبكم واثقين بأن الرئيس «السيسى» حريص على رعاية العلم والتعليم فى مصر العظيمة، وعلى بناء جيل جديد قادر على الإبداع والابتكار والتقدم لبناء الوطن والإنسانية جمعاء، مؤكدين أن الدراسات العالمية عن المستقبل تضع الفلسفة ضمن أحد أهم عشر مهن وأعلاها أجرًا، لتحديد سياسات العلم والتقدم، مشيرين إلى أن الفلسفة لها دور فى بناء المنظومة الرقمية، والذكاء الاصطناعى، إذ بدونها لا يمكن إبداع المعادلات الرياضية والفكرية العميقة، ولا يمكن جناء منطق للتطبيقات الكبرى المعقدة، ولا لتطوير منطق الحاسوب.
وأكدوا أن القرار الوزارى بشأن نظام الدراسة والتقييم لطلاب الثانوى العام بأنه تقليل من شأن الفلسفة، إذ إن الفلسفة والمنطق وعلم النفس والعلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية والأديان والتاريخ تعد من العلوم ذات الأهمية الكبرى فى بناء العقل.
وأضاف أعضاء المعهد من الفلاسفة أن مصر هذا البلد العظيم الذى فيه نبتت بذرة الفلسفة الأولى، حيث الحضارة الفرعونية الأولى التى ابتدأت التفكير الكونى بالخلق والمصير، وكان الإنسان المصرى مشغولاً بكتابة العلاقة بين الأرض والسماء، وكانت مصر كلمة الفهم الأولى لأخلاقية العيش الكريم فى هذا العالم، فمصر التى ألهمت اليونان فلسفة تحاكى مفهوم المدينة الحاضرة، لتكون الحياة سياسة عدالة وانفعال تقدم وحداثة وتجديد فى كل آن، مؤكدين أن مصر ابتعثت فيها الفلسفة العربية فى العصر الحديث، حيث رجالات النهضة الذين قرروا معاودة الوجود العربى الفاعل فى الكون، من جمال الدين الأفغانى والطهطاوى ومحمد عبده وفرح أنطون وشبلى شميل وطه حسين وغيرهم الكثير.
وقالوا إن مصر هذه هى ابتداء الأدب العربى المعاصر وحركة الترجمة والفلسفة العربية المعاصرة، من عبدالرحمن بدوى إلى إمام عبدالفتاح إمام وزكى نجيب محمود ويوسف كرم ومصطفى عبدالرازق ومصطفى النشار ومحمود أمين العالم وعبدالغفار مكاوى ومحمد أبوريدة وتوفيق الطويل ومحمد ثابت الفندى، فالقائمة تطول من المعاصرين والنخب الحية الفاعلة المؤثرة عربيًا ودوليًا، وهى التاريخ الذى أصر على الكينونة الحرة للإنسان فى هذا العالم.
وتساءلوا–فى بيانهم–قائلين ألا يتطلب الحفاظ على الأمن القومى المصرى ودور مصر الريادى عربيًا وعالميًا بناء منظومة فكرية وسياسية وإدارية متينة للدولة؟ وهل تقوم دولة بلا مفكرين أشداء؛ هذا ما لا تحققه السذاجة والسطحية والبساطة فى عقول الناس، ودولة بحجم مصر، عمرها ستة آلاف سنة هى المنبع الحقيقى لكل فكر حر قادر على أن يحكم سياسة النظام العالمى، ويطوع كل النظريات التى تحكم الاقتصاد والسياسة لتهتدى بأصول فلسفة الحق والعدالة والخير والصلاح، كما تساءلوا أيضًا لماذا مطلوب من الشباب ألا يتعبوا فى الفهم وفى عرك الأفكار وفى البحث والتنقيب والاشتغال المضنى فى الدرس والتحصيل، هل إبعاد الفرد عنت التفكير الجدى بالتغيير والتجديد والتحرر والبناء والانشغال بالشأن العام يحصن المجتمع؟
واختتم الفلاسفة العرب بيانهم قائلين إننا من منطلق الحرص والمسئولية والعمل معًا يدًا بيد، نرى أن نتشارك فى الوعى والتخطيط لكيفية إشراك الفرد فى مسئولية أمن وسلامة الوطن، وأن نبنى معًا أسس الديمقراطية والحرية اللتين لا يمكن للإنسان أن يتخلى عن النضال الدائم فى سبيلهما، وأن كل ابتداء جديد يبدأ من الذات الحرة المفكرة، فلا يمكن أن نباعد بين العمل والحرية بما هما قيمتان أساسيتان فى حياة الإنسان بناء على ما تقدم.
وناشد الموقعون على البيان الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية النظر فى مسودة القرار والإنصات إلى صوت الضمير الفلسفى المستقل الذى يخرج من أقلام هذه الذوات الحرة التى تصنعها العلوم الإنسانية، واستيعاب أثرها الإيجابى فى بناء الوطن، داعين وزارة التربية والتعليم إلى عقد مؤتمر علمى تربوى أكاديمى موجه، هدفه الأساسى تطوير مناهج التدريس للمواد الأدبية فى المدارس، وأن تدرس الخطط إمكان الربط بين العلم وسوق العمل، وهذا ما تؤمنه الاستشارة الفلسفية، كما فى كل إنحاء العالم المتقدم، مؤكدين أن مصر تزخر بهذه الطاقات الاستشارية الفاعلة وبالروح الخلاقة فى كل حين، وأن العناية بالفلسفة هى بناء للشعور بالانتماء الوطنى والانتماء الحر للإنسانية، وهذا ما يقلل الفساد والتطرف والمسالب والسقطات الكبرى فى سيرورة الشعوب والدول ويؤسس للأوطان المتقدمة التى تواكب العلوم الراهنة.
وعلق الدكتور مصطفى النشار رئيس الجمعية الفلسفية المصرية على قرار وزارة التربية والتعليم بشأن الفلسفة قائلاً: إنه كلما جاء وزير جديد للتعليم يبدأ عهدًا جديدًا من الشد والجذب حول نظام الثانوية العامة بحجة أنها المشكلة الكبرى للتعليم فى مصر، إلا أن الوزير الجديد فاجأنا بنياته الزلزالية بأن ينسف النظام من أساسه بحجة إعادة الهيكلة تخفيفًا على الطلاب وأولياء الأمور، ناسيًا أن المشكلة ليست مشكلة مقررات دراسية، فمقرراتنا وبالذات فى مادة الفلسفة التى يريد إلغاءها متطورة ومهمة وفريدة لدرجة يحسدنا عليها العالم من حولنا، وقد استفادت منها ومن الخبراء الذين أعدوها الدول العربية الأخرى خاصة دول الخليج العربى التى اقتنعت مؤخرًا بأهمية وضرورة التربية الفلسفية والنقدية لأبنائها بتعلم الفلسفة والمنطق والتفكير الناقد. وتساءل «النشار»: هل إعادة هيكلة نظام التعليم الثانوى يعنى فى نظر الوزير ومستشاريه ومطوريه إلغاء بعض المقررات الدراسية التى لا تأتى على هوى البعض مثل الفلسفة والتاريخ وعلم النفس دون وعى وإدراك لخطورة ما يفعلون، وهل كل المقصود من التطوير هو إلغاء التربية العقلية والنقدية للطلاب حتى نصبح مجتمعًا من الرعايا الذين ينقادون انقيادًا أعمى دون فهم وتساؤل، وهل المقصود من التطوير تربية جيل أهوج لا يعرف الواحد منهم من هو ولا تاريخه ولا موقعه من العالم، وهل المقصود من التطوير مجرد حشو أدمغة الطلاب بمعلومات علمية وتكنولوجية دون القدرة على إعمال العقل والتساؤل حولها وفهمها والإبداع من خلالها؟ وإجمالاً هل المقصود بالتطوير هو تربية جيل غير عقلانى وغير واعٍ وغير منتم وغير قادر على الإبداع؟.
وقال «النشار» إن الفلسفة والمنطق والتفكير الناقد–أيها المطورون–هى علوم تشغيل العقل ومن دون تعلمها من الطفولة حتى الجامعة يصبح الإنسان مجرد كائن حيوانى شهوانى بلا عقل ولا معرفة علمية كانت أو إنسانية.
وناشد رئيس الجمعية الفلسفية المصرية المطورين قائلاً: أناشدكم بكل ذرة عقل لديكم أن ترفعوا أيديكم عن مقررات العلوم الإنسانية وتتركوها كما هى حتى لا تطاردكم فى حياتكم وأخرتكم لعنة الفلاسفة والتاريخ.
وطرح «النشار» حلاً للتخفيف عن كاهل أولياء الأمور الذين تدميهم وتثقل كاهلهم الدروس الخصوصية إذا كانت هذه هى المشكلة فالحل بسيط وهو أن تعمل المدارس بكامل طاقتها ومدرسيها، ويمكن أن يتم ذلك بتشريع عاجل من شقين وهما رفع مرتبات المدرسين بنسبة لا تقل عن الضعف، وثانيًا إغلاق مراكز الدروس الخصوصية ومنح وزير التربية والتعليم صلاحية فصل أى مدرس يشارك فى هذه الظاهرة المؤسفة التى تسببت فى انهيار نظامنا التعليمى ككل وتدنى مكانة المعلم ورسالته السامية.
من جانبه ناشد الفيلسوف الكبير د. حسن حماد عميد كلية الآداب السابق بجامعة الزقازيق الرئيس عبدالفتاح السيسى بإعادة النظر فيما صدر من قبل وزارة التربية والتعليم الخاص بإلغاء مادة الفلسفة والعلوم الإنسانية فى مرحلة المجتمع المصرى فى أمس الحاجة لها لمثل هذه الدراسات التى هدفها إعادة بناء الإنسان وترسخ مفهوم الحرية وقبول الآخر لدى الطلاب، ومن المعروف تاريخيًا أن الفلسفة هى سمة المجتمعات المتقدمة وهى المنتج الذى يناسب الإنسان المتحضر، والمجتمعات التى تخلو من دراسة الفلفسة هى مجتمعات أقرب إلى المجتمعات الهمجية، فضلاً عن أن الخطاب الفلسفى هو خطاب مناهض للعنف والإرهاب، والمجتمع المصرى رغم–القضاء على تنظيم الإخوان–إلا أن الخطر لم يزل ماثلاً فى العديد من المؤسسات وفى الخلايا النائمة لجماعة الإخوان داخل المجتمع المصرى والتى يسعدها جدًا مثل هذا القرار، لأنه يصب فى نهاية الأمر فى صالح الفكر المتطرف، وعلى مدى التاريخ الإسلامى وجدنا أن اللحظات التى تحارب فيها الفلسفة هى لحظات الانحطاط الحضارى، فى حين أن الفلسفة فى الدولة الإسلامية انتعشت إبان الفترات المزدهرة والتى كانت الدولة فيها قوية، وأضاف «حماد» سيدى الرئيس إن العالم العربى كله ينظر إلى مصر بوصفها (كعبة الثقافة) وبوصفها منارة النور الذى ينـشر فى أرجاء العالم العربى، ونأمل أن تظل مصر على أيديكم وفى عهدكم المشرق بالأمل كما كانت دائمًا هى المحرك للتنوير وللحرية وللفكر الإنسانى الراقى.
ودعا «حماد» أن تعود الفلسفة لمكانتها ولا يتم تهميشها أو إلغاؤها لأنها تنمى مهارات الفكر الناقد، وتنمى القدرات الإبداعية لدى الإنسان، متمنياً أن يكون المستقبل القادم أكثر إشراقا وتنويراً وأكثر حرية.
على جانب آخر يقول الدكتور عبدالراضى عبدالمحسن أستاذ الفلسفة الإسلامية وعميد كلية دار العلوم جامعة القاهرة السابق: إن الفلسفة ليست لوناً من الترف العقلى أو التماحكات الجدلية عديمة الفائدة، لكنها قوة فاعلة بالمجتمع تقدم له أفضل تصور ممكن لأهم قضاياه ومشكلاته فضلاً عن المنهج الذى يسير عليه لحلها. فالفلسفة هى مملكة الأخلاق التى تمنح مجتمعاتنا المسلك والنموذج الأخلاقى الكفيل بالإصلاح التربوى والخلقى وتأسيس الفضيلة لدى إنسان الحضارة وبناة المدنية وحملة مشاعل التقدم. فإذا كانت تلك هى الفلسفة فإن أية أمة مثل مصر تسعى لاستعادة مجد أممى وحضارى تليد، وتشييد عالمية وإقليمية ذات فاعلية وتأثير دولى لا تملك رفاهية مخاصمة الفلسفة عن إقصائها، وطرح «عبدالمحسن» أسباباً عديدة لذلك منها: أولها: أنها تقطع بذلك وشائج علاقاتها التاريخية بالفكر الفلسفى الذى قامت عليه حضارة قدماء المصريين الذين علموا العالم المدنية والفلسفة فى آن واحد بمن فيهم اليونان كما قال أفلاطون: «كل شىء سامٍ وراقٍ تعلمته فى مصر. الثانى: أنها تخالف أبجديات نهضتها التنويرية المعاصرة التى بدأتها بجمال الدين الأفغانى والإمام محمد عبده، وبها امتلكت قوتها الناعمة وتأثيرها فى محيطها العربى والإسلامى، الثالث: أنها تناقض أسس تكوين العقل الرياضى والعقل العملى الذى يعتمد على المنطق والفلسفة فى بناء منطق الحاسوب وتطبيقات المعادلات الرياضية بالمنظومة الرقمية والذكاء الاصطناعى ثورة العصر الحديثة.
الرابع: أن مشروع التحديث المصرى الآنى يتبنى مقولات بناء الإنسان التى تشمل ترسيخ الهوية، وتكوين العقل المنهجى والفكر النقدى، وتنمية المواهب الإبداعية بإطلاق العنان للعقل النقدى، وتنمية المواهب الإبداعية بإطلاق العنان للعقل التأملى من أجل الإبداع والتجديد، وجميع تلك المسائل تنتهى إلى الأم الرؤوم الفلسفة التى تنبعث من رحمها قوى الإبداع العقلى ومنطلقات التجديد والإبداع غير التقليدى، التى تؤتى ثمارها وأكلها كل حين وعصر بناء نهضة وتنوير.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الرئيس مفكرون وزارة التربية والتعليم والتعليم
إقرأ أيضاً:
رفعت عينى للسما
فى هذه الأيام الحالكة السواد، يتوق المرء إلى تلك اللحظات التى تحمله إلى الفرح والأمل والتوازن النفسى يصنع لنا مسارات التفاؤل بمستقبل، يعد بفيض ممتع من الفن الملهم الراقى. تملكتنى تلك اللحظات مع تتابع تترات النهاية للفيلم الوثائقى «رفعت عينى للسما» الذى يعرض الآن فى قاعات العرض، وقدم خلاله المخرجان «أيمن الأمير» و«ندى رياض» تجربة شديدة التفرد والخصوصية والإبداع، عملا من أجل إنجازها بلا كلل لأربعة أعوام، ليأتى فيلمهما حافلا بالصدق الفنى والرؤية الواعية التى تحملها رسائل تنطوى على الاحتفاء بمقاومة كافة عوامل التخلف الاجتماعى، الذى ترسخه تقاليد بالية تؤسس قواعد قهرها إلى الطرف الأضعف فى معادلة الهيئة الاجتماعية: المرأة.
ينطوى عنوان الفيلم على مضمونه: «رفعت عينى للسما» ليس استجداء أو ضعفا، كما هو المعنى المضمر الشائع لرفع العين إلى السماء، ولا قلة حيلة، بل أملا فى رحمة السماء الواسعة والممتدة، وشغفا بالأحلام والأخيلة التى تتشكل حين النظر إلى النجوم والكواكب فى أرجاء هذا الكون، وصولا لثقة بالنفس، تقود لرفع الرأس عاليا إلى السماء.
ويحكى الفيلم تجربة مجموعة فتيات موهوبات مفتونات بالفنون الإبداعية، ومسكونات بإيمان عميق بقدرة الفن على التأثير فى الواقع أو تغييره، من قرية البرشا - وهو اسم فرعونى للقرية ويعنى بالعربية مقاطعة الأرنب- إحدى قرى مركز ملوى بمحافظة المنيا، التى تقع شرق نهر النيل، حيث يجرى بجمال خلاب لا مثيل له، أحد أوسع فروع النهر، لتكوين «فرقة بانورما البرشا» لتقديم العروض المسرحية، فى شوارع القرية التى تعد نموذجا لكل قرى الصعيد. وبوعى تلقائى، أدركت فتيات البرشا أن الفن هو اللغة المشتركة التى يمكن للناس، أن يفهموا بها بعضهم البعض، برغم اختلاف ثقافتهم ومشاكلهم. فبدأن بتأسيس خشبة للمسرح للقيام بالتدريبات، وجلن شوارع القرية وهن يقرعن آلات إيقاعية، لتقديم مشاهد من عروضهن لأهلها.
أما المشاهد المسرحية، فهى تقدم نقدا لاذعا لما تتعرض له الفتيات من زواج قسرى، وتنمر تسلط ذكورى على مصائرها، داخل الأسرة والمجتمع. ولأنه نقد ينطوى على أهازيج غنائية، فهو يتحلى بالجاذبية والتسلية التى تنجح فى جذب انتباه أهالى القرية. ويعرج الفيلم لمصائر الفتيات أعضاء الفرقة حيث تتخلى إحداهن بالزواج عن حلمها أن تصبح مطربة مثل أصالة. وتستنيم أخرى لطلب خطيبها مغادرة الفرقة، برغم تشجيع أبيها لها على مواصلة حلمها كراقصة باليه وممثلة، وتتشبث ثالثة بحلمها وتقرر السفر للقاهرة لكى تلتحق بمعهد الفنون المسرحية، لكى تدرس فن التمثيل الذى عشقته.
ويأتى المشهد الختامى للفيلم مفعما بالإيحاءات البارعة. جيل جديد نشأ فى ظلال فرقة بانوراما البرشا، وتأثرا بها، متسلحا هذه المرة بما قد تعلمه من دروس نجاحها وإخفاقها، وشتاتها، يجوب أنحاء البرشا، وهو يقرع بشغف وهمة الطبول لإيقاظ الغافلين، ومواصلة الطريق الذى مهدته الفتيات، نحو الحرية والتحقق.
لم يكن غريبا أن يفوز الفيلم بجائزة العين الذهبية، للنقاد فى الأفلام التسجيلية فى مهرجان كان هذا العام، فقد مهد صدقه وتعبيره البسيط العفوى والمتقن عن واقع ريفى تقليدى، الطريق نحو هذا الفوز. فضلا عن التوظيف المتقن للغة والاستخدام الذكى للصورة، وللرموز الكنسية، والقرع المدوى للطبول، بما ينطوى عليه من معانى التحذير والتنبيه الإنذار، والسرد التلقائى والتجريبى لممثلين مبتدئين، وكلها أدوات تصوغ واقعا فنيا ينشد فيه الإنسان بالشجاعة والحرية مواجهة التهميش. ومثلما شيدت واقعية نجيب محفوظ الطريق نحو عالميته، فإن فيلم ندى رياض وأيمن الأمير «رفعت عينى للسما» يؤسس لسينما تسجيلية مصرية، تخطو بثبات نحو العالمية.