21 أغسطس، 2024
بغداد/المسلة: ابراهيم العبادي
اشتد الجدل في العراق بشان التعديل المزمع لقانون الاحوال الشخصية لعام 1959 ،كان يمكن ان يكون هذا الجدل نافعا ومفيدا لو اقتصر على موجبات ومسببات الحاجة الى التعديل وضرورة معالجة مشكلات اجتماعية تخص الاسرة العراقية وحقوق النساء والاطفال والازواج بعد مايقارب 65 عاما على صدوره وبما يحقق العدالة والانصاف ويلبي المتطلبات النفسية والاجتماعية للافراد .
وكان يمكن ان يكون مسار التعديل هادئا ومعقولا لو جاء في سياق الاستجابة لتطورات المجتمع وتنوع سياقات الحلول والمقترحات القانونية الناظرة لواقع الدولة والتحديات المختلفة التي تواجهها ومنها تحديات التشريع والتقنين لمجتمع متعدد الطوائف والجماعات ،حيث تتعدد المرجعيات الدينية والعرفية والثقافية وتسعى كل جماعة لتوكيد خصوصياتها مستفيدة من النصوص الدستورية ،بازاء ذلك يذهب شطر من العراقيين الى الشك والحذر من كل خطوة لتشريع جديد أو مقترح قانون يقدم عليه حزب نافذ او مجموعة برلمانية متضامنة .
سبب ذلك يعود الى تجذر الصراع الايديولوجي في العراق وتصلب الثقافة الاجتماعية والسياسية بين جميع الاتجاهات الفكرية المختلفة ،فقد ايقظ مشروع تعديل قانون الاحوال الشخصية صراعا قديما بين التيار العلماني والتيار الاسلامي ،وسرعان ماشحذ الطرفان اسلحتهما بلا ترو ،ولم يعد الموضوع اختلافا على مضمون قانون او فقرات تشريع ،بل اختلافا شاملا في الرؤية ،بين من يتحدث عن المدنية والوطنية والحداثة ليقابله التيار الاسلامي فيتحدث عن الفقه والشريعة والمصلحة والحرية وحقوق الاكثرية دستوريا ،ويتعمق الصراع .
ليتحول الى معركة ثأرية بين الجانبين ،تستعيد معارك الفكر التاريخية التي شهدها عالم المسلمين في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين ،وفي العراق تحديدا في النصف الثاني من القرن العشرين بين النجف (مرجعية السيد محسن الحكيم ) وسلطة الجمهورية بزعامة عبدالكريم قاسم ،وهي المعارك التي ُوسِمت بانها بين الاصولية الاسلامية والعلمانية او بين السلفية الدينية والتحديثية المتغربة ، او بين التقليدية الاسلامية والليبرالية والماركسية . بدون تمهيد انطلق صراع مؤجل او ظل مكبوتا بين هذين الاتجاهين ،تأجل بسبب جملة تحديات اكبر كادت تطيح بالوحدة الاجتماعية ووجودالدولة ،ثم مالبث ان انفجر بعد الانفراج النسبي ،متلبسا بلباس مطلبي او كان ينتظر اي فرصة للتعبير عن نفسه .
احتجاجات تشرين 2019مثلت احدى هذه المعارك ،وهي في جوهرها احتجاج على من هيمن على السلطة خلال هذه البرهة الزمنية فكريا وسياسيا وثقافيا ،لقد وجد الطرف المناويء لمن في السلطة فرصته في تحريض وتحشيدالشارع مستفيدا من سلسلة اخطاء جسيمة ارتكبها تيار السلطة ودخل في معارك كثيرة بدون اولويات ممنهجة ،فسمح لمناوئيه ان ينالوا منه ،قبل ان تطل معركة الاحوال الشخصية مجددا وهي معركة حساسة جدا ، لانها في عمقها تكريس لمنظور ورؤية للفرد والاسرة من منظار ديني شرعي اجتهادي ،لايقيم شأنا للدولة ونفوذها وقوانينها وغاياتها الاجتماعية.
بل يرى تقدم الفقه الشرعي على ماسواه ،على العكس من ذلك طالب التيار العلماني بان تكون الدولة هي صاحبة الحق في احتكار التمثيل والتقنين والمواجهة المباشرة ، ولابد من تكييف الفقه الفردي ليكون تحت مظلة الدولة ، ومستجيبا لاشتغالاتها وتقديرتها لمصلحة الوحدة والهوية الاجتماعية .المعركة ليس بين الفقه والقانون كي يتمسك الاسلاميون بالفقه في مقابل تمسك المدنيين بالقانون ،مرجعية الاسلاميين الاهم هي مرجعية السيدين الصدر والسيستاني وكلاهما يصران على ان يكون قانون الدولة غير معارض او ناقض لثوابت الاسلام وهذه ماغفل عنها الاسلاميون ،فعند السيدين هناك سعة كبيرة يمكن ان تستوعب الاراء الاجتهادية بما يجعل قانون الدولة مرنا مستجيبا لثوابت الاسلام ولايضعه في مقابل القانون الذي يريد المدنيون الاحتكام اليه وحده .
المأزق الذي يعاني منه الطرفان هو في رغبتهما في الاعتماد على منطق القوة في فرض رؤيتهما ، دونما التماس لشرعية الاقناع والحوارات العميقة والاحتكام الى الاليات الديمقراطية وحق الاكثرية مع مراعاة مصالح الاقليات .
في هذا التقابل نخسر ايجابيات الحوار الجوهري في صلب القضايا المطروحة لننشغل في تفسير نوايا ودوافع المهاجمين والمدافيعين ،وننسب كل جهة الى مرجعيتها الدينية او الشعبية،ففيما يتحدث التيار المدني عن رغبة تيارات الاسلام السياسي في فرض مؤسسات موازية لمؤسسة الدولة بما يقود الى تطييف المجتمع ، وانه نوع من استقواء فئة على فئات اخرى ، …. يرد الفريق المقابل بان النقاش ليس في تفاصيل مشروع التعديل ،بل هو معركة لاثبات قوة الفريق الخصم ومتبنياته الليبرالية، ومرجعيته الثقافية المناوئة للاسلاميين.
ومن الواضح ان انحراف الحوارات والمساجلات عن اصل الموضوع ، وانفتاح ابواب المعركة على مصراعيها بين التيار الديني والتيار اللاديني ،يؤشر الى سوء فهم عميق بين الاطراف المختلفة ورغبة في تصفية الحسابات على حساب اهتمامات اجتماعية واقتصادية واخرى أمنية ،ماتزال تشكل اولويات وهموم شعبية ضاغطة ،ولذلك ينظر الى مايجري من صراعات ، على انها معركة في توقيت خاطيء وعودة الى زمن مضى ،كان ممكنا الاستفادة من دروسه والاحتراز من تكرار فصوله ،فمعظم المعارك من هذا النوع تستنزف القوى والطاقات الاجتماعية ولا تحقق مكاسب ذات مغزى في معركة التحديث والعصرنة وتجديد جوانب التراث الحية وتوظيفها في مشروع النهضة .
العراق يحتاج الى مرحلة تهدئة طويلة بين التيارات والقوى السياسية والحزبية والاجتماعية ليتغلب على تهديدات خطيرة ،في مقدمتها بتقديري ،التهديد الذي تشكله العقلية الريعية الاستحواذية، وثقافة الفساد المشرعن ،والتخلف الاجتماعي الذي يعيق تطوير وتنمية البلاد، ووقف زحف جيوش العاطلين ،علاوة على الكسل والبلادة الادارية ؟ والثقافة المانعة من تطوير وعقلنة قيم المجتمع نحو الانتاج والادخار والظفر بمعركة الحضارة ….. ،فهذه هي القنبلة الموقوتة التي تهدد حاضر البلاد ومستقبلها.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author moh mohSee author's posts
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: فی العراق
إقرأ أيضاً:
فى ذكرى رحيل موسوعة الفكر ( 3 )
ما زلنا مع تباريح الحديث عن العالم الكبير والمفكر والأديب الدكتور"مصطفى محمود"، الذى حلت الذكرى الخامسة عشرة لرحيله عن دنيانا فى 31 أكتوبر 2009. نستدعى مع الذكرى سيرته العطرة كإنسان معطاء قدم الخير للجميع. لم يتوان عن إبداء رأيه فى كل القضايا الإنسانية والاجتماعية. حتى القضية الفلسطينية طالما عرض لها بالحديث عنها، وعن طابع السلام المزيف الذى ارتبط بها وتم خداع العالم من خلالها. إنه الأديب والمفكر صاحب التاريخ العريض الزاخر بكل المعانى الإنسانية الرحبة.
غيبه الموت فى نهاية أكتوبر عام 2009، وكأنما أراد القدر أن يحرر روحه الشفافة النقية من ربقة الحياة وأعاصيرها المفاجئة. عرفته منذ الثمانينيات، وأجريت معه العديد من اللقاءات. فطرته حررته من سطوة العالم، وقادته إلى محاولة سبر الحقيقة عبر معرفة الله، وكشف عن ذلك في مؤلفاته التى تجاوزت سبعة وثمانين كتابا. فى أحد لقاءاتى معه تطرقت إلى قضية الإشباع فى حياته، وفيما إذا كان يشعر بأن الإشباع قد وصل إليه كاملا تاما مثالا نموذجيا بالصورة التي يريدها، فأجابني قائلا: " إطلاقا.. الإشباع الحقيقي الذي بحثت عنه لم أجده. ولكن إذا اعتبرت أن الإشباع إشباع بطن أو غرائز، فهذا ليس سوى الغلاف الخارجي للإنسان، ولا أسميه إشباعا. هناك أمور كلما أعطيتها ازدادت جوعا. مثل الجنس أو البطن أو الرغبة فى المال أو السلطة أو الحكم. ولهذا فإن أكثر الأمور شبعا هو الاتصال بالمدركات العالية، وعودة الإنسان إلى وطنه أو حنينه إلى وطنه وإحساسه به".
وهنا أسأله: ألا يمكن أن يكون الاتصال بالمدركات العليا هذه نوعا من هروب المرء من الحياة الروتينية العادية، وعليه فهو يلجأ إلى المدركات العليا كملاذ يشعره بالتفوق على من حوله، و بالتفرد بمواصفات معينة قد تشبع فيه حاسة الغرور؟ فيقول في معرض رده: " لا، غير صحيح.. قد يطلب المرء المال.. الحكم.. السلطة.. المجد لإشباع غروره. ولكن هذا يختلف مع المدركات العليا. بل إن أول شرط لها أن تخلعى الغرور وتعتصمى بالزهد " اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى". خلع النعلين هنا خلع للروح والجسد وكل المشتهيات. ولهذا لا يمكن لأحد أن يدخل رحاب الله إلا ويخلع كل شىء. أي التجرد.يتساوى فى ذلك الباشا والسلطان والمهراجا. وعليه فذكر كلمة الغرور فى هذا المجال خطأ كبير. الغرور يرتبط بمتاع الحياة " وما متاع الدنيا إلا متاع الغرور". وهذا يختلف فى المدركات العليا. معرفة الله تتطلب التجرد من كل الألقاب.. تتجردين من النفس وموضوعاتها. بمعنى أن تتجردي من الدنيا. والتجرد هنا يجب أن يكون عن اقتناع وليس مجرد مظهر".
وعندما سألته:هل الالتجاء إلى المدركات العليا يضفي الشعور بالتفوق والتفرد؟ قال: " بالعكس.. هو هنا لا يريد أن ينفرد أو يتفرد.هو إحساس بالباطل وإحساس بالحق. فى اللحظة التى تشعرين فيها أن كل غرورك هذا باطل، وأن المسائل الدنيوية ليست سوى خداع للنفس وخداع للآخرين. هنا تخلعين الباطل وترتدين الحق، وهو ما أسميه بالمدركات العالية باعتبارها الحقيقة التى لا حقيقة سواها. شريطة ألا يقدم عليها لغرض، لأنه إذا وجد الغرض انتفت.. تبدأ فى اللحظة التى يشعر الإنسان فيها بأنه ناقص، وبأن الحياة كلها زيف. المسألة تبدأ بإدراك تام من قبل الشخص بالخطأ ".